سِفْر اللاويين
الدرس الخامس عشر – تكمِلة الإصحاح الحادي عشر
بدأنا الإصحاح الحادي عشر من سِفْر اللاويين في المرة الماضية وسنُكمله هذا الأسبوع. تَتمحور دراسة الإصحاح الحادي عشر حول موضوعَي الطاهر والنجس، وموضوعَي المقدس والشائع. من المثير للاهتمام بالنسبة لي أنّ اليهودية هي الوحيدة التي تَستخدِم هذه الكلمات بانتظام ويَفهم الشخص المُتديّن العادي معناها. إذا استخدمتم نفس هذه الكلمات أمام المؤمنين في العصْر الحديث، ستُرمقون بنظرات فارغة وسَيتساءل البعض بصوت عالٍ عمّا إذا كانت هذه المصطلحات (غير المقدسة) موجودة في الكتاب المقدس.
لكن الموضوع مِحوري في الإيمان اليهودي المسيحي، وعدم فَهْمه محوري أيضًا بما يخصّ ضُعف الكنيسة في هذا العصر. دعونا نرى ما إذا كان بإمكاننا اليوم أن نتعمَّق أكثر قليلاً في هذه المسألة، وربما نخطو خطوة نحو استعادة هذه المبادئ الإلهية الأساسية.
إنّ الحالة الأخيرة التي ناقشناها في اجتماعنا الأخير كانت تَتعلَّق بحيوان ميت (مثل فأر عادي) يُلامس شيئًا ما (مثل إناء أو وعاء)، وبالتالي يَنقُل نجاسة الموت إلى ذلك الشيء.
لذا، يُصبح السؤال، الآن وقد تَلوَث شيء ما بنجاسة حيوان ميت، ما الذي يجب فعله بهذا الشيء؟ الآيات القليلة التالية تُعطينا الإجابة. لذا دعونا نُعيد قراءة النصف الأخير من سِفْر اللاويين الإصحاح الحادي عشر لنستوضح الأمر.
إعادة قراءة سِفْر اللاويين الإصحاح الإصحاح الحادي عشر الآية تسعة وعشرين إلى– النهاية
والآن، معظم ترجمات الكتاب المقدس تقول في النُصف الأخير من الآية الثانية والثلاثين شيئاً من قبيل "أي ثوب، أو أي إناء، مَصنوع من خشب أو جلد أو أي قطعة من الثياب…." شيء من هذا القبيل. ولكن، هذا ليس صحيحًا حقًا. في العبرية، ما يُترجم عادةً بشكل خاطئ إلى "قطعة من الثياب" أو "إناء" هو بدلاً من ذلك كلمة "وعاء" وتُشير كلمة "كيلي" بالعبرية تحديدًا إلى وعاء من نوع ما، أو إبريق ماء مصنوع من الخشب، أو شيء مَصنوع من الجلد، مثل الزق. والفكرة التي يجب فهمها هنا هي أنّ الوعاء مَصنوع من شيء مَسامي، وبالتالي فهو يَمتصّ ما يُملأ به. الحلّ لتطهير مثل هذا الوعاء هو غَمسه في الماء…أي غَسله بالماء. بعد الغسل الطقسي الذي يَستمرّ حتى غروب الشمس، أي نهاية اليوم الحالي وبداية اليوم التالي، يُعتبر الوعاء نظيفًا موافقًا للطقوس مرة أخرى.
ومع ذلك، يَرِد في الآية ثلاثة وثلاثين، أنّه إذا وقَعَ حيوان ميت في وعاء من فخّار…… يجب أن يُتلف ولا يُستخدم مرة أخرى. ويَنطبق الشيء نفسه على الفرن أو الموقد الفخاري الذي يُمكن أن يتنجس؛ يجب كَسره وعدم استخدامه مرة أخرى. أمّا عن استخدام هذه الطريقة، العلماء ليسوا متأكدين من السبب، لأن تزجيج الأوعية الفخارية وحرقِها كان تقنية معروفة في أرض كنعان في هذا الوقت، وعندما يتمّ صَقلها تُحلّ مشكلة المسامية والامتصاص؛ ومع ذلك، لا يوجد ذكر لها في هذه الآية التي يَحتاجها المرء للتمييز بين الوعاء المحروق بالنار وغير المحروق.
إنّ التفصيل في لوائح الطهارة اليهودية التي تطورت على مر القرون مذهل. ولهذا الموضوع، تمّ تخَصيص مَسلَك كامل في "الميشنا" يُسمى كليم. كانت إحدى الأفكار الرئيسية التي تدور في أذهان الحكماء هي ما إذا كان المخلوق الميت قد سَقط على الوعاء أو داخله. في معظم الأحيان كان سقوط المخلوق على الوعاء يعني أنه يُمكن غسل الوعاء؛ ولكن عندما يَسقط المخلوق داخل الوعاء، في معظم الأحيان كان يجب إتلاف الوعاء ومُحتوياته. لذلك كان الغطاء على الوعاء دفاعًا جيدًا ضد أخطر الحوادث وأكثرها تكلفة عند مُلامسة مخلوق ميت.
وكما هو مُتوقَّع، الوعاء وكل ما كان فيه عندما سَقط فيه الحيوان الميت أصبح نجسًا. ولكن هذا يأتي مع تحذير؛ يجب أن تكون الرطوبة موجودة داخل الوعاء أي أنه إذا كان هناك حبوب جافّة داخل الوعاء، فكل ما كان مطلوبًا هو إزالة الحيوان الميت، وتطهير الوعاء، والحبوب الجافة تُعتبر بعدها مقبولة للأكل. ولكن إذا كانت الحبوب ممزوجة بالماء…على سبيل المثال، وكان هناك عجين تُرك ليَنضج…فكان يجب التخلّص من الحبوب. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ناقل التلوّث هو الْمَاءُ. أو إذا كان هذا الوعاء – وعاء ماء، أو وعاء خمر، يَتنجَّس السائل كله ويجب إتلافه.
وتُخبرنا الآية ستة وثلاثين أنه إذا سَقط حيوان ميت في بئر ماء، أو خزّان، أو عين ماء، فلا تَنتقل النجاسة إلى البئر أو الخزّان أو العَين. ومع ذلك، فإنّ الشخص التعيس المُكلَّف بواجب إزالة الجيفة يصبح نجسًا. هذا هو المبدأ المتعلق بالماء: عندما يكون الماء متصلاً بالأرض (في البئر أو البحيرة أو الجدول أو الميكفا) لا يمكن أن يصبح الماء نجسًا. من ناحية أخرى، الماء الذي يوضع في وعاء محمول مثل إناء أو دلو يمكن أن يصبح نجسًا لأنه لم يَعد متصلًا بالأرض بشكل طبيعي. هذا يُفسِّر لماذا يمكن أن يصبح الشخص أو الشيء النجس وفق الطقوس طاهرًا بالانغماس في الماء بشرط أن يكون الماء مُتصلًا بالأرض؛ الماء المُتصل بالأرض لا يمكن أن يتنجس، بل يمكن أن يُضفي طهارته على ما هو نجس فقط. تذكروا ذلك دائمًا، لأن ذلك سيُساعدكم على فهم أشياء كثيرة عن طقوس العبريين وحتى بعض الأسباب التي جعلت يشوع يقوم بما قام به.
تُخبرنا الآية ثمانية وثلاثين أنّ البذور الجافة (لزراعة المحاصيل) لا تَتنجس إذا سقَط عليها حيوان ميت؛ ولكن إذا أصبحت رطِبةً بطريقة ما، فإنّ البذور تُصبح نجسةً ولا يمكن استخدامها.
تَتغيّر الأمور قليلاً في الآية تسعة وثلاثين، لأنه الآن يتم التعامل مع الحيوانات الطاهرة. والفكرة هي أنّ الموت يَجعل الشيء الطاهر عادةً نجسًا. لذلك على سبيل المثال إذا مات ماعز (حيوان طاهر) لسبب ما، فإن الشخص الذي يلمِس ذبيحته يَتنجّس حتى غروب الشمس. والشخص الذي يأكل هذا الحيوان الذي كان طاهرًا في السابق، ولكنه الآن ميت، يصبح أيضًا نجسًا ويجب أن يغسِل ثيابه؛ ويَنطبق الشيء نفسه على الشخص الذي يحمِل الحيوان الميت. بالطبع سَبب موت الحيوان هو المفتاح. إذا ذُبح الحيوان من أجل التضحية، أو فقط من أجل وجْبة طعام، فلا بأس بذلك…لا نجاسة. ولكن عندما يموت الحيوان بسبب المرض، أو يموت بسبب حيوان مُفترس، أو يموت بالصُدفة، فإنه يصاب بالنجاسة وينقُلها.
تتناول الآيتان أربعين إلى أربعة وأربعين مرّة أخرى مفهوم "الشِّكيتس" أي الرجس. وتَتكرّر التعليمات ضدّ أكل أي مخلوق حيّ يكون بشكل سَرْب…بالعبرية "شراتس". من الواضح أنّ هذا أمر خطير جدًا لأنّه يَتكرّر في بضع الآيات فقط.
الأفاعي والضفادع والسحالي والجرذان والفئران والتماسيح وكل ما يَزحف على بطنِه ويزحف على الأربع ويزحف على كل ما حوله، كل هذا مُحرَّم. لماذا؟ لأن هذه الأشياء بغيضة بالنسبة ليَهوَه، …… ومن يَعصي ويأكل هذه الأشياء يُصبح بغيضًا عند الله (على الأقل مؤقتًا)؛ وهذا أمر لا يريد أي عبري، وبالتأكيد لا أحد منا أن يوصف به.
وتُذكِرنا الآية خمسة وأربعين لماذا وَضَعَ الله هذه المجموعة الصارمة من القواعد الصارمة لإسرائيل: لأنه بما أنه قدوس، يجب أن يكون شعبه مقدسًا أيضًا. لا يمكن لشيء أو شخص مُقدّس أن يكون في حضرة قداسته المطلقة والبارزة إلا أن يكون مقدسًا. هذا الأمر مُتعلّق بمفهوم سِفْر التكوين القائل أنّ الله خَلَق الإنسان على صورته. الله قدوس، لذلك يجب أن يكون الإنسان مقدسًا. بقدر ما يمكن أن يكون الكلب أو الشمبانزي أو الدلفين ذكيًا، لا يبدو أن هناك أي دليل سواء في الكتاب المقدس أو من الناحية العلمية يُثبت أنّ أي مخلوق حي باستثناء الإنسان لديه القدرة على فهم الله والعالم الروحي. وهذا أمر ينفرد به الإنسان دون سائر المخلوقات الحيّة الأخرى…… التي يُوليها يَهوَه قيمة كبيرة. وهذه إحدى الأسباب التي تَجعل الله يسمح للبشر بقَتل المخلوقات الحية الأخرى وأكلِها، ولكن هذه المخلوقات الحية نفسها لا يَسمح الله لها بقتل البشر وأكلِهم. يَحكم الكتاب المقدس على أي حيوان قتل إنسانًا لأي سبب من الأسباب بالموت.
يَنتهي هذا الإصحاح بتذييل، وهو أمْر نموذجي بالنسبة لتلك المنطقة في تلك الأزمنة. فكما بدأ الإصحاح بإخبار بني إسرائيل بما سيَجري الحديث عنه، فإنه يُختتم الآن بتكرار الهدف من الشرائع والأوامر التي وَرَدت للتو وهي أن يُميّز بنو إسرائيل بين الأطعمة الطاهرة والمُحرَّمة… أو كما تَعلَّمنا في العبرية، بين التامي والطاهر ويَتضمن أيضًا مفهومًا توراتيًا بقي إلى حدٍ كبير في الخلفية منذ سِفْر التكوين…… مفهوم التقسيم والاختيار والفصل. أولئك الذين كانوا هنا في دَرس سِفْر التكوين ربما يَتذكرون هذا المبدأ، على الرغم من مرور فترة طويلة. لتلخيص ذلك: في البداية قام الله بسلسلة كاملة من أعمال التقسيم والاختيار والفَصْل. قَسّم الأرض اليابسة عن المياه وفَصَلها. وفَصَل النور عن الظلمة، وفَصَل الشر عن الخير. قَسَّم بين النهار والليل وفَصَل بينهما. قسّم بين بخار الماء في الهواء والماء المُتكاثف الذي كوَّن البحار وفصل بينهما. وَجَعَلَ الْأَنْوَارَ الصُّغْرَى فِي السَّمَاوَاتِ كَالنُّجُومِ لِتَعْيِينِ الْفُصُولِ وَفَصْلِهَا. وخَلَق الإنسان وقسَّمه وفصله عن جميع المخلوقات الحية الأخرى تمامًا كما سيقسم في النهاية شعب إسرائيل ويختاره ويفصِله عن جميع الأمم الأخرى على الأرض.
إذًا هذه العملية نفسها تَنطبق في تقسيم وانتخاب وفصْل تلك الأطعمة التي يمكن أن يأكلها الإنسان عن تلك الأطعمة التي لا يمكن أن يأكلها. في الواقع على الرغم من أنّ الترجمة النموذجية للآية سبعة وأربعين تقول شيئًا ما "…..للتفرقة بين…. الأشياء الحية التي يجوز أكلها" إلا أنها تقول حرفيًا:"أن يكون هناك فَصْل بين الطاهر والنجس". تزامنًا مع تَعرّفِنا أكثر على مفاهيم التوراة وسِفْر اللاويين، يمكننا أن نرى الفرق المهمّ بين الكلمتين "التمييز بين" و"الفصْل" في عالم يُطالب بالصواب السياسي والتسامح مع كل شيء، فإن التمييز هو مفهوم أخفّ بكثير من الفصل ويمكن أن يُنظر إلى التمييز على أنّه الخطوة التمهيدية قبل أن يُفرَق المرء ويُفصَل. ومع ذلك، الكتاب المقدس العبري الأصلي يؤكد تمامًا على أنّ مجرد معرفة الفَرْق، وهي فكرة كلمة "التمييز"، أمْر مختلف تمامًا عن العمل بتلك المعرفة، وهنا فكرة "الفَصْل". ليس علينا فقط أن نعرف، أن نميّز الخير من الشر أو الصواب من الخطأ……علينا أن نفصُل بين الاثنين بشكل فعال. علينا أن نقِف بثبات إلى جانب الحقّ والخير ونَبتعد عن الخطأ والشر. وهذا أصعب بكثير ويَتطلب المزيد من الالتزام. ولكن، هذا بالضبط ما هو مُتوقع من أولئك القريبين من الله. المؤمنون. نحن.
تذييل سِفْر اللاويين أحد عشر
سأبدأ بتجميع بعض قِطع الأحجية لكم اليوم؛ آملاً أن تُساعدكم في شرح الأسئلة العديدة التي تُساوركم فيما يَتعلق بالعلاقات بين الخطيئة والنجاسة، القداسة والنجاسة. احفظوا هذه الكلمة "العلاقات "أثناء هذا الدرس لأنها ستكون المفتاح لتفهموا بطريقة جديدة تمامًا الطريقة التي يَتحدث بها يَهوَه إلينا من خلال الكتاب المقدس. لكن، لكي نصِل إلى حيث، أحتاج إلى أن أمَهِّد لذلك بمناقشة اللغة وأساليب التفكير لأنها الحواجز الحقيقية التي يجب أن نَعبرها حتى نصل إلى الحقيقة.
تَتعلق واحدة من أكثر المناقشات المثيرة للجدل التي تُحيط بالكتاب المقدس باللغة، ذلك أنّ الاعتقاد السائد حاليًا على نطاق واسع هو أنّ العهد القديم كُتب في الأصل باللغة العبرية، بينما كُتب العهد الجديد باللغة اليونانية. هناك علماء يُأكّدون أنّ أجزاءً من العهد الجديد كُتبت على الأرجح في الأصل باللغة العبرية أو الآرامية، ولكن على الفور تقريبًا تُرجمت إلى اليونانية ووُزّعت على نطاق واسع بهذه اللغة؛ لن نخوض في هذا الجدل اليوم. بل سنَمضي قدمًا بافتراض أنّ العبرية كانت لغة العهد القديم، واليونانية هي لغة الجديد؛ لأن أقدم المخطوطات التي عُثر عليها لكل عهد حتى الآن هي بالفعل عبرية للعهد القديم، ويونانية للعهد الجديد.
لكن هذا لا يُغيّر افتراضًا مهمًا آخر، وهو: أن العبرانيين كتبوا الكتاب المقدس بأكمله، أسفار العهد القديم والعهد الجديد. الاستثناء المحتمل هو لوقا، ولكن حتى هذا الأمر قابل للنقاش. مهما كان الأمر، حتى لو لم يكن لوقا عبريًا فهو لا يُمثّل إلا جزءًا صغيرًا من سِجلّ الكتاب المقدس، وفي الواقع ما فعلَه لوقا هو أنه قام بلصق روايات مكتوبة من العبريين الذين لديهم معلومات عن موضوعه، أمّا جميع كتّاب الكتاب المقدس الآخرين العبريين فلم يواجهوا أي تحدٍ جدي.
هذا يَجعل الكتاب المقدس وثيقة عبرية تمامًا. هل الثقافة المُحدَدة (العبرية) لكتّاب الكتاب المقدس مهمّة بالفعل؟ بالتأكيد هي مهمة. من المُسلَّمَات في عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغويات، ومجرد الملاحظة البسيطة أنّ اللغة هي انعكاس لثقافتها، وأنّ أي ثقافة تكون مُتضمنة في لغتها. عندما قام يَهوَه، في برج بابل، بتقسيم وفَصْل اللغة الواحدة المشتركة في العالم إلى عدة لغات، كانت النتيجة أعظم من فِقدان القدرة على التواصل بين مجموعات. فالناس الذين كانوا لا يزالون قادرين على التواصل فيما بينهم، وهم على الأرجح عائلات وقبائل مُمتدة، تَمسّكوا ببعضهم البعض وشَكَّلوا مجموعات بدافع الضرورة؛ ثم ذهبت المجموعات في طرق مُنفصلة، مُحققةً بذلك هدَف الرَب في تشتيت الكرة الأرضية كلها وتَعميرها. إلا أنه كان من المُحتَّم أن تقوم كل مجموعة من هذه المجموعات اللغوية، التي أصبحت الآن مُنقسِمة ومُنفصِلة ومعزولة لغويًا عن المجموعات الأخرى، بتطوير مفاهيمها وأفكارها الفريدة عن الحياة والموت، والأخلاق والآداب والأخلاق، والقانون والعدالة، والأولويات والقيم وما إلى ذلك. لقد تَطوّرت لتكوين جماعاتها وأممها وثقافاتها المُنفصلة…. بحيث يكون لكل منها لغة وعادات وقِيم خاصة. لذا فاللغة والثقافة مُرتبطتان ارتباطًا وثيقًا. وقد طَوّرت كل ثقافة فريدة من نوعها مجموعة من الفلسفات والمفاهيم التي تعمل على أساسها؛ والكثير منها فريد تمامًا لتلك الثقافة بحدّ ذاتها. وأكثر من ذلك، طَورت اللغة الأم لتلك الثقافة كلمات لا توجد إلاّ في لغتها، وتُجسّد بعض مفاهيمها الثقافية الفريدة من نوعها. لذلك فإن بعض الثقافات لديها أفكار ومفاهيم لا مثيل لها في الثقافات أو اللغات الأخرى.
والمقصود هنا هو أن اللغة والثقافة التي تُمثّلها غالبًا ما يكون لها مفاهيم يصُعب جدًا توصيلها لأي شخص خارج تلك الثقافة لأنه (أ) لا توجد كلمات تم اختراعها في الثقافات الخارجية للتعبير عن ذلك المفهوم بالتحديد؛ و(ب) ذلك لأنه من المُمكن أن تكون بعض المفاهيم موجودة فقط في تلك الثقافة الواحدة في المقام الأول، لذا من الطبيعي ألا توجد كلمات لها في اللغات والثقافات الأخرى.
لدى زوجتي صديقة مكسيكية مُقرّبة مؤمنة. وقد أوضحت أنّ هناك عددًا من الكلمات في اللهجة الإسبانية المكسيكية لكَلِمة "حب" وكل كَلِمة من هذه الكلمات تُعبِّر عن جانب مختلف من الحُبّ؛ والمشكلة هي أنّ معظم هذه الكلمات المكسيكية ليس لها مُقابل مباشر باللغة الإنجليزية، لأنّ الجوانب الخاصةّ من الحُب هذه غريبة على الأمريكيين… فهي موجودة فقط في الثقافة المكسيكية…لذلك من الصعب جدًا، إن لم يكن من المستحيل، توصيل تلك الأفكار إلى شخص من خارج ثقافتهم المكسيكية. هذا هو جوهر المشكلة التي نواجهها عند محاولة فهم الكتاب المقدس…عندما نحاول فهم ما تعنيه تلك الكلمات للشعب العبري القديم الذي كتبها بدلاً من مجرد فَهم ما تقوله عند ترجمتها إلى لغة مختلفة وتطبيقها على ثقافة مختلفة.
الأمر مُعقّد، أليس كذلك؟ ولكن هناك المزيد. كانت الثقافة العبرية، في زمن الكتاب المقدس، تدور أيضًا حول طريقة مُعيّنة في التفكير، كانت شائعة جدًا في ذلك العصر. انعكست طريقة معالجة المعلومات ذهنيًا بشكل طبيعي في لغتهم…العبرية. والآن، من بين كل الناس، كان من أصعب التحديات بالنسبة لي شخصيًا أن أستوعب حتى فكرة وجود أكثر من طريقة واحدة للتفكير….. غير طريقتي….. هنا قد تقول زوجتي آمين! ولكن ما أقصده بـ "طريقة التفكير" لا يَتعلق باختلاف تركيز البشر في كثير من الأحيان على أمور مختلفة، أو الاختلاف على ما هو مهمّ، أو ما له الأولوية، وما إلى ذلك، بل إنّ أسلوب التفكير مُختلف تمامًا.
كيف يتمّ التوصُّل إلى الاستنتاجات المختلفة؟ الغالبية العظمى من العالم اليوم…… وبالتأكيد العالم الغربي…… يَستخدم أسلوبًا في التفكير لم يكن موجودًا قبل أن يُعمّمه الإغريق ابتداءً من حوالى عام أربعمئة وخمسين قبل الميلاد. وهذا النمط الإغريقي في مُعالجة المعلومات وتكوين الاستنتاجات هو الذي يَستخدمه اليوم الجزء الأكبر من العالم، وخاصّةً العالم المتقدم، وهو مُختلف تمامًا عن الطريقة التي كانت الأمور عليها قبل ذلك الوقت.
كل شَخص في هذه القاعة، وكل مترجمي الكتاب المقدس منذ ترجمته الأولى عام مئتين وخمسين قبل الميلاد من العبرية إلى لغة أجنبية (اليونانية) … يُفكِّر بما يُسمّيه العلماء بالأسلوب العقلاني/المنطقي سواء (أدركتم ذلك أم لم تدركوه). لكن العبريين في الكتاب المقدس، من قَبْل موسى حتى زمن يسوع والرسل، لم يُفكروا بهذه الطريقة (على الرغم من أنه بحلول زمن يسوع تَسَرَّب بعضٌ من هذا النمط الفكري إلى اليهود المغتربين). لم يُفكّروا بالأسلوب العقلاني/المنطقي؛ بل عمِلوا بأسلوب تفكير يُسمّيه العُلماء بالأسلوب التناظري. ما يعنيه هذا بالنسبة لنا هو أنّ ما قَصَده كُتّاب الكتاب المقدس العبريين غالبًا ما يكون مَحجوبًا تمامًا بسبب صعوبة محاولة ترجمة الفكر العبري التناظري إلى أسلوب الفكر الغربي الحديث عن طريق اللغات القائمة على العقلانية/المنطقية مثل اليونانية واللاتينية والإنجليزية.
سأقوم بشرح الفرق الكبير بين الفِكر التناظري لكتّاب الكتاب المقدس…… والفِكر العقلاني/المنطقي لمُفسّري الكتاب المقدس ولكل واحد منا. لذلك أودّ أن أطلب منكم أن تأخذوا نفسًا عميقًا، وتنتبهوا جيدًا. بعد كل شيء، ما الذي يمكن أن يكون أكثر أهمية من استعادة طريقة تفكير كتّاب الكتاب المقدس حتى نَتمكّن من فهم ما قصدوه بالضبط؟
أولاً، دعونا نعرّف الفكر العقلاني/المنطقي. هو أسلوب التفكير الذي نستخدمه جميعًا من دون وَعي لأننا نشأنا عليه. من غير المُحتمل أن يكون أي منا قد واجه في أي وقت مضى أسلوب تفكير بديل…. وربما لم نكن لنَعرفه على حقيقته، حتى لو لاحظناه. كل شيء في ثقافتنا الغربية الحديثة، وفي معظم ثقافات العالم، يعكُس الفِكر العقلاني/المنطقي وقد كان كذلك منذ ألفي عام. أقول "معظم" لأن بعض الثقافات، مثل ثقافة الصينيين والشعوب الشرق آسيوية الأخرى، لا تزال تدمُج الفِكر المنطقي إلى درجة كبيرة في ثقافتها. من المقولات المشهورة التي غالبًا ما تُنسب إلى الصينيين هي أنهم غامضون…. وعادةً ما يَستخدمها رجل أعمال أو دبلوماسي بسبب الإحباط في محاولة التواصل والتعامل مع هؤلاء الشرقيين. وهذا يعني أننا ببساطة لا نستطيع فهم هؤلاء الناس الغرباء…. طريقة تفكيرهم هي لغز بالنسبة لنا.
النقطة المهمة هي أنّ الفِكر العقلاني/المنطقي ليس عالميًا بأي حال من الأحوال. كما أن الفِكر العقلاني/المنطقي ليس بالضرورة أفضل وأكثر تطورًا من الفِكر التناظري. بل هو ببساطة مختلف…. ويُشكّل العكس تمامًا في الواقع. وهو ليس أمرًا اتخذنا بموجبه قرارًا واعي باختيار التفكير بأسلوب أو آخر فأسلوب التفكير العقلاني/المنطقي موجود في كل ما يحيط بنا ونَتعلمه في ثقافتنا.
الفِكر العقلاني/المنطقي هو جزء لا يتجزأ من العلم. يَستخدِم ما يُسمى بالمنهج العلمي الذي تَعلّمناه في المدرسة الابتدائية ؛ ولا يمكن الفَصْل بينهما. فالفِكر العقلاني/المنطقي يعتمد على المنطق ويعمَل على فلسفة السبب والنتيجة….. إذا فعلت هذا، فالنتيجة هي ذاك. إنه الفِكر المنهجي أي أنه يَعمل وفق مبدأ أن كل شيء موجود هو جزء من نظام أكبر. وكل نظام مُنظّم بحيث يمكننا تجزئته إلى أنظمة فرعية أصغر وأصغر وفَحْص هذه الأنظمة الفرعية كلٍ على حدى ومعرفة كيفية عملها.
على سبيل المثال، في لغة العِلم، السيارة هي نظام. وهي تتألّف من العديد من الأنظمة الفرعية مثل المُحرّك، وناقل الحركة، والجِسم، والمكابح، والأسلاك الكهربائية، والمقاعد، والتدفئة وتكييف الهواء، إلخ. يمكن تطوير المحرك، بحد ذاته، وفَحصِه بالكامل خارج السيارة. في الواقع، يمكن استخدام نفس المحرك، والمبادئ التي تُوجِّه تطويره، في أي عدد من التطبيقات والأنظمة…. مثل القوارب والشاحنات والطائرات ومولدات الكهرباء. كل نظام من الأنظمة الفرعية العديدة بمفرده كامل ومُتكامل. كلٌّ منها قائم بذاته ويؤدي وظيفة ما. ولكن عندما نربِط العديد من هذه الأنظمة الفرعية معًا، يمكن أن نَحصل على سيارة.
وكمِثال آخر: يعمَل الطبّ الغربي بنفس الفلسفة العقلانية/المنطقية. يُنظر إلى جسم الإنسان تقليديًا على أنه نظام يتكوّن من العديد من الأنظمة الفرعية…. مثل الهيكل العظمي والدماغ والرئتين والجهاز الهضمي والعينين والأذنين والأنف والحنجرة وما إلى ذلك. إذا كانت لدينا مشكلة في المعدة نذهب إلى شخص مُتخصِص في الجهاز الفرعي للمَعِدة. إذا تَعرَّضنا لكِسر في العظام، نذهب إلى شخص مُتخصص في ذلك. إذا كان لدينا مشكلة في النظر، نذهب إلى
طبيب العيون، إلخ.
كل هذا جيد، ولكن الطبّ الغربي عمومًا لا يرى الروح كجزء مُنفصل ونظام فرعي مُنفصل من الإنسان. بل الروح هي ببساطة جزء من وظائف الدماغ. الروح هي مُعتقد ….. عقلاني/منطقي، فهي في الحقيقة ليست أكثر من نتيجة لكيفية عمَل دماغنا. من الناحية العقلانية/المنطقية، لا يوجد جزء مُحدَّد من الإنسان يمكن فَصْله وفَحْصه أو إصلاحه يُسمّى "الروح" ولن أتطرّق حتى إلى مفهوم الروح، لأن ليس له معنى في الطب الغربي الحديث.
يَنقسم الفِكر العقلاني/المنطقي عمومًا إلى نوعين رئيسيين من التفكير: الاستقرائي والاستنتاجي. يَعمل المنطق الاستقرائي على الجمْع بين سلسلة من الحقائق الثابتة والمُثبتة من أجل الوصول إلى نتيجة.
الحقيقة رقم واحد: جميع الكلاب لها أربعة أقدام. الحقيقة رقم اثنان: روفر كلب.
الاستنتاج: روفر لديه أربعة أقدام. الأمر بسيط بما فيه الكفاية.
لكن المَنطق الاستقرائي لا يَسعى إلى تحقيق يَقين رياضي كما يفعل المنطِق الاستنتاجي، بل يَحُدث الاستدلال الاستقرائي عندما نَجمع أجزاء من المعلومات معًا ثم ندمُجها مع خبراتنا الحياتية ومعرفتنا من أجل التوصّل إلى ملاحظة حول ما يبدو صحيحًا. وفيما يلي مثال على المنطق الاستقرائي:
الملاحظة رقم واحد: جاء جون إلى الصفّ متأخرًا هذا الصباح. الملاحظة رقم اثنان: كان شَعْر جون فوضويًا.
الخبرة: عادةً ما يكون شعر جون مرتبًا ومُصففًا. الاستنتاج: لا بدّ أنّ جون قد استغرق في النوم.
عندما نُلاحظ الناس، ونتعامل معهم، فإننا نَميل إلى استخدام المنطق الاستقرائي في التَوصّل إلى استنتاجاتنا. ومع ذلك، سواء كان الأمر استقرائيًا أو استنتاجيًا، فهو يستند إلى التفكير العقلاني/المنطقي. فالتفكير العقلاني/المنطقي مُستقيم وتطوري؛ "أ" يؤدي إلى "ب "، و"ب" يؤدي إلى "ج". يقول الفِكر العقلاني/المنطقي أنّ التاريخ خطّ مُستقيم يبدأ بنقطة ما غير مُحددَة في الماضي، ويَمتدّ إلى ما لا نهاية؛ وأنّ التاريخ لا يتكرّر، والماضي ليس مُؤشرًا للمستقبل. فالأنماط غير موجودة من وجهة نظَر تاريخية.
المشكلة في التفكير العقلاني/المنطقي هو أنه يعمل بشكل أفضل في الفراغ؛ بعيدًا عن العلاقات والروابط مع الأشياء الأخرى التي قد تكون مُشابهة أو حدثَت سابقًا. الحقيقة والملاءمة براغماتية؛ أي أنه في أسلوب التفكير العقلاني/المنطقي، السؤال عن "سبب حدوث شيء ما" يَتَحدد بكيفية حدوث شيء ما، وما الذي حَدَث بالضبط. إنه بَحث دقيق للغاية عن المعلومات ذات الصلة، لأنها تتعلَق بحدَث مُحدَّد في وقت محدد. ليس للماضي والمستقبل أي صلة ببعضهما البعض، وصِلَتهما بالوضع الحالي وإن وجدت، طفيفة.
ما وصفتُه لكم للتو هو ما يُسميه الكتاب المقدس التفكير اليوناني. إنه أسلوب تفكير الهيلينيين، الذين كانوا بالطبع على خلاف مع اليهود. وخلال دقائق قليلة، أعتقد أنكم ستعرفون لماذا لا يَعرف هذا النمط من التفكير ببساطة ما الذي يمكن أن يفعله نمط التفكير العبري: الفكر التناظري.
قبل أن أحاول شَرح الفِكر التناظري، وهو نمط التفكير الذي استخدمه كتّاب الكتاب المقدس، دعوني أذكّر أنه لا يوجد أي شيء خاطئ أو غير صالح في حدّ ذاته، ولا يوجد أي شيء خاطئ أو غير صالح في نمَط التفكير العقلاني/المنطقي …… بشرط أن نَعترف أنه ليس النمط الوحيد للتفكير، وأنّ له قيودًا مُضمنة؛ على سبيل المثال، الكَون كما خلَقه يَهوَه لا يعمل بالضرورة بطريقة عقلانية/منطقية، حاولوا كما قد يُحاول العلماء والباحثون أن يضعوا أوتادًا مُربعة في ثقوب مستديرة. التفكير العقلاني/المنطقي هو بالضرورة "متمحور حول الإنسان"، إنه يعتمد كليًا على حساب الأبعاد الأربعة التي يمكن ملاحظتها في كوننا: الطول، والعَرض، والارتفاع، والزمن. فالعقيدة هي أنّ الأشياء التي يُمكن ملاحظتها واختبارها علميًا هي فقط الأشياء الحقيقية وهي تَعتمد على قوة العقل البشري في الاكتشاف، ومن ثم استخدام تلك الاكتشافات في اتخاذ القرارات والأحكام. أما ما لا يُمكن "إثباته" بالمنطِق والعقل فهو باطل تلقائيًا.
أما التفكير التناظري فهو نطاق مختلف تمامًا؛ فهو يعمل بناءً على أنماط ونماذج ثابتة. فالتفكير التناظري يَبحث عن الحقائق التأسيسية المشتركة بين الأشياء المُتشابهة ويَتعرّف عليها، على الرغم من أنّ تلك الأشياء المتشابهة تحديدًا قد لا تكون متشابهة تمامًا. على سبيل المثال، يُشبه عمَل أجنحة الطائرة إلى حدٍ ما عمَل أجنحة الطيور أو الحشرات الطائرة. بالتأكيد، بخلاف القدرة على الطيران، ووجود بعض الهياكل البارزة التي تُسمّى "الأجنحة"، هناك أوجه شبه قليلة للغاية بين الطيور والطائرات. ومع ذلك، فإنّ نَفس مبادئ الديناميكا الهوائية تعمل في كل من المخلوقات الطائرة والطائرات.
يَعتمد التفكير التناظري على العلاقات والروابط. لاحظوا مثلاً أنّ ما كنا نقرأه في التوراة بشكل عام، وسِفْر اللاويين بشكل خاص، لا يُحاول تفسير سبب كل شريعة أو تعليمات جديدة، بل يُضيف إلى هذا المزيج شريعة أو تعليمات أخرى، ولكن مُتشابهة…. ثم أخرى، وغيرها؛ فالعلاقة بين كل هذه الشرائع والتعليمات تَخلُق صورة شاملة تحدد المعنى. لذلك إذا كنتم مثلي وسألنا أنفسنا عند دراسة سِفْر اللاويين، "لماذا لا يمكننا أكل لحم الخنزير؟" ….. في الواقع الجواب هو ببساطة "لأنه يتوافق مع المبدأ الأساسي وراء كل الشرائع الأخرى" أي أنّ القاعدة الجديدة هي ما هي عليه لغَرَض البقاء في ارتباط تام مع جميع القواعد الأخرى. لذلك يُصبح نمط التكوين الأصلي هو السياق الذي يجب أن يَتوافق فيه كل شيء آخر يأتي لاحقًا.
تَحدَّث يسوع غالبًا بنوع خاص من أسلوب الفكر التناظري يُسمى الأمثال. كانت تَتجسّد في أمثاله المحيرة أحيانًا مبادئ وأنماط روحية موجودة ولا تَتغير أبدًا؛ لكنه أوصل وجهة نظره من خلال تطبيق مبادئ الأنماط الثابتة والمفهومة على أشياء أخرى لا تبدو ظاهريًا مُتشابهة. في الواقع كانت الاختلافات في بعض الأحيان كبيرة جدًا لدرجة أن الناس واجهوا (وما زالوا يواجهون) صعوبة في فهم معنى تشبيهاته. لماذا؟ لأنهم لم يَتعرّفوا على النمط الذي يربِط بين كل ذلك. ما علاقة حبّة الخردل بملكوت السماوات؟ لمَ قد يقوم أي شخص بِرَمِي لآلئ ثمينة لحيوانات المزرعة والخنازير؟ ما علاقة نفاد الزيت وإبقاء مصباح الزيت مُشتعلًا بعودته؟ تكمُن الإجابة في الأنماط والمبادئ الروحية الراسخة منذ زمن طويل.
يجب أن يكون للتفكير التناظري نمط أصلي سابق ليَتطوّر منه ويُحاكيه، لذا فإنّ القضية الأهم في نمط التفكير التناظري للشخصيات الكتابية هي معرفة "أي نمط هو صحيح وملائم لهذا الوضع الحالي"؟ لذلك في نمط التفكير اليوناني يكون عن "السبب؛ لكن في النمط العبري (النمط الكتابي) للتفكير يكون البحث دائمًا عن "أيّ، أي الشيء". عند التعرّف على النمط الذي يُلائم نظامًا أو ظرفًا معينًا، يُصبح المعنى واضحًا.
يميل التفكير التناظري أيضًا إلى رؤية الأشياء على أنها عوالم مصغرة. فالعالم المُصغَّر يعني ببساطة أنه عالم صغير قائم بذاته؛ عالم مُصغَّر يُمثِّل نموذجًا لعالم أكبر وأكثر تفصيلاً. فالعائلة، على سبيل المثال، هي نموذج مُصغَّر للمجتمع؛ أي أنّ العائلة ما هي إلا مجموعة مُصغَّرة من الناس تُشبه من حيث المبدأ والتركيب تَجمُّعًا أكبر من الناس يُسمّى مجتمعًا.
والآن بعد أن فهمنا أساسيات المشكلة، دعونا نَنتقل إلى الشروط العملية لما يَعنيه هذا بالنسبة لنا ولدراسة التوراة. نحن نعلم أنّ العبرية لغة تُجسِّد ثقافة التفكير التناظري. من ناحية أخرى، اليونانية لغة تُجسِّد ثقافة التفكير العقلاني/المنطقي. فالعبرية ثقافة مُنفصِلة تمامًا، ولغة فريدة من نوعها تمامًا مُصمَّمة لتوصيل مفاهيم العبريين الفريدة؛ والمفاهيم العبرية كما نراها في الكتاب المقدس مَبنية على فِكر الله والمعلومات التي أعطاها لهم وحدهم في التوراة ثم الكتب المقدسة اللاحقة.
أما اليونانية فهي ثقافة واسعة الانتشار ومُتنوعة ولها لغة فريدة من نوعها صُمِّمت لتوصيل مفاهيمها ومبادئها الثقافية الخاصة؛ فالثقافة اليونانية قائمة على الاكتشافات البشرية والفلسفة الإنسانية والعِلْم والتكنولوجيا والنُظُم الأخلاقية وإيجاد الحقيقة. كيف يُمكن للنظام اليوناني للتفكير وحلّ المشكلات…التفكير العقلاني/المنطقي….. استخلاص الحقيقة والمعنى من نظام تفكير مُعاكس تمامًا؟ كيف يُمكن للمفاهيم العبرية التي كانت موجودة فقط في أذهان العبريين، والتي وُلِدت من ثقافة عبرية وعَبّرت عنها اللغة العبرية، أن تصِل إلى أذهان البشر (مثلنا) الذين يعيشون في ثقافة يونانية لا تملِك نفس هذه المفاهيم، ولا مفردات في لغتهم لوصفِها وتوصيلها؟ الجواب: بشكل ليس جيّدًا.
الآن، هل العبرية جيدة من ناحية ما واليونانية سيّئة من ناحية أخرى؟ هل العبرية إلهية واليونانية غير إلهية؟ لا….. لا على الإطلاق. لقد خَلَق الله كل اللغات. في الواقع، لقد فَرَض اختلاف اللغة على الجِنس البشري في برج بابل. وكما قال لي الدكتور روبرت ماكغي، إنّ الله كان يعلَم، وكان لديه سبب وجيه للسَماح بظهور العهد الجديد باللغة اليونانية…… على الرغم من أنّها قد تكون غير مُكتمِلة بما يخصّ إلقاء الضوء على هذه المفاهيم العبرية بشكل مناسب.
لذا، فإنّ مُهمتنا وشغفي في دَرس التوراة، هي اكتشاف كيفية النَظر إلى الكتاب المقدس من خلال عيوننا العقلانية/المنطقية اليائسة هذه، واستخراج المعنى الذي صيغ في الفِكر واللغة والثقافة التناظرية. ليس لدي شك في أنّ ذلك ممكن. ولكن، يَتطلب الأمر استعدادًا للتخلّي عن العقائد والتقاليد الزائفة التي أوجدها رجال التفكير العقلاني/المنطقي الذين احتقروا العبريين وإسرائيل؛ رجال لم يستطيعوا تَحمُّل فكرة الانحناء ومحاولة الاقتراب من الكتب المقدسة العبرية والعهد الجديد من عقلية مختلفة عن أولئك الذين كتبوها بالفعل. كان الأمر يَتعلّق بإثبات صحة الثقافة اليهودية وأسلوب الفِكر اليهودي؛ وهو أمْر لم يكن واردًا في منتصف القرن الثاني وأواخره بالنسبة للكنيسة التي كانت تُسيطر عليها الأمم التي لم تكن تريد أن يَبقى أي شَكْل من أشكال اليهودية.
نَختتِم الأسبوع القادم وننتقِل إلى سِفْر اللاويين الإصحاح الثاني عشر.