خروج
الدرس السادس عشر – الإصحاحان ثمانية عشرة وتسعة عشرة
لقد وصلنا في الأسبوع الماضي إلى الإصحاح الثماني عشر من سفر الخروج، وانتهى بنا المطاف إلى حيث أحضَر جثرو (يثرون بالعبرية) والد زوجة موسى وابنَيه إليه للمّ الشمل؛ ونجد أن أخباراً كثيرة كانت قد وَصلت إلى يثرون عن بعض الحوادث المذهلة التي حدثت عند هروب بني إسرائيل من مصر، وبما أن يثرون كان كاهناً وثنياً، فمن الطبيعي أن يقبل أن العديد من هذه الحوادث كانت ذات طبيعة أُعجوبية ولا يمكن أن تكون قد حَدثت إلا من قبل الإله أو الآلهة التي كانت تسهر على بني إسرائيل.
أمضى موسى ويثرون وقتاً طويلاً معاً بينما كان موسى يسرد بالضبط أي إله كان وأعطى ليثرون بعض التفاصيل المثيرة لرحلة الأسابيع العديدة الماضية. كان يثرون مُعجباً بيهوه لدرجة أنه أراد أن يجعل هذا الإله الأعظم إلهاً خاصاً به. في الواقع، لم يكن الأمر مسألة تخلي يثرون عن جميع آلهته القديمة بقدر ما كان مسألة قبول يهوه كإله أعظم…..الإله فوق كل الآلهة. تضمّنت عملية قبول يهوه ذبيحتين محدّدتين (علمنا أنهما كانتا تُسميان "اولاه" و"زفاه" (القرابين والذبائح)، وختم كل ذلك بِوَجبة مقدّسة. من حيث الجوهر، أصبح يثرون إسرائيلياً، على الرغم من أنه ليس من الواضح على الإطلاق أن يثرون من الآن فصاعداً تخلّى عن هويته كمدياني، بل بالأحرى فكّر في نفسه الآن كعبراني.
دعونا نعيد قراءة النصف الأخير من سفر الخروج الثماني عشر لنستوعب درس هذا الأسبوع.
أعد قراءة سفر الخروج ثمانية عشرة على ثلاثة عشرة حتى النهاية
في اليوم التالي لحفل اهتداء يثرون، كان موسى جالساً كقاضٍ للشعب؛ أي أنه كان المُحكم في الخصومات. وعلى ما يبدو أنه كان القاضي الوحيد، لأنه كان لديه طابور طويل من الناس ينتظرون لرفع مظالمهم إليه؛ يقال إن الناس وقفوا في طابور من شروق الشمس إلى غروبها. لاحظ يثرون ذلك وفي الوقت المناسب، ناقش الأمر مع موسى؛ والآن، على الرغم من أننا عادةً ما نتذكر هذه الحادثة على أنها مبنيّة على أن موسى كان مُتعباً من كثر العمل، إلا أنه في الواقع يبدو أن اهتمام يثرون الرئيسي كان مُنصَبّاً على الشعب الذي انتظر إلى ما لا نهاية للوقوف أمام موسى، ويتّضح أيضاً في الآية الخامسة عشرة أن موسى لم يكن يَحكم في أمور الشعب القانونية فحسب، بل كان أيضاً مستشارهم الروحي؛ أي أنهم كانوا يأتون إليه ليسألوه عما يريد الله أن يفعلوه في مواقف معيّنة في حياتهم الشخصية. الآن، كان ذلك خبراً جيّداً وخبراً سيئاً؛ لأنه كان من الجيّد أن الشعب كان يتعلّم أن يَبحث عن يهوه من أجل توجيهاته، لكنه كان خبراً سيئاً من حيث أن الناس شعروا أنه لا يمكنهم الإقتراب من يهوه إلا من خلال موسى، وفي الواقع، كان موسى يقترب بسرعة من الإرهاق!
يتساءل المرء من أين اكتسب يثرون هذه الحكمة ليقدّم لموسى النصيحة التي قدّمها له والتي كانت في جوهرها إقامة نوع من نظام الحكم، مع قضاة أدنى وقضاة أعلى وهكذا دواليك؛ وعلى ما يبدو، على الرغم من عدم الكشف عن ذلك، لا بد أن الله قد تَوافق مع يثرون لأن موسى أسّسه على الفور.
الآن، يبدو نظام التنظيم الذي تم تأسيسه مشابهاً جداً للنظام اليوناني الروماني الذي تم تأسيسه بعد ألف سنة: كان من المقرّر أن يكون هناك قادة من ألف وقادة من مائة وقادة من خمسين وقادة من عشرة. بالنسبة لأولئك منا الذين كانوا في الجيش، نفهم هذا النظام جيّداً؛ لكن بالنسبة لأولئك الذين لم يكونوا في الجيش، كان النظام يعمل بشكل أساسي على هذا النحو: عشرة أشخاص يتبعون قائداً واحداً، خمسة من هؤلاء هم القادة (الذين كانوا يمثلون خمسين شخصاً في المجمل) يُقدّمون تقاريرهم إلى رئيس على خمسين شخصاً؛ اثنان من هؤلاء القادة (كل واحد منهم يسيطر على خمسين شخصاً بالإضافة إلى قادتهم) يقدّمان تقاريرهما إلى قائد يمثل مئة شخص؛ عشرة من هؤلاء القادة، الذين كان كل واحد منهم يُسيطر على مئة رجل بالإضافة إلى قادتهم، يقدّمون تقاريرهم إلى رجل مسؤول عن ألف رجل بالإضافة إلى جميع قادتهم.
هناك العديد من العناصر المثيرة للإهتمام في مسألة مشورة يثرون لموسى التي يجب ألا نتجاوزها. أوّلها مسألة أن الفضل في تأسيس نظام العدالة في إسرائيل يُعطى علانيةً إلى شخص غير إسرائيلي، والأكثر من ذلك أن يثرون كان مديانياً، وكان جزءاً من اتحاد القبائل التي سيأمر الرب الإله موسى بتدميرها في غضون سنوات قليلة. سيصبح مديان مثل العماليق إلى حدّ كبير: أناسٌ مَوسومون خصّيصاً للهلاك بسبب المتاعب التي سبّبوها لشعب الله.
ثانياً هو أن هذا النظام القضائي الذي يوصي به يثرون (ويؤسّسه موسى) هو نظام علماني بحت، أي أنه لا يتألّف من أولئك الذين سيكونون خدّام الله المخصّصين من بين بني إسرائيل، اللاويين والكهنة. في الواقع، توضح الآية الواحدة والعشرين أن القضاة المختارون سيأتون من بين "جميع الناس"، وبعبارة أخرى، سيكون هؤلاء مواطنين عاديين، لا رؤساء قبائل أو أمراء ولا شيوخ. إن التسلسل الهرمي الحالي للرؤساء ورؤساء القبائل والعشائر سيوضع جانباً لصالح أشخاص يتم اختيارهم لحكمتهم واستقامتهم بغض النظر عن وضعهم الإجتماعي؛ ولكن دعوني أذكر هنا أن السياسة والسلطة لعبت دائماً دوراً في شؤون الناس منذ أن كان هناك عدد كافٍ من الناس ليكون هناك عشائر وقبائل. لذلك، ليس لدي شك في أن عملية الإختيار لم تكن نظيفة كما كان ينبغي أن تكون، ومن المُحتمل أنه كان هناك على الأرجح ليّ ذراع شديد وراء الكواليس من أجل حذف بعض الرجال وإدراج آخرين كقضاة.
ثالثاً، هذا القضاء العلماني….على الرغم من أن الرب قد صادق عليه … لم يكن قد تم الأمر به من قِبل الرب. لم يقل يهوه لموسى أن ينشئ قضاء، ناهيك عن أن يقول له كيف يفعل ذلك. كانت هذه مؤسّسة بشرية. الآن، أعتقد أنه يمكننا أن نقول بأمان أن عناية الله لعبت دوراً مركزياً في إنشائها واختيار الرجال، ولكن هناك عُنصر ديمقراطي كبير وثوري (بمصطلحات الشرق الأوسط) هنا حيث يختار الشعب من يريد أن يكون قاضيه.
رابعاً، من المقرّر أن ينعقد هذا القضاء بشكل منتظم. هذه ليست لجنة تعقد اجتماعاتها حسب الحاجة، وسيتم إعادة اختيار القضاة في كل مرة. في مجتمع يَبلغ عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة، سيكون هناك العديد من النزاعات التي يجب حلّها كل يوم.
خلاصة القول هنا هو أنه حتى قبل أن يتلقى بني إسرائيل الناموس، كانوا مُنظّمين بشكل جيّد جداً؛ كان يمكن نشر التعليمات والأوامر بسرعة كبيرة للشعب ومعالجة النزاعات اليومية بسرعة.
ما نتذكّره أيضاً من ذلك هو أن يهوه هو إله النظام والتنظيم، وليس إله الفوضى والعشوائية. لقد طَلبتُ منكم منذ بداية دراستنا أن تنتبِهوا بشكل خاص إلى مختلف أنماط الله وأنواعه وظلاله وأنظمته التي نراها في التوراة، لأنها ليست أدوات لمرة واحدة فقط، بل ستظل موجودة على الأقل حتى مجيء يسوع، والكثير منها لا يزال سارياً إلى الأبد.
كان الله يُظهر لموسى وإسرائيل أنه يمكن الإعتماد على شرائعه وقواعده وهياكله والوثوق بها. لم تكن هذه الوصايا غريبة الأطوار، ولم تتغيّر حسب مزاج الله. كان بإمكانهم معرفة الله، وبالقدر الذي يمكن للعقل البشري أن يفهم طُرق الإله الأزلي للكون، كان بإمكانهم فهم الله. ما يعنيه ذلك بالنسبة لنا هو أن النظام والطريقة والمنطق الذي استخدمه الله في العصور التوراتية وفي إنشاء التوراة لا يزال سارياً حتى اليوم وفيما نرى أحداث نهاية الزمان النَبوية تتكشف في المستقبل. أجد هذا مريحاً للغاية. يريد يهوه أن يكون شعبه مطمأناً وليس قلقاً.
في نهاية الإصحاح الثامن عشر يتّضح، مرة واحدة وإلى الأبد، أنه ما دام موسى حياً، فهو السلطة النهائية في كل الأمور. بالطبع، لقد تم ذكر ذلك لكي نفهم في وقت مبكر من سفر الخروج عندما قيل لنا أنه عندما يتكلم موسى، فكأن الله يتكلم من خلاله. لا عَجب أن يَحظى موسى بمثل هذا التكريم والتقدير الهائل لدى الشعب اليهودي؛ وكمسيحيين، علينا أن نعترف بمكانة موسى الخاصة في نظر الله أيضاً.
يُمنح يثرون الآن الإذن بالعودة إلى أرضه، أرض مديان؛ ربما على بُعد مسافة قصيرة جداً.
بهذا ينتهي القسم الثاني من الأقسام الستة لسفر الخروج، ومع الفصل التاسع عشر ندخل الى القسم الثالث: العهد والشريعة.
اقرأ الفصل التاسع عشر كله
نحن ندخل الى هذا القسم الثالث من سفر الخروج، الذي أسمّيه العهد والشريعة، نحن في الشهر الثالث من رحلة بني إسرائيل خارج مصر….. أو كما كان يسمّى بالعبرية "متزرايم". كان أمامهم لقاء مع الله لن يغيّر وجودهم وهويتهم فحسب، بل سيجلب ديناميكية جديدة للعالم بأجمعه. لأن يهوه كان يُخرج بني إسرائيل من مصر لكي يلتقوا به على الأرض المقدسة……جبل الله… لغرض إقامة علاقة جديدة مع نسل يعقوب.
لقد كان يهوه يُعِدّ إسرائيل لمئات السنين، خطوة بخطوة، لهذا الحدث الهام. لقد خلق شعباً منفصلاً من خلال يعقوب وسمح لهم بالتجوّل في أرض ليست لهم، ثم تاهوا وأصبحوا أُمّة هائلة في أرض أخرى استعبدتهم في النهاية، وأخيراً أنقذهم من يد مُضطَهديهم. لقد جعلهم يشهدون معجزات عظيمة وأظهر من خلال الضربات الكارثية ضد مصر (التي لم تضرّ العبرانيين)، أن بني إسرائيل شعباً مميّزاً …. أو كما يقول الكتاب المقدس، فإن الله يميّز بين بني إسرائيل والجميع. لقد قاد يهوه بني إسرائيل شخصياً عن طريق حضوره المرئي عبر البرية الصحراوية وأطعمهم وسقاهم بوسائل خارقة للطبيعة وحارب من أجلهم وهزم عدوّهم العماليق في المعركة.
نتيجةً لكل ما فعله الله من أجلهم، هل تغيّر بنو إسرائيل كثيراً في الأشهر الثلاثة منذ مغادرتهم مصر؟ نعم ولا. نعم، من حيث أنهم كانوا الآن مُدركين تماماً أن قوة يهوه لا حدود لها وأن موسى هو رَجله المُختار لقيادة بني إسرائيل، وأصبح لديهم الآن خوف صحي من يهوه. لا، من حيث أن إيمانهم بيهوه، كان لا يزال ضئيلاً ولم يفهموا بعد أن يهوه لم يكن إله بني إسرائيل الوحيد فسحب، بل أنه كان الإله الوحيد على الإطلاق، ولم يدركوا حتى من بعيد قداسة إل شاداي…. الإله العلي.
كان الرب الإله على وشك تكوين علاقة لم يسبق لها مثيل بين إله والبشر؛ علاقة عهد. العهد الأول الذي أقامه الله كان وعداً أكثر من كَونِه عهداً. كان العهد الإبراهيمي وعداً لإبراهيم بأن نَسله سيكون كثيراً وأن الرب نفسه سيوفر أرضاً مقرّرة مسبقاً لهذا النسل ليعيش فيها، وأنه من خلال هذا النسل يمكن أن تتبارك كل عائلة على الأرض. لم يكن على إبراهيم أي التزامات. ما سيفعله الرب لم يكن له علاقة بسلوك إبراهيم أو أفعاله.
كان العهد الذي كان الرب على وشك أن يَقطعه في جبل سيناء مختلفاً اختلافاً جوهرياً عن العهد الإبراهيمي: كان على شعب إسرائيل التزامات يجب أن يؤدّوها. كانت كيفية استجابة الله تعتمد على كيفية تصرّف بني إسرائيل.
الآن، كانت العهود طريقة عادية جداً ويومية (في ذلك العصر)، إما أن يعقد شخصان متساويان في السلطة اتفاقاً مفيداً للطرفين أو كان العهد من النوع الإقطاعي الذي يعقد فيه الملك اتفاقاً مع رعاياه، أي أنه كان تأسيس علاقة بين طرفين غير متساويين….كان أحدهما رجل سلطة والطرف الآخر تحت سيطرته. يمكن أن يكون رعاياه بضع مئات من الأشخاص الذين يشكّلون مملكته، أو في حالة باني الإمبراطورية يمكن أن تتكوّن من أمم بأكملها يسيطر عليها.
لذا، بينما نستخدم مصطلح "عهد" عند الحديث عن الوعد من الله لإبراهيم، والوحي المُعطى لموسى على جبل سيناء، فإنهما يشبهان العهد، لكنهما لا يتناسبان بدقة مع أغراض أو شروط العهد القياسية في تلك العصور القديمة.
بالإضافة الى ذلك، كان قيام إله بتكوين علاقة شبيهة بالعهد مع مجموعة من الناس ظاهرة جديدة تمامأً. كانت ولا تزال فريدة من نوعها بين جميع الثقافات الدينية المعروفة. لذا، ما سَنجده هو أن العديد من الشرائع التي سيشرّعها يهوه من خلال موسى ليست جديدة وغريبة على مسامع العبرانيين (معظم الشرائع والأوامر التي سيشرعها الله كانت مألوفة ولها مثيل في مجتمعات الشرق الأوسط الأخرى)، بل إن علاقة إله العبرانيين بالشعب العبراني…..علاقة شبيهة بالعهد…… لم يكن لها مثيل.
والآن، في الآية الثانية، وصل بنو إسرائيل إلى سفح الجبل المقدس وبدأ موسى يصعّدهم، بالتأكيد نحو نفس البقعة التي التقى فيها بالله في صورة عليقة مشتعلة قبل سنتين. لم يضيّع أي وقت؛ على الفور قال يهوه لموسى أن لديه رسالة لِشعب يعقوب، شعب إسرائيل، وهي التالية:
أولاً، أنتم لستم هنا بسبب أي شيء فعلتموه. أنا ضربت المصريين من أجلكم، أنا حَملتكم إلى هذه البقعة، والآن آتي بكم إلى نفسي، لأنني اخترت أن أفعل ذلك.
ثانياً، إذا…..إذا….. سوف تسمعون وتقبلون وتتبعون العهد الجديد الذي أنا على وشك أن أعطيكم إياه،
عندها ستصبحون ملكي الخاص، كنزي الثمين.
ثالثاً، إذا…. إذا… اتبعتم هذا العهد الجديد، فسيَعتبركم الله مملكة كهنة وجماعة طاهرة ومقدّسة من الناس.
لاحظوا أنني قلت "العهد الجديد". هذا العهد، ما نطلق عليه عموماً "الناموس" أو العهد الموسوي، كان في الواقع سيكون عهداً جديداً. كان العهد الذي كان بنو إسرائيل يعملون بموجبه في ذلك الوقت هو العهد الإبراهيمي. لقد وعدهم ذلك العهد بأرض خاصة بهم وبأنهم سيزدادون إلى أعداد هائلة وأنه بواسطتهم سيتبارك العالم بأسره وسيكون بنو إسرائيل مثمرون للغاية. من المؤكد أن هذا العهد الجديد الذي كانوا على وشك الحصول عليه لم يكن المقصود منه إلغاء العهد القديم، أليس كذلك؟ إن العهد على جبل سيناء لم يحلّ محل العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم قبل حوالي ستمئة سنة. لم يقل الله: "بدلاً من أن أعطيكم وعداً بأرض خاصة بكم، سأعطيكم شريعتي". العهد الجديد الذي كان العبرانيون على وشك الحصول عليه كان لغرض مختلف عن العهد القديم. كان من المُفترض أن يكون هذان العهدان مكمّلين لبعضهما البعض ويعملان سوياً.
هذا هو أحد الأسباب التي تجعلني أكره حقاً تطبيق مصطلح "العهد الجديد" على العهد الذي هو يسوع المسيح، لأنه في عَقليّتنا الوثنية لدينا هذه الصورة التي تقول أنه بمجرد أن يكون لدينا عهد جديد، يصبح العهد أو العهود القديمة بالية، ملغاة، مُستبدلة. هذا غير صحيح. بالتأكيد فيما يتعلق بالعهد الذي هو المسيح، بمعنى أن بعض عناصر العهود السابقة تحوّلت من كونها مجرد نمط غير واضح أو أنواع لحقيقة مستقبلية، إلى الجوهر الأسمى الذي كانت تشير إليه دائماً. على سبيل المثال، نظام الذبائح الذي كان يَستخدم الدم الحيواني للتكفير عن الخطيئة (الذي بدأ فعلياً مع آدم وحواء)، سيتحوّل إلى جوهره الأسمى مع يسوع؛ فدمه هو الدم الحقيقي الذي كانت تشير إليه الذبائح الحيوانية؛ لذلك كانت ذبيحة يسوع هي الذبيحة الأخيرة والنهائية للتكفير عن الخطايا التي كانت هناك حاجة إليها. لم ينته نظام الذبائح ولم يتغيّر في الحقيقة….. بل تحوّل، بل بقي دم البريء مطلوباً للتكفير عن الخطيئة. لذا، في كل مرة نعتمد، بالإيمان، على دم المسيح على أنه قد كفّر بالفعل عن خطايانا، فإننا نحقّق هدف وغرض وروح نظام الذبائح.
لكن، من ناحية أخرى، فإن كل عهد من عهود الله، في الوقت الذي قُدّمت فيه، كان قد تم تطويره وتأسيسه بالكامل من أجل الغرض الإلهي الذي خلقه يهوه. نحن نشتري موديلات جديدة من أجهزة الكمبيوتر والسيارات لأن الموديلات الجديدة تتمتع بميزات وقدرات لا تتمتع بها الموديلات القديمة، لأنه كلما تقدّمت معرفتنا وتقنيّتنا أصبحنا قادرين على جعل الأشياء التي نصنعها أفضل وأكثر فائدة واكتمالاً. هذه هي طريقة الإنسان. هذه ليست طريقة عهود الله. لم يخلق الله مع إبراهيم عهداً بدائياً منخفض التقنية ثم خَلق عهداً أكثر تقدماً من الجيل التالي بميزات أكثر في العهد الموسوي، ومن ثم مع نمو رؤية الله وقدراته، خلق عهداً أكثر فعالية مع كل الميزات والإضافات غير الضرورية في العهد الجديد الذي هو المسيح. كل واحد من هذه العهود خُلق، ولا يزال، كاملاً وسليماً للغرض الذي أراده الله لكل منه.
من المؤكد أن بعض أجزاء كل عهد من العهود قد تقادمت، كما يقول بولس في عبرانيين ثمانية على ثلاثة عشر، لأنه كلما مضى الزمن، كلما اقترب المزيد من شروط كل عهد من الإكتمال، أي أنه كلما تقادَم العهد، كلما زاد عدد البنود التي تم الوفاء بها وقلّت البنود المتبقية التي لم يتم الوفاء بها. على سبيل المثال، في العهد الإبراهيمي، وُعد بنو إسرائيل بأرض خاصة بهم والآن حصلوا عليها (بالمناسبة، لن يُطردوا منها مرة أخرى) وقد بارك نسل إبراهيم بالفعل العالم الوثني كما بارك العالم العبراني.
في العهد الموسوي تحقق الغرض من نظام الذبائح في موت يسوع، ولكن الغرض من الناموس في إظهار مبادئ الله وصفاته وأخلاقه وما يرضيه وما لا يرضيه سيستمر حتى الملكوت الألفي على الأقل (وإلا كيف سنعلم تعريف الله للخطيئة؟). حتى العهد الجديد يحتوي على بنود تم شطبها: لقد جاء ابن الملك داود (المسيح يسوع) وذهب وكفَّر عن خطايانا. إذاً، هل يعني هذا أن العهد الجديد قد عفا عليه الزمن الآن لمجرد أن عمره ألفين سنة وأن بعض بنوده قد تحقّقت؟ بالطبع لا. فالعهد الإبراهيمي هو الأبعد في طريق تحقيق جميع شروطه بالكامل، وقد تحقق الكثير من عناصر العهد الإبراهيمي ولكن بقي الكثير من العناصر التي يجب أن تتحقق، وتحقق بعض عناصر العهد الجديد ولكن بقي الكثير مما يجب تحقيقه (مثل عودة المسيح وخلاص كل بني إسرائيل وتدمير هرمجدون وإقامة الملكوت الألفي).
كل العهود الثلاثة مطلوبة وكلها لا تزال صالحة، وكل ما في الأمر أن بعضها أقرب إلى إتمام كل عُنصر من عناصره الأخيرة من العناصر الأخرى.
اسمحوا لي أن أعطيكم تشبيهاً قصيراً جداً وسنمضي قدماً. عندما تقوم ببناء منزل، فإنه يحتوي على عدة مكوّنات أساسية: تبدأ بإعداد الأرض ثم صبّة أسمنتية ثم الجدران ذات الإطار ثم الأسقف ثم الجوانب والألواح الجصّية، إلخ. والآن، إذا قمت بإعداد الأرض وصبّ الإسمنت وأتممت هذا الجزء من العمل، فهل يعني ذلك أن صبّة الإسمنت والغرض منها قد كسد وانتهى؟ هل يعني ذلك أن صبّة الإسمنت الآن، بطريقة ما، قد عفا عليها الزمن لمجرد أن استخدامها والغرض منها قد اكتمل معظمه في ترتيب بناء المنزل؟ بالطبع لا. يجب أن يُبنى المنزل بأكمله الآن على ذلك الإسمنت الذي تمّت تَهيِئته لحمل الحمولة التي ستُبنى عليه. حِلّ الإسمنت ولن يكون هناك سبيل لبناء البيت وإكماله. هكذا الأمر مع عهود الله… كانت كُلها ضرورية ولا تزال كُلها ضرورية.
في الآية السابعة، موسى الذي أُمر أن ينقل هذه الرسالة من يهوه إلى الشعب، يجمع ممثلي الشعب، الشيوخ، ويخبرهم بما قاله الله. لا تظن للحظة واحدة أن جميع بني إسرائيل البالغ عددهم ثلاثة ملايين كانوا مجتمعين في مكان واحد ليسمعوا موسى يتكلم … لم يكن لدى موسى مكبّر صوت عملاق من جلد الماعز يسمح لكل شخص بسماع صوته. يُستحسن لنا أن نفهم أنه بين الآية السابعة، حيث اجتمع الشيوخ مع موسى، والآية الثامنة حيث أجاب "الشعب" "بأنهم سوف يعمَلوا بكل ما أوصى به يهوه"، مرّ بعض الوقت. بضعة أيام، على ما أظن، لأن الشيوخ كانوا سَيعودون إلى شعبهم بعد اجتماعهم الأول مع موسى، كل حسب قبيلته، ويخبرون قادة المجموعات التي يسيطرون عليها بما قاله الله، وهؤلاء القادة كانوا سيخبرون مجموعات أصغر، حتى يسمع كل شخص كلام الله ويستجيب. بعد ذلك، كانوا سيصعدون في التسلسل القيادي حتى يصلوا إلى موسى بإجابتهم التي كان شعب إسرائيل باختياره مستعدّاً لطاعة يهوه.
لقد رأينا هنا نمطاً آخر مهماً من أنماط الله الراسخة. أولاً، يجعلنا الله على علم بوجوده. ثانياً، يطرح علينا السؤال: هل تسمعونني وتطيعونني وتتبعونني؟ ثالثاً، إذا أجبنا بنعم، فإنه يدخل في علاقة معنا ويبدأ في تعريفنا بمشيئته لحياتنا. أما إذا أجبنا بالرفض، تنتهي المحادثة… ربما للآن فقط، ولكن ربما للأبد. لذا، قبل أن يخبر الله موسى وبني إسرائيل بمشيئته لهم، من خلال العهد الموسوي، طلب من موسى أولاً أن يذهب إلى الشعب، وبناءً على القليل الذي يعرّفونه عن الله حتى هذه اللحظة، أن يسألهم إن كانوا سيسمعون ويطيعون. وبما أنهم قالوا "نعم" لله، فإنه سيضع الآن مشيئته لهم.
إنه نفس الإجراء بالنسبة لنا مع المسيح: نُدرك حضوره، ثم نتبع عرضه أن يكون ربنا، وإذا ما استجبنا باختيارنا بـ "نعم"، فإنه يدخل في علاقة معنا ويوجّهنا بحسب مشيئة الآب.
لماذا يعتقد أي شخص أن مبدأ الدخول في علاقة مع يهوه سيكون مختلفاً بالنسبة لنا اليوم، عما كان عليه بالنسبة لبني إسرائيل في جبل سيناء قبل ثلاثة آلاف وأربعمئة سنة فقط؟ الزمن لا علاقة له بالله. أليس هذا هو الله الأبدي الذي لا يتغيّر الذي نتعامل معه هنا؟ لم يضع الله هذه الأنماط والمخطّطات الإلهية ويشرّعها ويسجلها في التوراة فقط ليغيّر كل شيء علينا في وقت لاحق. على الرغم من أنك لو استَمعت إلى بعض القادة والمعلمين المسيحيين لظننت أن هذا بالضبط ما فعله؛ طُعم وتبديل، أو أنه أعطى البشرية عرضاً مُعيباً ورديئاً ثم استبدله بعرض أفضل في وقت لاحق. إذا كانت هذه هي شخصية يهوه، فيمكنه أيضاً إلغاء وإبطال العهد الذي هو المسيح، أليس كذلك؟ وأين سيضعنا هذا؟ لحسن الحظ، ليس هذا هو الحال، ولكن حان الوقت لتدرك الكنيسة ذلك؛ وتدرك أن التوراة والعهد القديم يحملان نفس الوزن الذي كان لهما دائماً. لقد راجعنا في هذا الصف، مراراً وتكراراً، أن يسوع نفسه علّم أنه لم يُنزع من التوراة أي عنصر من عناصرها، ولا أدنى عنصر، بمجيئه، وأن أولئك الذين علّموا أن بعض العناصر قد نُزعت، ماذا يعتبرون في ملكوت السموات؟ الأقل!!! وأن أولئك الذين عَلَّموا أن كلمة الله، كلها، باقية ما دامت السماء والأرض موجودتين، ماذا سيكونون ماذا في ملكوت السموات؟ الأعظم!!! لذا، دعونا نتبع توجيهات المسيح ونعود إلى التوراة ونعيد اكتشاف الكثير من تعاليم الله وجوانبها التي أُلقيت واستُبدلت بعقائد من صنع البشر على مرّ القرون.
في الآية التاسعة، بعد أن رجع موسى إلى الله مع ردّ الشعب بأنهم سَيسمَعوا ويطيعوا، أخبر يهوه موسى أنه سيأتي إليه في سحابة كثيفة على الجبل، وعندما يكلّم موسى سَيسمع الشعب أيضاً صوته. لماذا أراد الله أن يسمع صوته للجميع؟ حتى يؤمنوا بموسى. كان الله يعرف هؤلاء الناس جيّداً. إنه يعرفنا جيّداً. على الرغم من كل ما فعله يهوه من خلال موسى، كان يعلم أن الشعب سيشكّ في الشرائع والأوامر التي سيقدّمها لهم موسى إن لم يسمعوها بالفعل من فم الله نفسه.
والآن، قبل أن يعطيهم الله أوامره وتعاليمه، أوصى موسى بأن يتطهّر الشعب. كان عليهم أن يطهّروا أنفسهم وثيابهم بالاغتسال بالماء، وفي اليوم الثالث بعد بدء عملية التطهير، سيأتي الله إليهم.
والآن، حتى مع تطهيرهم، لا يمكنهم أن يأتوا إلى مَسكن الله: الجبل المقدس، جبل الله… جبل سيناء. أوحى يهوه إلى موسى أن عليهم أن يَبنوا حدوداً، سِياجاً إن صحّ التعبير، كحدّ فاصل بين أرض الصحراء وبين ما يُعتبر الجبل.
هنا نحصل على مبدأ الله بأن هناك حاجزاً بين الله والإنسان…..بين الأرض والسماء. أن المكان الذي يسكن فيه الله مقدّس ونقي للغاية، بحيث لا يمكن للبشر الفاسدين أن يَقفوا في النقاء المطلق للسماء من دون أن يتطهّروا تماماً. لاحظوا أنه على الرغم من التطهير الخارجي الذي قام به بنو إسرائيل بِغسل أنفسهم وثيابهم، إلا أنه لم يكن كافياً لعبور ذلك السياج، ذلك الحاجز في أسفل الجبل، والوقوف على الأرض المقدّسة. كما ترون، في حين أن الغسل الطقسي الذي أُمروا بأدائه كان يرمز إلى التطهير الداخلي والروحي، إلا أنه في الواقع كان مُجرّد تطهير خارجي. لم يكن الاغتسال الذي قاموا به قادراً على تطهيرهم روحياً؛ بل كان مجرد درس وتعليم، يشير إنجازه إلى الطريقة الوحيدة التي يمكن للبشرية أن تتطهّر روحياً: وذلك بأن يغتسلوا بدم المسيح.
إذاً، حتى بعد أن اغتسلوا بالماء، لم يكن مسموحاً لهم أن يعبُروا الحاجز، ولا حتى أن يلمسوا جانب الجبل، الجانب المقدّس من السور، تحت طائلة الموت…. وهذا بالطبع ينطبق حتى على الحيوانات. لذا، يمكنك أن تراهن على أن هذا السور الواسع الذي بنوه كان عالياً بما يكفي لحبس الخراف والماعز التي تحبّ القفز فوق هذه الأشياء. كانت هذه حيوانات ثمينة ولم يريدوا أن يفقدوها من جراء دينونة الله.
والآن، لا يحتاج الأمر إلى عالم بالكتاب المقدس ليكتشف أن مثل هذا السور كان سيُصنع من الشيء الوحيد المتاح لِصُنع سِياج من حيث كانوا موجودين: الحجارة. في الواقع، يبدو أنه قد تم العثور على بقايا ذلك الجدار للسور.
قال الله لموسى أنه في اللحظة المناسبة، سيضرب بوقاً ويدعو موسى والشعب للاقتراب من حدود الجبل… ولكن، للبقاء خلف السور….ثم سيصبح مرئياً في شكل سحابة كثيفة مظلمة تحيط بقمة جبل سيناء.
هل يمكنك أن تتخيّل رُعب الناس؟ أعتقد أن الجو كان سيغمره القلق والترقب مع اقتراب اليوم الثالث؛ كان الشعب على وشك أن يرى جانباً آخر من يهوه لم يروه حتى الآن على ما يبدو. فجأة تتشكل السحابة؛ ويضيء البرق سماء النهار، ويجعل الرعد الأرض التي يقفون عليها تهتز وتُرجع الصّدى مع إيقاع الرعد. وعندما يبدو وكأنهم لا يستطيعون الوقوف أكثر من ذلك، ينطلق بوق كبش أو "شوفار" من أعلى الجبل، ويتردّد صدى نَغمته على الجدران الصخرية للوادي في الأسفل بصوت عالٍ لدرجة أنه أرعب بني إسرائيل؛
ثم بدأ الدخان يتصاعد من قِمة الجبل…..دخان مثل دخان التّنور، ثم اهتزّ الجبل نفسه تحت ضغط تحمل ثقل إلهنا العظيم.
وبينما كان الرعد والبرق وصوت الشوفار يتصاعدان حتى بلغا دوياً يصمّ الآذان، تكلم موسى إلى الله عزّ وجل، وأجاب يهوه على ذلك….. ليس بالرموز….. ولا بالهدير أو الضجيج…. بل بالأحرى، كما قيل لنا، بصوت…..صوت سمعه كل الشعب وفهمه. لكن، ما قاله الصوت هو أن يصعد موسى بنفسه الآن إلى الجبل ويقف أمام الله، فصعد موسى.
والآن، بعد كل هذا التجهيز، كان البقاء في القمّة قصير للغاية؛ فالله يقول لموسى أن يَنزل إلى الأسفل على الفور ويُحذّر الشعب من عبور السور، أي حدود الجبل، لئلا يموتوا. كما يخبر موسى أيضاً أن يحذّر الكهنة من أنه من الأفضل لهم أن يطهّروا أنفسهم كما فعل الشعب تماماً، وإلا سيعاقبهم الله .
من الواضح أن الله العليم بكل شيء كان يعلم أن العديد من العبرانيين كان لديهم ميل لتجاهل أجزاء من تعليمات الله حول الحاجز، وكانوا يخطّطون لتخطّي السور. فيقول موسى: "يا إلهي، إنهم لن يفعلوا ذلك أبداً، فهم الذين أقاموا الحدود، السِياج الذي أمَرْت به!". يقول الله، إذهب وقُل لهم مرة أخرى، وبالمناسبة، أحضر معك أهارون عندما تعود. والآن، نرى مبدأ آخر من مبادئ الله التي ستَدخل حيّز التنفيذ عند بناء معبد في البرية، ومن ثم نقله إلى الهيكل: الكاهن الأعظم وحدَه، وهو أهارون في هذه الحالة، هو وحدَه الذي يحقّ له الدخول إلى أقدس الأماكن الإلهية؛ وذلك فقط بأمر من الله. لا يجوز لأي كاهن أقل رتبة أن يفعل ذلك. لاحِظ أيضاً ما هي الفئة الخاصة التي يجب أن يكون فيها موسى في نظر الله. لأن موسى كان قادراً على المجيء والذهاب، واقفاً على الأرض المقدّسة، ناظراً إلى وجه الله. كان موسى أعلى من رئيس الكهنة.
اسْمَحوا لي أن أدلي بتعليق سريع حول مصطلح "كاهن" كما هو مُستخدم هنا؛ اعتباراً من هذه النقطة لم يكن هناك كهنوتاً لاوياً. إذاً، من هم هؤلاء الأشخاص الذين يُطلق عليهم إسم "كهنة"، هم أبناء إسرائيل البكر؛ لقد كان الأبناء البكر في ثقافات الشرق الأوسط القديمة يميلون إلى القيام بواجبات شبيهة بالكهنة، مثل شرف الذبح لآلهتهم وقيادة العائلة في الطقوس والشعائر الدينية. كان ذلك سيتغيّر قريباً، حيث سيؤسّس يهوه كهنوتاً منفصلاً تماماً وستنتهي وظيفة البِكر هذه.
ينتهي الإصحاح التاسع عشر بعودة موسى إلى أسفل الجبل، ومرة أخرى يخبر الشعب واللاويين (قبيلة الكهنة) بتحذير الله وأمرِه بأن يبتعدوا عن جبَله!