سِفْر العَدَد
الدرس الرابع والعشرون – الإصْحاحان عشرين وواحد وعشرين
بعد الفاصِل الذي جاء في الإصْحاحين الثامن عشر والتاسع عشر من سِفْر العَدَد، والذي سعى إلى تَوضيح أن الكَهْنوت الذي أسَّسَه الرّب كان دائماً ومَطلوباً؛ وإصدار وإعادة إصدار بعض التَّعليمات المُتَعلِّقة بالقداسة والتَّطهير والطبيعة الخطيرة جداً للنَّجاسة الناجِمة عن الموت، يعود الإصْحاح عشرين مرَّة أخرى الى الرّحلة الفِعليَّة لبني إسرائيل نحو أرض الميعاد.
ما نحن على وَشَكِ قراءته يَحدُث بعد حوالي أربعين سنة من هُروب بني إسرائيل من مِصر، وبالتالي فإن زمن تَيْهَهُم يَقترِب من نِهايته.
نقرأ الإصْحاح عشرين من سِفْر العَدَد كلّه
يَصِل بنو إسرائيل إلى أقصى الحُدود الجنوبيّة لمنطقة كنعان، وهم يَقتربون من وِجْهَتِهم. يُطلق على المكان اسم قاديش، وعادةً ما يُعتبر المكان هو نَفسه قاديش – بارنيا. كانت هذه مِنطقة صَحْراوية، وقيل لنا أن هذا المكان كان يُعتبر أنه في برِّية زِين. حيث تنتهي برِّية باران، تبدأ برِّية زِين. إذن، كان بنو إسرائيل بِشَكْل أو بآخر على الحُدود بين مِنْطقتَيْن.
بدون أي تَعليق تقريبًا، وبدون أي انْفِعال، قيل لنا أن مَريم (أخت موسى وهارون) ماتت ودُفِنت هناك. تَختلِف النصوص العبرية ، وخاصةً الكِتاب المُقَدَّس ، اختلافًا كبيرًا في كثير من النواحي عن النُّصوص الأخرى في عَصره ولِفَترةٍ طويلة في المُسْتقْبل. عندما نقرأ الرِّوايات التاريخيّة المِصْرِيَّة أو الحثيّة أو العربيّة أو لاحِقًا اليونانيّة والرومانيّة، فإنها تَسهب في الحديث عن الظُّروف المُحيطة بالوفيّات والمعارك. تمامًا مثل أفْلامِنا الهوليووديّة الحديثة التي تَميل إلى التركيز على الصِّراع والمذابح، لأن الناس يَجِدون ذلك أكثر تشويقًا من تطوير الشَّخْصِيَّة وإرساء المبادئ، هكذا كان الأمر منذ زمَن بعيد. ومع ذلك، لدينا هنا مثال رائع على كَيْفِيّة تَعامُل الكِتاب المُقَدَّس مع هذه الأمور: ربما تموت الشَّخْصِيَّة النِّسائية المَرْكزيّة في العهد القديم، مريم (إذا اسْتَثْنَينا حواء كَفِئة خاصة)، ولا يُذكر الأمر أكثر من مُجَرَّد سجلّ حِسابي ثانوي. قد نقول في ردّ فعل غير مَحسوب أن السَّبب في ذلك هو أنها كانت امرأة، في مُجتمع يُهَيْمِن عليه الذُكور، وبالتالي لم يَكُن لها قيمة تُذْكَر؛ ولكنّنا لا نحصل على المزيد من الإسْهاب بِشَكْل مَلْحوظ عندما نأتي إلى وفاة موسى أو هارون أو العديد من الشَّخْصيّات التَوْراتيّة الرئيسيّة الأخرى من الذُّكور، لذا فإن الجِنس ليس هو المشكلة.
إنه لَأَمْرٌ مُدْهِش حقًا، أو مُثيرٌ للسُّخرية، أو ربما كلاهما معًا، أن الشَّخْصِيَّة الأُنْثوية المِحْوَرية في كل من العَهْدَين القديم والجديد تَحمل كل منهما اسم مريم. لأن والدة يسوع، التي تَميل المَسيحيَّة إلى تَسْمِيَتها مريم، كانت يهودية؛ لكن مريم لم يَكُن اسمًا يهوديًا. كان اسمها العبري الحقيقي والفعلي هو ميريم.
وكما رأينا مِرارًا في رِحلة بني إسرائيل، مرَّة أخرى هم بحاجة إلى الماء. ومرَّةً أخرى يَذهبون إلى موسى ويُريدون أن يَعرفوا ما الذي سيفعله حيال ذلك. ومرَّةً أخرى يُعَبِّرون علانيّةً عن ضيقِهم من إخراجهم إلى مكان قاحِل، في حين أن ما كانوا يَتوقون إليه كان وَراءهم في مصر. هناك في مصر، كما يقولون، كان لديهم الكثير من الطَّعام ، التّين والعِنَب والرّمان والأكثر صِلة بهذه القِصَّة، الكثير من الماء. كان العَيْش على ضِفاف النّيل يعني أنهم لم يَعْطَشوا أبدًا لما يكفيهم من الماء.
لم يَعرِفوا ماذا يَفعلون غير ذلك، ذهب هارون وموسى إلى خَيْمَة الإجتِماع وهناك وَقَعوا على وُجوههم ساجدين طالبين مَجْلِس الرّب. ويَظهر لهما يهوذا ويتحدَّث إليهما. وفَحْوى الحديث هو أن يأخُذ هارون عصاه، قضيبه، (ذلك الذي بَرْعَم) ويسير نحو صَخرة بارِزة كانت قريبة. وكان عليهم أن يَجمعوا جماعة بني إسرائيل كشُهود على ما كان على وشَك أن يَحدُث؛ ثم كان على موسى أن يَتكلَّم…..أو من الأفضل أن يأمُر الصَّخرة بأن تفور بالماء.
فَعَل موسى كما قيل له. أخذ العصا وذهب إلى الصَّخرة، ثم شَرَع في التَّحَدُّث بِقَسوة شديدة إلى الشَّعب. في الأساس، قال: "أنتم دائمًا ما تأتون إليّ مُتَذمِّرين وتتوقَّعون مني أن أعالِج لكم كل شيء". وبطريقة أو بأخرى، حتى في المكان الذي لا يوجد فيه ماء، من المُفْتَرَض أن أصْنَعه لكم وأُصْلِح هذه المشاكل كما لو كنت أنا مَن صَنَعها في المقام الأول". ثم اسْتدار وضَرَب الصَّخرة بعصا هارون، مرَّتَين، فتدفَّقَت كميات هائلة من المياه على ما يبدو. لأنه من أجل بقاء ثلاث ملايين شخص وكُل تلك الحيوانات على قَيْد الحياة، يُقَدِّر ضابط تموين الجيش الأمريكي أن الأمر يَتَطَلَّب ما يُقارِب إحدى عشر مليون جالونًا من المياه، كل يوم!
حسنًا، لقد كان الشَّعب سعيدًا بما فيه الكفاية؛ ولكن اتَّضَح أن الرّب لا يَشعر بنفس الشُّعور تجاه ذلك. لقد أبلغ موسى وهارون أنه بِسَبَب عدم تأكيدهما على قداسة الله أمام جماعة بني إسرائيل، لن يَدْخُل أي منهما أرض الميعاد. ليس لدينا أي تسجيل لِرَدّ أو رَدّ فعل من موسى أو هارون، ولكن يُمكن للمَرْء أن يَتخيَّل صَدْمَتهما واكْتِئابهما من هذا القرار الإلهي.
وقد يَرغب أي شخص يَدرس هذا الأمْر في أن يسأل نفسه: لماذا؟ لماذا مثل هذا القرار القاسي من الرّب للرَجُلين اللذين اسْتَخْدمهما واسْتَهْلَكهما إلى حَدٍّ ما لتحقيق أغراضه. ما الذي فَعَله موسى وهارون حتى يَجلبا هذا النوع من الغَضب من الله عليهما؟ الأمر الواضح هو أن موسى عصى الله؛ فقد ضَرَب الصَّخرة التي كان من المُفْتَرَض أن يأمُرها شفهيًا فقط بإخراج الماء. ولكن، يبدو هذا شيئًا صغيرًا جدًا مُقارنةً بالعواقب.
في الحقيقة، هناك العديد من النَّظَريّات التي وُضِعَت لتفسير هذا العقاب المُدَمِّر على موسى وهارون. ومن بين تلك النَّظَريّات ما يلي: أنه في ضَرْب الصَّخرة ضَرَبها مَرَّتَين بدلاً من مرَّة واحدة. وأيضًا أن عُيوب شَخْصيَّته قد ظَهَرت: فقد كان موسى حادّ المزاج، مما جَعَلَه لا يهتم كثيرًا بحاجة الشَّعب الحقيقية (الماء)، وبالتالي رأى أن الأَمْر في الغالب كان مُزعجًا له شخصيًا. والأخرى أنه شكَّ في الله، وبالتالي قال الله له ذلك بالضَّبْط (”لأنك لم تَثِق بي“). وبالطَّبْع فإن الأكثر شُيوعًا هو أنه ضَرَب الصَّخرة بدلاً من أن يُكَلِّمها كما أمَرَه الله.
أعتقِد أن المسألة تَرجع في المقام الأول إلى مَوْقف أظهره موسى أمام بني إسرائيل حيث أثْبَتَ عن غير قَصْد صِحَّة مُعْتَقَد وثني كان يَعْتَنِقه مُعظمْ الناس في ذلك العصر؛ وبذلك فَشِل في إظهار الله على أنه هو الذي يُخْرِج الماء وليس الإنسان. يجب أن نتذكَّر أنه لم يَكُن قد مضى على بني إسرائيل على خُروجهم من مصر سوى بضعة أشهر. كانوا يَتصرَّفون ويُفَكِّرون كمِصريّين أكثر من كونهم عبرانيّين. كان قُبولهم للسِّحر والسَّحَرة راسِخًا في نظام مُعْتقداتهم؛ رجال يَمتلكون قُوَّة خاصة أَعارَتْهم إياها الآلهة. وهكذا كان السَّحَرة يتباهون دائمًا باسْتِخدام التَّعويذات المَصحوبة بجميع أنواع الإيماءات عند قيامِهم بالسِّحر. وبطبيعة الحال، كان هؤلاء السَّحَرة موضع خوف ومُبَجَّلين إلى حدٍّ كبير بسبب القُوَّة التي ادَّعوا امْتلاكها.
لقد نُسِب لموسى وهارون الفَضْل في خروج الماء من الصَّخرة؛ في الواقع في الطَّريقة التي تصرَّفا بها كانا يوحِيان ضُمْنيًّا أن هذا الشيء المُدْهِش حَدثَ بِقُوَّتهما. تقول الآية العاشرة: ”اسْمَعوا هنا أيها المُتَمَرِّدون هل نحن (موسى وهارون) من المُفْتَرَض أن نأتيكُم بالماء من هذه الصَّخرة“؟ ثم ضَرَب موسى الصَّخرة فتدفَّق الماء.
يقول بعض الحُكَماء العبرانيين الكبار أن الخطيئة الكبرى نَتَجَت عن قَوْل موسى: ”" نوتسي" أي ”هل نَسْتَخرِج“ بينما كان ينبغي أن يقول ” يوتسي“، أي ”هل يَستَخْرِج هو“. بقوله نوتسي كان موسى يُعْطي الفَضْل له ولهارون كما لو كانا يَمْلِكان قُوَّة السَّحَرة لاستخراج الماء من الصَّخرة، بدلاً من تَوجيه كل الإكرام والمَجْد إلى يَهوَهْ الذي هو صاحِب القُوَّة.
كانت نتيجة هذه الحماقة العَلَنِيَّة المُتَهَوِّرة أنها انْعَكسَت بِشَكْل سَيِّء على الله. بالتالي يقول الرّب في الآية الثانية عشرة: "فقال أدوناي لموسى وهارون: "لأنكما لم تَثِقوا بي، حتى تَعْتَبروني مُقَدَّسا عند شعب إسرائيل ….. " الماء الذي تمَّ تَوفيره بأُعْجوبَة كان ينبغي أن يكون الماء الذي أُعْطِيَ للشعب من صخرةٍ جامِدة فرْصة أخرى لإظْهار رَحْمة الله ومَحَبَّته وقِدْرَته غير المَحْدودة على العِناية بمن يخصُّه، وكذلك وَحْدانيَّته الثابتة دون البشر أو الآلهة الأخرى. إن القداسة التي كان يجب أن تُمنح ليَهوَهْ أصبحَت مُشَوَّشة في أذهان كل أولئك الذين كان يُمكن أن يَستَفيدوا كثيرًا من الدَّرْس وهو أنه لن يكون بين العبرانيِّين سِحْر أو سَحَرة.
إن الكَلِمَة العبرِّية المُستخدَمة في الآية الثانية عشرة بمعنى "مُقَدَّس" أو (حسب نسختك من الكِتاب المُقَدَّس) ”مُقَدَّس“ هي "كاداش". وبعبارة أخرى يقول الله أنه لم يَكُن كاداش كما كان ينبغي أن يكون في توفير الماء. ومن جذر كَلِمَة " كاداش" تأتي كَلِمَة " كادوش" و" كوديش" وأشكال أخرى تَتَمَحْور كلّها حول مَفْهوم القداسة الصَّعب. وكما أَخْبرتُكُم في درس سابق، فإن جذر كَلِمَة كاداش في الواقع هو عام في معناه ولا يَنْطَبِق إلا على المُقَدَّس إذا استُخدم في هذا السياق. تعني كاداش عمومًا التفريق أو الفصل أو التمييز. وهكذا أَعْطَيتُ مثالاً عن زوجتي التي تَفْصُل الغسيل الداكن عن الغسيل الفاتح عند غسل الثياب، وأن العمل العبري ” كاداش" يُمكن أن يُستخدم بِشَكْل مناسب لِوَصف فعلها في فصل ألوان الملابس قبل غَسْلها.
لقد أراد الله أن يُظهر أنه قائم بِذاته ومُتَمَيِّز ومُنْفَصل عن أي كائن آخر، ولكن بدلاً من ذلك حاوَل موسى وهارون أن يُظهرا نَفْسَيْهما على أنهما مُتَمَيِّزان ومُنفصلان عن بني إسرائيل. لقد أظْهَروا أنفسهما على أنهما يَمْتَلكان بطبيعتهما العديد من قوى يَهوَهْ. وبما أن الله قد حُرِم من حقِّه في مُعْجزة الماء من الصَّخرة، فإن موسى وهارون سيُحرَمان من حقِّهِما في أن يكونا قائدَيْ بني إسرائيل. لأنه عندما تُكْمِل الآية الثانية عشرة تقول: "لَنْ تُدْخِلَ هَذِهِ الْجَمَاعَةَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُهَا لَهُمْ".
يا له من تَحذير هائل وخاصّة لأولئك الذين يَعْتَبِرون أنفسهم مُمَثِّلين لله وقادة جَماعته من المؤمنين على الأرض. كم عَدَد القَساوِسة والمُعَلِّمين والأنبِياء الذين يَدّعون أن لديهم سُلطة وقُدرة خاصَّة بهم يَسْتَخدمونها حسب تَقديرهم الخاص بينما هم في الواقع لا يَمْلِكون سلطة ذاتيّة على الإطلاق أو يَنْسِبون الفَضْل لأنْفسهم في أعمال الله. قبل أقلّ من أسبوع سَمِعْتُ قسًّا على التلفاز كان يَطلب الأموال لخِدمته ويقول إنه إذا أَرسَل له الناس ألف دولار فسيتعهَّد لهم بعائد ثلاثة أضعاف قيمة اسْتِثْمارهم في خدمته وكان يقول بِفَخر أن لديه القُوَّة الرّوحيّة ليَجْعل الله يُعيد لهم بأُعجوبة ثلاثة آلاف دولار إذا أرسَلوا ألف دولار لدعم هذه الخدمة بالذّات.
دَعوني أكون واضحًا جدًا في هذا الأمر: إن عقُوبة موسى لإظهاره مثل هذا المَوقف المُتَغطرِس وأيضًا لتضليل الناس ليَعتقدوا شيئًا ليس هو الحقيقة، بِبَساطة هو أنه لم يُسمح له أبدًا بدخول أرْض الميعاد.
وكما جَرت العادة في تلك الحَقَبة، سُمِّيَ المكان الذي حَدث فيه كل ذلك وِفقًا لما حَدثَ هناك؛ لذا فقد عُرف بإسْم مياه ميريبة (مريبة تعني ”المُشاجرة“). ومن المُدهش أنه على الرغم من خطيئة موسى وهارون لتَعاليهم على الرّب…..وعلى الرغم من مُشاجرة الشَّعب التي اسْتَهدَفَت الرّب في النِّهاية استَخْدَمها لتأكيد الكاداش الخاص به، قداسته. يبدو أن هَدَفَ غَضب شعب إسرائيل وإحباطه كان موسى. ولكن، كما يتم تَذكيرنا باسْتِمرار، مهما كانت مُشكلتنا مع وسيط الله لا تَخْتَلِف عن مُشكلتنا مع الله. إن الطَّريقة التي نَسْتجيب بها لوسيط الله هي نفسها التي نَسْتجيب بها لِيَهوَهْ نفسه.
فجأة في الآية الرابعة عشرة يَتغيَّر المشهد. في المرَّة الأولى التي حاول فيها بنو إسرائيل دخول كنعان قبل ثمانية وثلاثين سنة، كان ذلك من الجنوب؛ في الواقع لم يَكُن بعيدًا عن هذا المكان بالذات الذي هم فيه الآن، قاديش. لذلك قرَّر موسى اتباع نهجٍ مُخْتَلِف؛ سيُحاول الدّخول من الشرق. ولكن هناك مُشكلة؛ فالطَّريق الأقْرَب إلى المكان الذي يُريد موسى العبور منه إلى كنعان، نهر الأردن، يَتَطَلَّب المرور عبر أراضي أدوم. تَقتضي الآداب وحسْن التّدبير أن يتم إرسال مَبعوثين، مُمَثِلين عن بني إسرائيل، إلى مَلِك أدوم ليَطلبوا إذْنه بالمرور عبر أرض أدوم. لذلك يُرسل موسى رِسالة إلى المَلِك في ذلك الوقت: الرّجاء السَّماح لنا بالمرور، فنحن في النِّهاية إخْوَتك.
لم تَكُن هذه مُجاملة ذات مَصلحة شخصيّة، ولم يَكُن قَول موسى لأدوم ”أخًا“ تَملُّقًا مجازيًا أو عَرضًا للصداقة في الشرق الأوْسط؛ بل إن إسرائيل كان أخًا لأدوم. يعقوب هو إسم إسرائيل البديل. أخو يعقوب التوأم، عيسو، هو أدوم. لم تَكُن هذه رَمْزية، لأن أدوم ليس سوى إسْم آخر لعيسو كما أن إسرائيل ليس سوى إسم آخر ليعقوب. إذًا على الرغم من أن الكِتاب المُقَدَّس تَحدَّثَ في المرَّة الأخيرة عن بعض التَّعامُلات بين يعقوب التائب (الذي كان عائدًا إلى وَطَنِه كنعان من بلاد ما بين النهرين) والأخ التوأم عيسو المُسامِح (الذي سَرق يعقوب حقّه)، إلا أنه من الواضِح أن المواقف قد تغيَّرَت خلال القرون الخمسة الأخيرة أو نحو ذلك فيما يَتَعَلَّق بنَسْل عيسو.
من المُثير للاهتمام الآن أن جميع الأدِلَّة (وبعض السَّجِلّات المَصْرِيَّة المَوثوقة) تُشير إلى أن شعب أدوم في وقت الخُروج لم يَكُن لديهم أي مُدُن مُسَوَّرة في أراضيهم. حتى أنه لم يَكُن لديهم سوى عَدد قليل من القُرى الدائمة لأن شعب أدوم كانوا بدوًا رُحَّلًا يُشبِهون البدو إلى حدٍّ كبير. ومع ذلك يتَّضِح من تلك السَّجِلّات نفسها أنهم كانوا شعبًا هائلًا ولم يَكُن لديهم على ما يبدو أي مُشكلة في تكوين ميليشيا كبيرة للدِّفاع عنهم عندما دَعَت الحاجة إلى ذلك. وهذا ما حَدَث بالضَّبط.
على الرَّغْم من طَلَبْ موسى من مَلِك أدوم أن يتذكَّر روابطهم الدَّموية المُشتركة، وَوَعدَه بالسَّلام والاحترام، إلا أن المَلِك رَفض أن يَسْمح لهم بالمرور عبر أرضه. وَعَدَهُ مُوسَى أَنْ لَا يَسِيرُوا على أَيّ طَرِيق سِوَى طَرِيق الْمَلِك، وَأَنْ لَا يَأْخُذُوا حَتَّى مَاءً مِن آبارِ أَدُومَ. وَفِي الحَقِيقَة، سَيُسْرِعُون لِعُبُور أَرْضِهِم. وَجَاءَ جَوَاب الْمَلِك سَريعًا وَحَاسِمًا: "لَا!" وَقَالَ إِنْ حَاوَلْتُمْ العُبُورَ فَسَنُهاجِمُكُم. وَفي سَبيل تَأْكِيد أَنَّ هَذا لَيْس تَهْدِيدًا فَارِغًا، أَرْسَلَ المَلِكُ قُوَّاتٍ كَبِيرَةً لإغْلاق طَرِيقِهم. فَفَهِمَ مُوسَى الرِّسَالَة، فابتَعَدَ بني إِسْرَائِيلُ عَنْ أَدُومَ وَاتَّجَهَوا نَحْوَ مَكَانٍ يُدْعَى جَبَل هور الَّذِي كَانَ في مُحاذاة أَدُومَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أَدُومَ.
هناك خلاف حَول مكان جَبَل هور بالضَّبط. أولاً، من الواضِح أن جَبَل هور هو إسم عام لأن هور ليس سوى كَلِمة مُشتقّة من الكَلِمَة العِبْرِّية هار التي تعني الجَبَل. لذلك إذا أخَذْنا المُصْطَلَح حَرْفِيًّا، فإن المكان الذي ذهبوا إليه كان يُسَمَّى جَبَل الجَبَل. من المُحْتمل أن هذا يُشير فقط إلى أنه أيْنَما ذَهبوا كان أبْرَز معالِم المكان الذي ذهبوا إليه هو جَبَل كبير.
وبالانْتِقال سريعًا، تُخبرنا الأسفار المُقَدَّسة أن الرّب قرَّر الآن أن أيام هارون قد اكْتَمَلَت وسَيَموت هارون عند جَبَل هور. وكما كانت العادة في ذلك العَصر، فإن الكَلِمات التي تُخبرنا عن مَوت هارون المُنْتَظَر هي ”لِيَجْتَمِع هَارُونُ بِعَشِيرَته“. كما ناقشنا في عدد من المُناسبات (ولكنَّني أعْتَقِد أن هذه النِّقطة لا يُمْكِن أن تُذكَر بما فيه الكفاية حتى تترسَّخ في أذْهاننا) إن مَفْهوم ”يَجْتمِع بعَشِيرَته“ هذا كان عِبارة مُرتبطة بِعِبادة الأسلاف. بينما نقول اليوم عن المؤمِن الرّاحِل: ”مات ومضى ليكون مع الرّب“، لم يَكُن هذا الفِكْر موجودًا ولَو من بعيد عند بني إسرائيل لا في الخُروج ولا في الأزْمِنَة اللّاحقة. بل كان الفِكْر والرَّجاء بالأحْرى هو أن جَوْهر حياته الغامِض سَيَحْيا مع أسْلافه، وليس مع الله. لماذا من المُهِمّ أن نَفْهَم هذا الأمر؟ لأن العبرانيين كانوا يعيشون دائمًا على حدّ الوثنيّة، وواجَهوا صُعوبة في التَّخَلُّص من قرون من المُعْتَقدات الوثنيّة التي عاشوا في ظلِّها وأحاطوا بها. إن المَفاهيم التي يَحملها المسيحي العادي اليوم عن المَوت وعن أن يموت (وقائمة طويلة من المبادئ الأخرى) لم تَكُن قد تطوَّرَت بعد لدى بني إسرائيل القُدَماء. فالشَّرائع والوصايا التي تلقّوها من الله أخَذوها في سياق حياتهم ومُعتقداتهم وظُروفهم المَعيشيّة الحاليّة وأضافوها جميعها إلى حياتِهم بِشَكْل عام بِجَرْعات صغيرة فقط، بِشَكْل أو بآخر، تمامًا كما نَميل نحن إلى القيام به في العَصْر الحديث. وكانت مُعتقداتهم في أيام موسى تتطابَق عمومًا مع تلك التي كانت تُمارَس في مصر.
اسْمَحوا لي أن أُعطيكم مِثالاً على ما أقْصده عندما أتحدَّث عن سياق الحياة الذي آمُلْ أن يكون له تأثير ليس فقط في مُساعدتنا على التَّماهي مع هؤلاء العبرانيين في الكِتاب المُقَدَّس، ومُساعدتِنا على التَّفكير بالمُصْطلحات التي كانوا يُفكِّرون بها كما نقرأها في الكِتاب المُقَدَّس، ولكن أيضًا عندما نتعامل مع الإخوة والأخَوات المَسيحيّين في العصر الحديث الذين يعيشون خارج الولايات المتحدة في ثقافات تتعارَض تمامًا مع ثَقافتنا، يَميل المؤمنون الأمريكيون (على وَجْه الخُصوص) إلى الإعْتقاد بأن وُجُهات نَظَرِنا وعَقائِدِنا وتقاليدنا هي وُجُهات النظر والعقائد والتقاليد الصَّحيحة، وكل ما عَداها خطأ أو غير صَحيح. على سبيل المثال: الكنيسة الأمْريكيّة تميل إلى الرَّخاء والازْدِهار. بِشَكْلٍ عام، يُمكن تلخيص عقيدتنا في هذا الصَّدَد بالقَول إن الرَّخاء ليس فقط مأمولاً بل (في كثير من الحالات) نِعْمة مُتَوَقَّعة من الرّب كَمُكافأة على إيماننا وثِقتنا به. وأنه إذا لم يَكُن لدينا رخاء مادّي فغالبًا ما يُنظر الى ذلك على أنه علامة خارِجية على افْتِقارنا الشَّخصي للإيمان أو الإلْتِزام تجاه الجماعة المحليَّة أو تِجاهَه. وبِعِبارة أخرى في أمريكا نتوقَّع أن تَشمل بَركات الرَّخاء (أو حتى تتمَحْوَر بالكامِل حول) الثَّرْوة المادية. فالسَّيارات الجميلة والمنازل الكبيرة والملابِس الفاخِرة والوظائف ذات الأُجور المُرْتَفِعة وما إلى ذلك، هي مُؤشِّرات (على الأقل جِزئيًا) على مَكانَتِنا عند الله. وبالتالي إذا كان لَدَيْك القليل من الازْدِهار، فلا بُدّ أن يكون لَدَيْك القليل من الإيمان وبالتالي مكانة قليلة عند الله.
في حين أن الكنائس الأوروبية والشَّرْقِيّة لديها أيضًا نُسْختُها الخاصة من عقيدة الرَّخاء، إلا أن كنائسهم تتعلّق بالصّحة والسَّلام والأطفال والرَّفاهية. في الواقع، الكنائس الأوروبية والشَّرْقِيّة هي ضدّ الازْدِهار المادي. إنهم يرون أن امْتِلاك الازْدِهار المادّي الشَّخْصي هو أمْرٌ فاحِش وَوَثَني، ويَتعارَض تمامًا مع تعاليم المسيح. فيُنْظَر عُمومًا الى المسيحي الذي حَقَّق ازْدِهارًا مادّيًا جيدًا بازْدِراء ويُعتبَر إيمانه مَشكوكًا فيه. إن الصّلاة من أجل الازْدِهار المادّي أو السَّعي إلى الازْدِهار المادّي أمْرٌ لا يُمْكِن تَصَوّره بالنِّسْبة لهم؛ سيكون ذلك قِمَّة الإرْتِداد في تفكيرهم. لماذا هذه الاخْتِلافات الهائلة بين نَظْرة الكنيسة الأمريكية لِمَكانة الازْدِهار في عَقيدتنا مقابل جميع الكنائس الأخرى تقريبًا في الأُمَم الأخرى على هذا الكَوكب؟ سياقاتٌ حياتِيَّة مُختلِفة.
مُجتمَعنا الأمريكي هو مُجتمَع مُوَجَّه نحو الثَّروة من الأعلى الى الأسْفَل. من وِجْهَةٍ نَظَر عِلْمانِيَّة فقط يُنظَر إلى الأمريكيين الذين لا يَمْلكون الأشياء التي نَرغب فيها على أنهم مَحْرومون ومُهَمَّشون. وهَدَفُنا بِشَكْل عام هو أن نَسْعى دائمًا للحصول على المزيد حتى يكون لدينا تَوَقُّعات بشأن حياتنا بأننا سنَحْصُل غدًا على أكثر ممّا كان لدينا بالأمس. ونحن كَمَسيحيِّين لدينا مُساعدة من الله ليُساعِدنا على تحقيق هذا الازْدِهار المادّي المُهِمّ جدًا بالنِّسْبة لنا. هذا هو سِياق الحياة الأمريكية.
أما في أوروبا والمُجْتَمعات الشَّرْقِيّة التي هي أكثر اشْتِراكية في تَفكيرها، فالأقلّ هو الأكثر. في الواقع بالنِّسْبة للمَسيحي الأوروبي الأقلّ هو أكثر تَقوى. المُساواة ليست تَكافؤ الفرَص للتَّقدُّم؛ المساواة تعني حَرْفِيًّا أن يعيش الجميع في نفس الحالة. يجب أن يتقاضى الطَّبيب نفس الأجْر الذي يتقاضاه الحارِس. يجب أن يَحصل عامِل في مَنْجَ فحم على نفس حَجْم الشِقّة التي يحصل عليها المدير التنفيذي لشَركة. يجب ألّا يكونَ هناك غَنيٌّ وفَقير. إذا كان لديّ ما يكفي من الطَّعام، فيجب أن يكون لَدَيْك أنت أيضاً. إن رَخائي، بِحِكم التَّعْريف، يأخُذ من رَخائك لأن الاقْتِصاد في ظِلّ الاشْتِراكية هو لُعبةٌ مُحَصّلتها صِفْر، فهناك كمِّيّة محدودة من الموارِد التي يُمكن أن تتوافَر. الهدَف هو الاكْتِفاء المُتَساوي للجَّميع. هذا هو سياق حياتهم (من الواضح أنني أُعَمِّم لأن الأمور ليست بتلك البَساطة والتَّرْتيب).
إذَن، أي مَذْهَب من مَذاهِب الرَّخاء هو الصَّحيح؛ الأمريكي أم الشَّرْقي والأوروبي؟ حسنًا، لن نُناقش ذلك اليوم. النِقطة المُهِمّة هي أن وُجهة نَظَرنا المَسيحيَّة الأمريكية ووُجهة نَظَرهم المَسيحيَّة الشَّرْقِيّة حول الازْدِهار تمَّ تَكييفها مع واقع مُجتمعاتنا وليس العكس. لذلك كان ما قالَه الله للعبرانيين القدماء مُهِمًّا، فقد أخذوه في سياق حياة مُعتقداتهم القديمة، وليس كَبَديل كامِل للمُعتقدات القديمة. فهم لم يُزيلوا بطريقة أو بأخرى قُرونًا من الأفكار التي كانت في أذْهانهم حول ما بدا لهم أنه مُعْطَيات بَديهيَّة عن الحياة وعالَم الآلهة، بل أضافوا إليها ما أعْطاهم إياه موسى في جَبَل سيناء.
لذلك كان من الطَّبيعي أنه بما أن هارون كان رَجُلاً صالحًا، فمن الطبيعي أنه عندما توفي، سيذهب جوهر حياته كمُكافأة ليعيش مع أفراد عائلته الذين رحلوا وأقاربَه المُتوفّين من الأجداد. وبما أن بني إسرائيل كانوا على وَشَك دُخول أرض الميعاد، وبما أن هارون (وموسى كانا مُستَبْعَدان بسبب خطيئتهما الكبيرة المُتَمثِّلة في ضرب الصَّخرة بعصا هارون وأخِذْ الفضل الشخصي في الماء الذي خرج منها، فقد حان الوقت لاستبدال هارون. كذلك أمَرَ الرّب أن يَخْلع هارون ثياب رئيس الكّهَنَة ويُسَلِّمُها إلى إليعازر، ابنه، الذي سيتولَّى المَنْصِب كرئيس الكّهَنَة الجديد.
فَعَل موسى ما أُمِر به، وقاد إليعازر وهارون إلى قِمَّة جَبَل هور. وتُشير الآية السابعة والعشرين إلى أن جماعة بني إسرائيل كلُّها شَهِدت هذا الحدث. مات هارون على الجَبَل وأصبح إليعازر رئيس الكّهَنَة الجديد. يُرجى ملاحظة أمْرَين: أولاً، كما هو الحال مع مَوْت مريم، فإن مَوْت هارون هو بِبَساطة أمْرٌ واقع. لا يوجد تأبين. ليس هناك سَرْد لتَضْحيته العظيمة وخِدْمته العظيمة للرَّب وشعب إسرائيل. هذه هي مُعالجَة الكِتاب المُقَدَّس المُعتادة لوفاة جميع شخصيّات الكِتاب المُقَدَّس العظيمة. النّقطة الثانية: كان هارون رَجُلاً مَحظوظًا. لقد عاش ليَعرف أن ابنه سيَخْلفه كرئيس للكهنة. ولكن كما سنَكْتَشِف قريبًا، لم يَنَل موسى مثل هذا الشَّرَف. لقد كانت خُلافة الابن لأبيه تقليدًا عزيزًا كان يأمَله الأب. أن يوَرِّث الأب عَمَله أو عباءة الزَّعامة لابنه ليَخلفه لا يزال يعني لنا شيئًا في عَصرنا، ولكنه كان كل شيء في العُصور القديمة. لا بُدّ أن كون أبناء موسى لم يُصبحوا القادة الجُدَد المُعَيَّنين من الله لبني إسرائيل كان مُخَيِّبًا للآمال كثيرًا بالنِّسْبة لموسى.
عندما نزل موسى وإليعازار من الجَبَل من دون هارون، عَرفَت أمة إسرائيل أن هارون قد مات، وهكذا حَزِن كل بني إسرائيل لمُدَّة ثلاثين يومًا. لماذا صَعَد موسى والآخرون الى الجَبَل من أجل هذا الحَدَث؟ حسنًا، كما لاحَظْتُم على الأرْجح، فإن المُغامرات الرّوحيّة العظيمة في سِفر التَّكوين تَحدُث على قِمَم الجبال. جزء من ذلك، لأنه كان يُعتقد أن الآلهة تعيش على قِمَم الجبال. كما ذَكَرْت قبل أسبوعين، يُعتَقَد الآن أن إل شداي يعني إله الجَبَل. إن دعوة الله لموسى وهارون وإليعازر للصُّعود إلى قِمَّة الجَبَل تُشير إلى أن هناك حَدَثًا روحيًّا عظيمًا كان يَحدُث في حَضْرة الله. ومع ذلك لم يَكُن الله يَسكن على قِمَّة الجَبَل الآن؛ كانت خَيْمَة الإجْتماع هي مَسْكنُه الأرضي. لماذا لم يَدْعِهِم الله إلى خَيْمَة الاجتماع كمكان مناسب لموت هارون؟ كان من المستحيل أن يموت هارون في منطقة خَيْمَة الاجتماع، وإلا كان ذلك سيُدَنِّس قداسة الله. لذلك كان لا بُدّ أن يكون على قِمَّة جَبَل، مكان مُرتفع يُسَمّى بالعبرِّية بيماه، أن يتم هذا التغيير المُهِمّْ للقيادة.
لنَنْتَقِل إلى الإصْحاح الواحد وعشرين.
نقرأ الإصْحاح واحد وعشرين من سِفْر العَدَد كلّه
انتهَت فترة الحِداد على هارون التي استمرَّت ثلاثين يومًا، وهكذا يتحرَّك بنو إسرائيل مرَّة أخرى ولكنهم لا يَبتعِدون كثيرًا. بِبَساطة لا توجد طريقة لإخْفاء حَرَكة ثلاثة ملايين شخصًا؛ لقد انتَشر الخَبَر وجميع السُّكان الأصليّين في كنعان والمناطق المُحيطة بها يُراقِبون بني إسرائيل كالصُّقور. كلُّ واحدةٍ من هذه الأُمَم كانت ستُرسِل الكشّافة لترى إلى أين سيذهب بنو إسرائيل. لم تَكُن نوايا بني إسرائيل في الإنتقال إلى كنعان سِرًّا؛ كان الأمْر بِبَساطة مسألة الطَّريق واستراتيجية الغزو.
لم يَنتظِر مَلِك كنعاني لم يُذكر إسْمه، وهو مَلِك منطقة تُدعى عراد، تحَرُّك بني إسرائيل نَحْوَه، ولذلك قام بِهُجومٍ اسْتِباقي. عراد هي منطقة تقع في النَّقَب، وتقع عاصِمة عراد على الجانب الغربي من التِّلال التي تَفصل بين الوادي المتصدَّع الكبير المُسَمّى عرابة والسُّهول الساحليَّة للبحر الأبيض المُتَوسط. في البداية، انتصرَت قوّات عراد وأخذت بعض العبرانيين أَسْرى. لم يَكُن بنو إسرائيل قد اخْتَبَروا المعركة بعد، ولذلك من المُحْتَمَل أنهم لم يُقاتِلوا بِشَكْلٍ جيِّد على الإطلاق. ولكن هذه ستكون نقطة تَحوُّل؛ وفي ردّ مناسب على مُشكلتهم، تتوجّه الجماعة كلّها إلى الله وتَقْطع على نفسها عهدًا بأنّها، إن قادَها إلى النَّصْر، فسوف تُقدّم له كل الغنائم التي تأخُذها من العدو. ألقِ نظرة على الآيتَيْن الثانية والثالثة. ستقول مُعْظَم الترجمات أنه إذا سلّمهم الرّب الشَّعب الكنعاني، فسوف يُدمِّرون مُدُن العدو. ثم تقول بعد ذلك أن الرّب قَبِل نِذْرَهم وسلَّم الكنعانيين، وهكذا دُمِّرت مُدنهم ولذلك سُمِّيَ المكان حُرْمَه، أي دمار.
في الواقِع لم يَكُن النِّذر بالضَّرورة أن يُدَمِّر بنو إسرائيل المُدُن، بل كان النِّذر أن يَضَعهم تحت الحَظر". والكَلِمَة العبرِّية هي ”هورم“، وما يُشير إليه ذلك هو فِعْل إنكار الذات بِشَكْل كبير. إنكار الذات هو أنه سيكون هناك حَظْر على المُدُن بحيث لا يستطيع بنو إسرائيل نَهْبها لأنفسهم. كان جَيش بني إسرائيل عِبارةً عن ميليشيا؛ كان كل رَجُلٍ يُسَلِّح نفسه ويزوّد طعامَه بِنَفسه. لذلك كلَّما تم الاسْتيلاء على مدينة مُعادية، عادةً كان الجُنود المُنْتَصرين يَنْهبون المدينة وكل ما كان يُمْكِن أن يأخذه كل رَجُلٍ لنفسه كان مُكافأة له (أجْره في الواقع) على خِدْمته والمُخاطرة التي قام بها. لكن ما فَعَله بنو إسرائيل هو أنَّهم كانوا يُقَدِّمون لله كل غنائم المُدن التي استَوْلوا عليها مقابل تأكيده الخارِق للطّبيعة على النَّصر. وبالمناسبة، لقد دَمَّر بنو إسرائيل المُدُن بالفعل في هذه العمليَّة، ولكن النِّذر لم يَكُن تدمير المدن، بل كان تقديم كل ما له قيمة ممّا تم الاستيلاء عليه إلى الرّب مُقابل رِضاه. إن تدمير المدن كان في جزء منه عمليَّة الاسْتيلاء على المدن، وفي جزء آخر كان تقديم المُدُن كَنَوع من "مَحْرَقة" للرَّب.
الآية التالية، الرابعة، تُخبرنا بشَيْء مُثير للاهْتِمام نوعاً ما ولكن علينا أن نَنْظر إلى الخريطة لنَفْهَم الأمْر. في هذا الوقت كان بنو إسرائيل على حُدود أرض كنعان. تذكَّروا أن طَلبهم إلى مَلِك أدوم للسَّماح لهم بالمرور عبر أرضه لم يَلقَ آذاناً صاغية. في الواقع أرْسَل المَلِك بعض القوّات للوقوف في طريقهم (ربما كان هذا مُجَرَّد تَهديدات فارغة، لأنه لم تَكُن هناك معركة)؛ وفي النِّهاية ذهب كل طَرَفٍ في طريقه. بعد ذلك لدينا هارون يُصعَد به إلى قِمَّة الجَبَل حيث مات، ويتولّى ابنه مَنصب رئيس الكّهَنَة. ثم لدينا مَلِك عراد هذا يأتي ويوَجِّه ضربة استِباقية لبني إسرائيل. حَدَث كل ذلك خلال فترة تزيد قليلاً عن شهر وضُمْنَ مساحة صغيرة جداً لا تزيد عن بُضْعة أميال في أي من الاتِّجاهين، لا تزيد عن عشرين ميلاً إلى الجنوب والغرب من البحر المَيِّت.
لكن الآية الرابعة تقول إنهم الآن تحوَّلوا إلى طريق بحر القَصَب (البحر الأحمر) لكي يَتجنَّبوا المرور عبر أدوم. لماذا بعد هذا الانْتِصار على عراد لم يَسْتمِرّوا في الذهاب مُباشرةً إلى الشمال؟ أو لماذا لم يَتجاهلوا تهديد أدوم، خاصَّة وأن بني إسرائيل الآن في حالة من الثِّقة بعد انْتِصارهم الأخير في المَعْركة، ويَسلكوا الطَّريق الذي كانوا يَنْوون سُلوكه في الأصل: عبر أدوم وحتى نهر الأردن؟
من المُوثَّق جيدًا إلى حَدٍّ ما أن الذَّهاب إلى الشمال مُباشرةً كان سيَجعل بني إسرائيل يَصْطَدِمون بِعَدوٍّ بدا أنه لا يُمْكِن هزيمته: شعبٌ معروف بإسْم شعوب البحر، الذين سيُطلَق عليهم في النِّهاية اسم الفلسطينيّين. على ما يبدو، في وقتٍ مُبْكِر جدًا من الرِّحلة، تَقرَّرَ ألا يَسْلِكوا هذا الطَّريق. تذكَّر ما ورد في سِفْر الخُروج سبعة عشر على ثلاثة عشر بِخُصوص الطَّريق الذي رَفض الله أن يَسْلِكَه بنو إسرائيل إلى أرْض الميعاد:
خُروج سبعة عشر على ثلاثة عشر: "وَلَمَّا أَطْلَقَ فِرْعَوْن الشَّعب لَمْ يَسْلُك بِهِم فِي طَرِيقِ أَرْضِ الْفِلَسْطِينِيِّين مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ، لأَنَّ اللهَ قَالَ: ”لِئَلاَّ يُغَيِّر الشَّعب رَأْيَهُ إِذَا رَأَى الْحَرْب فَيَرْجِع إِلَى مِصْرَ".
لم يشأ الله أن يُواجِه بنو إسرائيل الفلسطينِيِّين، ولذلك فإن الذَّهاب شمالاً من عراد إلى بلاد الفلسطينيّين لم يَكُن واردًا.
لماذا إذن لم يَذهبوا عبر أدوم؟ لا شكّ على الإطلاق أن الأدوميّين لم يكونوا قادِرين على إيقاف بني إسرائيل. لا يُمْكِنني حتى أن أبدأ في تَخمين عدد الأدوميّين في ذلك الوقت؛ ولكن كَمُجتمع بَدَوِي، لا يُمْكِن أن يكون عَدَدهم كثيرًا جدًا، ربما عشرات الآلاف. ولكن، كيف كان يُمكن أن يُقابل هذا العدد جيش بني إسرائيل الذي كان قوامُه مُكَوَّن من ستّمئة ألف رَجُلاً؟ لا يُمْكِن. كلا، بل كان الأمْر يَتَعَلَّق أكثر من ذلك بكثير بِنِداء موسى الصَّادِق لِمَلِك أدوم الذي دَعاهم بالأخوة. وبالتالي من الواضِح أن الرّب، لم يَكُن يريد لبني إسرائيل أن يُبيدوا أدُوم. لم يَشأ الرّب أن يَقْتُل نَسْل يعقوب نَسْل أخيه التوأم عيسو.
لذا، بعد هزيمة قُوّات مَلِك عراد، قاد موسى بني إسرائيل جنوبًا نحو خليج العَقَبة، ممّا حَقَّق الغرَض من الإلْتِفاف على أراضي أدوم وتَجَنُّب الصِّراع معهم. تضمَّنَ ذلك رِحلة لمسافة تسعين ميلاً جنوبًا، وحوالي خمسة عشر ميلاً شرقًا، قبل أن يتَّجِهوا شمالاً مرَّة أخرى. لا بُدّ أن هذا قد أَغْضَب شعب إسرائيل حقًا. دَعوني أُخْبِركم، هذه مِنطقة صحراويّة خطيرة. أقلّ ما يُقال عنها أنها غير سارّة. ولا بُدّ أنهم شَعَروا وكأنهم عادوا إلى الوراء ربما لمُدَّة شهر على الأقل من السَّفَر. ولذلك، كما جاء في نِهاية الآية الرابعة وبِداية الآية الخامسة، " فَاضْطَرَبَ الشَّعب في السَّفَرِ وَتَكَلَّمُوا ضدّ الله وضدّ موسى.“
سنَتْرُك الأمْر هنا ونرى ماذا سَيَفْعل الله حِيال هذا التَّمَرُّد الأخير في الأسبوع القادم.