سِفْر التثنية
الدرس الخامس – الإصْحاح الرابع
انْتَهينا في الأسبوع الماضي بدِراسة ”الشيما“، والتي ربّما تكونُ العقيدة المَرْكزية في العقيدة العِبْريَّة. إن الشيما (التي هي مَزيج من الصلاة وبيان الحقيقة والإيمان) تأتي في الواقِع قبل إصْحاحَين من المكان الذي نحن فيه الآن (تبدأ الشيما في سِفْر التثنية سِتَّة)، ولكن السّبب الذي جَعلَنا نَدرسها هو التِّكرار في سِفْر التثنية وفي كل الكِتاب المُقَدَّس لكَلِمَة شيما التي عادةً ما تُترجم إلى الإنجليزية بكَلِمَة ”اسْمع“ أو ”أصْغِ“.
ما تَعلَّمناه هو أن اِسْمَع وأَصْغِ ليْستا كَلِمَتَيْن سَلَبِيَّتين؛ فهما لا تَعنيان مُجَرَّد مُلاحظة زَقْزَقة طائر أو الانْتِباه إلى نَغمات شلاّل هادئ كما هي طَريقتنا الغربيَّة الحديثة في التَّفكير. يَكْمُن في معنى كَلِمَة "شيما" جَوْهَر العمل بناءً على ما يُقال. إِعْتِمادًا على سياق المَقطع، تعني الكَلِمَة ”السَّمَع والطّاعة“، أو ”الإسْتِماع ثم العَمَل“، أو ”المُراقبة“ كما في الاحْتِفال بِعيدٍ ما (بمعنى المُشاركة في طُقوسه واحْتِفالاته).
علاوة على ذلك، فإن ما يَدور حَول سِفْر التثنية بِشَكْلٍ عام (وسِفْر التثنية أربعة بِشَكْلٍ خاص) هو أن موسى يُوَجِّه خطابًا حَماسيًّا إلى الجيل الجديد من بني إسرائيل ليأخُذوا على عاتِقهم كل ما تَعلَّموه ويَمْضوا قُدُمًا. من النّاحية العَمَلِيَّة نحن نَسْتَمع إلى كَلِمات موسى الأخيرة لأولئك الذين اعْتَنى بهم طوال الأرْبَعين سنة الماضية. يُعَلِّم موسى أن مَوته لم يَعُد يَفْصلنا عنه سوى أيام قليلة، ولذلك يُريد أن يَنْقل إلى بني إسرائيل الهَوِيّة الوطنيّة التي أعْطاها لهم يَهْوَهْ، وهذه الهويّة الوطنيّة كلها مُرْتبطة بإلَه بني إسرائيل وعُهوده وشَرائعه، ولا يُمْكِن الحِفاظ عليها إلا بِتَصْميم الشَّعب على طاعةِ ومَحَبَّة يَهْوَهْ، وهذا ما سَيُحافظ عليه الشَّعب.
إن ما يَقوله موسى مَوضوع في سياق تاريخ بني إسرائيل لأن هذا التاريخ هو الذي يُقَدِّم (في حدّ ذاته) الدَّليل على ما يَقوله. وهو يُقَدِّم الدَّليل على أن الله هو من يقول إنه هو وسَيَفْعل ما يَقول إنه سَيَفْعله.
إن سِفْر التثنية أربعة إصحاح طويل جدًا ولن نَنْتهي منه هذا الأسبوع، لأنه لو أُجْبِرت على اختيار عشر إصْحاحات فقط (من بين ألف ومئتين إصْحاحًا تقريبًا التي تُشَكِّل كتابنا المُقَدَّس الحديث) لتحديد أفضل ما يُعَبِّر عن شخصية يَهْوَهْ وخِطَّته وعَدْله والمبادئ الإلَهية التي كانت الأكثر قُوَّة وأهميَّة مِحْوَرية في حياة المؤمنين به، فسَيَكون هذا من بين أولويات تلك القائمة المكوَّنة من عشر إصْحاحات.
لذلك قبل أن نَقرأ هذا الإصْحاح الطويل، أريد أن أقول شَيْئًا كمُلاحظةٍ شخصيَّة. في بعض الأحيان أشْعُر بالإحباط وفقْدان الحماس بِسَبَب الحالة الرّاهِنَة للكنيسة التي أنْتَمي إليها وأُحِبُّها. بالإضافة الى أن الرَّب بارَكَني (كما بارَك الكثيرين منكم) بِفهم أن كَلِمَته كلَّها صالحة وأن يسوع كان يَعني ما قاله عندما أخَبْرَنا أنه لم يأتِ لإلغاء التَّوْراة أو الأنْبِياء، كما أَدْرَكْتُ أن جِزءًا كبيرًا من الكنيسة التي أُحِبّها كثيرًا قد ابْتَعَد كثيرًا عن الرَّب. لقد أصْبَحنا نحن المَسيحِيّين نُسْخَةً طبْق الأصل من الُمُجْتَمع الدّيني اليهودي الذي عاش فيه يسوع؛ مُجْتَمَع يَطْلُب ويُعلن لله، ولكنَّه في الوقت نَفْسه يُفَضِّل بِشَكْلٍ عام أن نَلْتَزم بعَقائدنا وتقاليدنا البَشَريَّة بدلاً من الإعلانات والتّعليمات الواضِحة والمُباشرة المُعطاة لنا في كَلِمَة الرَّب المَكْتوبة.
إنني أتَذَكَّر من مُعَلِّمي الكِتاب المُقَدَّس العُظماء في الماضي والحاضِر الذين أدْرسهم وأعْتَمِد عليهم بأن كَوْني مُعَلِّمًا يعني أن بعض المبادئ والحقائق التّأسيسية يَجِب أن يُعاد ذِكْرُها مِرارًا وتِكْرارًا، في سياقات مُتَنَوِّعة، حتى يُمْكِن فَهْمُها واسْتيعابُها في النِّهاية من قبل الطُّلاب. لذلك بِصِفَتي مُعَلِّمكم أريد أن أمضي بُضع دقائق لأُذَكِّرُكُم لماذا من المُهِمّ جدًا بالنِّسْبة لنا أن نُصْبِح دُعاة للتَّوراة والعهد القديم وإسرائيل والشَّعب اليهودي وكامل الكِتاب المُقَدَّس الذي نُسَمّيه الإنجيل. وأنا أفعل ذلك بِروح موسى في سِفْر التثنية الذي لا يُعْطي مَعلومات جديدة في مُعْظمها، بل يُذكِّر الناس بما سَمِعوه من قَبْل وربما يَعْرفونه من قَبْل؛ ولكن من الأهَمِّية بمكان ما أن يظلّ هذا الأمر في مُقَدِّمة تَفكيرهم في كل الأوقات وعلى مرّ أجيالهم كلّها، وخاصة لهذا الجيل الثاني من الخُروج الذي يُخاطِبه.
نَنْسى أحيانًا في عالَمنا الصّغير من دُروس التَّوْراة أن الجِزء الأكْبَر من الكنيسة يُفَكِّر بطريقةٍ مُخْتَلِفة نوعًا ما عمّا نُفَكِّر به نحن في الكِتاب المُقَدَّس. لقد جاءني الكثير مِنْكم مُحبَط بِسَبَب اضْطِراركم للدِّفاع عن أنْفسكم باسْتِمرار، ولماذا عليكم أن تُكَرِّروا للأصْدِقاء والعائلة بلا توقُّف أنكم لم تَنْضمّوا إلى طائفة أو تَنْكُروا يسوع، وكل هذا لأنَّكم اخْتَرْتم دِراسة الجِزء الخاص بالعهد القديم من الكِتاب المُقَدَّس والاعْتِراف بأن الكِتاب المُقَدَّس هو وثيقة عِبرية. يُمْكِنُنا أن نَنسى بسهولة أيضًا أن الجِزء الأكبر من العقيدة المسيحيَّة الحديثة هو في جَوْهَره مُعادٍ للسّامية ويُعلِن على الفور (أ) أن بني إسرائيل قد اسْتُبْدِلوا بالمَسيحِيّين الأُمَميّين، (ب) أن الله عندما جاء إلى الأرض في صورة يسوع غَيّر مُعظم قواعده ومَبادئه السّابقة وألغى عُهودَه، (ج) أن مُجَرَّد فَتْح أسفار العهد القديم (ناهيك عن دِراستها فِعْليًّا وأخْذِها على مَحْمَل الجدّ) هو بِمَثابة نَبْذ المُخَلِّص والعَوْدة إلى النّاموس (أيًا كان ما يَعْنيه ذلك في أذْهانهم).
لا يقول الكِتاب المُقَدَّس في أي مكان، بالطَّبع، أي شَيء من هذا القبيل؛ ولكن هذه هي المُشْكِلة الأساسيّة في اتباع العقيدة (على الأقلّ بِقَدَر ما يتمّ تعريف العقيدة في الاسْتِخدام الحديث للكَلِمَة). غالبًا ما تكون المسيحيَّة القائمة على العقيدة على خلافٍ مع المسيحيَّة الأصليّة والقديمة القائمة على الكِتاب المُقَدَّس. من المُفارقات التي يبدو أننا نَفْهَمُها (لأننا تَعَلَّمناها منذ الصِّغَر في مَدْرسة الأحد) أنه على الرغم من أن اليهود في أيام المسيح ادَّعوا أن تَقاليدهم لم تَكُن إلا تَفسيرًا جيِّدًا وسليمًا للكِتاب المُقَدَّس، إلّا أن الكثير منها في الواقع لم يَكُن سوى قادة دينيِّين عبرانيِّين يَعْتَنِقون فَلْسفات من صُنْع البَشَر تُحيط بالوقائع السِّياسيّة في ذلك الوقت وتُجَسِّد أجِنْداتهم الشَّخْصيّة، كما أنها مَكَّنَتْهم من تشكيل جماعات مُنْفَصِلة مُوالية لهم في المقام الأوَّل وغالبًا لأسباب تتعلَّق بالمكاسِب الشَّخْصيّة. المفارقة في ذلك أن الكنيسة قد فَعَلت الشّيء نفسه بِشَكْلٍ أساسي لِقُرون، وبَدَلاً من الاعْتِراف به على حَقيقته، تَبَنَّيْناه على أنه أمْر طبيعي وجَيِّد. تمامًا كما تم تشجيع اليهود القُدَماء على دِراسة التّقاليد اليهوديّة (التَّلْمود) وثَنْيِهم عن دِراسة كل شيء ما عدا بعض المَقاطع المُخْتارة من التَّوْراة التي يبدو أنها تُثْبِت صِحَّة تقاليدهم، كذلك يتمُّ تشجيع المَسيحِيّين المُعاصِرين على قُبول مُخْتَلف العقائد المَذْهَبيَّة من دون سؤال، وثَنْيِهم عن دِراسة أي شيء سوى مقاطع مُخْتارة من العهد الجديد، وفي المقام الأوَّل الأناجيل.
في إحدى الوثائق المسيحيَّة الأساسيّة في العَصْر الحديث، في أواخر القَرن التاسِع عشر، قال أحَد قادة الكنيسة الأوروبيّة البارِزين في ذلك الوقت، أدولف هارناك، ما يلي:
إن رَفْض العهد القديم في القرن الثاني كان خطأ قاوَمَتْهُ الكنيسة عن حقّ، والاحْتِفاظ به في القرن السادس عشر كان مَصيراً لم يَسْتَطِع الإصلاح البْروتِسْتانْتي الإفلات منه، أما الاحْتِفاظ به (أي العهد القديم) في القرن التاسع عشر كأحد الوثائق الكَنَسِيّة للبْروتِسْتانتيّة فهو نتيجة الشَّلَل الدّيني والكَنَسي.
وبِعِبارة أخرى، بينما لم يَكُن أمام الكنيسة في وقت مُبْكِر جداً خيار سوى الاحْتِفاظ بالعهد القديم لأنه حتى اقْتِراب القرن الثالث لم يَكُن هناك كتاب مُقَدَّس آخر غير العهد القديم (لم يَكُن قد وُجد بعدْ شيء اسْمه العهد الجديد)، لم يَكُن هناك في رأي هارناك (أوروبا في القرن التاسع عشر) أي عِذْر آخر للبْروتِسْتانت للاحْتِفاظ بأي جِزْء من العهد القديم كنَصٍّ خطّي تَوْراتي صالِح وأنه كان فقط بِسَبَب ما وَصَفَه بالشَّلَل الدّيني، أن الكنيسة لم تُعْلِن أخيرًا وبِشَكل صريح أن العهد القديم وثيقةٍ عفا عليها الزَّمَن ولا مكان لها في كُتُبِنا المُقَدَّسة أو في حياتِنا المسيحيَّة على الإطْلاق."
وقد لَقِيَت حِجَّته قُبولاً حسنًا وأصْبَحَت مَقبولة كمِعيار صاغت به الكنيسة الغربيّة لاهوتَها وعقائدَها، وهكذا أُغْلِقَ الباب بإحْكام منذ ذلك الوقت على العهد القديم في المسيحيَّة الغربيّة.
لِحِسْن الحَظ، لم يَقع جميع اللاّهوتيين المُحترمين فَريسة لهذه العقليّة اللّيبراليّة المُضلِّلَة بِشَكْلٍ فظيع ولكن الشّائعة. بعد حوالي مئة عام من تصْريحات هارناك، أدْلى أحد هؤلاء المُنْشقِّين، وهو الدكتور والتر كايزر، بهذا التَّصريح الذي يُلَخِّص بِبَلاغةٍ وقوَّةٍ الحالة الراهِنة للمسيحيّة السائدة؛ وهي حالة وعَقْليّة هَدَفُنا في فَصْل التَّوْراة هو الهُروب منها، وذَكَر:
مَهما كان تَوحيد الرأي منذ كتّاب العهد الجديد وصولاً إلى الإصْلاح البْروتستانتي، ومهما كانت الصُّعوبات في الإجابة على الأسئلة الشَّكْلية والماديّة المَطْروحة هُنا، يبقى سِفْر التَّوْراة المُشْكِلة الأكثر مَرْكزيّةً وحَسْمًا في اللّاهوت المسيحي. إن الطريقة التي سنُجيب بها على هذه المُشْكِلَة ستُحَدِّد تِلقائيًا الكثير من لاهوتنا المسيحي – سواء فَعَلنا ذلك بطريقة مَدْروسة أم غير مَدْروسة.
الآثار المُتَرتِّبة على هذه الخُطْوة في التّكوين اللاهوتي هائلة. إن إجاباتنا على هذه المُشْكِلة (في كَيْفِيَّة تَفكيرنا في الكِتاب المُقَدَّس) هي التي ستُقَرِّر: كيف نَفْهَم يسوع المسيح في شَخْصِيَّته التّاريخيّة وسياقِه اليهودي وتَحَقُّقِه الإلَهي. إنها تُقَرِّر نَظْرة الكنيسة إلى نَفْسها ككنيسة الله، كعُنْصُر في سِرّ عَمَل الله الخَلاصي في التاريخ. إنها تُقَرِّر تَفْسيرنا للخَلاص المُعْطى لنا بِيَسوع المسيح، … وتَقْديرنا للحياة الأرضيّة والزمَنيّة. .. . … إنها تَتَعَلَّق بِعَلاقة كنيسة يسوع المسيح بِشَعب إسرائيل المُخْتار. إنَّ فَهْمنا الكامِل لمَلَكوت الله – وبالتالي أيضًا لشُموليّة الإيمان المسيحي والكنيسة المسيحيَّة والدّين المسيحيّ – يتحدَّد من خلال ما نُفَكِّرْ به عن العهد القديم وكَيْفِيَّة تَعامُلنا معه. تسعة: بالتالي، من الصَّعْب التَّفكير في العديد من مَجالات اللّاهوت المسيحي التي لم تتأثَّر بِشَكْلٍ كبير، إما بإدراج أو بإغفالٍ مُتَعَمَّد لبيانات العهد القديم منذ تَنْظيمها. وعلاوة على ذلك، عندما نَتذكَّر أن أكثر من ثلاثة أرباع الكِتاب المُقَدَّس الكامِل مَوجود في العهد القديم، فهذا يَكفي لِجَعل المَرء يَتَوقَّف قبل أن يَتجاهل هذا السِّجِل الأكثر شمولاً لإعلان الله للبَشَرية.
بِعِبارة أخرى، العهد القديم هو الوثيقة التَّكْوينيَّة التي جاء منها العهد الجديد. إن العهد القديم هو السِّياق الذي يَجِب أن نَفْهَم فيه كيف يَجِب على المَرْء أن يَفْهم يسوع ورِسالته الخلاصيَّة وما هو الخلاص وما يَجِب أن يكون عليه شكل الكنيسة، وحتى كيف نُحَدِّد ما هو في الواقع ذلك الكيان الذي يُدعى ”مَلَكوت الله“. يقول كايزر إن الطريقة التي يُقَدِّر بها المسيحيّون قيمة العهد القديم، أو بدلاً من ذلك يَتَجاهلونه باعْتِباره لا قيمة له، ستُحَدِّد كل عُنْصُر من عناصر نِظام إيماننا.
سَيِّداتي وسادَتي، بالنِّسْبة لِعَصْرنا، داخل الكنيسة (سواء كنت يهوديًّا أو وثنيًّا) لا يوجد سؤال حاسِم بالنِّسْبة لنا لِنَتَصارع معه أكثر من قبول كَلِمَة الله كلّها، أو أن نَقْطع كل ما ورد في الكِتاب المُقَدَّس الذي يأتي قَبْل سِفْر مَتّى. هل نَبْحَث عن التَّعاليم الفِعْلِيَّة المُعْطاة مُباشَرةً من الرَّب في التَّوْراة ونَعْمَل بها؛ أم نأخُذ فقط أجزاءً من بعض الأسفار التي تَعْمَل على إثبات صِحَّة مئات السِّنين من الفلسفات اللّاهوتية التي طوَّرَتها المؤسَّسات التي تدَّعي أنها تَحْكُم المسيحيَّة؟
هل نُقلِّص أسفارنا المُقَدَّسة أكثر من ذلك بإهمال خمسين بالمئة من مَقاطع العهد الجديد التي ليست سِوى اقْتِباسات مُباشرة من العهد القديم؟ لأنه إذا كان العهد القديم قد مات وانْدَثَر وسُمِّر على الصَّليب، فكيف نُبَرِّر الاحْتِفاظ بجِّزءٍ من مُحْتَوياته والذي يُشَكِّل أكثر من نِصْف العهد الجديد؟
هذا هو جَوْهَر الرِّسالة التي يَحْمِلها موسى إلى بني إسرائيل في سِفْر التثنية. يسأل موسى: هل ستَثِقون بِكُل كَلِمَة الله وتَعْمَلون بها يا بني إسرائيل، أم ستَعودون إلى تعاليم البَشَر والأرْواح العُنْصُرية وتَعْبدون الطبيعة كما في مصر؟ هل ستَسْتَمِعون إلى الرَّب وتُطيعونه، أم ستَكْتَفون بالتَّنازل من أجل الاحْتِفاظ بِمَزايا الُمُجْتَمع والثقافة التي تَنْتَمون إليها؟ هل ستُدْرِكون أن حِكْمة الرَّب هي الحقيقة المُطْلَقة، أم ستَخْتارون أن تُقَدِّروا قيمة عَقْلكم (أو عقل قادَتكم) على أنه أسْمى من الإلَهي؟ يقول موسى أحد هذين الطَّريقَين هو الحياة، والآخر هو المَوْت. لذا إخْتَر الحياة.
دَعونا نُرَكِّز أنْفُسَنا، بِعَوْن الرَّب، على هذا الإصْحاح الرابع العظيم من سِفْر التثنية.
اقرأ الإصْحاح الرابع من سِفْر التثنية بكامِله
بعد أن يَشْرَح موسى أن على بني إسرائيل أن يُطيعوا (من أجْلِهم) ما سَيَتبع، وأنَّه لا يَنْبَغي أن يُضاف أو يُحذَف أو يُغيَّر شَيء من هذه التّعليمات، يقول في الآية الخامسة أن هذه القواعد يَجِب أن تُطاع داخل أرض الميعاد (كنعان) التي سيَعيشون فيها قريبًا.
لقد تَحَدَّثْنا بإيجاز في الأسبوع الماضي عن أزْمِنة الأفْعال العِبْريَّة، وأنه في العِبْريَّة التَوراتية لا يوجَد ما يُسَمّى بأزْمِنة الماضي والحاضِر والمُسْتَقبل كما هو الحال في اللغة الإنجليزية. بدلاً من ذلك، هناك ما أَطْلَقَ عليه العُلَماء اسم الكامل والناقِص الذي يَدُلّ في الحالة الأولى على عَمَلِيَّةٍ مُسْتَمِرَّة، وفي الحالة الثانية على أن العَمَلِيَّة قد اكْتَمَلت.
في بداية الآية الخامسة نَحْصَل على مثالٍ جَميل عن مسألة زَمَن الفِعْل هذه والمُشْكِلة التي تَسَبَّبَها في التَّفسير؛ عادةً ما تكون التَّرجَمة الإنجليزية لهذه الآية مثل " أتَرون …..، لقد نَقَلْتُ إليكم القوانين والأحكام……“. يُسْتَخدَم الفعل الماضي للإشارة إلى أن الشَّرائع والأحكام التي يَتَحَدَّث عنها موسى قد أُعْطِيَت في الماضي. ولكن ليس هذا هو معنى الفِعْل العِبْري المُسْتَخْدَم هنا، بل هذا هو الفِعْل المضارع (يُسَمّى أحيانًا الفِعْل المضارع) الذي يُشير إلى أن موسى يَتَحَدَّث عن عَمَلِيَّةٍ مُسْتَمِرَّة. لذلك قد تكون التَّرجَمة الأفضل هي: "….أنا أنْقُل إليكم الشَّرائع والأحكام". أُفَضِّل، ولكن لا تزال غير دقيقة لأن هذه عَمَلِيَّة مُسْتَمِرَّة؛ وهذا يَعني أن بعض الشَّرائع أُعْطِيَت وبَعْضها لا يزال يُعْطى. إن العَمَلِيَّة المُسْتَمِرَّة لإعطاء الشَّرائع وتحديد مَعْناها وتَطبيقها تَحْدُث منذ جبل سيناء ولم تَنْتَهِ بعد.
ثم هناك مَبْدأ مُهِمّ يَنْتَقِل بالطَّبع إلى العهد الجديد في الآية السادِسة: وهو أن البُرْهان على وَلاء بني إسرائيل ليَهْوَهْ، هو أن الّذين يَسْمعون شرائع الرَّب يَعْمَلون بِشَرائعه. لا تَخْلُط بين هذا البُرْهان وبين كَوْنِه نفس الشيء كَعَلامة. إن علامة علاقة بني إسرائيل بالرَّب هي خِتان الذُّكور (من عهد إبراهيم) ومُراعاة السَّبْت (من عهد موسى). أما البُرْهان (أي مجموع الأدِلَّة الخارِجيَّة على إيمانِهم بيَهْوَهْ) فهو في حِسْن تَصَرُّفهم في ذلك. تُوجَد نسخة العهد الجديد من هذا المَبْدأ في سِفْر يعقوب: الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد يعقوب إثنان على سبعة عشر "هكَذا الإِيمان أَيْضًا، إِنْ لم يَكُنْ لَهُ أَعمال، مَيِّتٌ فِي ذاتِه". ثمانية عشرة: "لكِن يَقُول قَائِل: «أَنْتَ لك إِيمَان، وَأَنا لي أَعْمَال» أَرِني إِيمَانَك بدون أَعْمَالك، وأَنا أُريك بِأَعْمالي إِيماني."
لا تَدَع أحدًا يقول لك أبدًا أن الدَّليل على إيمانِك هو قُبول المسيح. كلا، إن علامة قُبولك للمَسيح (علامة العهد الجديد) هي الرّوح القُدُس فيك (وهو بالمُناسبة غير مَرْئي وبالتالي لا يُمْكِن لأحَد أن يَراه، بما في ذلك نَفْسك). لذلك فإن الدَّليل على إيمانك (كما يقول موسى ومن بَعْدَه يعقوب) هو في الثَّمَر الذي يُنْتِجه، أي أعْمالك. والأعْمال عُموماً تَعْني الأعْمال الصَّالِحة تِجاه النّاس والطّاعة الكامِلة لوَصايا الله.
ليس الأمْر أن الرَّب الإلَه يَحْتاج أن يرى أعْمالك كبُرْهان يَبْحَث عنه؛ فهو الذي اتَّخَذ القرار بأن يَهِبك الرّوح القُدُس، لذلك فهو قد حدَّد مُسْبَقًا حالة إيمانَك. بل إن البُرْهان (في شَكْل أعمالٍ مَرْئيّةٍ ومَلْموسة) هو أن يَنْتَفِع الآخَرون. كما جاء في سِفر التثنية أربعة على سِتة: …." فاحْفَظوا وَاعْمَلوا. لأَنَّ ذلك حِكْمَتُكُم وَفِطْنَتُكم أَمام أَعْيُن الشُّعُوب الَّذين يَسْمَعون كل هذه الْفَرائض، فَيقولون: هذَا الشَّعب الْعَظيم إِنَّما هُوَ شَعْب حَكيم وفَطِن."
إذًا بينما لم يَسْعَ العِبْرانيّون من ناحِية إلى التَّبْشير أو التَّنْصير، إلّا أن عَيْش إيمانهم على مَرْأى من غير العِبرانيّين هو الذي يقول عنه يَهْوَهْ إنه سَيَكون جّذّابًا لأولئك الأجانِب. لقد ذَكَرْتُ مَرّات عديدة أن الطَّريقة الأكثر فاعِليّة (وفي الحقيقة الوحيدة) لِجَلْب البشارة السّارة إلى الشَّعب اليهودي في إسرائيل هي أن تَعيش إيمانَك وتَسْمَح لهم بِرؤية مَحَبَّتك (أو الأفْضَل، مَحَبَّة يسوع فيك) وليس مُجَرَّد الاقْتِباس لهم من مَقاطع من الكِتاب المُقَدَّس الإنْجيلي. في الواقِع، رُبَّما تكون هذه هي الطَّريقة الأفْضل والأكْثر أصالة من ناحية الكِتاب المُقَدَّس لتقديم الإنجيل لأي شخْص، بما في ذلك عائلتك.
إن موسى هنا في خِضَمّ اسْتِخلاص نقْطَتَيْن: أولاً، أن إعطاء النّاموس لبني إسرائيل على وجه التَّحديد يُشير إلى خَلْق عِلاقة لم يَسْبَق لها مثيل بين الله وأُمَّةٍ مُعَيَّنةٍ من الناس ليس لها مثيل في التاريخ أو في أي مُجْتَمَع آخر؛ وثانيًا، أن نَواميس الرَّب أَسْمى من كل القوانين والمبادئ التي هي من صُنْع البَشَر، وأن العَدالة الكامِنة في فَرائضه هي الكمال. أن نواميس الله في الواقع ما هي إلا اْنِعكاس لله. وقد عُرِفَت شَخْصِيَّته وتَرَدَّدَت أصداؤها في نواميسِه. هل تُريد حقًا أن تَعْرِف من هو الله؟ إذن تَعلّم شرائعه وأوامِره واعْمَل بها.
بعد ذلك يُعطي موسى بني إسرائيل تَحْذيرًا من عِبادة الأوْثان. إن أساس النَّهي عن صُنْع أصْنام الآلِهة المَعْبودة مُفَسَّر بِمَزيد من التَّفْصيل هنا في الإصْحاح الرابع من سِفْر التثنية وهو هذا: بما أن الرَّب لم يَظْهَر في أي نوع من الأشكال الماديّة لبني إسرائيل في جبل سيناء، فلا يَنْبَغي لبني إسرائيل أن يُحاوِلوا صُنْع أي نوع من الأشكال الماديَّة لتَمْثيل الله. بعد كل شيء، إذا لم تَكُن قد رأيْت شَكْل الله من قَبْل، فكيف يُمْكِنك أن تَصْنَع تمثيلاً دَقيقًا له؟ بَدَلاً من ذلك، بما أن الله أعْلَنَ لهم حُضوره في "كَلِمات" (تَذَكَّروا أن الله تَكَلَّمَ بِصَوْت مَسْموع إلى بني إسرائيل في جبل سيناء)، إذن على بني إسرائيل أن يَنْقُلوا مَعْرِفة يَهْوَهْ إلى الأجيال القادِمة بالأقوال والأفْعال وليس بِرُموز وصُوَر الآلِهة كما يَفْعَل الوَثَنيّون.
لقد كان هذا خُروجًا جَذْرِيًّا عن أعْراف جميع ثقافات العالَم في ذلك العَصْر. كانت الفِكْرة أنه من دون صورة إلَه (صَنَم)، لم تَكُن هناك طريقة لعِبادة ذلك الإلَه. كان يتمّ تَوارُث الأصنام من جيل إلى جيل كوَسيلة لتَعْليم أفراد العائلة عن آلِهة العائلة. يقول يَهْوَهْ لا تَصْنَعوا صورة لي لأنني لَسْتُ من هذا العالَم وبالتالي لا شَيْء يُمْكِن أن تَصْنَعوه يُمْكِن أن يُعَبِّر عن جَوْهَري.
اسْمَحوا لي أن أوضِح نقطة هنا، أعْتَقِد أنها قد تكون مُفيدة لتَوضيح كيف يَجِب أن نَفهَم الرَّب إذًا بما أننا لا نفعل ذلك بالصُّوَر المَرئية. يُعَبِّر أ. ج. هيرشل بِشَكْلٍ جميل: : "جَوْهَر التَّفكير الدّيني اليهودي لا يكْمُن في التَّمَتُّع بمَفْهوم الله، بل في القِدْرة على التَّعبير عن ذِكْرى لَحَظات الاسْتِنارة بِحُضوره. إن بني إسرائيل ليسوا شعبَ مُعَرِّفين، بل شَعب شُهود". أي أن شعب إسرائيل قد شهد بالفعل ما قاله الله له مُباشرة، وشَهِد بالفِعْل أعمال الله العظيمة نيابةً عنه، ثم انْتَقَلَت هذه المعلومات بِشَكْلٍ مَوثوق من جيل إلى جيل؛ لقد كان ذلك عن طريق شُهود عيان من مئات الآلاف (بل الملايين) من الناس العادِيّين على أن تَوراة الله هي بالفعل وَحْيٌ مُباشَر من الرَّب.
لا اليهوديّة ولا المسيحيَّة تبني دِيانَتَنا على الفِكْر التَّخْميني والفلسفات الدّينية الكُبرى (على الرَّغم من أن كلاهُما قد أُصيب بهذا على مرّ القُرون، وجِزْء من هَدَف فَصْل التَّوْراة هو التَّمْييز بين الحَقيقة والتَّقليد)؛ بل يَجِب أن يكون إيماننا مَبْنِيًّا على الخِبْرة الفِعْلِيَّة مع الله: سواءً خِبْرة آباءنا المؤمِنين أو خِبْرتنا الشَّخْصيَّة مع الله. لقد سَمِع بنو إسرائيل فِعْليًّا كلام الله، والمؤمِنون بيسوع قد نالوا فِعْليًّا روح الرَّب القُدّوس. كِلَتا هاتين الخِبْرَتَين قائمتان على العلاقة. لم تَكُن ديانة اليهود أبدًا مَبْنِيَّة على بعض الإتْباع الميكانيكي لِشَريعة قانونيّة، ولم تَكُن مَبْنِيَّة على رُموز إلَهية مُقَدَّسة، بل كانت مَبْنِيَّة على علاقةٍ اخْتِباريّة تاريخيّة مع يَهْوَهْ. كان إتباع تلك الشَّرائع مُجَرَّد اسْتِجابة مُلائمة لهذه العلاقة، تمامًا كما يَجِب أن تكون اسْتِجابة المؤمِن الحديث المُلائمة لخَلاصِنا هي الطّاعة أيضًا.
ولذلك، يَقول موسى، أنتم (بني إسرائيل) لم تَروا شَيْئًا من الله في جبل سيناء ولَكِنَّكم سَمِعْتُم كلامَه مُباشرةً من صَوْته. هذا لا يعني أنه لم تَكُن هناك تَجْرِبة بَصَريَّة رافَقَت ذلك. رأى بنو إسرائيل النّار والدُّخان، وأظْلَمَت السَّماء كالّليل. الفِكْرة هي أن حُضور الرَّب أَحْدَث تأثيرًا لا يُنتَسى لأنه كان مُصَمَّمًا للقيام بذلك. تأثَّرَت الطَّبيعة نَفْسها بِسَبَب قوَّة الله وحُضوره. كان من المُفْتَرَض أن يُثير الرَّهبة والخُشوع والخَوْف الصُّحّي. أنا فقط أَكْرَه عندما أسْمَع بعض المَسيحِيّين ذوي النّوايا الحَسَنة يقولون إنه منذ مَجيء المسيح لم يَعُد لدينا سَبَب للخَوْف من الله. يا لِلْعَجَب. لا يوجَد الكثير من العقائد أخْطَر من هذه العقيدة. من الأفضل أن تَخافوا الله. كل الرُّسُل كانوا يَخافون الله. يا إلَهي، حتى الوَثَنيّون الأوائل الذين قَبِلوا إلَهَ اليهود كانوا يَدعون خائفين الله.
وتَسْتَمِرّ الآية الخامسة عشرة في تَحذير موسى بأن لا تَصْنعوا صورة يَهْوَهْ لأن بني إسرائيل لم يَروا شَكْل الله قَط. ضَعْ في اعْتِبارك أن موسى لا يَتَحَدَّث عن صُنْع صُوَر لآلِهةٍ زائفةٍ أو وَثنيّة. أليس من المُثير للاهْتِمام أن هذا الأمْر والتَّحْذير بالذّات يأخُذ وقتًا طويلاً في جَدْوَل أعمال موسى؟ حسنًا يَجِب أن يكون كذلك؛ لأن الفَشَل في الحِفاظ على هذا الأمْر أدّى إلى مَوت عشرات الآلاف من بني إسرائيل في البريَّة، وسيَحْدُث ذلك مِرارًا وتِكرارًا بانتظام ويُنْذِر بالخَطَر لأن الشَّعب لم يأخُذ هذا التَّحْذير بِجَدِّية كافية.
فيما يَتَعَلَّق بالله، فإن عِبادة الأصْنام خَطيرة لأنها تُسيء إلى قَداسته. أما فيما يَتَعَلَّق بالبَشَر، فإن عِبادة الأصْنام خَطيرة لأن الله أوْصى بأنّها جريمة كُبْرى. عِبادة الأصْنام خَطيرة على عِدَّة مُسْتَويات؛ هذه هي المُشْكِلة فيها. إنني أشْعُر بالفُضول: هل تَفْتَرِض أن بني إسرائيل في يوم من الأيام لم يَصْنَعوا صُوَر آلِهة على الإطْلاق، وفي اليوم التالي اسْتَيْقَظوا من نَوْمهم وبَدأوا في صِنْع الأصْنام وأخْرَجوها بالآلاف؟ هل من المُمْكن أن يكونوا قد عَقَدوا العَزْم على عَدَم صُنْع الأصْنام يوم الإثنين، لكنَّهم في يوم الثلاثاء عَقَدوا اجْتِماعًا وقالوا: "مَهْلاً، لقد خَطَرَت لي فِكْرة، لِنَبْدأ في عِبادة الأصْنام "!
هذه ليست الطَّريقة التي يَعْمَل بها البَشَر، أليس كذلك؟ نبدأ بتَصْميمٍ على الطّاعة ولكن مع مُرور الوقت نَجِد سَبَبًا لتقديم تنازُلات صغيرة جدًا هنا وهناك. نُبَرِّر ونُناقِش ما معنى "هو"، ونَقوم بتحليل الأمور حتى أدقّ التفاصيل لإثْبات قَضِيَّتنا، وسُرْعان ما نأخُذ المَزيد من الحُرِّية. نَنْظُر حَولنا ونُلاحظ أن الله لم يَضْربنا بعد، لذا نَعْتَقِد أن كلّ شيء على ما يُرام ونَخْطو الخُطْوة الصغيرة التالية. ظلَّ بنو إسرائيل قُرونًا طويلة يُسَيِّرون الأمور من دون جُهد ويَتعدّون تدريجيًا على شرائع الله التي تُحَظِّر عِبادة الأصْنام. لا شيء سَيِّء بشكل واضِح حَدَث في الآونة الأخيرة، لذلك أَخَذوا المَزيد من الحُرِّيات. وفَجأة حَصَل النَّفي. والمُثير للاهْتِمام هو أنه على الرّغم من تَحْذيرات الأنْبِياء بالكَفّ عن عبادة الأوْثان وإلّا عانى بنو إسرائيل من العَواقِب، إلا أن الشَّعب رَدَّ بِشَكْلٍ عام بـ "أي عبادة أوثان"؟ لقد فَكَّروا، مَهْلاً، نحن جميعًا نُحِب ونَعْبُد يَهْوَهْ. قد يكون لدينا هذه الرُّموز الصغيرة المَوجودة حَولنا، ولكن لا يُمْكِن أن تكون ما كانت تَدور حَوله هذه الوصايا؛ فهي تبدو غير مؤذِية. ولكن في اللّحظة التي حَلّت فيها الدَّيْنونة الإلَهية، ضَجَّ الشَّعب وصَرَخوا وهَتَفوا إلى الرَّب قائلين: "لقد أخْطأنا". عَرِفوا على الفَور ما فَعَلوه.
ما الذي أُحاوِل الوُصول إليه؟ لاحِظوا بعض الأَمْثِلة التالية بأن الرَّب كان يَعْرِف أن العِبْرانيِّين سيَنْجَذِبون إليه في الحال ويَسْتَخْدِمونه ليَصْنَعوا له صُوَراً؛ لذلك يقول: "لا تُفَكِّروا حتى بذلك". الآية السادسة عشرة: "لَا تَصْنَعُوا صُورةً فِي أَيِّ شَبهٍ كَان". يبدو ذلك شامِلاً جداً. بعد ذلك بقليل في نفس الآية "لا صورةُ رَجُلٍ أو امرأة". حسنًا، يبدو أن هذا بالتأكيد يَحِدُّ من التَّماثيل الدّينية. الآية السابعة عشرة: "لا صورة لحيوان يَدبّ على الأرض ولا طَيْر". فَهِمت. والآن، عندما انْتَهى الأمْر بالعِبرانيّين إلى صُنْع صُوَر آلِهة من البقر والطيور وكل أنواع الأشياء الأخرى، هل كانوا يَعْتَقدون حقًا أن هذا هو شَكْل الله؟ لا، لم يَعْتَقدوا ذلك. لم تَكُن الحيوانات سوى تَمْثيلاتٍ رَمْزِيَّة مَقْبولة بِشَكْلٍ عام لِصِفات الله، وليس مَظْهَره الجَسَدي الفِعْلي. لم يَعْتَقد العبرانيّون أن الله كان يُشْبِه نِسْرًا أو خَروفًا أو حَيَّة نُحاسيَّة، بل إن ذلك إنَّما كان يُمَثِّل أن الرَّب كان يَرْتَفِعُ فَوقهم في السَّماوات، وأنه كان طَيِّبًا ولطيفًا من ناحية، وقادِرًا على القَتْل (أو الشِّفاء) في الحال عندما تَهْجُم حيَّة من ناحية أخرى. يقول الرَّب هذه هي عِبادة الأَوْثان.
والآن انْظُروا إلى الآية الثامِنة عشرة. يا إلَهي. مِثال آخر على شَيْء مُغْرٍ ولكنه مَحْظور يُمْكِن أن يُستَخْدَم كَرَمْز للإله . "سَمَك!" دَعني اُفَكِّر؛ لا يُمْكِن أن يَعْني ذلك سَمَكَتي، لأنني لا أعْبُد سَمَكَتي كَصورة للإلَه. الآن، قد يكون رَمْز سَمَكة ذلك الرَّجُل الآخر خاطئًا لكن سَمَكتي تُذَكِّرُني بإيماني. سَمَكَتي تَرْمُز فقط إلى عَمَل مُخَلِّصي، الذي هو الله، أنه صَيّاد البَشَر. إنها تَرْمُز فقط إلى صِفَة.
هل تَرون المُشْكِلة هنا؟ جَميعكم تَعْرِفون السَّمَكة التي أتَحَدَّث عنها. المُشْكِلة هي هذه: نحن لا نَعرِف دائمًا متى نكون قد عَبَرْنا الخَطّ الإلهي في الرِّمال. وذلك لأنَّنا لَسْنا نحن من يَرْسُم الخَطّ أو يَحْكُم عندما يتمّ انْتِهاكه. إن ارْتِداء رمز السَّمَك ليس بالضَّرورة عِبادة صَنَم، ولكن يُمْكِن أن يُصْبِح عبادة صَنَم. لم يَكُن هناك الكثير من بني إسرائيل في زَمَن الكِتاب المُقَدَّس الذين اعْتَرَفوا بِعِبادة الأوْثان. عندما تَوَسَّل الأنْبِياء إلى بني إسرائيل أن يَتَوقَّفوا عن عِبادة الأوْثان لم يَعْتَرِف مُعْظَمهم بذلك لأنهم خَدَعوا أنْفُسهم باعْتِقادهم أنهم كانوا يُسَيْطْرِون على كل شيء. أنَّ ما كانوا يَفْعلونه ربَّما كان قريبًا من الحدّ، لكنه لم يَكُن فوق الحَدّ. ثم، فَجْأةً! الحِكْم! وفَكَّروا جميعًا، "كان يَجِب أن أكون أكْثَر انتباهًا" بَعدَ فَوات الأوان.
يقول موسى لا تَدْخُلوا في رَبْط الصِّفات الإلَهيّة بالنُّجوم أو الشَّمْس أو القَمَر. لا يَعني ذلك أن هذه الأَجْرام السَّماويّة لم تَكُن مَخلوقة من الإله لأغْراضٍ إلَهية (لقد كانت كذلك). ولكن نحن أيضًا كذلك ونحن بالتَّأكيد لَسْنا من طبيعةٍ إلهِيَّة! هل أنت مُهْتَم بِعِلم التَّنْجيم؟ كن حَكيمًا واتْرُكه الآن؛ إنه مُنْحَدَر زَلِق. انْظُر: المَبْدأ الأساسي هو أننا لا نَعْبُد أي شيء مَخْلوق، وبما أن الله خَلَق كل شيء ما عدا نَفْسه، فعَلَيْنا أن نأخُذ هذا الأمْر على مَحْمَل الجَدّ. إذًا هذا النَّهي يَشْمُل عِبادة الملائكة والشَّياطين والرِّياح والقِدّيسين والسَّماوات والقَساوِسة والمُعَلِّمين وحتى الإنْجِيليِين.
هناك بيانٌ مُدْهِشٌ في الآيتين التاسعة عشرة والعشرين؛ يقول الكِتاب المُقَدَّس أن بني إسرائيل لا يَسْجدوا للنُّجوم والقَمَر لأنَّها كانت مُخَصَّصة للعبادة من قِبَل الأُمَم الأخرى؟ يا إلَهي ماذا يَعني ذلك؟ إن الفِكْرة هي أنه كان من الطَّبيعي، وإن كان ذلك خَطأً، أن يَنْدَهِش البَشَر من الأجْرام السَّماويَّة لِدَرَجةٍ أن الاسْتِجابة لم تَكُن سوى السُّجود لها. وأنه لو لم يَكُن الرَّب قد أعْطى تَعْليمًا بِعَكس ذلك، ولو لم يَكُن قد أعْطى نَفْسَه كمَوضوع للعِبادة، لانْجَذَب البَشَر إلى عبادة هذه الأجْسام مثل انْجِذاب العِثَّة إلى اللَّهَب. ولكن بما أنه ميَّزَ بني إسرائيل؛ وبما أنه أخَذَ على عاتِقِه أن يُعْطيهم شَيْئًا لم يَكُن لدى أي أُمّة أخرى (تَوْراتهم)، فقد كان من واجِب بني إسرائيل أن يَتْركوا عِبادة هذه الأشياء الرائعة والمَخْلوقة وأن يَتَمَتَّعوا بامْتِياز مَعْرِفة أن الشَّيء الوحيد الذي يَسْتَحِقّ العِبادة هو الله المَوْجود بِذاته، يَهْوَهْ.
سنُنْهي الإصْحاحْ الرابِع في الأسْبوع القادِم.