سِفْر العَدد
الدرس تسعة وعشرون – الإصحاحان خمسة وعشرون وستّة وعشرون
بينما نَترُك وراءنا دراستَنا عن بلعام وبالاق، نَنتقِل إلى تمرُّد آخر من التمرُّدات العديدة على يَهوَه وما نَتجَ عنه من انتقامات إلهية. قد يَظنّ المَرء أنَّه بَعْدَ حوالى أربعين سنة من العَيش في البَرّية، ووجود خيمة البرّية والكهنوت وسَبت اليوم السابع غير القابل للتغيُّر، وأعياد وأذكار مُنتظِمة، وموسى الحاضِر دائمًا كقائد لهُم، أنّ إسرائيل كانت ستخضَع لكل ما أعطاها الرَب من فرائض وقواعد للعيش بها، ولكن، كما نكتشِف في الإصحاح خمسة وعشرين، لم تَقُم بأيٍّ ممّا سَبَق.
اقرأ الأصحاح خمسة وعشرين من سِفْر الأعداد كلِّه
يبدو أنّ إسرائيل تَسلُك طريقًا مُعوَجّ: بَعد المرتفعات العالية تأتي المُنخفضات؛ يَذهب الشَعب من قِمم الجبال إلى الوديان ويعود مرَّة أخرى. من الطاعة المقدَّسة إلى الاستِهتار العادي، من العبادة الصَحيحة لله تعالى إلى الخطايا العَظيمة في حقِّه. لم نَكَدْ ننتهي من قصَّة بلعام وهو يُعلِن بَركات نَبَوية مَجيدة ومُنتصرة على إسرائيل التي لا تَحمِل ذنبًا في نظَر الله، وتأكيدًا على هويّتِها الفريدة والمُنْفَصِلة مع الرَب من بين كلّ الأمَم، حتّى نَجِد العبرانيين يَلهون مع العَدُو، ويُعربدون مع آلهتِهم، ويَحتفلون مع نسائهِم.
قد نسأل أنفُسَنا في هذه المَرحلة: ”ألا يَتعلَّمون أبدًا“؟ كم عدَد الأشخاص الذين يجب أن يَموتوا على يَد الله نفسِه قَبل أن يخضَع الشَعب تمامًا لربوبيَّته؟ حسناً، من ناحية نَرى الوَصْف سيئ السُمعة للعبرانيين بأنهم شَعب ”عنيد“ قد تطوَّر ولكن من ناحية أخرى نرى أنّ المسألة ليست مسألة ذاكِرة قصيرة بِقَدْر ما هي مسألة مَجموعة مُختلفة من الناس الّذين عليهِم أن يتعلَّموا نَفْس الدروس التي سَبَق أن تعلَّمها آباؤهم. اقتضَت لعنة الله على إسرائيل بمَوت الشَعب الذين خَرَج من مصر (من الذين بَلَغوا سنّ العشرين عند خروجِهم) باستثناء يوشع وكالب. لذلك بينما كان جيل الخروج الأول قَد عانى الكثير نتيجة تَمرُّدهِ، فإنّ هذا الجيل الجديد إمّا أنه لم يكُن قد ولِد بَعد أو أنه فَشل في استيعاب الدروس التي نَزَلت على مَن هُم أكبر منهُم.
قد يُجيب هذا أيضًا على السؤال الذي كثيرًا ما يُطرَح: لماذا يَميل سِفْر العدد، وبَعدَه سِفْر التثنية، إلى تَكرار الكثير ممّا سبَق أنْ أُعْطي لإسرائيل (ولنا) من سِفْر الخروج؟ إنّ السَبب في الحقيقة لا يَختلِف عمّا كان عليه الحال دائمًا مع البَشر: يبدو أننا لا نتعلَّم أبدًا من التاريخ. يُقال إنّ الرَجُل الحكيم يَتعلَّم من أخطائه، ولكن الرَجُل الأكثر حِكمَة يَتعلَّم من أخطاء الآخرين. إنّ الجيل الجديد من بني إسرائيل لم يأخُذ يَهوَهْ على مَحمَل الجَد، ولذلك كان على وشك أن يَدفعَ ثمناً باهظاً.
تُخبرُنا الآية واحد أنّ بنو إسرائيل ربما كانوا لا يَزالون على الأرجح في نَفْس المُخيَّم عندما وَقَف بلعام وبالاق على ثلاثة قِمَمِ تلال مُختلفة، وَحَدَّقا في هذا الحَشد الهائل من العبرانيين، وكان المَلِك بالاق يحاول إقناع الساحر الوثني بلعام أن يَلعَن إسرائيل من أجلِه. كان هذا في مَكان يُسمّى شيتيم، والذي يَعني حَرْفيًا شجرة الأكاسيا. دعونا نَفهم أنه من المُستبعَد جدًا أنّه في اللحظة التي حَدَث فيها ذلك لم يكُن لدى إسرائيل أي فكرة عن الخِدَع التي حَدَثت مع بلعام وبالاق. وهذا يعني أنّ شَعب إسرائيل لم يكُن لديه أيّ فكرة عن عَمَل المَلِك بالاق بشراسة لإصابة إسرائيل بِلَعنة روحية. في الواقع، يقول التقليد أنّ بلعام اقترَح على المَلِك بالاق وهو يُغادِر عائدًا إلى بلاد ما بين النَهرين أن يَتسلَّل إلى إسرائيل ويُصادِق شعبَها كوسيلة بديلة لهزيمة إسرائيل من خِلال إبعادِها ببطء عن يَهوَه. كان الهَدَف المُباشَر هو حَمْل إسرائيل على عبادة آلهة موآب، لأنّها كانت عَلامة نَموذجية ثقافية على التَحالُف والاحترام. من المؤكَّد أنه قيل لنا أنّ العبرانيين (الرِجال) بدأوا يَعبَثون مع نِساء موآب؛ ومن المؤكَّد تقريبًا أنّ هؤلاء كانوا من الرِجال الأصغَر سِنًّا والمؤهَّلين ولكن ربّما كان من بينهِم أيضًا بعض الرِّجال في مُنتصف العُمر الذين شَعروا بِحُرِّية في مُعاشرة نساء غير زوجاتهِم. علاوةً على ذلك يُقال في بداية الآية اثنان أنّ إعداد هذا ”الفِسْق“ كان ذبيحة لآلهة موآب. ما يحدُث هنا هو عيد لبعل، أو كما كان يُسمّى رسمياً خلال هذه الحَقَبَة في مِنطقة شَرق الأردن ”كيموش“.
ومن المُرجَّح أن هذا الفِسْق كان يدور أيضًا حول المُمارسة الوثنية للدَعارة الدّينية التي كانت شائعة بين مُعظم الديانات الغامِضة في ذلك الوقت. كان كيموش الذي يُدعى هنا بَعْل – بيور (أو بالأحرى ”بَعْل بيور“) واحدًا من عِدّة آلهة مُرتبِطة بالخَصْب، لذا كان الجِنس المقدَّس في صميم كل احتفال لتَكريم أي إله أو إلهة خصوبة.
لذلك لدينا هنا انتهاكان رئيسيَّان لوَصايا الله: كانت إسرائيل تَشتهي آلهة أخرى غَير يَهوَه، وكانت ترتَكِب الزِنى (وفي بعض الحالات العَربَدة) مع نساءٍ أجنبيَّات. يُمكِن تَصنيف كل هذا في فئة عبادة الأوثان.
أريد أن أرسُم لكُم مُقارَنَة أتمنّى أنْ تُسبِّب لنا جميعًا بعض الانزعاج. في بعض الأحيان نَحصُل على صورة ذِهنية خاطئة لما كان يَحْدُث في الكتاب المقدَّس، وبالتالي قد يكون من الصَعب علينا أن نَرتبِط به على المستوى الشَخصي.
الكثير من اللحظات المِحْوَرِيَّة العَظيمة في الكتاب المقدَّس كانت خَفيّة وغَير مَلحوظة في البداية والأمْر كذلك في تاريخ البشريّة بشكلٍ عام. كان هبوط أولئك الحُجّاج الأوائل في بليموث عبارة عن نُقطة صغيرة على شاشة الرادار، كانوا حُفنة من النّاس الذين استأجروا سَفينة للوصول إلى العالَم الجديد وبدء حياة جديدة هُناك. لم يأتوا ليُطالِبوا به لأمّة أخرى (الأمْر الذي كان يمكِن أن يكون مَلحوظًا وهامًا)؛ لقد جاءوا فقط هَرَبًا من الاضطهاد الدِّيني (في المَقام الأول من قِبَل الكنيسة المؤسسية في أوروبا).
وهكَذا هنا في موآب كانت تَصرُّفات شعب إسرائيل في تفاعُلِه مع الموآبيين ستبدو في البداية مُرحَّبًا بها وطبيعية وكان الأمر ليَبدو سِلميًّا ومُحترَمًا من كِلا الجانبَين. لم تكُن موآب مَوْطِن المتوحِّشين الذين كانوا يَسعون إلى فِعْل أشياء فظيعة لكلِّ من يَقترب منهُم؛ لقد كانوا مجرَّد أناس عادِييّن وأن يَتجسَّس شباب إسرائيل على بعض الفتيات الجميلات من ثقافة أخرى مُختلفة (ربما جذّابَة) كان أمْرًا مُتوقَّعًا من الناحية الإنسانية.
كانت موآب تَعبُد آلهة مُختلفة بما في ذلك بَعْل باعتبارِه الإله الرئيسي. لم تكُن دعوة إسرائيل لهِداية الأجانب أثناء رحلتِهم نحو أرض الميعاد، وبالتأكيد لم يَشعُر الشعب بأنه مُلزَم بمحاولة ذلك. لذا، ولِكَون الشَعب ناسًا عادِييّن، فقد أظهَرتْ إسرائيل بعض الاحترام لمُعتقدات الموآبيين حتّى لو لم تَتَّفِق معها؛ وإلا كيف كان بإمكانها أن تَتعايش معهُم بطريقة مَدَنيّة؟
ومع ذلك، لم يُعلَّم أتباع الله أبدًا في الكتاب المقدَّس أن يظهروا الاحترام للآلهة الباطِلة للثقافات الأخرى، ولا حتّى كوَسيلة للتعايُش السِلمي. والسبب واضِح هنا في الآيتين الأوليين من سِفْر العدد خمسة وعشرين فدائمًا ما يَتحوَّل احترام الطرق الوثنية وآلهتها إلى تَبَنّي بعض تلك الطُرُق أو تَحريف طُرُق الله تعالى.
يُسمّي الله هذا فُسْقًا لأنّ عبادة الأوثان التي يُمارِسها شعبُه المُختار هي خيانة للأمانة بالنسبة لَه. لا يَعني الزنى بالضرورة أنّ رِجال بني إسرائيل كانوا يَسعون وراء البغايا الموآبيات (على الرُّغم من أنّ البعض فَعلوا ذلك)، بل يَعني أنَّه من خلال إقامة علاقات أوثَق مع شَعب غريب كانت ثقافتُه كلُّها تَدور حول تكريم آلهة أخرى، كان رِجال إسرائيل تلقائيًّا غير مُخلِصين ليَهوَهْ من خلال تَكريم آلهة أخرى.
دعوني أتقدَّم سريعًا إلى القَرْن الحادي والعشرين. لا توجد أي مجموعة من المَسيحيين واليهود تَسعى لإيجاد طريقةٍ لإقامة عَلاقة مع مَجموعة هائلة من الناس الذين يَعبدون إلهًا كاذبًا عَلانية. يَقول القادة المسيحيون واليَهود مِرارًا وتكرارًا والقادة السياسيون الذين يَدَّعون المُعتقدات المسيحية، أنه يجِب علينا إظهار الاحترام للإسلام (على الأقَلّ الإسلام السِلْمي). يبدأ ذلك بإظهار الاحترام لإله الإسلام لأنّ هذا هو ما يَطلُبه المُسلِمون.
لدينا رئيس حالي يَضَع عقيدتَه المَسيحية في المُقدِّمة والوَسَط، ولكِن بعد فترة ليست طويلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وَقَف في مَسجِد بينما كان مئة مليون مُشاهِد يُشاهدون ويَستمعون. لقد قال للعالَم أجمَع إنّ الله هو نفسُه الإله المَسيحي، وإنّ على المسيحية والإسلام احترام مُعتقدات بعضهِما البَعض بِهَدَف السلام والتعايُش. يجِب علينا أن نَتنازل ونُسامِح بعضُنا البَعض. كان التَصفيق له مُدوِّيًا وصَفَّق له العالَم على ذلك، كما صَفَّق له الجزء الأكبر من المسيحية واليهودية. ألم يُبشِّر يسوع بالسّلام بأي ثَمن؟
هناك في موآب بدأت دوَّامة الرَدَّة والوثنية القاتِلة بشكل خَفي وغير مَلحوظ، حيثُ كان الرجال العبرانيون يَكتفون بالتعارُف مع النساء الموآبيات وسُرعان ما فَعَلت نساء موآب شيئًا طبيعيًا كما تَقول الآية اثنان، فقد دَعَيْن أصدقائهنّ العبرانيين الجُدد للانضمام إليهنّ في بعض المُناسبات الوَطَنية الاحتفالية (مُحاولة صادِقة ومُخلِصة للتعارُف). وبالطبع، تمامًا كما كان الحال بالنسبة لإسرائيل، كانت جميع مُناسبات موآب الاحتفالية تَدور حول إله من آلهتِهم أو آخر. لمْ يكُن لدى الكثيرين في إسرائيل أيّ مُشكِلة في ذلك، ولم يَروا في حضور بعض احْتفالات موآب الدينية أي تَعارُض مع عبادتِهم ليَهوَه. بالنسبة لهُم كانوا يُقيمون علاقة سِلميّة مع الموآبيين ونحن اليوم نُحاول نَفْس الشيء بالضبط، ولنفْس الأسباب، فاليهودية تتذرَّع بالإنسانية، والمَسيحيون يتذرَّعون بالمَحبّة والسلام اللذَين أمَرَ بهما يسوع لمَدّ يَد التسامُح إلى الإسلام. إنّ رَدّ فِعل الله على هذا النوع من الجهود البشرية وإساءة استخدام وَصاياه مَذكور جَيدًا في سِفْر العدد الإصحاح خمسة وعشرين الآية ثلاثة ”…. اشتعَل غضَب أدوناي على إسرائيل“.
كانت هذه الأفْعال آنذاك، ولا تزال، تُعتبر خطايا ”مُتغطرِسة“، وهي من أسوأ الخطايا، لذا فإنّ العقوبة تكون مُتناسِبة مع الجريمة. من الواضِح أنّ الرَب (وكاتِب هذه الأسفار المقدسة) يرى ما يحدُث على أنه تمرُّد قَومي لإسرائيل ضِدّ يَهوَه، فكلّ إسرائيل مَسؤولة عن هذه الردَّة. كان رَدّ الرَب سريع وشديد: أمَرَ بأن يُعاقَب رؤساء أو الشويخ أوَّلاً.
الآن نواجِه مُشكلة صغيرة فيما يتعلَّق بما هو مَقصود هنا لأن الصياغة في العِبرية غامِضة. ما يقولُه هو أنّ ”روش“ (بالعبرية تَعني ”الرؤساء“) من الشَعب يجب أن يُخَصّوا بالعِقاب. عادةً ما يُفهَم هذا على أنه يَعني أُمَراء الأسباط (حَرْفيًا الرَجُل الأعلى مَرتَبة في كل سِبط من الأسباط الاثنتي عشرة) وربَّما بعض زعماء العشائر أيضًا.
تقول تَرجمات أخرى كثيرة أنّ الرَب أمَرَ بتعليق هؤلاء الرؤساء القَبَليّين (من العُنُق) بمعنى أن يتمّ إعدامُهم شنْقًا. من المَشكوك فيه أنّ الشَنق، هو ما كان يدور في ذهِن الرَب، فالشَنق كان يُعتبَر غير إنساني ولم يكُن مَسموحًا به حتّى كوسيلة لقَتْل الحيوانات من أجْل الطعام؛ لذلك ربّما لم يكُن هذا الأمْر مَأمورًا به للرِجال مهما كانت خطيئتهُم فظيعة. لذلك فإنّ هذا المُصطلح هو مُصطلَح قياسي يعني التَعليق على عَمود، وهو ما كان مُعتادًا إلى حدٍ ما في ذلك العَصْر. لقد كان مُعتادًا لدرَجة أنّه في سِفْر التثنية تم وَضْع قانون للتعامُل معه. يَرِد في سِفْر التثنية الإصحاح واحد وعشرين الآية اثنان وعشرين" إذا كان الرَجُل مُذنِبا بجريمة كبيرة وحُكِمَ عليه بالإعدام، وعَلَّقتموه على عمَود، فلا تتركوا جثَّتَه على ذلك العَمود طوال الليل، بل ادفنُوه في نفْس اليوم".
لكن هذا يَحُلّ نصف مُشكلتنا فقط. هل أمَرَ الرَب بالفِعل بإعدام جميع رؤساء أسباط إسرائيل؟ بشكلٍ عام يقول الحاخامات والحُكماء أنّه فَعَل ذلك. هذا هو المَعنى الأكثر وضوحًا للنصّ ولسِياق القصَّة، والدَرْس المُستفاد منه واضِح أيضًا: عندما يَتعلَّق الأمْر بخطيئة وَطَنية أو جَماعية فإنّ القيادة هي المُلامَة والتي تَتحمَّل أسوأ العواقب. ولكن الكتاب المقدَّس يأخُذ هذا الأمْر إلى أبعَد مِن ذلك: إعدام القادة ليس فقَط مَسألة عقاب على عبادة الأوثان القَوميّة، بل هو مسألة تَكفير عن إسرائيل من خلال قَتْل القادة، كما هو مَذكور في نهاية الآية أربعة عندما يَرِدْ أنّ هؤلاء الرِجال يجِب أن يموتوا لكي ”يَبتعِد غضَب الرَب عن إسرائيل“.
يؤسفُني أن أقول إنّ الكَنيسة الحديثة فَعَلتْ ما في وِسْعها للتنصُّل من هذا المَبدأ. لقد ذهبْنا حتّى إلى حدِّ القول بأنّ إله العَهد الجديد لم يَعُد يُعاقِبُنا بعد الآن. أتحدّاكُم أن تَجدوا هذا المَبدأ في أي مَكان في الكَلِمة. ما لا يفعَلُه مع المؤمن هو الإدانة (أي اللعنة الأبدية). أمّا الاعتقاد بأننا بطَريقة ما مُحصَّنون من تأديب الرَب العادِل (الذي يُمكِن أن يكون مؤلمًا جدًا) هو أمْرٌ خارِج عن الكتاب المقدَّس بشكل خطير.
لقد واجَهْنا مبدأ خطيئة التَمادي في سِفْر اللاويين؛ ورأينا أنّ التَكفير الوَحيد عن هذه الخطيئة هو دَم الشخص الذي ارتكَبَها. وبعبارة أخرى هناك نَوع من الخطيئة التي لنْ يَقبَل الله تعويضَها بِدَم حيوان (ذبيحة حيوانية) كبَديل عن موت الخاطئ. عندما نَسمَع عِبارة، ”دَمُه على رأسِه“، ما يُفهَم هو أنّه لا يُسمَح بأي بَديل.
إذًا، يَقول موسى لبَعض القادة الآخرين أن يَذهبوا ويَقتلوا أولئك الذين أسلَموا أنفسَهم لبَعل- بيور، أي إله موآب. دعونا نتوقَّف هنا للحظة: هذا مَوضَع آخر من تلك المواضِع التي واجَه فيها الحكماء القدماء بعض المَشاكل؛ لأنّ ما أمَرَ به موسى هؤلاء القادة المُعيَّنين أن يَفعلوه لم يكُن بِطَلَب من الرَب. جَعَل يَهوَهْ جميع أُمَراء الأسباط مَسؤولين شخصيًا عن الَسماح لشعبِهِم بمُعاشرة كيموش، بَعْل موآب، حتّى لو لم يكُن هؤلاء الأمراء أنفسُهمُ متورِّطين بشكل مُباشر. لكن موسى استدار وأمَرَ فقط بمُعاقبة الأشخاص الذين شاركوا بالفِعْل في الطقوس الوثنية. هممم. ليست هذه هي المرَّة الأولى التي ينحرِف فيها موسى عن أحَد أوامِر الرَب.
لماذا فَعَل موسى هذا؟ لماذا كان مُتردِّدًا في إعدام هؤلاء القادة؟ حسنًا حتّى لا ندخُل في تفاصيل كثيرة، أطلُب منكمُ فقط أن تفكِّروا في المَشاهد التي نراها بانتظام على شاشات التِلفاز من العراق. أفراد القبائل وأفراد الطَوائف الإسلامية يَفعلون أيّ شيء لحِماية قادتهِم والزعماء يُضحّون بأبناء شعبِهم للحِفاظ على مكانتِهم وسُلطتِهم؛ هذا هو جَوهر النظام القَبَلي. من غير المعَقول أن يكون أمير سِبط عِبري، وهو رئيس سِبط بأكملِها، قد خَضَع طواعية لإعدامِه ومن غير المَعقول أيضًا أن يقِف شَعب ذلك السِبط مَكتوف اليدَين ويسمَح بحدوث ذلك. لذلك، من مَنظور الحكومة البشرية، اتَّخذ موسى طريقًا أسهَل وأفضَل بالنسبة له شَخصيًا: طَلَب من أُمَراء السِبط (الذين أمَرَه الله بإعدامِهم) أن يُعدِموا القادة الأقلّ شأنًا على هذه الردَّة.
يَستطيع أي شخص قَضى وقتًا طويلاً في إدارة الشرِكات فَهْم هذا المبدأ جيدًا.
ولكن ما لم يُقال حتى الآن هو أنّ الوباء كان سيَستشري بين بني إسرائيل حيثُ صَبَّ الله غَضَبَه على أمة إسرائيل بسبب تمرُّدِها. لذا فالفِكرة هي أنّ مَوت هؤلاء القادة سيُرضي عدالة الله، وسيَنتهي الطاعون قَبل أن يَموت الكثير من بني إسرائيل.
في خِضَمّ كلِّ هذا، وبينما كان الناس َيموتون بالآلاف والباقون يَحتفِلون مع الوثنييّن، أحضَر رَجُل عبراني امرأة مِديانية إلى المُخيَّم وقدَّمَها إلى قَريبه. لقد ناقَشْنا في الأسبوع الماضي، أو الأسبوع الذي سبَقَه، أنّه كان بين موآب ومديان نَوع من التحالُف في هذا الوقت؛ بل إنّ بَعض المديانيين كانوا في الواقع جزءًا من الحَاشية الرَسمية التي أُرسِلت من المَلِك بالاق مَلِك موآب إلى بلاد الرافدين لإحضار السَاحر الشهير بلعام. إذَن في هذه اللحظة من التَاريخ وَضَع الرَب الموآبيين والمديانيين في مَركِب واحِد: أعداء الله. أن يأتي هذا الإسرائيلي بأجنبيّة إلى المُخيَّم في هذه اللحظة ويَسير بها بوقاحة أمام موسى الذي كان واقِفًا عند مَدخَل خيمة الاجتماع في البرَّية، أظهَر الحالة العَقلية المُنحرِفة التي استسلَمت إليها إسرائيل (مرَّة أخرى).
وبطبيعة الحال بما أنّ خَيمة الاجتماع كانت مَكان عَمَل الكهنة، رأى فِنْحَاصَ (الذي كان الكاهن المَسؤول عن حُرّاس خيمة الاجتماع) هذا الرَجُل العبِراني والمرأة المديانية يَجولان في المكان، فغَضِب من استخفافهِما بقداسة الرَب. والتقَط رِمْحًا (لا شك أنه سَحَبه من يَدِ واحد من مئات من حرَّاسه اللاويين المُتمركزين حول منطقة خيمة الاجتماع) وتَبِع الزوجَين الفاسقَين إلى خيمة هذا الرَجُل العبراني التي كانت قريبة جدًا من الخَيمة المقدَّسة. وبينما كان هذان الزوجان مُتلبِّسَين بالزِنى، ضرَبهُما فِنْحَاصَ بالرِمح. لا أعتقد أنني بحاجة إلى أن أرسُم صورة لكيفية قَتلِه لهذين الزوجَين في وقتٍ واحد بحربة واحدة. ولكي نَفهَم فقط، يقول الكتاب المقدَّس أنه طَعنهُما في بطنِهما وهذه كناية عِبرية مُلطَّفة عن الأعضاء التناسُلية؛ والفِكرة هي أنهما كانا مُتلبّسَين بالخطيئة بتلك الأعضاء، وبهذه الوسيلة سيَموتان.
ومن المُثير للاهتمام، أنّ هذا الفِعل هو الذي أوقَف الطاعون؛ ولكن ليس قَبل أن يَموت أربعة وعشرون شخص بسبب ذلك. الآن أنا مُتأكِّد من أنّ بعضَكم لديه بعض المشاكل مع هذا الكاهن الذي أخَذَ القانون على عاتِقه وقَتَل هذين الزَوجَين. وكذلك فَعَل الحاخامات القدماء. لقد جرَّبوا كل أنواع الحِيَل لكي لا يَتعلَّق الأمْر بفِنْحَاصَ بهذا الشَكل. فَضْلاً عن ذلك، في الآية عشرة، يُكرِّم يَهوَه فِنْحَاصَ لأنه قَتَل هذين المتمرّدَين (عبراني وأجنبيّة). خُلاصة الموقِف هو أنّ فِنْحَاصَ كان لديه ما نُحبّ نحن المَسيحيين أن نُسمّيه الغَضَب ”المُستقيم“. لم يكُن الأمْر أنّ فِنْحَاصَ قد شَعَر بالإهانة الشخصية بقَدْر ما كان الأمْر أنّه دافَع عندما لم يَتقدَّم أحد للدِفاع عن شرَف الرَب. يُعلِن الرَب أنّ ما فَعَله فِنْحَاصَ لم يكُن قَتْلًا فحسب، بل إنّه في الواقِع كان فِعل التكفير المَطلوب الذي مَنَع يَهوَهْ من القضاء على إسرائيل بسبب خطاياها المُتعالية. بل أكثَر من ذلك، يقول الرَب: ”أَنَا أُعْطِي فِنْحَاصَ شَلُّومِي، وَبَارَكَ فِنْحَاصَ“.
ثم مَضى الرَب ليُعلِن أنّ فِنْحَاصَ سيَكون من عشيرة اللاويين الذين سيُكَوِنون الكَهنة، كمُكافأة له على عَمَلِه الحاسِم. لَم يُغيِّر هذا أي شيء حقًا؛ بل أوضَح شيئًا ما فقط. كان فِنْحَاصَ ابن إليعازر، وكان إليعازر ابْن هارون. كان هارون قد مات، وكان أليعازر الآن رئيس الكَهَنة. لذا، كان مِن الطَبيعي أن يُصبِح أحَد أبناء إليعازر، بطبيعة الحال، رئيس الكهنة التالي. قرَّر الرَب للتو أيّ ابْن سيَكون: فِنْحَاصَ.
نَرى نوعًا ما أنّ نَبْرة الإصحاح خمسة وعشرين بأكملِه تَتغيَّر بعد أن أعدَم فِنْحَاصَ الزَوجَين. يَنتهي الطاعون، وتَتحقّق عدالة الرَب، وَيبدو وكأنّ هذا العَمَل الصادِم أعاد إسرائيل إلى رُشدِه، فالجيل الذي سيَدخُل أرْض الميعاد كان قد تلَقّى للتو دَرْسًا واقِعيًا عن لُطْف الله وشِدَّتِه؛ شدَّتِه في إهلاك أولئك الذين يتمرَّدون عليه بلا رَحمة وبقَسوة، ولُطفِه في تَوفير وسيلة للتَكفير عن أولئك الذين لم يَموتوا بَعد من غَضَبِه، وهو دَرْس تَلقّاه آباؤهم في أكثَر من مُناسَبة؛ لكن آباءهم أيضًا حُرِموا من دخول كنعان أبدا.
ويَنتهي الإصحاح بإعلان الرَب الحَرْب على المِديانيين، وهُم شعب أغوى العبرانيين الذين انقادوا بِسهولة إلى عبادة آلهةٍ أخرى وإلى نَشاط جِنْسي غَير مَشروع. إنّ الحَرْب القادِمة ضِدّ مديان (وبطبيعة الحال، حليفِهم موآب) تَعني أنّ هناك حاجَة إلى دَعوة جيش إسرائيل إلى حَمْل السِلاح؛ وكما كان يَحدُث دائمًا قَبْل بَدء الحَرْب أو الغَزو، أُجْريَ إحصاء سُكّاني. الإحصاء من شأنِه أن يُنبِّه الرِجال للتسلُّح ويُعطي القائد إحصاءً لقوّاتِه. هذا ما يَتحدَّث عنه سِفْر العَدَد ستّة وعشرين.
اقرأ سِفْر العدد ستّة وعشرين كلِّه
نَدْخُل الآن مَرحلة جديدة في تَكوين إسرائيل كأمَّة، وهي غَزو أرْض كِنعان. تَتناول الإصحاحات الأحد عشر الأخيرة من سِفْر العدد المَعارك، والاستيطان، ثم الانتِقال مِرارًا وتَكرارًا من أجل امتِلاك أرْض الميعاد.
كان الإحصاء الأول الذي تمّ إجراؤه في الإصحاحَين الأوَّلَين من سِفْر العَدد للجيل الأول من الخُروج (جيل لم يعُد مَوجودًا في الأساس). أمّا التَعداد الذي قرأنا عَنْهُ للتو في الإصحاح ستّة وعشرين من سِفْر العدد فهو للجيل الثاني، الجيل الجديد مِن بَني إسرائيل. وكان هذا الإحصاء لغَرَضَين أساسيَّين: تَحديد عَدد الجنود الذين سيَحشُدُهم كلّ سبط، ثمّ تَحديد مساحة الأرض التي سيَحصُل عليها كل سبط عندما يتمّ تَقسيم كِنعان على أسباط إسرائيل.
كما هو الحال مع الإحصاء الأوَّل (وعُمومًا كل الإحصاءات التَوراتية) كان يَتمّ إحصاء الرِجال فقط، ثم الرِجال الّذين هُم في سنّ يَستطيعون حَمْل السلاح والقتال فيه. ولكنّنا سنَرى على النَقيض من ذلك أنه بينما كان الجيل الأول من الخروج يتذمَّر ويَثور ويَشتاق إلى الأيّام الخوالي في مصر، كان الجيل الجديد أكثر إيمانًا وأكثر شَغفًا بمُهِمَّته وأكثر استِعدادًا لوَضْع حياتِه على المِحَكّ لتَحقيق ما وُعِد به إبراهيم قَبل أكثر من ستمئة سنة: أرْض خاصّة به وشَعب لا حَصْر له ليَملأها.
كان شعَب إسرائيل يُخيِّم شرق أريحا على الضِفّة الشرقية لنَهر الأردن. لا شكَّ أنّ كُلّ من كان على بُعد خمسمئة ميل في أي اتّجاه كان يَعرِف بالضبط أين كان هذا العَدد الهائل من ثلاثة ملايين عِبراني؛ لقد كانوا كثيرين جداً ومَآثِرُهم مَعروفة جداً بحيث لا يمكِن أن يكون الأمْر خِلاف ذلك. وبما أنّ هارون قَد مات ودُفِن على جَبَل حور فإنّ ابنَه الكاهن الأعظم الجديد إليعازار يَتواصل مُباشرةً مع يَهوَه الذي يُخبِرُه كيف يَجري هذا الإحصاء الجديد. يقول الرَب أن يَقوم بإحصاء كلّْ جماعة بني إسرائيل والعائلات التي خَرَجَت من مصر. ولكن كما سنَكتشِف قريبًا، مُجتمَع إسرائيل بأكمَلِه لم يعُد يَشمَل سِبط لاوي، لذلك لن يكون جزءًا من الإحصاء (ولكن سَيكون هناك إحصاء مُنفصِل يُجرى خصيصًا لهُ).
لن ندرُس كل جوانب الإحصاء السُكّاني، سأُشير فقط إلى بَعض السِمات البارِزة. أولاً في الآيات ثمانية إلى إحدى عشرة نَرى استِمرار نَسلٍ من رؤوبين وقورح. والسَبب في أهميَّة ذلك يَعود إلى غَضَب الرَب الرهيب على سِبط رؤوبين وعَشيرة قورح، عندما انفتَحت الأرْض وابتلَعَتْهُما و(كما بدا في تلك اللحظة) عائِلَتهما كلِّها. ولكن، هنا نرى أنه كان هناك بالفِعل ناجون لأنّ أسماء عشيرتِهم مُدرَجَة. في الواقِع، لقد أصبَحت عشيرة قورح عَشيرة لاويّة مُهمَّة جداً من اللاويين، من المُغنّين في الهَيكل.
في نهاية القائمة نَحصُل على الحَصيلة النهائية: ستمئة وواحد ألفًا وسبعمئة وثلاثين رَجُلاً في سِنّ العِشرين وما فَوق، قادرين على أن يَكونوا جزءًا من الجَيش.
انظُر الآن إلى جَدْوَل الأسباط. نَجِد أنّ بَعض الأسباط زادَت بينما انخفَض عدَد أسباط أُخرى. علاوةً على ذلك نَرى أنّ عدَد الرِجال الآن أقَلّ بحوالي ألف وثماني مئة رَجُل عمّا كان عليه قَبْل أربعين عامًا تقريبًا. هذا لا يُشير بالضرورة إلى أنّ عدَد سكان إسرائيل كان، بشكل عام، أقَلّ قليلاً جداً. على الأرجَح كان عدد السكان أصغر سنًا بكثير مَع وِلادة الكثير من الأطفال الذين حَلّوا مَحَلّ كِبار السِن الذين خَرَجوا في الأصل من مَصر.
عندما نأخُذ في الحِسبان أننا نتحدَّث عن فَرْقٍ بنسبة واحد بالمئة، يُمكننا القول أنّه من الناحية العَمَليّة وعلى الرُّغم من المَعارك العديدة والضَرَبات والأحكام ضِدَّ بني إسرائيل، ظَلّ عدَد السكّان مُتساوِيًا مع وجود تَغيُّر فقط بين الأسباط فيما يَتعلَّق بأيُّها نَما وأيُّها تَقلَّص.
يُمكِننا أن نَرى من خلال الرَسم البَياني أنّ منسّي كان لديه أكبَر زيادة في عَدَد السكان، بَلَغت أكثر من ستّين بالمئة خلال تلك السنوات الأربعين. على الطَرَف الآخر من المِقياس نُعاين سِبط سِمعان: كان سِبط سمعان الآن، إلى حدٍّ بَعيد، أصغَر الأسباط، حيثُ فَقَدْت ستّين بالمئة من سُكّانِها. لا شَكّ أنّ يَد الرَب وَجَّهَت الزيادة والنُقصان، ولكن من المؤكَّد أنّ هذا لَم يكُن خارِقًا للطبيعة في حدِّ ذاتِه. من المُحتمَل أنّ سبط سمعان لم يَشهَد فقط عددًا كبيرًا من الوفيّات مُقابِل المواليد، بل عانَت أيضًا من انشقاقات كثيرة لأفْراد أسباطِها المُنتَقِلَة إلى أسباط إسرائيلية أخرى أكثرَ قوَّة. وعلى العَكس من ذلك، كان مُعدَّل المواليد أفضَل قليلًا ومُعدَّل الوَفياّت أقَلّ مُقارنةً بالأسباط الإحدى عشرة الأخرى؛ ولكن بما أنّها بدأت في الخروج باعتبارها السِبط الأكبر، و(كأبناءٍ ليوسف) كان لدَيهم الكثير من القوَّة وكان من الطَبيعي أن تَجِد الأسباط الأخرى الأصغَر حَجمًا…..وخصوصًا سِمعان الصغير، أنّه من الأفضَل الانتماء إلى سِبط أكثر هَيْمَنَة مِثل منسّي.
في الآية اثنان وخَمسين، يُستخدَم أحد السبَبين الأساسيَّين لإجراء الإحصاء: تقسيم الأرْض. وهناك مِعياران (يَبدو أنَّهما مُتضادّان) سيَستخدِمُهما موسى لتَقسيم كنعان: واحد) يجب أن يَكون حَجْم الأرض مُتناسِبًا مع حجم السِبط، واثنان) يتمّ تَقسيم الأرض بالقُرْعة. السؤال الواضِح هو: كيف يُمكِن أن يَتِمُّ الأَمْران في نفْس الوقت؟ هل كان اختيار القُرْعة مُجرَّد لُعبة حَظّ بسيطة، أمْ (كما رآها بنو إسرائيل) تَدبير الرَب الذي كان سَيتطابق بشكلٍ عَجيب مع عدَد سكّان كلّ سِبط؟
لا، وإليك رأي الحكماء القُدماء بهذا الشأن: يَتمّ تَعيين المَوقِع العام لكّل سِبط (حيث كان يَقَع بشكلٍ عام في كنعان) بالقُرعة، ولكن عدَد السكان الفِعلي يُحدِّد الحجم. كانت هناك مَناطق من كنعان أكثر خصوبة ومناطق أخرى كانت صَحراوية في الغالِب. وكانت هناك مناطق ساحليّة تَسمح بالمِلاحة والصَيد مِثلما كانت هناك مَناطق جَبَليّة مُناسبة للرَعي. وكانت هناك أماكِن على طول طُرُق التجارة الراسِخة للتُجّار وأماكِن أخرى كانت تُجاوِر أعداءً صَعبين.
لذلك كانت القُرْعة تُحدِّد المِنطقة ثم يُحدِّد موسى حدود كل سِبط في تلك المِنطقة باستخدام قاعِدة أنه كلَّما كان السِبط أكبر، كانت حدودُه أكثَر اتِّساعًا.
يَتناول القِسم الأخير من سِفْر العدد ستّة وعشرين إحصاءً مُنفصِلاً تمامًا لِبَني لاوي، وقد أُدرِجت عشائرُه. لقد تمّ إدراجُهم على أنهم مُتميّزون لأنّ، واحد) الرَب يرى أنّهم لم يَعودوا جزءًا من إسرائيل، واثنان) على هذا النَحو لم يكُن لهم الحَقّ في الأرض؛ فالرَب نفسُه كان نَصيبهم. كان من المُقرَّر أن يَتمّ تمويل اللاويين ودَعْمِهم من قِبل الأسباط الاثني عشر (إذا حَسبنا لاوي سِبطًا من أسباط إسرائيل فسيَكون هناك ثلاث عشر سِبطًا)، ولذلك كان يُنظَر إلى احتياجاتهم التي تَتجاوز ما سيُقدَّم لهُم، على أنها صغيرة. بدلاً من ذلك، أُعطي اللاويون ثمانية وأربعين مدينة مُتناثرة في جميع أنحاء أراضي الأسباط الاثني عشر.
في الآية اثنان وسِتّين نرى أنّ عددَهُم كان ثلاثة وعشرون ألف ذَكَر. ولكن هذا العَدد خادِع لأنّه أحْصى جميع الذكور ابتداءً من سِنّ شَهر واحد وما فَوق. كان الحَدّ الأدنى لإحصاء الأسباط الاثني عشر عشرون سنة والحَدّ الأعلى حوالى خَمسين سنة؛ لذلك كان لاوي هو الأصغَر بين جميع الأسباط بسهولَة.
من المُدهِش أنّه عِند هذه النُقطة من التاريخ، كان ابنا يعقوب الثاني والثالث (الّذَين قادا الهجوم الرَهيب والفاجِر للانتقام من مواطِني شكيم الذكور العَاجزين قَبل حوالى خمسة آلاف سنة) هُم أصغرُهُم جميعاً.
لقد دَرَسْنا في سِفْر التكوين تسعة وأربعين البَرَكات النَبَوية التي أنْعَمَ بها يعقوب على كلّ واحِد من أبنائه. كان سمعان ولاوي الابنَين الوحيدَين اللذين جَمعَهُما يعقوب معًا وأعطاهُما بَرَكة واحدة مُشترَكة وكانت أقْرَب إلى اللعنة مِنها إلى البَرَكة. دعني أذكُرُها لك.
ترجمة الكتاب المقدس الأميركية الجديدة، تكوين الإصحاح تسعة وأربعون الآية خمسة ”شَمْعُونُ وَلاَوِي أَخَوَانِ، وَسَيْفَاهُمَا آلَةُ عُنْفٍ. ستّة، ”فَلاَ تَدْخُلْ نَفْسِي فِي مَجْلِسِهِمْ، وَلاَ يَتَّحِدْ مَجْدِي بِمَجْمَعِهِمْ، لأَنَّهُمْ بِغَضَبِهِمْ قَتَلُوا رِجَالاً، وَبِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ عَقَرُوا ثِيرَاناً. سبعة، ”مَلْعُونٌ غَضَبُهُمْ لأَنَّهُ شَدِيدٌ، وَغَضَبُهُمْ لأَنَّهُ قَاسٍ. أُفَرِّقُهُمْ فِي يَعْقُوبَ وَأُشَتِّتُهُمْ فِي إِسْرَائِيلَ.
هذه البَرَكة التي تَعود إلى ما يُقارِب من خمسة قرون كانت تتحقَّق في نَفْس اللحظة التي كان الوَعْد الذي أُعْطي لإبراهيم منذُ ستة قرون يَتحقَّق أيضًا.
يَنتهي الإصحاح بالتَذكير بأنّ كلَّ من بَقي من الذكور الذين كانوا دون العشرين من العُمْر عندما هَربَت إسرائيل من مِصر هُم يوشع وكالب؛ فَقد ماتَ ستمئة ألف ذَكَر خِلال تلك الأربعين سَنَة في البَرِّيضة. يا رَجُل، هذا عَدَد كبير من الجَنائز. كان يوشع وكالب هُما الجاسوسان من أْصل اثني عشر جاسوسًا الذين بَذَلوا قُصارى جُهدهِم لإقناع قادَة إسرائيل بالتقدُّم إلى كنعان قَبل ثمانية وثلاثين عامًا.
في الأسبوع القادِم، سنبْدأ الإصحاح سَبعة وعشرين.