سِفْر اللاويين
الدرس الحادي عشر – الإصحاح ثمانية
شَكّل الإصحاحان ستة وسبعة وِحدة واحدة ويَنطبق الأمر كذلك على الإصحاحات ثمانية وتسعة وعشرة من سِفْر اللاويين. ستُقدّم لنا هذه الإصحاحات الثلاثة معلومات عن ترسيم كهنوت إسرائيل الأول. ولكي نكون واضحين، كل الإصحاحات السابقة من سِفْر اللاويين، بما فيها الإصحاحات الأخيرة من سِفْر الخروج، تَنصّ على العديد من القواعد والأحكام لكل من عامّة الشعب والكهنة. ولكنها……لم تُنفّذ بعد. إذًا في بداية الإصحاح الثامن من سِفْر اللاويين لم يكن هناك كهنوت بعد، بل فقط تعليمات حول كيفية عمله بعد تأسيسه.
لقد لاحظنا، بدءًا من سِفْر الخروج عشرين واستمرارًا حتى سِفْر اللاويين سبعة، هيكلًا اجتماعيًا مُعقدًا ومحددًا، هيكلًا رَسَمه يَهوَه، بِغرض جعْل إسرائيل أمّة مقدسّة مخصّصة له. كان الاتفاق كالتالي: التزموا بالهيكل، وأطيعوا الأوامر واللوائح، وستَحصل إسرائيل على بركة الله. أمّا إذا عصى الشعب أو تَمرّد أو تهاون في مراعاة تعليمات الله، فستُزال البَركة.
غياب البَركة يعني عمومًا الإخراج من أرض الميعاد أو الموت.
كان التنفيذ الدقيق لنظام الله للعبادة والتكفير والمجتمع العام مطلوبًا…… لا يمكن أن يكون متهاونًا أو متقطعًا أو عشوائيًا. الاهتمام الدقيق بالتفاصيل كان مطلوبًا من يَهوَه……. لدرجة أنه وَرَد في سِفْر اللاويين الإصحاح سبعة الآية ثمانية عشرة "…الرجل الذي قَدّمها (الذبيحة) لا يُقبل….. إذا لم يتمّ كل شيء على أكمَل وجه".
أنا متأكِّد من أنّ كلاً من معلّمي العهد القديم قد سُئل عشرات المرات لماذا كل هذا الاهتمام المُفرط بالتفاصيل؟ الجواب واضح ومباشر حقًا: لأن طرق الله ليست طرق الإنسان. لم يكن لدى البشرية الفاسدة أي فكرة عن الطريقة التي أراد بها يَهوَه أن يُعبد. انظروا إلى الاختلاف من دِين إلى آخر في جميع أنحاء العالم كما هو الحال اليوم، عندما يَتعلّق الأمر بالإجراءات والاصطلاحات المُستخدمة في عبادة الله. ذلك لأنّ هذه الأديان والطقوس هي، في معظمها، من صنع الإنسان…إنها نتيجة لمحاولة الإنسان المُضلِلة لتَصَور كيفية عبادة يَهوَه. وسأخبركم أنه حتى داخل ما يُسمّى بالكنيسة المسيحية، فإن معظم العبادة هي من صُنع الإنسان….. تحدُث بالطريقة التي نفضلها نحن…. وليس بالطريقة التي نراها كما أمَر الله بها في الكتاب المقدس.
كان لدى كالفن، وهو تلميذ عظيم للكتب المقدسة العبرانية، إجابة عميقة للغاية على التساؤل الشائع عن سبب اهتمام الله بالتفاصيل في هذه التعليمات الطقسية والسلوكية لبني إسرائيل. يقول: "بما أن الله يفضل الطاعة على كل الذبائح، فإنه لم يشأ أن يبقى أي شيء مشكوك فيه بالنسبة للحقوق الخارجية، التي لم تكن ذات أهمية كبيرة؛ لكي يتعلّم (بنو إسرائيل) أن يراعوا بدقة وعناية فائقة كل ما أمرت به الشريعة، وألا يقوموا بشيء من تلقاء نفسهم".
ربما تكون الطريقة الإنجليزية القديمة في الكلام قد طَمَست هذا الأمر بالنسبة للبعض منكم، لذلك باختصار، يقول كالفن أن الطاعة هي مفتاح علاقتنا مع الله. وأنه بما أن الإنسان (خاصةً البعيد جدًا عن حالتنا المثالية) لا يستطيع من تلقاء نفسه أن يَعرِف وحده طُرق الحياة والعبادة، فلا بد أن يُريه الله ذلك. وذلك حتى يكون لدى الإنسان على الأقل فرصة للقيام بذلك بشكل صحيح وعدم الإساءة إلى خالقنا. وهذه التعليمات المُفصّلة موجودة حتى يَتعذّر على الإنسان أن يَختلقها من أفكاره الخاصة، كونه يَجهل ما يتوقعه الله في الواقع.
لسببٍ ما، الكنيسة كما نعرفها الآن……الكنيسة التي (اعترف أو لا تَعترف) هي في الحقيقة النُسخة الرومانية لما بدأ كطائفة من اليهودية المسيانية………… تَوصَّلت إلى استنتاج أن تفاصيل العبادة، والسلوك الشخصي، وأوامر الله ونواهيه وما شابه ذلك لا تهمّ….. وأنّ الأمر كلّه متروك تمامًا للفرد العابد ليقرِّر بنفسه منذ مجيء يسوع المسيح. طالما أننا مخلّصون في جهودنا، فهذا جيد بما فيه الكفاية. ومع ذلك، لا يوجد بالتأكيد أي شيء في أسفار العهد القديم أو العهد الجديد يشير إلى أن الطريقة التي نَعبد بها يَهوَه وكيف ندير حياتنا أصبحت فجأة غير مهمة مع مجيء المسيح. "عبارة حسنة بما فيه الكفاية" عندما يَتعلق الأمر بطاعة ما أمر به الرب…….. لا تُغيِّر أو تُلغي مبدأه.
يقول المسيح في إنجيل متى الإصحاح خمسة الآية سبعة عشرة "لا تظنوا أني جئت لأنقُض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض، بل لأتمِّم"، أي أن يشوع لم يأتِ ليبدل الناموس بالنعمة. غالبًا ما تُفهم كلمة "إتمام" على أنها تعني الانتهاء من أمْر…. أنّ المهمة قد انتهت… في هذه الحالة تُشير إلى الناموس. بعبارة أخرى، عادةً ما تأخذ الكنيسة هذه الجملة على أنها تعني: "أنا لم آتِ لأنقض الناموس، بل لأنهيه" وهو في الحقيقة تَناقُض لفظي. الكَلِمة اليونانية التي تعني النهاية، أو إنهاء أو إكمال شيء ما، هي "تيلوس" ولكن…هذه ليست الكَلِمة المُستخدمة هنا. الكَلِمة المستخدمة في إنجيل متى الإصحاح خمسة الآية سبعة عشرة للإنجاز هي "بليرو" وتعني الامتلاء بالمعنى، جعل الشيء وفيرًا، الوصول إلى حالة اكتمال… تقريبًا عكْس كلمة " تيلوس". كان يشوع سيأخذ نواميس وأوامر الآب، التي كانت مليئة بالظلال والأنواع، ويوصلها إلى أكمل مقصَد وهدف كانت تشير إليه. ويَمضي يسوع ليقول في الآيتين التاليتين أنّ أي شخص يُعلِّم أنّ ذرة واحدة من التوراة أُلغيت نتيجةً لمجيئه، سيتم تحجيمه في ملكوت السماوات.
إذًا، يقول يشوع بوضوح: أ) إننا بحاجة إلى دفن هذه الفكرة التي تُعبّر عن الهرطقة مرة واحدة وإلى الأبد والتي تقول إنّ الزمن قد عفا عن التوراة بطريقة ما، وب) علينا أن ندرك أنّ لدينا التزامًا بأن نهتم، وأن نحرص في عبادتنا وفي حياتنا، على أن نتبع مبادئ الله التي رسمها.
لا يمكننا أن نعرف ما هي هذه المبادئ إلا بالرجوع إلى التوراة. إنّ العهد الجديد هو أكثر بكثير عن حياة يسوع، وكيف حَقّق نبوءات العهد القديم ليُثبت للجميع أنه هو بالفعل المسيح، بدلاً من وضع شرائع ومبادئ جديدة. لماذا؟ لأنه تم سابقًا وضع تلك المبادئ الثابتة لله … في التوراة. فلماذا يُكرّرها يشوع ببساطة؟ لقد سمعت البعض يقول، "حسنًا، إذا لم يقُلها يسوع، إذن ليس علينا أن نقوم بها. إنها محاولة جيدة. المشكلة هي كما يقول الرسول يوحنا، يسوع هو الكَلِمة…. كلّ الكَلِمة، وكان موجودًا قبل بدء العالم.
ما هي الكَلِمة؟ في شكلٍ ما هي الكتاب المقدس…كل الكتاب المقدس. تذّكروا؛ عندما أوضح يوحنا أنّ يسوع هو الكَلِمة، وأنه هو الله وكان عند الله قبل وجود العالم، كانت الكَلِمة المكتوبة التي كان يوحنا يُشير إليها هي التوراة…أوما نُسميّه اليوم العهد القديم. لم يكن هناك عهد جديد عندما كتب يوحنا (أو أي كاتب آخر) رسائله.
الآن، هناك مسألة أخرى أشعر بالحاجة إلى التطرّق إليها في هذه المرحلة. لقد أمضينا الأشهر العديدة الماضية ونحن نبحث في ما يُسمّى عادةً "الناموس……" وهو مصطلح لا أحبّه لأنه مصطلح غير دقيق ويُعطي انطباعًا خاطئًا بالتأكيد. أفضِّل أن نَستخدم كلمة توراة لأن الكَلِمة المُستخدمة كانت التوراة، إلى أن أصبحت اللغة اليونانية هي السائدة. في بعض الأحيان عند دراسة أي شيء بعناية يمكن أن نَضيع في مستنقع من التفاصيل، وتزول الصورة العامة. نحن نغوص بالتفاصيل منذ فترة عند درْس التوراة، خاصةً فيما يتعلق بسِفْر اللاويين.
لذلك دعونا نتوقف ونقيّم موقعنا؛ لقد حان الوقت لنسأل أنفسنا سؤالاً مهمًا: لماذا نحتاج نحن المؤمنين الأمميين أو اليهود أن نَهتمّ بدراسة التوراة والكتب المقدسة العبرية……العهد القديم…. على الإطلاق؟ علاوةً على ذلك، هل علينا أن نَتبع شرائع التوراة وأوامرها؛ وإذا كان الأمر كذلك، فأي منها……. أم كلّها؟ أو…هل كل هذا مجرد تمرين تاريخي، لمتعة التعلّم؟ إذا استنتجنا أننا يجب أن نُطيع كل أحكام الشريعة، أو الأجزاء المناسبة منها، فكيف نفعل ذلك بالضبط….. كأشخاص يعيشون في القرن الحادي والعشرين وبعيدين جدًا عن ثقافة تُشبه ما نقرأه في الكتاب المقدس؟ بعبارة أخرى، في العصر الحديث، ماذا يعني أن يكون تلميذ المسيح….، وخاصة تلميذ المسيح الأممي….. ملتزمًا بالتوراة، إذا كان هذا ما يجب أن نكون عليه؟
دعوني أُسهِب لبضع دقائق فقط وأرى ما إذا كان بإمكاني مساعدة بعضكم على الأقل في الإجابة على جزء من هذه الأسئلة الصعبة والمُهمّة.
بادئ ذي بدء، أكثر من نصف أوامر الناموس وقوانينه الستمئة وثلاثة عشرة تَتعلق بطقوس الذبائح وإجراءات أنشطة الهيكل. وبما أنه لم يعُد هناك هيكل منذ عام سبعين ميلادي، فلا يمكن لأحد أن يَتبع هذه القواعد الطقسية بالكامل، حتى لو أراد ذلك. وبالمناسبة، بقدر ما يُسعد المسيحيون تمامًا بعدم الاضطرار إلى التعامل مع قواعد الهيكل هذه، فإنّ الكثير من السكان اليهود المتدينين لا يستطيعون الانتظار حتى يتم إعادة بناء الهيكل حتى يَتمكنوا من ذلك.
علاوةً على ذلك، كما تعلمتَ على الأرجح في أي كنيسة أو كنيس تربيت فيه، وكما علّمتُ هنا، ربما يكون الدور الأساسي للتوراة هو تعليمنا ما هي الخطية، وعن أهمية الكفارة، وتعقيداتها وخطورتها. الخطية أمْر سلبي، أليس كذلك؟ لذا، إذا نظرنا إليها من الناحية الإيجابية، فإن التوراة تُعلّمنا أيضًا ما هو البِر والقداسة؛ لأن عكس الخطية هو البِر. لسوء الحظ، هنا يبدأ القطار في يومنا هذا بالخروج عن السكة. تقول الكنيسة الغربية (الرومانية) إنّ هدف التوراة ببساطة هو أن تُبيّن لنا ماهية الخطيئة، وأنه منذ مجيء يسوع الذي خلصنا من تلك الخطايا، لم نعُد بحاجة إلى معرفة الخطيئة، لذا، فقد تمّ رفض التوراة والعهد القديم، باعتبارهما غير مُهمين. المشكلة هي التالية: بما أنّ التوراة هي التي تُخبرنا ما هي الخطية في الواقع، فهي أيضًا الوسيلة التي استخدمها الله ليُخبرنا تعريفه للخطية والبِر. على سبيل المثال، هل بمجرد أن نتعلّم التحدُث باللغة الإنجليزية، فهل يعني ذلك أننا لم نعُد بحاجة إلى قاموس: كتاب يُحدّد معنى الكلمات؟
الأمر نفسه ينطبق على التوراة. بما أنها الوثيقة الوحيدة التي تُعرّف الخطيئة وعواقبها وعلاجها، فنحن بحاجة إلى معرفة ما تنصّ عليه بالضبط…لأنّ تعريفنا البشري للخطية نادرًا ما يَتطابق مع تعريف يَهوَه للخطية.
لذا، فمن التوراة نحصُل على تعريف الله للخطيئة والبِر……إنّه كتاب مفيد، ألا تعتقدون ذلك؟
يجب التذكّر أنه في حين أنّ طقوس الذبائح في التوراة يمكن أن تُوفّر الغفران لمخالفة قوانين التوراة، إلاّ أنّه لم يكن هناك شيء سحري أو خارق للطبيعة في تلك الطقوس أو الإجراءات في حد ذاتها. على سبيل المثال، لم يُصبح دم الحيوان بطريقة ما "دمًا خارقًا للطبيعة" عندما ذُبح ذلك الحيوان وأريق دمه للتكفير عن الخطيئة. لم يَتحوّل الشحم والأحشاء المحترقة على مذبح النحاس إلى دُخان سحري. المسألة كانت طاعة لله؛ خالِق الطقوس ورب الطقوس. لم تكن الطقوس التي كنّا وسنظلّ ندرُسها في حدّ ذاتها تمتلك قوة متأصّلة، كذلك الأمر بالنسبة للأدوات والآنية الذهبية أو الفضية المُستخدمة في هذه الطقوس، ولباس الكهنة والذبيحة وخيمة الاجتماع، إلخ. لذا، يقول الله إنه يُفضّل طاعتنا على الذبيحة. وبعبارة أخرى، لا يقول إنّ لدينا خيار الطاعة أو الذبيحة…… إنه يقول إنّ طاعتنا أهم من الذبيحة. في الواقع إنّ طاعتنا هي الهدف من كل ذلك…… وليس الذبيحة وبعض عجين الشعير أو القمح. حقًا كان بإمكان الرب أن يختار أي شيء كذبيحة، وكان بإمكانه أن يختار أي إجراء. ولكن، اختار ما اختاره وواجبنا الطاعة.
من المهمّ أيضًا أن نَفهم الهدف من الذبيحة؛ لقد أعطينا وسيلة للتكفير. إنّ الكفارة ضرورّية لأنّ الإنسان خاطئ بطبيعته، وبالتالي فهو يرتكب خطايا ضد الله (المصطلح الكنَسي هو الخطايا). يُفضّل الله أن نَختار الطاعة بدل الحاجة إلى ذبيحة بسبب عصياننا. بإعطائه لنا قائمة دقيقة لما هو صواب وخطأ، يمكننا أن نختار الطاعة أو العصيان. من خلال إعطائنا طقوس ذبيحة محددة، يمكن لبني إسرائيل أن يختاروا أن يكونوا مطيعين لها ويحصلوا على التكفير، أو العكس. المسألة مُتعلّقة بالطاعة لأي شيء يأمر به الله. ولكن…لم نُعطَ رخصة، لأن المسيح يشوع جاء ليقرّر عنّا ما هو الصواب والخطأ. لا يمكن أن نُعيد تعريف ما هي الخطيئة والبِر، أو أن نقول إن الأمر يَختلف باختلاف الناس. كانت التوراة، ولا تزال، الوثيقة المحدِدة للصواب والخطأ، والخطيئة والبِر.
ومع ذلك، لم تكن التوراة أبدًا وسيلة مُصمّمة لخلاص البشرية. لقد ذكر القديس بولس هذه الحقيقة بوضوح، وقال إنّ يشوع المسيح وحده هو الذي صُمم لخلاصنا. طاعتنا للتوراة لم تُخلِصنا، فهل هذا يعني أن نتوقّف عن طاعة التوراة لأنها لا تُخلصنا؟
لاحظوا، الذهاب إلى العمل كل يوم وكَسْب الرزق لا يُنقذنا من الإصابة بتسوّس الأسنان، أليس كذلك؟ لكن تنظيف أسناننا بالفرشاة والنظافة الجيدة للفم تُنقذنا. فهل يعني ذلك أننا إذا كنا لا نريد تَسوّس الأسنان، نغسِل أسناننا بالفرشاة……لكننا نتوقف عن الذهاب إلى العمل لأنه لا علاقة له بالوقاية من التَسوس؟ بالطبع لا. إنهما قضيتان مُنفصلتان.
طاعة أوامر الله في التوراة قضية مُنفصلة عن الخلاص بالثقة في يسوع المسيح. ولكن……وهنا تكمُن المشكلة…….طاعة أوامر الله لا تُخلّصنا بشكل خارق للطبيعة، أكثر من أنّ الثقة بيسوع تقول لنا بشكل خارق للطبيعة ما يعتبره الله خطيئة وما يعتبره بِرًا. الثقة بيسوع تُكفِّر عن خطايانا. إنّ معرفة أوامر الله ومبادئه في التوراة تُمكِننا من أن نكون مطيعين، لأن التوراة هي التي تُحدِد الطاعة والخطيئة. الله يريد الخلاص لنا طاعةً منا….. ولا مجال للاختيار بين هذا وذاك.
إذًا، الله يريدنا أن نكون مطيعين، وهذا هو هدف التوراة، والله يريدنا أن نخلُص، وهذا هو هدف المسيح. ولكن، ليس الغرض من التوراة أن تكون أداة للدينونة والإدانة بين المؤمنين. قد يرتدي بعضنا التزيتزيت….. والبعض الآخر قد لا يرتديه. قد يأكل البعض الكوشر…… وقد لا يأكله البعض الآخر. قد يرتدي البعض شالات الصلاة…… وقد لا يرتديها البعض الآخر. البعض قد يَحتفل بالأعياد التوراتية والبعض الآخر قد لا يَحتفِل بها. قيامنا أو عدم قيامنا بأي من هذه الأشياء لا يُغيّر وضعنا كمخلّصين. على أي حال……. الآن وقد خلصنا، أليس لدينا سبب أهمّ لنكون مطيعين للذي خلصنا، مقارنةً بحين كنّا ضائعين؟ يقولها بولس بطريقة أخرى:"هل يجب أن نُخطئ أكثر لننال المزيد من النعمة؟ لا سمح الله" يا قوم، عدم الطاعة هو الخطيئة!".
نحن نعلم من مقاطع كثيرة في الكتاب المقدس أنّ المؤمنين الأوائل جاهدوا في طاعة التوراة. لم يروا شيئًا يَخلق تعارضًا بين الثقة في يشوع وطاعة التوراة. يقول يعقوب العادل لبولس في أعمال الرسل واحد وعشرين "أتَرَى يَا أَخِي كَمْ مِنْ أُلُوفِ الْيَهُودِ الْمُؤْمِنِينَ (بالمسيح يشوع) وَكُلُّهُمْ غَيُورُونَ عَلَى التَّوْرَاةِ!"
ويقول بولس في أعمال الرسل (الكتاب المقدس الأميركي النموذجي الجديد) الإصحاح أربعة وعشرين والآية أربعة عشرة "وَأَمَّا أَنَا فَأُقِرُّ لَكُمْ أَنِّي بِحَسَبِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَدْعُونَهُ طَائِفَةً أَعْبُدُ إِلَهَ آبَائِنَا، مُؤْمِنًا بِكُلِّ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّامُوسِ وَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ".
ويقول أيضًا في إنجيل أعمال الرسل الإصحاح خمسة وعشرين الآية ثمانية "لم أرتكب أي إثم لا على شريعة اليهود ولا على الهيكل ولا على قيصر".
يمكنني أن أستمِرّ في ذِكر أقوال مماثلة لبولس وغيره. لقد رأوا مراعاة التوراة كنتيجة طبيعية للثقة في يسوع…والثقة في يسوع كنتيجة طبيعية لفَهم هدف التوراة ومعناها. التوراة ويسوع متشابكان ومتكاملان ولا يَنفصلان.
إذًا، لماذا ندرُس التوراة؟ لأنّ التوراة تًعطينا تعريف الله للخطية والبر. بدونها، ليس لدينا أي فكرة عن ماهية الطاعة. هل يجب أن نطيع تعاليم التوراة؟ نعم، لأن الطاعة هي ما يريده الله منا قبل كل شيء. كيف نطيع التوراة؟ هنا يكمن الصراع الحقيقي، ولكن هذا أيضًا جزء كبير من مِحور دَرس التوراة….. لفهم التوراة، حتى نَكتشف ما الذي يَتوقعه الله منا بِشَكل مثالي….. كل واحد منا.
لذا، دعونا نَستأنف دراستنا لسِفْر اللاويين.
قراءة سِفْر اللاويين الإصحاح ثمانية بكامله
كثيرٌ من هذه الأمور مألوف بالنسبة لنا لأن الكثير ممّا يحب أن يتمّ، منذ الإصحاح تسعة وعشرين من سِفْر الخروج، يتمّ الآن أخيرًا. لذلك لن أغوص في الكثير من التفاصيل حول بروتوكول الاحتفالات وطقوس تكريس الكهنوت، وهو ما تَدور حوله الإصحاحات ثمانية وتسعة وعشرة من سِفْر اللاويين.
إنّ جوهر خطة الله لخلاص البشرية من مأزق الخطيئة المُتأصلة فيها، وبالتالي انفصال البشرية عن الله، هو القداسة. لقد كان يَهوَه يُعلِّم إسرائيل ما هي القداسة، فِعلها وشَكلها. بالإضافة إلى ما سبَق، كانت هناك حاجة لأن يُفهم الله البشرية ما هي العبادة الطاهرة، وكيف يُمكن للبشرية أن تُظهر امتنانها له عن طريق الطاعة لكل ما يأمُر به.
كان الكهنوت الإسرائيلي هو الحارس والسلطان لكلمة الله……التوراة. كان من واجب الكهنة أن يرشدوا الشعب في طريق القداسة وأن يَسهروا على الشعب لئلا يضل وللتأكد من عدم ملامسة أي شيء نجس أو شائع لما هو مقدس. لم يكن أداء الطقوس العديدة التي نادت بها التوراة سوى جزء من واجباتهم كخدام ليَهوَه. كما ترون، كان الله يضَع ديناميكية تَتناقض تمامًا مع ديانات العالم الزائفة؛ في نظام الله النقي، كان الكهنة خدامًا وليسوا أسيادًا. كانوا يخدمون الله والشعب معًا. كانوا يَخدمون الشعب من خلال تأدية طقوس تقديم القرابين التي أمرَهم يَهوَه بأدائها من أجل الحفاظ على علاقة طيبة معه. كانوا يؤدون أيضًا طقوسًا بالنيابة عن أمّة إسرائيل ككلّ ولصالحها. كان الكهنة يحرصون على أن يقوم الشعب بما يُفترض أن يقوموا به حتى لا يُغضِبوا الله؛ لكن هدف الكهنة لم يكن إغناء النفس. كان كهنة الديانات الباطلة عمومًا من بين الأكثر ثراءً وقوة وامتيازًا….. على عكس كهنة بني إسرائيل.
والآن من المفيد أن نتصّور أنّ هناك فترة زمنية بين نهاية الإصحاح سبعة من سِفْر اللاويين وبداية الإصحاح ثمانية من سِفْر اللاويين. وعلى الرغم من أنكم لن تعرفوا ذلك من خلال قراءة سطحية، إلا أنه خلال تلك الفترة جرَت حادثة العِجل الذهبي وتم بناء خيمة الاجتماع (البرية)؛ لذلك حدث الكثير من الأمور بين نهاية الإصحاح سبعة وبداية الإصحاح ثمانية. وكما سَيرِد في الإصحاح الثامن، نجِد أنه كان لا بد من تطهيره هارون وبنيه، الكاهن الأعظم الأول والكهنة المشتركين في إسرائيل، لكي يتولوا مناصبهم. لماذا؟ لأنهم كانوا خطأة وبالتالي كانوا نجسين. هؤلاء الرجال أنفسهم، الذين كانوا على وشك أن يصبحوا الآن خدام الله الشخصيين وحراس الحقّ، كانوا قد شاركوا قبل أشهر فقط مشاركة كاملة وطوعية في رجَس بناء الصَنَم: العِجل الذهبي.
يا له من أمَل عظيم بالنسبة لنا! إذا كان يَهوَه سيقبل مثل هؤلاء الرجال الخطأة ككهنة له، ويُرحّب بهم في مسكَنه المقدس…… حتى بعد أن فعلوا مثل هذه الأشياء الفظيعة….. فكم بالأحرى سيُرحِب بنا نحن الذين وضَعنا ثقتنا في ابنه. بقدر ما يؤلمني أن أقول ذلك من بعض النواحي، لو سَلّم ذلك الوحش أبو الإرهاب في العصر الحديث، ياسرعرفات قبل لحظات فقط من توقّف قلبه، حياته ليشوع، لغُفر له تمامًا، ووَقف في حضرة يَهوَه المقدسة.
يبدأ الإصحاح الثامن بتسمية موسى المُحقّق الرسمي لما سيأتي بعد ذلك: كان موسى سيكون صانع الكهنة. كان موسى سيُجري مراسم الرسامة. وقد أُمر موسى، في عدد ثلاثة، أن "يَجْمَعَ كُلَّ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ بَابِ الخيمة". هناك أمران يجب معرفتهما: أولاً، "كل الجماعة" ليست حرفية. لقد كان يُشير إلى الشيوخ أو نوع ما من المجالس الحاكمة….. أولئك الذين يُمثّلون كل إسرائيل، ولن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي يرِد ذِكر ذلك. الثاني هو مصطلح "عِنْدَ بَابِ الْخَيْمَةِ" وهو أيضًا ليس حرفيًا، بل يُشير إلى التجمع شرق المدخل إلى ساحة خيمة الاجتماع.
تُحقِق الآية خمسة ببساطة ما قلته لكم عن أنّ كل التعليمات التي قرأناها في الإصحاحات السابقة قد تَمَّت في تاريخ سابق….. ولكن من المؤكد أيضًا أنّ شعب إسرائيل كان على عِلم بتلك التعليمات وبما كان سيحدُث؛ لأن موسى يقول: "هذا هو الشيء الذي قيل لكم أنه سيحدُث، وها هو ذا يَتمّ".
لقد غسَل موسى هارون وبنيه بالماء لتطهيرهم. لم يكن هذا الاغتسال التطهيري يتعلق بالأوساخ والتلوث…على الرغم من أنّ النظافة الجسدية كانت جزءًا صغيرًا من الطقوس، بل كان له رمزية مماثلة لرمزية العماد. كان الاغتسال تعبيرًا ظاهريًا عن مبدأ روحي: كان على المرء أن يكون "طاهرًا"، أن "يتطهّر" من دَنسه، لكي يَحضُر أمام إله الكون.
بعد أن اغتسل هارون، ألبَس موسى هارون الزي الفريد لرئيس الكهنة. تَألّف زي هارون من ثماني قطع، أربعة منها كانت مُشتركة بين جميع الكهنة. لقد تناولنا هذه القطع بالتفصيل في سِفْر الخروج ثمانية وعشرين، ثم مرّة أخرى في سِفْر الخروج تسعة وثلاثين، لذلك لن نُعيد ذلك مرّة أخرى هنا.
بعد الاغتسال، وإلباس هارون ملابس الكاهن الأعلى، أخذ موسى زيت المَسْح المخصّص…زيت الزيتون عالي الجودة الممزوج بنسبة معينة من التوابل (الوصفة المذكورة في سِفْر الخروج ثلاثين)… ودَهَن خيمة الاجتماع وكل الأثاث فيها: الشمعدان، ومذبح البخور، ومائدة خبز التقدمة، وعلى الأرجح تابوت العهد؛ ومذبح النحاس وجرن الماء النحاسي، وأخيرًا هارون نفسه.
بعد أن تمّ مَسْح خيمة الاجتماع وأثاثها وهارون بالزيت، تم مَسح أبناء هارون، الكهنة العاديين، بالزيت أيضًا.
الآن حان الوقت لبعض طقوس تقديم القرابين المهمة. أولاً، ذبيحة "الحتات"…ذبيحة التطهير (لا تَتحمسوا إذا كان كتابكم المقدس يقول، في الآية أربعة عشرة، "ذبيحة الخطيئة" فهذا هو التعبير الشائع للحتات، ولكننا سنَستخدم مصطلح ذبيحة التطهير بدلاً من ذلك ولا يمكن أن يكون هناك مثالاً أفضل من هذا). وبالطبع، يتم استخدام الثور، وهو أغلى وأعلى القرابين الحيوانية ويتم أداء الطقوس المعتادة: يقوم هارون وأبناؤه بأداء السيميشا، ويضعون أيديهم على رأس الثور (الحيّ في هذه المرحلة) ثم يتمّ ذبحه. ولكن بما أن طقوس التكريس لم تَكتمل بعد، فإنّ هارون ليس مُخولاً بعد لأداء واجبات رئيس الكهنة، ولا أبناؤه بمهام الكهنة العاديين، لذلك فإنّ موسى الوسيط هو الذي يَصبّ الدم من الثور الذبيح على "قرون "مذبح النحاس. ثم يَسكب موسى ما تبقّى من دم الثور على قاعدة مذبح النحاس. لماذا يوضع الزيت ثم الدم على المذبح والأشياء الأخرى في خيمة الاجتماع؟ لأنه ما لم يتم تطهيرها وتَنقيتها فهي غير صالحة لخدمة الله. لقد كانت مصنوعة من مواد عادية، بأيدي البشر؛ لذلك كانت نَجسة. تذكّروا مبدأنا الإلهي: النجاسة مُعدية. كل ما يُلامس النجاسة نفسها يُصبح نجسًا. مذبح النحاس وسائر أواني خيمة الاجتماع وأدواتها وأدوات الطقوس الأخرى قد أصيبت بالنجاسة لأنها لمستها الأيدي البشرية…الأيدي التي كانت بطبيعتها نجسة وآثمة.
والآن بعد أن تمّ تكريس المذبح النحاسي وتجهيزه، تُقدَّم الذبيحة الأولى على شواية النار: الشحْم وأجزاء معيّنة من أحشاء الثور يَضعها موسى، وليس هارون، على المذبح وتَتحول إلى دخان. ولكن، الأجزاء المُتبقية من الثور، الجلد، وكل لحمه، وكل شيء ما عدا بعض الأحشاء والشحم الذي يُحيط بها، تؤخذ إلى مكان آخر لتُحرَق. وهذا المكان الذي أصبحنا نعرفه، هو خارج المخيم. وهناك، على فوق نار الحطب، خارج خيمة الاجتماع، وبعيدًا عن المنطقة التي كان يتواجد فيها بنو إسرائيل، أُحرقت بقايا الثيران حتى صارت رمادًا.
في الواقع، لقد تم إتلافها بالطريقة التي يُحرِق بها المرء القمامة……لأن الجزء الوحيد من الثور لهذه الذبيحة "الحتات" الذي كان يَخدم أي غرض ذبائحي على الإطلاق، كان الأحشاء والشحم، "الحليف"، الذي كان يُحيط بهما.
بعد ذلك، تمّ تقديم كبش، وهو خروف ذَكَر عمره سنة واحدة على الأقل. وضَع هارون وأبناؤه أيديهم على الكبش، مُحدِدين هذا الكبش على أنّه تقدِمة إلى الله من أجل الحتات وليرمُز إلى انتقال ذنبهم، خطيئتهم، إلى هذا الخروف البريء…ويتمّ ذبحه. يُجمع دم الكبش ويُرش على جميع جوانب مذبح النحاس، ثم (على عكس الثور)، يُحرق رأس الكبش ولحمه وأحشاؤه وشحمه…. أي كل الكبش………. ومرة أخرى الغرض من الحَرق هو…لإحداث دخان. التوراة تعني "التعليم" الطريقة الأكثر شيوعًا للتعليم هي التكرار، وليس مُستغربًا أن تتكرّر العملية مرة بعد مرة، بما أن التوراة هي وثيقة تهدِف إلى تعليم إسرائيل عن القداسة والخطيئة والتكفير عن الذنوب، وللتعليم أنّ المِحرقة لغرض خلْق دخان هي عطر مُرضي ليَهوَه، أي أنّ هدف المحرقة هو خلق دخان.
بعد ذَبْح الكبش مباشرةً، يُقدَّم كبش ثانٍ، ويقوم هارون وأبناؤه بأداء السيميشا. ولكن، تَتغير الطقوس الآن؛ يأخذ موسى بعضًا من دم هذا الكبش ويضعُه على أذُن هارون اليمنى وإبهامه الأيمن وإصبع قدمِه اليمنى الكبيرة. ما معنى هذا؟ سنتطرّق لاحقًا في سِفْر اللاويين (في الإصحاح أربعة عشرة) إلى قوانين وطقوس "التزارعاة"… أي طقوس التعامل مع الأمراض الجلدية (غالبًا ما تُجمع كلها معًا وتُسمى خطأً الجذام)، لأن هذه الأمراض الجلدية كانت شكلًا خطيرًا جدًا من أشكال النجاسة الطقسية. الأمراض الجلدية كانت مخيفة للغاية، وعادةً ما تكون مُعدية للغاية. لذا، كان بنو إسرائيل المصابين بمرض جلدي يوضعون خارج المخيم…كانوا يُفصلون ويُعزلون في الحجر الصحي. ربما كان المرض الجلدي هو أكثر أشكال النجاسة التي يمكن أن يُصاب بها الشخص ظاهريًا والآن، أرجو أن تنتبهوا وتُلاحظوا هذه العلاقة المهمة :لقد عَرّفتكم بمبدأ النجاسة المعدية. هنا في سِفْر اللاويين الإصحاح ثمانية الآية ثلاثة وعشرين، نرى أن جزءًا من إجراء تطهير هارون وبنيه من نجاستهم، لكي يَصيروا كهنة لله، مُماثل لتطهير الشخص من حالته النجسة بسبب إصابته بمرض جلدي شديد العدوى. أترون، عادةً ما تكون حالتنا النجسة، حالة الخطية، داخلية. إنها ليست مَرئية خارجيًا للآخرين. كانت هذه حالة هارون وابنه، وهي نفس حالة جميع البشر. كانا نَجسين في خطاياهم…من دون علامات ظاهرة. ومع ذلك، فإن الله يَراها في هارون، تمامًا كما يراها فينا وفي كل البشر.
أنا وأنتم، لا نستطيع أن نرى خطيئتنا المتأصلة فينا أو خطايا الآخرين المُتأصلة فيهم. يُنبّهنا "الكَلِمة" إلى أن الإنسان ينظُر إلى الظاهر، ولكن يَهوَه ينظُر إلى الباطن. المرض الجلدي هو شيء يمكننا رؤيته، لكننا لا نستطيع أن نعرِف حالة قلب شخص ما. وكما أنه يُمكن للإنسان أن يَكتشف المرض الجلدي من على بُعد ميل، يَستطيع الله أن يكتشف حالة قلوبنا الخاطئة. مرض الجلد يرمِز إلى النجاسة. هل تذكرون كيف جعَل الله موسى يَضع يده داخل عباءته، وعندما أخرجها كانت بيضاء بسبب مرض جلدي؟ لقد أظهر يَهوَه لموسى، عن طريق إعطائه ذلك المرض الجلدي المؤقت، حالة موسى الحقيقية من الداخل؛ كان موسى في نظر الله نجسًا. ثم جَعَل موسى يُعيد يده إلى داخل عباءته، وعندما أخرجها مرة أخرى كانت طاهرة. لا توجد طريقة بشرية على الإطلاق لتحويل ما هو نجس إلى شيء طاهر وبين البشر، لا يمكن للنجاسة أن تولِّد سوى المزيد من النجاسة. وحدُه الله يستطيع أن يجعَل ما هو نجس طاهرًا.
ولكن، هناك شيء آخر يَتجلّى أيضًا في طقس التكريس هذا: فكما أن الزيت يَمْسح كلاً من هارون والمذبح، كذلك الدم يوضع على كل من هارون ومذبح الذبيحة. هناك ارتباط عُضوي لا يَنفصل، بين الكهنوت والذبيحة؛ فبواسطة دم المذبح، يُعيَّن هارون وأبناؤه ليقدّموا الذبيحة على المذبح. في الوقت المناسب، دم من سيُدعى "رئيس كهنتنا في السماء"، سيُستخدم كدم لتقديم الذبيحة؛ إنّ ظِل الذبيحة الدموية وعلاقتها بالكاهن الأعظم التي نراها هنا في سِفْر اللاويين، ستصِل إلى أقصى غاياتها عندما يؤدي يسوع المسيح دور رئيس كهنتنا ويُصبح دمه هو نفسه دم الذبيحة ……مرّة واحدة ولكل البشر الذين سيثقون به.
مع استمرار طقوس الرسامة والتكريس في الآية ستة وعشرين، نرى إجراءً مُلفتًا للنظر؛ نرى تقدمة حبوب. وتقدمة الحبوب هذه، "المنشا"، التي تُقدَّم عادةً في أي حفل تقدمة كواحدة من عدة طُرق مختلفة، ولكن مقبولة، لإعداد الحبوب (فطيرًا، خميرًا، مطبوخًا على الشواية، مخبوزًا في فرن، مصنوعًا في كعكة، إلخ)، تُقدَّم هنا بثلاث طرق: كعكة غير مُخمّرة تُطبخ على الشواية، ثم كعكة مُبلّلة بالزيت تُخبز في فرن، وأخيرًا رقائق وتوضع بعدها في يد هارون وبنيه فوق بعض الشحم من الكبش، وتُقدَّم للرب عن طريق إجراء تَعلّمناه للتو في الإصحاح السابق: بالعبرية تُسمى "تنوفة". نُسميها ذبيحة التلويح.
تَتمثل برَفع القربان إلى أعلى، فوق الكتف، من قبل المصلّي، ثم يُحرّكه إلى الأمام والخلف في حركة تلويح. بعد ذلك يأخذ موسى الذبيحة من بين يدي هارون وبنيه ويضعُها على مذبح النحاس، فتُحرق وتتحول إلى رائحة طيبة.
لاحظوا أيضًا أن صَدْر الكبش قد قُدِّمَ في "تنوفة"، على شكل ذبيحة التلويح من قِبل موسى، ولم يُحرق على المذبح، بل احتفظ به موسى كجزء من الذبيحة ليأكله كطعام.
والآن، كخاتمة لتكريس هارون وبنيه، رُشَّ عليهم وعلى ثيابهم مزيج من زيت المَسْحة المقدسة الخاص ودم الذبيحة، ليكتمل التكريس. ومع ذلك، لن يسري مفعوله إلا بعد مرور فترة من الزمن: سبعة أيام.
نُلاحظ مبدأً مهمًا آخر هنا: يمكن أن تَحدث النجاسة…التدنيس… في لحظة، ولكن أن تتحوّل إلى طهارة يَستغرق وقتًا. ما هي أهميّة فترة السبعة أيام؟ من الصعب أن نعرِف. ولكننا نعرف أنها نفس الفترة الزمنية بالضبط التي يجب أن يبقى فيها الشخص الذي كان مصابًا بمرض جلدي، وأصبح طاهرًا بعد الشفاء…بعيدًا عن الجميع. تمّ تكريس هارون وأبنائه، ولكن تَوجّب عليهم أن يبقوا داخل مجمع خيمة الاجتماع لمدة سبعة أيام أخرى قبل أن يتمكنوا من بدء خدمتهم.
دعونا لا نَختتم الإصحاح الثامن قبل توضيح المبادئ التي تَرسّخت هنا والتي سيتم تناقُلها في بقية الكتاب المقدس؛ والمبدأ الرئيسي هو أنّ الخطية عالمية، وهي تُلوِّث كل ما تَمسُّه….. إنها معدية.
تَمتدّ جذور الخطية عميقًا في العالم وفي البشرية. بعد السقوط في جنة عدن، أصبحت البشرية فاسدة. يقول مزمور أربعة عشرة الآية ثلاثة "انْحَرَفَ الْجَمِيعُ، وَفَسَدُوا مَعًا، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَعْمَلُ صَلاَحًا وَلاَ أي وَاحِد".
يجب أن نُدرك الآن أنّ التوراة لا تَشمل علاج "مرة واحدة وإلى الأبد" للخطية. أوه، نعم، هناك ذبائح تَسمح بغفران الخطايا الفردية حتى أنّ هناك ذبائح تسمَح لفترة من الوقت بتغطية طبيعة الإنسان الخاطئة بحيث يكون الاقتراب من الله مُمكنًا. ولكن حتى رئيس الكهنة لم يكن يختلف عن أي إنسان آخر فيما يتعلّق بطبيعته الخاطئة ومَيْله إلى ارتكاب الخطايا.
يوضح بولس في الرسالة إلى العبرانيين (خاصة الإصحاحات خمسة إلى عشرة) أنّه بالرغم من محاولة الكهنة أن يُزيلوا طبيعة الخطية من البشر، لم يستطيعوا……لأن الناموس، التوراة، لم يكن مُصممًا أبدًا لهذا الغَرض. بالمسيح وحده وتقديم نفسه ذبيحة تكفيرية، أُزيلت الطبيعة الخاطئة لمن يثق به، على الأقل في نظَر الله. وعندما يقول بولس أنّ المسيح أفضل من الناموس، فإنه كان يقصِد…. أنّ المسيح استطاع أن يفعل ما لم يستطع الناموس أن يفعله: استطاع أن يُخلِّص. لكن ذلك لم يكن بسبب فشل الناموس، أي التوراة، بل لأن هدف الناموس كان أن يُظهر للإنسان ما هي الخطية والبر، وليس أن يخلّص الإنسان من خطاياه. كانت وظيفة المسيح أن يَفعل ذلك.