سِفْر التّكْوين
الدرس التاسع – الإصْحاحان التاسع والعاشر
افتَحوا أناجيلكم على سِفْر التّكْوين تسعة، لقد كنا ندْرُس سِفْر التّكْوين تسعة، ولكي نعود إلى المسار الصَّحيح من الأسبوع الماضي، سأقرأ من الآية الثامنة عشرة إلى نهاية سِفْر التّكْوين تسعة.
في الآية الثامنة عشرة من الإصْحاح التاسع يبدأ تاريخ الإنسان الجديد. دعونا نَسْتَكْشِف ذلك لبُضع لحظات فقط. كما كان آدم بِداية البَشَرية كلّها على الأرض، كذلك الأمْر مع آدم الجديد….نوح. إذا كان صحيحاً أن الأنْماط هي التي يجِب أن نبْحث عنها لفَهْم الله وطُرُقه، فيجِب أن نجِد نمَطاً مُحَدَّداً بِدأً مع آدم، الذي سيأتي منه كل البَشَر، والذي يَمْتَد إلى نوح الذي سيأتي منه كل البَشَر بعد الطَّوَفان وبالطَّبْع نحن كذلك. بينما جميعنا يرْبط سُقوط آدم بسُقوط الإنسان، فبِسُرعة يُمْكِنَني أن أُضيف إننا نادِراً ما نَتَذَكَّر أن نوحاً سَقط أيضاً. اسْمَحوا لي أن أسْرُد فقط حفْنة من سِمات هذا النَّمَط الإلهي الذي نراه في التوْراة:
واحد) جُعل آدم مُهَيْمِناَ على كل الخَليقة. جُعِل نوح مُهَيْمِناَ على العالم الجديد المُطَهَّر بأكمله.
إثنان) بارَك الله آدم وأمرَه أن يكون مُنْتِجاً ويتناسَل وكذلك نوح.
ثلاثة) وُضِع آدم في بُسْتان، وكانت وَظيفَتْه هي الحَرْث…. أي العِناية بالحديقة…… كأوَّل مُزارع في العالم. بدأ نوح بُسْتانياً أيضاً، لأنه كان أوَّل من زَرَع كرْماً، كأوَّل مُزارع في العالم الجديد.
أربعة) سَقَط آدم بأكْلِه من الثمار التي نَمَت في الحديقة التي كان يرْعاها وسَقَط نوح بِسبَب أكْلِه (شِرْبه) من الفاكِهة (الخمْر) في البُسْتان الذي كان يرْعاه.
خمسة) انْكَشَف عُريّ آدم نتيجة لِخَطيئة أكلِه من الثمَرّة. انْكَشَف عُريّ نوح نتيجة خطيئة أكلِه (شرْبِه) من الثمَرّة.
ستّة) أدَّت خَطيئة آدم إلى وضْع اللَّعْنَة على الإنسان. أدَّت خطيئة نوح إلى وَضْع اللَّعْنَة على سُلالة حام بأكْمَلِها.
سبعة) كان لآدم ثلاث أبناء، من بيْنِهِم واحد هو شيث، الذي كان من إصْحاح أن يكون سُلالة البرّ، التي سيأتي من خِلالها المسيح. كان لِنوح ثلاث أبناء، من بيْنِهِم واحد، سام، كان من إصْحاح أن يكون سُلالة البرّ، الذي سيأتي المسيح من خِلالِه.
هناك العديد من التَّشابُهات الأخرى، ولكن هذا يَكفي لتوْضيح كيْف أن الأنْماط التي يؤسِّسُها الله تتكرّر؛ وبسبَب هذه الأنْماط الثابِتة لله، فإن التاريخ نفْسَه دوْري… إنه يتكرّر.
والآن، في هذه المَرْحلة نَتَعَرَّف على السُّلالات الثلاثة المُتمَيِّزة التي يَنْحَدِر منها كل إنسان حيّ اليوم: أبناء نوح الثلاثة. قيل لنا أن هؤلاء هم حام وسام ويافث (أو بالعبرية يافث). أنت وأنا، ننْحَدِر من أحد أبناء نوح الثلاثة هؤلاء؛ ومن المُحْتَمَل أن الكثير مِنّا يَحْمُل بعضاً من هؤلاء الثلاثة فينا.
الآن، لاحِظ أنه من بين الأبْناء الثلاثة، يُقال عن حام أنه "أبو كنعان". هذا أمْر غير مألوف قليلاً في الشَّكل العبري أن يكون إسم الأب مُرْتَبِط بإبنه……. عادة ما يكون العَكْس. حسناً، سنَسْتَكْشِف سريعاً سبَب ذلك.
تُروى قصَّة تبْدأ في الآية عشرين وتَسْتمِرّ حتى الآية سبعة وعشرين. إنها قصَّة خاليَّة من العواطِف وتُرْوى بِطَريقة واقِعية لِدَرجة أنها تبدو تافِهة وغير مُهِمّة…..وليس فقط صَعْبة الفَهْم بعض الشيء. في عدَّة مواضِع في الكِتاب المُقَدَّس نُصادِف هذه المَشاهد الغَريبة – مثل مَشْهَد نوح في خَيْمَتِه – التي تبدو في غير مكانها تقريباً وخارِجة عن السِّياق بعض الشيء. المُشْكلة ليست في الآيات، بل في عدم قُدْرَتنا على ربْطِها بالأمور ذات الأهَمِّية البالِغة التي تتناولها.
إذن، دعونا نَتَفَحَّص عن كَثْب ما يَحْدُث هنا. إن الأمْر هنا يَتَعَلَّق بنوح وهو يزْرع كرْماً ويَصْنع خمْراً، ويَسْكر، ثم يزْحَف الى داخل خَيْمَته، وينام عارياً كطائر الغُراب الأزرق. نعم، لقد سَكِرَ الرجل التّقي العظيم نوح من الخمْر. في هذه الحالة الخمْر (وبالمُناسِبة، هذا هو أوَّل ما ذُكِر للخمر في الكِتاب المُقَدَّس). الآن، لقد حدَث الكثير من الجَدَل حول هذه الآيات على مرّ القرون، تمَحْوَرَ مُعْظَمه حول ما إذا كان نوح قد صَنَع الخمر عن طريق الخطأ وشرِبها ببراءة وكان أوَّل مخمور في العالم. لا يُمكن ذلك. لقد عرِفَ نوح بلا شكّ نتيجة تخمير العِنَب ثم شرِب نتائجه. كما ترى، كان نوح مُجَرَّد إنسان. كانت لدَيْه عيوب، والجميل في كُتُبنا المُقَدَّسة أنها لا تُطَهِّر البَشَر وتجْعلهم كامِلين ومَعْصومين من الخطأ كما تميل كل الأدْيان الباطِلة إلى أن تفعل مع قادَتِها ومؤسّسيها. حتى أن أعظم رجال الكِتاب المُقَدَّس لم يُذَكَروا من دون أن تُذَكَر بعضاً من هَفَواتِهم وصِفاتهم غير المَقبولة، والسّبَب في ذلك واضِح جِدّاً: برُّنا أمام الله لا يَعْتَمِد علينا، بل يَعْتَمِد على الله. لطالما كان كذلك وسيَظَلّ كذلك.
لِسبَبٍ ما، يدْخل حام خَيْمَة نوح ويَجِدَه ثمِلاً وعارياً. فيَخْرُج من الخَيْمَة ويُخْبِر أخَوَيْه، سام ويافث، ثم يَلُفّ الأخوان ثوباً على كَتِفَيْهما ويمْشيان إلى الوراء إلى خَيْمَة نوح، ويَتْرُكان الثّوب يسقُط على عُريّ أبيهِما دون أن يُنْظرا إليه.
عندما يَسْتَيْقِظ نوح، يَشْعُر بالإهانة والغَضَب ويَصبّ غضبَه ليس على حام، بل على ابن حام كنعان ويُعلن اللَّعْنَة على كنعان. مع ذلك، هناك ما هو أكثر ممّا جرى هنا، مُجَرَّد لَعْنة على سُلالة حام؛ هناك أيضاً بعض البَرَكات التي أُعلِنت على سام ويافث.
قبل أن نُناقش هذه البَرَكات، فإن السؤال المَنْطقي هنا هو: لماذا كان نوح مُنْزَعجاً جداً، ولماذا نال حفيدُه كنعان، الذي لا يبدو أنه كان مُتَوَرِّطاً في هذا الحَدَث، وطأة هذه اللَّعْنَة؟ حسناً، لقد توصَّل الحُكماء القُدَماء إلى جميع أنواع الأسباب؛ وبدون الخَوْض في التّفاصيل، فإن الفِكْرة هي أن حام فَعَل أكثر بكثير من مُجَرَّد رؤية عُريّ أبيه. أن حام قد ارْتَكَب نوعاً من الأفعال غير الطبيعية على نوح، لأن حام قد أصْبَح رجُلاً شرّيراً. تقريباً كل نسَخ الكِتاب المُقَدَّس المُخْتصَّة تَسْتخْدِم كَلِمَات في الآية أربعة وعشرين تقول شيئاً مثل "وَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الأَصْغَرُ". مع ذلك، على الرَّغم من أنني كنتُ أعْتقد ذلك، إلا أنني لم أعُدْ أقبَل أن حام فَعَل بِأبيه أكثر من أنه رآه عارياً…….ثم رَكَض وأبلغ ما رآه لإخْوته. بعد قراءة كثيرة للحُكماء العبرانيين القُدَماء، أرى أن هناك على الأرْجح جريمِتَيْن ارْتكبها حام هنا: الأولى جريمة إهانة أبيه. لم تَكُن رؤية نوح ثَمِلاً وعارياً هي التي كانت الجّريمة؛ بل ما فَعَله حام حِيال ذلك. فبَدَلاً من إظهار الإحْترام بِسَتْر أبيه ثم الإنْصِراف دون أن يَنْطُق بكَلِمَة، انْدَفَع حام إلى الخارج ووَشى لإخْوته، وبذلك لم يَحْتَرِم حام أباه. ويا له من مبْدأ ذُكِرَ هنا. لقد اسْتحَقَّ نوح التَّكريم لأنه (أ) كان والِد حام، و (ب) لأن الله سمَّى نوح، من بيْن جميع البَشَر على وجْه الأرض، بارّاً …..صالِحاً…..في نظَرِهِ. إذا كان الله رأى نوحاً بارّاً فهذا هو نِهاية الأمْر. ما كان ينبغي على حام أن يُشير إلى خطيئة أبيه لإخْوته. الجريمة الثانية التي ربما يكون حام قد ارْتَكَبَها (وهذه نَظَرِيَّتي الخاصة في هذا الشأن) هي تلك التي تُسَمّى "لاشون هارا" بالعبرية. "لاشون هارا" هو التَّحَدُّث بالشرّ عن شخصٍ ما، وعادة ما يكون ذلك في شكل نَميمَة. قد لا يبدو الأمْر بهذه الخُطورة، ولكن في الواقع عندما نَصِل إلى سِفْر اللاويين ونبدأ في مُناقَشَة "تزارعت" (ما يُسمى عادةً خطأً بالجُذام)، سنرى أنه يُعتقد أن هذا المَرَض هو عقاب من الله؛ وأن الجريمة أو الخطيئة التي تَرْتُبط عادةً بالإصابة بمَرَض "تزارعت" هي "لاشون هارا"……التَّكَلُّم بالشَّر عن شخصٍ ما.
سُمِّي كنعان بالمَلْعون، على الأرْجح لأنه سيكون له عِلاقة مُباشرة ببني إسرائيل أكثر من أي سَليل آخر من نَسْل حام، ولكن كما يوضِح لنا الكِتاب المُقَدَّس، في الواقع كل سُلالة حام كانت مَلْعونة وليس كنعان فقط.
أما ابنا نوح الآخران، سام ويافث، فقد كان ردّ فِعْلَهما صحيحاً؛ فقد سَتَرا عُريّ أبيهِما بِحِكْمة وشَرَف، وبَذَلا كل جهْدٍ لإعطاء أبيهما أقصى درَجات الإحْترام.
هنا في سِفْر التّكْوين، الآيات خمسة وعشرين وستة وعشرين وسبعة وعشرين، نجِد أن مُسْتَقْبل ومَصائر أبناء نوح الثلاثة – وخُطوط النَّسَب الثلاثة التي يتحدَّر منها كل إنسان حيّ اليوم – قد حُدِّدَت بِشَكْل قاطِع. بعبارة أخرى، ما لدينا في هذه الكَلِمَات القليلة هو نُبوءة قَوِيّة لمُسْتَقْبَل الجِنس البَشَري.
الآن، قبل أن نَصِل إلى هناك، اسْمَحوا لي أوَّلاً أن أذَكَر أن إسم "سام" يعني "المَجْد" ولكن يُمْكن أن يعني أيضاً "الإسم"؛ "إسم" بِمَعْنى شخْص يَصْنَع لِنفِسه إسْماً، شَخْصاً قوياً، ذا سُلْطة كاملة. حام يعني "حار أو دافئ أو حتى حرارة حارِقة"؛ وإسْم يافث يعني "التَّكْبير" بمعنى "الإثمار" ولكن يُمْكن أن يُشير أيضاً إلى "الجمال". مع وضْع هذا في الاعْتبار، دعونا ننظُر إلى اللّعنات والبَرَكات التي يَلْفظها نوح على أبْنائه:
"ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لإخوته". يتلقّى كنعان، ابن حام، لَعْنة. ما هي اللَّعْنَة؟ إنها عكس البَرَكَة. البَرَكَة هي شيء نافِع واللَّعْنَة هي ديْنونة. فكما أن الناس الذين يولَدون في سُلالة البَرَكَة، سُلالة سام، لم يفعلوا شيئاً ليَسْتحِقّوا هذا الحظّ السَّعيد، هكذا الحال مع الناس الذين يولَدون في سُلالة اللَّعْنَة، سُلالة حام؛ لم يفعَلوا شيئاً ليَسْتحِقّوا سوء حَظِّهم.
الشَّعْب الذي جاء من سُلالة أبناء حام، وفي مُقدِّمَتهم كنعان، أصْبَحوا الأعْراق التي احْتلَّت أفريقيا والتي عانت لقرون من مَصير الإسْتعباد. الآن، هناك ما هو أكثر بِكثير من مُجَرَّد الإفْتِقار إلى الحُرِّية الشَّخصية، ولكن الفِكْرة هي أن نَسْل كِنْعان، وفي الواقع كل نَسْل حام، سيَخْضَعون لنَسْل سام ويافث. يجب أن نلاحِظ أننا إذا نظَرْنا إلى كل نَسْل حام سنَجِد أنهم يمثِّلون أعداء بني إسرائيل في وقت أو آخر من التاريخ؛ ولذلك سنَجِد بني إسرائيل إما أن يَغْلبوا أو يتم إخْضاعَهُم من قبل نَسْل حام. يَنْحَدِر شعب مصر من نَسْل حام؛ ومن المُثير للإهْتِمام أن الفلَسْطينيّين كذلك.
"مُبَارَكٌ أَدُونَايَ إِلَهُ سامٍ، وَيَكُونُ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُم". لدينا هنا دليل آخر على أن شيْئاً ما قد حدَثَ بِشَكْل خاطِىء جداً مع حام وأبنائه. لأنه يُشير إلى أنه بيْنَما سيَتْبَع سام الله، فإن نَسْل حام سيَخْتارون اتِّجاهاً آخر. ولكن ما لدينا هنا يُشير أيضاً إلى أن أسْلاف حام سيُحَمِّلون السُّلْطة لعائلة نوح؛ وهو ما يعني أساساً كل البَشَر، أليس كذلك؟ اسْمَحوا لي أن أقول ذلك مَرّة أخرى: إن سفينة الحُكم للبشريّة هي في سُلالة سام، لأن نوحاً سلّمَه إياها في هذه البَرَكَة التي ندْرُسها. كان لِنوح كل الحقّْ في ذلك. فكما كان آدم مُهَيْمِناَ على كل البَشَر لِفترة طويلة، هكذا كان نوح في جوْهَرَه" مَلِك العالَم مُباشرةً بعد الطَّوَفان العظيم". كان رأس العائلة الوحيدة التي كانت موْجودة على كوْكَب الأرْض. كانت سُلْطته مُطْلَقة على البَشَر. واخْتار نوح أن يُسَلِّم تلك السُّلْطة إلى سام. ونرى أن الأمْر كذلك لأن الله، الإله الأوحد، يُدْعى إله سام….. ممّا يدِلّ على ارْتِباط وَوَلاء وعِلاقة بين سام والرَّب، وهذه العِلاقة مع يهوه لا تَرْتبِط بيافث أو حام. فسام سيُصْبِح العبرانيين والعرَب ومُعْظَم الشَّرقِيّين.
"ليَفتح اللهُ ليافث فيَسْكُنْ فِي خِيَامِ سام، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُ". هذه البَرَكَة المَمْنوحة ليافث كانت تَعْتمِد إلى حدّ ما على علاقَتْه بِسام. سيَسْتفيد نَسْل يافث عندما يَكونون على عِلاقة طيّبة مع سام، (وهذا هو معنى "فيسْكُن في خيام سام"). كان يافث هو فِرْع العائلة الذي "سيَكْبَر" ….. أي ينمو أكثر في عدَد السُّكان والثَّروة. يافث هو سَلَف الرّومان والإغِريق ومُعْظَم الشُّعوب الأوروبيّة، الذين هم أسْلاف المُسْتعْمِرين الأمْريكيين الأوائل ولم يَحْدث في أي وقت من الأوْقات في تاريخ العالََم أن شوهِد مثل هذا الثَّراء والخَصْب كما حدَثَ في روما أوَّلاً، ثم في أوروبا، ثم في أمريكا…… وكل ذلك له عِلاقة بالبَرَكَة التي حلّت على يافث. مَرّة أخرى، كان على نَسْل كنعان (ولكن في الواقع نَسْل حام) أن يخْضَعوا لنَسْل يافث كما سيَخْضَعون لنَسْل سام، وهذا ما حَدَثَ في الإصْحاحين الأخيرَيْن من سِفْر التّكْوين.
في الإصْحاحين الأخيرَيْن من سِفْر التّكْوين يتكرَّر هذا النَّمَط الدّقيق من البَرَكَة واللَّعْنَة، ويَتَعَلَّق الأمر بالبَرَكَة التي نَطَق بها يعقوب المُحْتَضِر، يعقوب المُسَمَّى بإسرائيل، على أوْلاده الذُكور الإثني عشر. في غُضون أشْهُر قليلة، عندما نَصِل إلى هناك، سنَتَناوَل هذه البَرَكَة بإسْهاب، لأنها لا تَقِلّ أهمِّية عن بَرَكَة نوح على أبْنائه الثلاثة.
اسْمَحوا لي أن أعْطيكُم لمْحة بَسيطة حتى تَتَمكَّنوا من رؤية العِلاقة المُهِمّة بين بَرَكَة نوح، ثم بعد ذلك بمئات السِّنين بَرَكَة يعقوب.
سنَتَعَرَّف قريباً في سِفْر التّكْوين على مفهوم الكِتاب المُقَدَّس الرَّسْمي لمُبارَكَة البِكْر. إن مَراسِم مُبارَكَة البِكْر هذه هي في جوْهرِها مثل قراءة وَصِيَّة العائلة عند وفاة الأب. فقط مُبارَكَة البِكْر كانت تتمّ قبل وفاة الأب لأن الأب هو الذي كان يًنْطُق بها. كان الأب في مَرْحَلة ما، عادةً في وقت مُتأخِّر من حياتِه، يُقرِّر أن يُخْبِر أوْلاده من سيَحْصَل على ما سَيَحْصَل عليه عند وفاة الأب. حسَب التَّقاليد، كان أوَّل ولَد ذَكَر يولَد لرَجُل (البِكْر) هو الذي يَحْصًل على الجِزء الأكْبَر من كل ما يَمْلكه الأب، بالإضافة إلى أن هذا الإبن يُصْبِح الآن الأب …… الحاكِم….. لتلك العائلة أو القبيلة. لم يكُن البِكْر أنثى أبداً، لذلك كانت بَرَكَة البِكْر تتألف من عُنْصُرَيْن رئيسيَّيْن: أوَّلاً، نقْل الحقّ في سُلطة العائلة وقوَّتها، وثانياً، نقْلْ ما أصْبَح يُسَمّى "النَّصيب المُضاعَف" من ثروة العائلة. من النّاحية النَّظَريّة، كانت الحِصَّة المُضاعَفة تعني أن الإبن البِكْر يَحْصَل على ضُعْف المَبْلغ المَمْنوح لأي ابْن آخر. لذا، على سبيل المثال، إذا كان للرَّجُل أربعة أبناء، فإنه يقسُم كل ما يَمْلِكه إلى خمْسة أجْزاء، ويُعْطي ابنه البِكْر جِزْأين من تلك الأجْزاء الخَمْسة، ثم يَحْصَل الأبناء الثلاثة الباقون على جِزء واحد لكلٍّ منهم. لكن الأمْر لم يكُن دائماً بهذه الدِّقة والنَّظافة، لأنه لم يكن بالضَّرورة أن يُعطي ضُعْف ما يَمْلِكه بالضَّبْط، فقد يكون تقريباً كل شيء وقد يكون أكثر قليلاً من الأبْناء الآخرين، فقد كان للأب حُرِّية كبيرة في قرارِه.
ابْقوا معي، لأن فَهْم نعمة الإبن البِكْر مُفيد جداً في فَهْم الكِتاب المُقَدَّس.
إذاً، الابن البِكْر، حسَب التقاليد، يحْصَل على كل السُّلْطة والجِزْء الأكبر من ثَرْوة العائلة. أما إخْوَته فَهُم الآن تحت سُلْطة البِكْر. ما رأيْناه في بَرَكَة نوح كان نوعاً من بَرَكَة البِكْر قبل أن يتُمّ إضْفاء الطابع الرَّسْمي عليها وإعْطائها هذا الإسم. من بين أبناء نوح الثلاثة، حَصَل اثنان على البَرَكَة، وحَصَل واحد على اللَّعْنَة. الأمر المُثير للإهْتِمام الآن هو أنه في بَرَكَة البِكْر النَّموذَجِيّة، إن انْتِقال السُّلْطة العائلية والخَصْب العائلي (الثَّروة) يذْهَب إلى نفس الإبن ولكن في بَرَكَة البِكْر لنوح، انْقَسَمَت البَرَكَة؛ حصَل سام على السُّلْطة وحَصَل يافث على الثِّمار، الثَّروة….المُصْطَلح في الكتاب المقدّس هو التَّكْبير. غريب.
لنَنْتَقِل بِسُرعة إلى الأمام عدَّة مئات من السِّنين. يعقوب، المَدْعو إسرائيل، يعيش الآن في مصر؛ يدعو أبناءه الإثني عشر إليه وهو على فِراش الموْت وهو يَعْلَم أن أجَلَه قد اقْتَرَب، لذلك يقوم بمُبارَكَة البِكْر المُهِمّة جداً (سِفْر التّكْوين تسعة وأربعين). بسبَب حماقات أوَّل ثلاثة من أبنائه، ينتهي الأمر بِيَعقوب بإعْلان يهوذا، ابنه الرابع، بِكراً. في الواقع، إن القِيام بذلك ليس غريباً إلى هذا الحدّ، فقد حدَث في بعض الأحيان أنه تم تجاوُز البِكْر الحقيقي لصالِح ابْن أصْغر منه كان قد نال حُظوة لدى أبيه. الغَرابَة الحقيقية هي أن يعقوب يُخالف كل العادات والتقاليد ويًقْسُم بَرَكَة البِكْر: فهو يُعطي قوّة العائلة وسُلْطانها ليهوذا، لكنَّه يُعْطي الجِّزْء المُضاعَف…… ثروة العائلة….. المُعَبّر عنها ببَرَكَة التّوسيع والإثمار…. لِيوسف. هذا أمْر غير عادي للغاية؛ مع ذلك، فهو بالضَّبْط نفس الشَّيء الذي فَعَلَه نوح قبل كل تلك القرون. إن تأثير ما فعلَه نوح حدَّد فقط مَصائر جميع شعوب وأمَمْ العالم حتى نهاية التاريخ. أما أثر ما فعله يعقوب فقد مَهَّد الطريق لظُهور المَسيح (الذي سيَفْتدي البَشَريّة ويَضَع نهاية للتّاريخ كما نَعْرِفه) من خلال نَسْل يهوذا، ونقلَ خيْرات الإنجيل إلى العالم كله من خلال عائلة يوسف. سنَقضي ربَّما شهراً كاملاً في هذا الموضوع عندما نَصِل إلى هناك كوْن أهمِيّته حيويّة جداً.
الآن، إليْك هذا الشيء الذي يجب أن تضَعَه في مُقَدّمة ذِهْنك ونحن نَمْضي قُدُماً: إن كنعان المَلعون، ابن حام، هو مؤسِّس أرض كنعان وإسْمها ….. الأرض التي أمَرَ الله موسى ثم يوشع أن يَنْتَزِعْها من سُكّانها (الذين كانوا من نَسْل كنعان). الأرض التي خَصّصّها الله لشَعْبِه المُخْتار، بني إسرائيل، عند خروجِهِم من مصر. كان الكنعانيون، نَسْل حام، سيَخْضَعون في النِّهاية لبني إسرائيل، نَسْل سام؛ وببَرَكَة نوح النَبَوِيّة، بدأ كل ذلك وسَيَبْلُغ ذُرْوَته عندما يأتي المسيح في المُسْتَقْبل القريب.
ينْتَهي الإصْحاح التاسِع بإعْلامِنا أن نوح عاشَ ثلاثمئة وخمسين سنة أخرى بعد الطَّوَفان العظيم ومات في سن التسعمئة وخمسين.
من الشائع جداً في تعليم الكِتاب المُقَدَّس، الإلْتِفاف حوْل الإصْحاح العاشر من سِفْر التّكْوين، والسّبَب عادةً هو أن المُحْتوى مُثير للإهْتمام مثل قراءة قاموس…… قاموس مليء بالأسماء الصَّعبة التي ليس لها تأثير كبير على أي شيء باسْتِثْناء، ربما، بالنِّسبة لأكاديميي الكِتاب المُقَدَّس.
حسناً، سّنَقْرأ الإصْحاح العاشر ونتأمَّل فيه لبَعْض الوقت والسّبَب هو أننا سنَرى هنا ما يُشار إليه غالباً بإسم جدْوَل الأمَم. أعتقد أنه من المُهِمّ مَعْرِفة أي من الأُمَم تنْحَدِر من أي سُلالة من سُلالات عائلة نوح وأحد أسباب أهمِّية هذا الأمْر هو البَرَكات واللّعنات والأقْدار التي قرّر الله أن تتْبَع كل سُلالة من هذه السُّلالات. كما ترون، نحن مُرْتَبِطون بهذه الأقْدار، شئنا أم أبَيْنا، لأننا مُرْتَبِطون بأبناء نوح. لذا، عندما تجِدْ نفْسَك في أحدى هذه السُّلالات الثلاثة من البَشَر، لا تصْرُخ في وجْهي، بل اشتَكِ إلى الله. هذه البَرَكات واللّعنات والأقْدار لم تَنْتَهِ، بل إن تحقيقها الحقيقي يجري في زماننا هذا، وسَيَسْتَمِر إلى أن يَجْلس المسيح على عرْشِه على الأرض.
بالنِّسْبة لله، نَسْل العائلات هو دائماً أساسي. لقد رأينا بالفِعل هذا النَّمَط المُسْتَمِر من تقسيم الله واخْتياره وفَصْله؛ كان هذا جِزءاً رئيسيّاً ممّا حدَثَ في بَرَكَة نوح لأبنائه الثلاثة؛ لأن البَرَكات أحْدَثَت انْقساماً. لقد رأيْنا هذا المَبْدأ راسِخاً في وقت مُبْكِر عندما فَصَل الله النّور عن الظّلام والخَيْر عن الشَّر. رأيْناه عندما قسَّم البَشَر إلى ذَكَر وأنثى. رأيْناه عندما أصبح شيث سُلالة الخَيْر وأخوه قايين سُلالة الشَّر. الآن نراه عندما أصبح سام سُلالة الخَيْر وأصبح حام سُلالة الشَّر ويافث سُلالة الخُصب. وإذا أردنا أن نتبَع هذا الموضوع وصولاً إلى العهد الجديد، نجِد المسيح "نَسْل المرأة" الذي كان يجِب أن يأتي من سُلالة عائلية مُحَدّدة مُنْفَصِلة عن كل السّلالات العائلية الأخرى. دعونا نَتَذَكَر أن أنْسال الخَيْر هذه هي الطُّرق التي سيأتي منها في النِّهاية "نَسْل المرأة"، (المرأة هي هافاه- حواء). إن مَعْرِفة هذه التّفاصيل عن السُّلالات العائلية هي مُفتاح لِفَهم ليس فقط أسْفار العهد القديم بل العهد الجديد أيضاً.
اقرأ سِفْر التّكْوين عشرة بأكمَلِه
بما أن أبناء نوح الثلاثة قد مَلأوا كل العالَم الحالي، فمن المُناسِب أن نعرِف شيئاً عن أولَئك الذين تَبِعوهم. من المُثير للإهْتِمام أنه على الرّغم من أن الأكاديميّين يَميلون إلى السُّخْرية من الكِتاب المُقَدَّس، إلا أنَّهم يعْترِفون على مَضَضْ بأن الإصْحاح العاشر من سِفْر التّكْوين هو الوثيقة الأكثر دقَّة واكْتِمالاً من نوْعها المُتعلِّقة بنشأة الأمَم والأجْناس.
لن يكون من غير الدّقيق أن نقول، بِشَكْل عام، أن سام سَكَن آسيا وحام سَكَن أفريقيا ويافث (جافث) سَكن أوروبا. بالطَّبْع، هناك اسْتِثْناءات.
فيما ننْظُر إلى هذه الخَريطة، تبْدأ العديد من الأسْماء التي قرأتُها لكم للتَّو في الظُّهور. دون أن نتطَرَّق إليها كلّها، نجِد على سبيل المثال أن نَسْل يافث أصْبَحوا السّومَريّين، من غومر، الذين كانوا أوَّل من اسْتَوْطَنوا في مِنْطَقة ويلز وبريتاني؛ والسّكيثيّين، من ماغوغ، الذين شَكَّلوا الشَّعْب الرّوسي؛ والميديّين، من ماداي؛ واليونانيين، من يافان؛ والتراقيّين من تيراس، الذين أصْبَحوا المقْدونيّين، الذين جاء منهم في النِّهاية الإسْكَنْدر الأكبر.
من هذه المجْموعات من الناس جاء الجِرمانيّون والكلتيّون والأرْمَن. يجب أن نُلاحظ أيضاً أنه في سُلالة يافث كانت ترشيش. هذه هي في المقام الأوَّل إسبانيا الحديثة. بعْضُكم يا هواة النُبوءة سَتَتَعَرَّفون على إسم ترشيش لأنه مذْكور في إشعياء. دعونا نأخذ بُضْع دقائق ونفحَص نُبوءة عُمْرها سبعة وعشرين ألف سنة، ولكن تحْقيقها بدأ في مُعْظَم حياتِنا ولا يزال مُسْتَمِرّاً أثناء كلامِنا هذا؛ إشعياء، الإصْحاح ستّين؛ سنَقرأ فقط من الآيات من واحد الى إثني عشرة الآن.
اقرأ إشعياء ستّين على واحد حتى إثني عشر
إذا لم تشْعُر بقَشْعُريّرة، فقد فاتَك تماماً ما قرأتَه لك للتّو. جيلًنا في خُضُم هذا الحَدَث بالذات. يَتَعَلَّق الأمر بعَوْدَة اليهود إلى إسرائيل، ولكن أكثر من ذلك، يَتَعَلَّق الأمر بعَوْدَة جميع بني إسرائيل إلى إسرائيل. سوف ندْخُل في هذا الأمر بِشَكْل كامِل في الأشهر المُقْبِلة، ولكن الآن فقط اعْلَموا أن اليهود يُمَثِّلون قَبيلتَيْن فقط من أسْباط إسرائيل الإثني عشر. هناك قبائل إسْرائيلية أخرى موْجودة في آسيا وستعود إلى الأرْض قريباً جداً. كيف أعْرِف هذا؟
لا توجَد هذه النُّبوءة في إشِعياء فَحَسْب، بل تمَّ الحَديث عنها بِشَكْل أكثر تحديداً وبِطَريقة أكثر تفْصيلاً في حزقيال سبعة وثلاثين. و……. اعتَرَفَت الحُكومة الإسرائيلية رسْميّاً لأوَّل مَرّة في آذار/ مارس ألفين وخمسة….. أي منذ شهرَيْن فقط….. أنه بالفِعل تم العُثور على أفراد ممّا أُطْلَق عليهم إسْم "أسْباط إسرائيل المَفْقودين"؛ وأنهم إسْرائيليون، لكنهم ليْسوا يهوداً. قد يكون هذا الأمر غامِِضاً بعض الشيء بالنِّسبة لك، ولكنه لن يكون كذلك فيما بعد.
كثيراً ما سَمِعت مُعَلِّمي الكِتاب المُقَدَّس والقَساوِسة يتحّدَّثون عن أن سُفُناً ستأتي من ترشيش لتُعيد اليهود إلى إسرائيل في الأيام الأخيرة. لكن كَلِمَة ترشيش لم تَكُن حَرْفيّة، بل كانت مُجَرَّد كَلِمَة ترْمُز إلى أماكِن بعيدة. لا بُدّ أنهم كانوا من بين الكثيرين الذين اخْتاروا أن يتَخَطّوا سِفْر التّكْوين عشرة، لأننا نرى بالتأكيد من هو ترشيش بالضَّبْط: ابن جومر، الذي هو ابْن يافث.
ليس هذا فَحَسْب، بل إن إحدى أكبر الطّوائف اليهوديّة الموْجودة تُسَمّى اليهود السَّفارديون. واليهود السَّفارديون هم الذين ينْحَدِرون، في المقام الأوَّل وليس بالكامِل، من مَجْموعة كبيرة من العبْرانيين الذين اسْتَقَرّوا في إسبانيا خلال القرون السادِس والسابع والثامن. شقّ العديد من اليهود السَّفارديّون طريق العَوْدَة إلى الأرض المُقَدَّسة في أواخر القرْن التاسع عشر، ثم مَرّة أخرى بعد الحَرْب العالميّة الأولى ثم بعد الحَرْب العالمية الثانية. إسبانيا = السَّفارديون = ترشيش. هذه ليست تكهُّنات ولا تخْمينات؛ بل مُجَرَّد حقيقة تاريخيّة.