سِفْر التكوين
الدرس ثمانية وعشرون – الإصحاحان ثمانية وعشرون وتسعة وعشرون
قراءة تكوين ثمانية وعشرون بكاملِه
بعد أن اتَّفق إسحاق مع ريبيكا على فكِرة أنّ العائلة لا تَحتاج لإضافة المزيد من النساء الكنعانيات إلى العشيرة من خلال الزواج، أمَرَ يعقوب بالذهاب للارتباط بزوجة من عائلة والدته في بلاد ما بين النهرين. دعوني أذكِّركم مرة أخرى أنّ مصطلح العائلة المتشابكة لا يُفسِّر بما فيه الكفاية البُنية المُجتمعية لتلك الحقبة؛ لأن إسحاق يُطالِب بكل هذا من الابن الذي بَلَغ أواخر السَبعينيات من عمره.
بعدها أعطى إسحاق يعقوب قَبل رحيله البَرَكة التي نراها في الآيتين ثلاثة وأربعة. دعونا لا نَمرّ بهذه البَرَكة مرور الكرام. إذا كان الله قد أراني شيئًا مُهمًا عن العهد القديم، فهو وجوب النظَر عن كثَب دائمًا عندما يتم إعطاء بَرَكة أو إلقاء لعنة. نَميل إلى قراءتِها على أنها أقوال غريبة ومُحيِّرة أحيانًا لثقافة انقرضت منذ فترة طويلة؛ ولكن هي نَبويّة إلى حدٍ كبير، وسوف نَجِد في النهاية رابطًا خاصًا بتلك البَرَكة أو اللعنة في الأجزاء اللاحقة من العهد القديم، أو أحيانًا، في العهد الجديد.
في سِفْر التكوين الإصحاح سبعة وعشرين الآية سبعة وعشرين إلى تسعة وعشرين، نرى البَرَكة التي أعطاها إسحاق ليعقوب، البَرَكة، التي افترَض عيسو أنه قد حُرِم منها؛ وما نُلاحظه إذا نظرْنا عن كثَب هو أنها احتَوَت فقط على بعض عناصر وَعد العهد الذي قَطَعه الله في الأصل لإبراهيم، ثم سُلِّم إلى إسحاق بالكامل. لماذا؟ لأن إسحاق كان في خِضمّ معركة حقيقية مع إيمانه. أعتقد أنه يمكننا أيضًا أن نَفترض أنّ إسحاق لم يكُن مُقتنعًا تمامًا أنّه أعطى البَرَكة لعيسو (وهو بالطبع لم يكُن كذلك) وأنه لم يكُن مُعجبًا تمامًا بشخصية أيٍ من وَلَديه التوأم. "إذًا، إما أنه أعطى البَرَكة من دون حماس، لأنه لم يكُن مُقتنعًا بأن ابنه سيحمِلها بالفعل، أو أنه كان يحجِب جزءًا منها حتى يشعر بأنّ الوقت مناسب.
قبْل سنوات عديدة، عندما أعطى الله لإبراهيم وَعد العهد، كان أحد عناصر العهد أن يكون إبراهيم أبًا لأمة عظيمة. إذا نظرنا إلى تكوين الإصحاح الثاني عشر الآية الثانية، لربما تتذكَّرون أنني أخبرتكم أنّ الكَلِمة العبرية المُستخدَمة لـ "أمة" هي "غوي". وعندما تُستخدَم كَلِمة "غوي" فإنها تعني عادةً "الأمم غير اليهودية".
مع ذلك، دعوني أُحلِّل ذلك بشكل مُفَصّل أكثر: في زمن إبراهيم، لم يكُن لكَلِمة "غوي" أي معنى على الإطلاق: لأنه حتى ولادة إسحاق، لم يكُن هناك تَمييز بين الأمم العبرية وغير العبرية التي أنتجَها إبراهيم. وهذا يعني أنه على الرغم من أنّ إبراهيم كان يُدعى أول عبري، إلا أنه مع ولادة ابنيه إسماعيل وإسحاق، ظَهَر أوّل مفترق طرُق، وهو التفريق بين الأبناء العبريين وغير العبريين، حيث أصبح إسحاق هو العبري وإسماعيل وجميع أبنائه وبناته الآخرين غير عِبرييّن. لذا، فإن استخدام كَلِمة "غوي" في تكوين الإصحاح الثاني عشر الآية الثانية، في أقدَم مراحل تطوُّر الشعب العبري، يُشير إلى الأمم العبرية وغير العبرية: الأمم بشكل عام بغض النّظر عن كونها عِبرية أو غير عِبرية.
الآن، بالعَودة إلى سِفْر التكوين الإصحاح الثامن والعشرين الآية الثالثة، نرى ما يبدو أنّه نفْس البَرَكة التي أعطاها الله لإبراهيم، ثمّ أعطاها إبراهيم لإسحاق، والتي انتقلَتْ الآن من إسحاق إلى يعقوب؛ ولكن هناك فَرْق مهمّ. حيث تقول معظم الكتب المقدسة إنّ إسحاق قال ليعقوب شيئًا مِثل "لكي تصبحوا جماعة من الناس… أو… جماعة من الأمم"، فإنّ الكَلِمة العبرية لـ "جماعة من الناس أو جماعة من الأمم" هي "كحال عمّيم". وهذا مُختلف تمامًا عما وَعَد به الله لإبراهيم، وما وَعَد به إسحاق؛ أي أنهم سيُنتِجون "غوي"… مزيج من الأمم. لأن "كحال عمّيم" في تَرجمتها الحَرفية، تُستخدَم في العبرية لتَعني عكس ما قاله الله لإبراهيم. حَرفيًا، تعني "كحال عمّيم" "اجتماع مقدَّس لأبناء الوطن". بعبارة أخرى، تعني تَجمُّعًا من الناس، لأغراض مقدَّسة، تَجمُّعًا يتألَّف من أشخاص من نفس القبيلة أو مجموعات من القبائل.
يعني ذلك أنّ يعقوب، الذي سيُعاد تَسميتُه قريبًا بـ "إسرائيل"، سيكون أول من يُنجِب العبريين فقط في سلالة وَعد العهد. وسوف يُنجِب أممًا من الشعب العبري فقط… فقط الشعب الذي سيُطلَق عليه في زمن موسى "كنزه الثمين (كنزُ الله)".
دعوني ألخِّص ذلك مرة أخرى: أنجَب إبراهيم ذريّة عبرية وغير عبرية (كما وعَدَه الله في تكوين الإصحاح الثاني عشر الآية الثانية)، وكان إسحاق هو العبري. كما أنجَب إسحاق ابن إبراهيم شعبًا عبريًا وغير عِبري، وكان يعقوب هو العبري. ولكن يعقوب أنجَب العبريين فقط… كل قبائل إسرائيل… وهذا هو بالضبط ما تخبرنا به بَرَكة "كحال عمّيم"، وهو تَجمُّع مقدّس لأبناء الوطن.
حسنًا، نَنتقِل إلى الآية شتّة، حيث قيل لنا أنّ عيسو لاحظ أنّ إسحاق أرسَل يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين للحصول على زوجة، لأن والده كان يكرَه النساء الكنعانيات. مِسكينٌ عيسو؛ لقد ارتبَط بالفِعل بزوجتَين كنعانيتَين، الأمْر الذي أغضب والده بشدّة، والآن في محاولة مُضلِّلة لإصلاح الأمور، ذهب إلى عائلة شقيق والده، عم عيسو، إسماعيل، الابن الذي طرَده إبراهيم، وأخذ عيسو امرأة إسماعيلية كزوجة ثالثة له. يا له من أحمق. ولكن، كما هو واقع الأمْر، فإنّ تأثيره المستقبلي يتجاوَز ما يُمكِن حِسابه، لأنه هنا يتم تشكيل تَحالُف من خلال الزواج المختلَط، يربُط بين المولودَين البكرَين المحروَمين، الذين رفضَهما يَهوَه كوَرثة مُحتملين لخط (سلالة) العهد الموعود، إسماعيل وعيسو، ما سيتحوّل بسرعة إلى مجموعة دائمة من الأمم المُعادية لإسرائيل. إنه تَحالف إسماعيل وعيسو ومزيج الجينات الذي يُشكّل الجزء الأكبر من الإسلام في العالم اليوم، والجزء الأكبر من العَرب. غَيّر هذا التقرير الذي يَحتوي على مِثل هذه الكلمات القليلة في الآية تسعة، مَسار التاريخ جذريًا، وأدى إلى تحريك الظروف التي ستؤدي إلى ظهور المسيح الدجّال ونهاية التاريخ كما نعرِفه.
يترُك يعقوب بئر شيفا، ويسافِر حوالى أربعين ميلاً ويتوقَّف بعد يومين أو ثلاثة أيام للراحة ليلاً في مكان مجهول وصخري للغاية. هنا في التوراة نَجِد يعقوب يصنَع هوية مُنفصِلة لنفسه، مما يَسمَح له بأن يصبح الأب الثالث والأخير.
كان من الضروري أن يترُك أرضَه، وأباه وأمه وإخوته حتى يعمَل الله معه… تمامًا كما كان الأمْر مع جدِّه إبراهيم. هناك يرى يعقوب حلمًا، أو رؤية في الواقع، وفيها، يُمنَح لمحة عن العالم الروحي السماوي. يرى الملائكة، "ملاخ إلوهيم"، باللغة العبرية (لذا نعلَم أن هؤلاء هم رُسل سماويون، ملائكة) ينتقلون ذهابًا وإيابًا من السماء إلى الأرض؛ يتلقَّون التعليمات من الله في السماء ثم يخرُجون لتَنفيذ إرادته على الأرض.
وهنا، أعطى الله نفسه ليعقوب الوَعد بالأرض، وذريّة عديدة، وأنّ هؤلاء النَسّل سيبارِكون كل عائلات الأرض. كما أخْبَر يعقوب ألا يقلق، لأنّ الله سيكون معه أينما ذَهب، وسيُعيده إلى هذه الأرض، لأنّه وَعَد يعقوب وذريّته بالأرض إلى الأبد وسيتمّ الوَعد. بالمناسبة، في الآية الثالثة عشرة حيث تَستخدِم معظم الكتب المقدسة كَلِمتا الله أو الرَب، فإن الكَلِمة العبرية الأصلية هي يَهوَه… اسم الله الشخصي… لذا كان هذا هو الله الآب الذي يتحدَّث إلى يعقوب، وكان يعقوب مُدرِكًا تمامًا لهذه الحقيقة.
تُعتَبر نبرة هذه الحَلَقة نبرَة مُفاجَأة؛ أولاً لأنّ يعقوب لم يكن لديه أدنى فكرة أنّ الله سيأتي إليه بهذه الطريقة، وثانيًا لأن يعقوب كان ربما يَشعر بالهزيمة في تلك اللحظة. لم تكُن هذه الرحلة إلى بلاد ما بين النهرين سعيدة؛ بل كان يَسعى لإنقاذ حياته. وكان يَبتعِد عن كارثة من صُنعِه؛ فقد خَدَع والده وأخاه للحصول على البَرَكة، واضطر إلى الرحيل خالي اليديْن لمجرد البقاء على قيد الحياة.
كانت هذه البَرَكة المُعطاة ليعقوب تُمثِّل النَقْل الرسمي، إذا صحّ التعبير، لوَعد العهد من إسحاق إلى يعقوب. لقد بورك يَعقوب قبل أيام قليلة ببَرَكة مُماثلة لبَرَكة والده، ولكن الآن يقوم يَهوَه بتثبيت هذه البَرَكات.
لاحظوا أيضًا أنّه منذ دراستنا للتوراة بدءًا من سِفْر التكوين واحد، شاهدنا الله يَنقُل مكان إقامته من السماء إلى الأرض، ثم جنّة عدَن، ثم يعود مرة أخرى. دعونا لا نتغافَل عن هذا "السُلَّم"، أو ربما "الدَرج" بين السماء والأرض: فهذا "نموذج" آخر من الكتاب المقدس عمّا سيأتي لاحقًا: كما ترَون، عَمِلت هاتان الحقيقتان معًا. يُمثِّل هذا الدَرج الارتباط بين الإنسان والله الذي انقطَع حاليًا. في البداية، كان بإمكان الإنسان أن يأتي مباشرةً إلى الله، لأن الله كان حاضرًا مع الإنسان. لكن التَمرُّد والخطيئة كَسرا هذا الارتباط، وأعاد الله نفسه إلى السماء. ومع ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون، هناك سُلَّم، دَرج، يُرسِل الله من خلاله ملائكته الخَدَم للقيام بعملِه على الأرض. لاحقًا، سيأتي ارتباط آخر بين السماء والأرض، خيمة البريّة. وفي المستقبل البعيد، سيأتي السُلَّم الحقيقي؛ يشوع، الشخص الذي سيُعيد ربْط الله بالإنسان. هل تعتقدون أنّ هذا مجرد مَجاز أو قصة لطيفة؟ استمعوا إلى ما يقوله يسوع نفسه في يوحنا الفصل واحد الآية واحد وخمسين: "… الحقّ الحقّ أقول لكم: سترَون السماوات مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزِلون فوق ابن الإنسان".
أوه، كم من الأمور التي لا نَنتبه إليها بعدَم دراسة التوراة بشَكل دقيق. لأنه بدون أن نرى أولاً، ما كان يحدث مع يعقوب، في سِفْر التكوين، كيف لنا أن نفْهمَ تمامًا هذا النوع من التصريح الغريب الذي أدلى به يسوع بعد ألف وثماني مئة عام، والمُسجَّل في ما نُسمّيه العهد الجديد؟ ومع ذلك، ما أسْهَل الربط بمجرد أن نفهَم كِلَيهما. بالنسبة ليعقوب، كان هذا الواقع الحالي والنبوة التي تتحقَّق. بالنسبة لنا، هذا ليس مجرد واقع، بل هو نبوة تحقّقَت. يشوع هو سلمنا، السُلَّم الوحيد الذي يعيد ربطَنا بالله. عليه يَصعَد الملائكة وينزلون، اليوم، في عصرِنا.
لقد انبَهَر يعقوب حقًا بما رآه. لقد أطْلَق على المكان اسم "بيت الله"، أو كما نعرفُه بشكل أفضل بيت إيل… بيت… إيل، الله. أو بشكل أدقّ، إيل بيت إيل، والتي تَعني "بيت الإله، إيل". لاحظوا استخدام كَلِمة إيل قبْل الخروج من مصر. فقَبْل أن أعطى الله لموسى اسمَه الشخصي في جَبَل سيناء، كان الله معروفًا باسم
إيل شداي… مع التركيز على الجزء ذات الصلة بكَلِمة "إيل". بعبارة أخرى، قَبْل جبل سيناء، لم يكُن أحد يعرِف اسم الله الشخصي. لذلك، كان معروفًا بعدَد من الألقاب، معظمها يبدأ إمّا بـ "ايل" أو "ال".
بعد جَبَل سيناء، سنرى أنّ استخدام كَلِمة إيل بدأ يتضاءل، حيث يتم استبدالُها ببطء بكَلِمة يَهوَه.
هناك حَدَث آخر مثير للاهتمام هنا يجب أن نُعاينَه: مَسْح الحَجَر الذي وَضَع يعقوب رأسه عليه لينام أثناء تلك الرؤية. ما معنى هذا؟ حسنًا، أولاً، يمكننا أن نرى مدى قِدَم مفهوم المَسْح بالزيت، لأن ذلك حدَثَ حوالى عام ألف وثماني مئة قبل الميلاد. أمّا المعنى الدقيق الذي حَمَله في ذهن يعقوب فليس واضحًا، لكن من الواضح أنه كان له علاقة بلِقائه مع الله. ربما كان يعني إقامة رابطة عَهد جديد بين يعقوب ويَهوَه، رابطة تتَضمَّن نِذرًا؛ ففي ذلك الوقت لم يكُن استخدام صخرة كعلامة تذكارية بعد مَسْحِها بالزيت شائعًا (ولن نجِدَها أيضًا لهذا الغرَض في الكتاب المقدس). كان المَسْح بالزيت مُستخدَمًا على نطاق واسع إلى حدٍ ما في هذا العَصر، وغالبًا ما كان يُمثِّل عَقد اتفاق، مثل العهد الأكثر شمولاً بالمِلح الذي تضمَّن التضحية بالحيوانات. كان وَضْع علامات على الحدود وإنشاء علامات تذكارية باستخدام حَجَر (كان يُطلَق عليه النُصُب الحجري) أمرًا شائعًا أيضًا… لكن الأحجار لم تكن تُمسَح (تُدهَن) بالزيت.
ومع ذلك، أعتقد أنّ الأمر يَتجاوز ذلك. هنا نرى يعقوب يَستريح على صخرة، ثم يمسحُها بالزيت؛ أعتقد أنّه من الممكن أن يكون هناك رابط بين هذا الأمر والمسيح، لأن المسيح يعني في العبرية "الممسوح". يجِب على المرء أيضًا أن يتساءل لماذا يُشار إلى يشوع غالبًا باسم… من بين كل الصِفات… بالصّخرة. الآن بالتأكيد، مَجازيًا، يمكننا أن نرى الخصائص المادية للصَلابة والثّبات للصخرة ونُطبِّقها على يشوع. لكن يجب أن نتذكَّر أنّ سياق العهد الجديد عبري تمامًا مِثل سياق العهد القديم. لم يَلتقِط الشعب اليهودي أي استعارة قديمة لفَتَتْ انتباهه؛ كان هذا مُجتمعًا قديمًا تقليديًا كان له تاريخ هائل من المعاني الراسخة في أحداث الماضي، وخاصةً تلك التي انخرَط فيها الآباء. أظنّ جديًا أنّ مُناداة المسيح يشوع ب"الصخرة" يعود إلى هذا الأمْر الذي حَدَث مع يعقوب، حين مَسَح الصخرة التي وَضَع رأسَه عليها.
لقد أقسَمَ يعقوب لله أنه سيُعطيه كل ولاءه… وأنه سيَرُدّ له العُشر من كل ما يُعطيه الله له. ومرة أخرى، نرى مبدأ العُشر في وقت مُبكِر جدًا من الكتاب المقدس.
قراءة تكوين الإصحاح تسعة وعشرين
عندما ترَك يعقوب عائلته في بئر شيفا، كان ذلك باضطراب روحي، وقلْب ثقيل، وخوف وارتجاف، وذَنب…
ولكن بعد لقائِه مع يَهوَه، تَغيَّر شيءٌ ما فيه. أصبح أكثر يقينًا، وتركيزًا، وهدوءًا… لقد امتلأ بتلك الحالة الداخلية التي يُسميّها المسيحيون الأمميون "سلام من دون فَهم". يقول العبريون إنه نال "شالوم هاشم".
لا نعرِف كمْ من الوقت احتاج يعقوب للوصول إلى حران، وهي رحلة تبلغ حوالى أربعمئة مِيل من الطرف الجنوبي من كنعان. ولكن عندما وَصَل، سعى على الفور إلى لقاء عائلة والدتِه. في بعض الأحيان نركِّز على أرض كنعان، الأرض الموعودة (الميعاد) التي ستُصبِح في النهاية إسرائيل، لدرجة أنّنا ننسى صِلة الأجداد بين أرض الميعاد وبلاد ما بين النهرين. كانت بلاد ما بين النهرين مَسقط رأس إبراهيم؛ وبقي جزء كبير من عائلته هناك. نرى إبراهيم يُرسِل خادمًا إلى المكان الذي اعتبره بالتأكيد مَسقط رأسه، للعثور على زوجة مناسبة لابنه إسحاق. والآن يعود يعقوب إلى نفْس المكان تمامًا، لنفْس الغرض. ولكن، يا له من تباين بين كيفية وصول إليعازر، خادم إبراهيم، إلى حران، وكيفية وصول يعقوب إليها. وَصَل إليعازر مع حاشية من الرِجال والناقات والهدايا لتقديم عروس مُحتمَلة لإسحاق. أمّا يعقوب فوَصَل حاملاً القميص على ظهرِه، ولا شيء آخر.
أثمَر بحثُه عن بئر ماء، فكانت هناك ثلاثة قطعان من الأغنام تَنتظر أن تُسقى؛ وهناك أشار الرعاة إلى راحيل، ابنة عم يعقوب الأولى، ابنة أخت والدته، ابنة لابان.
لنَتعلَّم القليل عن آداب بئر الماء في تلك الأيام. كانت آبار المياه أماكن مهمّة لأن إنشاءها كان يَتطلّب الكثير من العمَل، وكان الحفاظ عليها يتطلَّب الكثير من العناية. علاوةً على ذلك، كانت البئر مملوكة لشخص ما؛ إما المَلِك المحلّي، أو في هذه الحالة، عائلة مَحلّية. وبما أنّ البشر في المستوطنة كانوا يَحفرون البئر للحصول على الماء يوميًا…… وكان على الحيوانات التي كانت جزءًا من حياتهم أن تَشرب بانتظام أيضًا…… أصبحَت البئر مكانًا للقاء أهل الريف، تمامًا كما كانت أبواب المدينة مكانًا للقاء أهل المدينة.
ونَجِد أنّه كان هناك صخرة كبيرة فوق البئر. كان هذا أمرًا طبيعيًا ومألوفًا؛ أولاً، كان ذلك لمَنْع الغبار والحشرات الصغيرة وحتى الأطفال من السقوط في البئر وتلويثها. ولكن كان الهَدَف من ذلك أيضًا مَنْع الناس الذين يريدون الماء من الحصول عليها. كان لابد من شراء الماء من صاحب البئر. وكان الرعاة مع قطعان الأغنام يَنتظرون حتى المساء، ليأتي صاحب البئر، ويرفَع الصخرة، ويَحصُل منهم على أُجرة؛ لتتَمكَّن حيواناتهم من الشُرب.
في مَشهدِنا، يريد يعقوب من الرعاة أن يَسقوا حيواناتهم ويغادروا، حتى يتمكَّن من إجراء محادثة خاصة مع أفراد الأسرة الذين جاء للبحث عنهم. لذا، بما أنّ يعقوب من العائلة، شَعَر بأنه مُحقّ في رَفْع الصخرة عن فوّهة البئر والسماح للأغنام بالشرب… حتى يغادر الرعاة.
قدَّم يعقوب نفسه إلى راحيل، وكما هي العادة، قَبّل هذا العضو العائلة. لم يكن التقبيل في هذا العصر يدلّ بالضرورة على شيء جنسي أو مودَّة. كانت التقبيل تحيّة، وعادةً ما تُعادل المصافحة، اليوم، على الرغم من أنه لم يكن يتم تبادُلها بين الغرباء. ثم بكى يعقوب فرَحًا وهو يعلَم أنّ رحلته انتهت، ومن المرجّح أنه التقى بزوجته المُستقبلية. لقد كان يومًا جيدًا. لقد قيل لنا أنّ راحيل كانت راعية غنم؛ وهي مِهنة غير عادية إلى حدٍ ما بالنسبة لامرأة في هذه المنطقة من العالم؛ فغالبًا ما كانت النساء البَدويات في سيناء وشِبه الجزيرة العربيّة، على بعد مئات الأميال إلى الجنوب، يرعَين قطعان الماشية والأغنام… لكن نساء بلاد ما بين النهرين أي نساء إسرائيل فيما بعد، لم يكنّ يفعلْن ذلك.
سمِع لابان، والد راحيل، بوصول يعقوب وجاء لمقابلتِه. وهذه فرصة جيّدة لنا لفهْم شيء قد يعتبرُه العلماء "تناقُض" في الكتاب المقدس. في الآية خمسة، عندما سأل يعقوب عن عائلة والدته، سأل بعض الرُعاة عمّا إذا كانوا يعرفون "لابان ابن ناحور". والآن، في الإصحاحات السابقة من سِفْر التكوين، قيل لنا أنّ لابان هو ابن بتويل، وليس ناحور. إذًا، ما الذي يَعنيه هذا؟ حسنًا، ناحور هو في الواقع جَدّ لابان. وما يتمّ وصْفُه هنا هو انتماء لابان العشائري… عشيرة ناحور. غالبًا ما نَجِد في الكتاب المقدس هويّات أكثر رَسمية للأشخاص، حيث يَرِد "من قبيلة فلان وفلان وابن فلان". لا تعني عبارة "ابن…." بالضرورة العلاقة البيولوجية بين الأب والابن كما نتصوَّرها. في بعض الأحيان تعني الأب والابن، ولكن في كثير من الأحيان هي علاقة تَربُط الشخص بعشيرته، كما هو الحال هنا. يجِب معرفة أيّهما هو السياق، ويتوقَّع المؤلف أنّ القارئ يعرِف جيدًا أنّ ناحور هو شقيق إبراهيم، ولابان هو حفيده. لذا، فإنّ هذه التناقضات المُفترضَة في الأسماء ليست تناقضَات على الإطلاق؛ كانت الطريقة الطبيعية للتحدُّث وشرْح هويّة المرء في ذلك العَصر.
بالطبع، عَرَض لابان استضافَة ابن أخيه. مَرّ شهر وطَرَح لابان الأناني السؤال على يعقوب: "ما هي أُجرتُك؟". هذه إشارة إلى أنّ يعقوب زائر شِبه دائم. بالطبع رأى لابان أنّ يعقوب سيكون إضافة قيّمة لعائلته، لأنه راعٍ موهوب ومُجتهِد. من المُحتمَل أيضًا أنه لاحظ أنّ يعقوب كان مُعجَبًا براحيل الجميلة. عَرَض يعقوب على لابان سبع سنوات عَمَل مقابل يدِها. بالمناسبة، لم يكُن بَيع الأب لابنته لرَجُل مقابل العبودية عاديًا في تلك الحقبة. وبعد ذلك بقليل نرى ابنتا لابان تكشِفان عن العار الذي شعَرتا به لكونهما بيعتا حرفيًا مقابل ثَمَن عندما قالتا في سِفْر التكوين الإصحاح الواحد والثلاثين الآية الرابعة عشرة والخامسة عشرة، "ألسنا غرباء؟ لأنه (لابان، أبوهما) باعنا".
حسنًا، مَرَّت السنوات السبع، وذَهَب يعقوب إلى لابان للحصول على "أُجرتِه"، أي راحيل. ثم أدرَك يعقوب مدى الدمار الذي يمكن أن يُسبِّبه الخداع والخيانة: بعد حَفْل الزفاف، استبدَل لابان راحيل بليا، ابنته الكبرى التي لم تَتزوّج بعد. لا شك أن يعقوب تَذكَّر على الفور ذلك اليوم الذي تَنكَّر فيه في هيئة أخيه وخَدَع والدَه؛ لابد أنه افترض أنّ ما كان يعيشه الآن كان ببساطة انتقامًا من الله للمُعاملة القذرة التي تعاملهَا مع والدِه إسحاق وأخيه عيسو قَبل عدّة سنوات. في الواقع، تمّ استخدام كَلِمة "خِداع" في قصة يعقوب التي حَصَل فيها على عروس، لأنها مُرتبطة بشكل جوهري بالموضوع الرئيسي موضوع "الخداع" في قصة سَرقة يعقوب لبَرَكة عيسو.
لذا، مقابل سبع سنوات أخرى من العبودية للابان، حَصَل يعقوب أيضًا على راحيل، التي تزوَّجها على الفور بعد حَفل الزفاف المُعتاد الذي استمرّ لمدة سبعة أيام بينه وبين عروسه البديلة، ليا. هذا الرَجُل المُسنّ، البالغ من العمر ثمانين عامًا، يَجِد نفسه فجأة في موقِف لا يحاول فيه إرضاء زوجة واحدة فقط، لا بل اثنتين.
الآن ينكشِف لنا جانب مُظلِم آخر من يعقوب، وهو أنه أحبّ راحيل بشكل غير عادل وفَضَّلها علنًا على ليا. والسبب في ذلك هو ما وَرَد في الآية السابعة عشرة، حين قيل "عينا ليا ضَعيفتين"؛ بما أنّ الجمال غالبًا ما يرتبِط بشَكل العينين… وخاصةً في الثقافات شرق الأوسطية… فإنّ العيون القوية أو العيون الضعيفة كانت تعبيرات تُشير إما إلى الجمال أو الشَكل العادي. لذا، تبيَّن لنا أنّ راحيل كانت تُعتبَر جميلة بينما ليا لم تكُن كذلك؛ ويبدو أنّ يعقوب اختارها على أساس الجمال الجسدي في المقام الأول. ولا يوجد أي إشارة على الإطلاق إلى أنّ يعقوب استشار الله في اختياره لزوجته. وهناك العديد من الأسباب للاشتباه في وجوب اختيارِه للِيا ولا لراحيل، كما سنرى قريبًا. يا لها من مُفارقَة: لقد غَفَل الله عن عيسو، البِكر، الوسيم والرجولي، وفَضَّل يعقوب الهادئ والبسيط. أمّا راحيل، الجميلة والمُتهوّرة، ففضَّلها الله على ليا الهادئة والبسيطة. لماذا أقول إنّ الله غَفَل عن راحيل؟ سنرى ماذا سيحدُث بعد ذلك.
على الفور تقريبًا، بدأت ليا في إنجاب الأطفال ليَعقوب. ويبدو أنّ راحيل لم تتمكَّن من الحَمْل. أولاً، حَمَلت ليا بروبين… بِكر يعقوب. سَجِّلوا الحدَث على الورق، أو في ذاكرتكم، لأنه في غضون أسابيع قليلة، سنعود إلى هذه التفاصيل المهمّة. ثم أنجبَت ليعقوب ثلاثة أبناء آخرين: شمعون، ولاوي، ويهوذا. وفي تَسمية هؤلاء الأطفال، قَدّمت ليا لله كلّ الحَمد والتسبيح: روبين تعني "انظر، ابن"، لأنها شَعَرت أن الله رأى أنها كانت تُعامَل كمواطنة من الدرجة الثانية من قِبل يعقوب، الذي كان يَتملَّق راحيل فقط. شمعون يعني "السَمع"، لأن الله سَمِع صلواتها للحصول على ابنٍ آخر. تعني كَلِمة لاوي "منضمّ" لأنها كانت تأمَل الآن بعد أن أعطت يعقوب ابنًا آخر، أن يحبَّها يعقوب أكثر. وتعني كَلِمة يهوذا "الحَمد"، لأنها كانت تمدَح الله لأنه باركها بأربعة أبناء صحتهم جيدة.
وبِتقديمها الحمد لله على هؤلاء الأطفال، كانت ليا تكشِف عن شخصيّتِها. وكان الله يُبارِكها على ذلك. لم تلِدْ فقط المولود الأول ليعقوب، بل اثنين آخرين أيضًا: لاوي ويهوذا. ليا، البسيطة، تمّ تكريمها بِحَمْل وولادة سلالة الكهنة وخَدم الله الإسرائيليين… اللاويين؛ وجلْب يهوذا إلى هذا العالم، يهوذا الذي سيتحقَّق من خلاله خطّ الوعد في يسوع. لأن يشوع كان من نَسْل يهوذا… ونحن نُسمّي أحفاد يهوذا يهودًا.
في نهاية حزينة لهذا الإصحاح، قيل لنا أنّ ليا فقدَت فجأةً قُدْرَتها على إنجاب الأطفال.