سِفْر العدَد
الدرس الثاني عشر – الإصحاح الحادي عشر
لقد انتهَينا للتو من بعض الفُصول في سِفْر العدد التي أعطَتْنا الكثير من المَعلومات التَفصيليّة التي كان من الصَعب تَفسيرُها ولكننا كنّا بحاجة لدراستِها، تمامًا كما هو مَطلوب تَعلُّم جداول الضَرْب إذا كنا سنَتمكَّن من استخدام الرياضيات في حياتِنا. يبدأ سِفْر العدد الإصحاح الحادي عَشر بقُسْم من التوراة يُعتبَر بالنسبة لي رائع ومُفيد. فهو يروي قصّة ثمانية وثلاثين سنة من تَيْه بني إسرائيل في البَرّية. أَمّا مَوضوع الإصحاحات العديدة التالية فهو التَذمُّر وعدم الإيمان والتَّمَرُّد الواضِح. بالإضافة إلى ذلك تُظهِر العقوبات القاسية التي رَدَّ بها يَهوَهْ على هذه الإساءات ضِدَّه.
يبدو أنّ هذا القِسم من التوراة قد أذهَل بولُس الرسول أيضًا. فقد أشار كثيرًا إلى سِفْر العدد في كتاباتِه، خاصةً عندما كان يَكتُب وَيَتحدَّث إلى أهْل كورنثوس. يبدو أنه رأى أوجُه تَشابُهٍ كبيرة بين سلوك وحالة أولئك الكورنثيين، واليهود والأمميين، الذين آمنوا بالمسيح وبين بَني إسرائيل الذين كانوا يَجوبون برّية صحراء الشرق الأوسط جَنوب بئر سَبْع في معظم الأحيان، قَبْل ثلاثة عشرة قرناً من مجيئه.
دعونا نَستعِدّ لهذا القِسم من سِفْر العدد بقراءة القليل ممّا قاله القديس بولُس عندما قارَن مسيحيّي كورنثوس ببني إسرائيل في سِفْر الخروج.
اقرأ واحد كورنثوس الإصحاح عشرة من الآية واحد إلى اثني عشرة
تُصدِر التوراة العديد من التَحذيرات الواضِحة لأولئك الذين سَيَتْبَعون إله إسرائيل؛ وبولُس، الحاخام اليهودي المُثقَّف، فَهِم هذا الأمر بشَكل جيّد وأدرَك أنّ مجيء المسيح لا يُغيِّر بالطبع هذا الوَضْع. إنّ عِصيان الله، حتى مع إنجاز الفداء، لا يُحصِّن المؤمن بطريقة ما ضدّ العِقاب الإلهي. يَكتُب بولُس في رومية خمسة عشرة ما يؤسِّس لكل تعاليمِه: ”…….كُلُّ مَا كُتِبَ فِي الْأَيَّامِ الْأُولَى كُتِبَ لِتَعْلِيمِنَا…. “
ما كُتِب في الأيام السابقة يُشير إلى الكتاب المقدس العبري، التاناخ، المُسمَّى أيضًا العهد القديم أو بمَعنى آخر كلّ ما كُتِب قَبل مجيء يسوع.
ما يقصُده بولُس في ما قرأناه للتو في واحد كورنثوس عشرة هو ما يلي: إذا كان الله قد تَعامَل بقَسوَةٍ مع شعبه المُختار والمُميَّز، إسرائيل، فلماذا نَعتقِد أنه لن يَتعامل بقسوة مع شعبِه المميَّز والمُختار عند الاتحاد مع يسوع المسيح؟ هل أولئك الذين نُسمّيهم عادةً ”الكنيسة“ لم يَعودوا خاضِعين لغَضَب الله البارّ؟
تُحدِّد الآيات القليلة الأولى من واحد كورنثوس عشرة الموقِف الموازي: أولئك الذين اجتازوا البرِّية كانوا جميعًا أتباعًا لموسى (أي أتباعًا ل ”عَهْد موسى“). وبعبارةٍ أخرى كانوا جميعًا مَفديّين، وكانوا جميعًا بِعُهْدَة الله. لقد سَكَنَتْهم جميعًا نفْس الروح؛ وامتلأوا جميعًا بماء الصخرة الحيّ. ثم يُنوِّه بولُس بهذا التذكير الصادم: على الرُّغم من فدائهم وعلاقتهِم الشخصية مع الله، لم يَنجُ الكثير مِنهم عندما ألقى الله أجسادَهم المُتمرِّدة في الصحراء.
استنتاجُه حول ما يَعنيه هذا لأتباع يسوع المسيح يَرِد في الآية الحادية عشرة كورنثوس الإصحاح الحادي عشر من الكتاب المقدّس اليهودي (هذه الأمور حدثت لهم كأحداث تاريخية مسبقة وقد كُتبت كتحذير لنا نحن الذين نعيش في آخِرالأيام).
الآن وبِصَراحة، فإنّ غالبية الطوائف المسيحية تُزَيّف هذا الأمْر بالقول أنّ هذا تَحذيرٌ عن أمور لا يُمكن أن تحدُث للمؤمنين الفِعليين. المَوضوع الشائع بين المَسيحيين اليوم هو أنّ إله العهد القديم لم يَعُد موجودًا؛ أو بشكلٍ أكثر دِقّة أنه قد تَغيَّرَ جذريًا بحيثُ لم يعُد قاسيًا (مع أنّ بولُس يقول ذلك في رومية الإصحاح الحادي عشر)؛ لم يَعُد هناك عِقاب على الخطايا والعصيان (مع أنّ يسوع يقول ذلك في متّى سبعة).
نقلاً عن الكتاب المقدس اليَهودي متّى سبعة الإصحاح واحد وعشرون ”لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ!“ سيدخل ملكوت السموات، بل الذين يعملون ما يريده أبي الذي في السموات. اثنان وعشرون، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَيَقُولُ لِي كَثِيرُونَ: ”يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ! ألم نَتنبأ باسمك؟ ألم نطرُد الشياطين باسمِك؟
أَلَمْ نَصْنَعْ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً بِاسْمِكَ؟ ثلاثة وعشرون، حِينَئِذٍ أَقُولُ لَهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ: ”مَا عَرَفْتُكُمْ! ابتعِدُوا عَنِّي يَا عُمَّالَ الإِثْمِ!“.
كلاّ، يَقول بولُس ويسوع، هذا ليس تَحذيرًا عاديًا وتَهديدًا سطحيًا. اسمَعوني يا إخوتي: هذه عقيدةٌ من تِلك العقائد المَسيحية التي يُسعِدنا سماعُها لأنها تُزيل كل تَبِعات قراراتِنا وسلوكِنا، ولكن ليس لها أساس كتابي. بل إنّ ما نحن مَحميّون منه هو ما يُسمّيه الكتاب المقدس أيضًا ”كِلفة الخَطّية“ (الموت الروحي) و”لعنَة الناموس“ (وهو أيضًا الموت الروحي) وهما عبارتان لهما مَعنى واحد. هما واحد في نفْس الشيء إلا أنّ الأولى وَرَدت في مُصطلحات العَهد الجديد والأخرى في مُصطلحات العهد القديم.
هل ما زِلتْ تَعتقد أنّ الله لم يَعُد له جانب قاسٍ؟ أو أنّ كونَك من المؤمنين بالمَسيح يُعفيك بطريقةٍ ما من التأديب أو العِقاب (بمَعنى تَلقّي العواقب الإلهية أو الطبيعية) على خطاياك؟ بالطبع أنت مُعفى من الموت الأبدي بشرطٍ ألا تَتخلّى عن ولائك ليسوع بإرادتك الحرَّة. لكنَّك لَستَ مُحصّنًا من عدالة الله المُميتة لا في العهد القديم ولا الجديد.
دعونا نَستمِع قليلاً إلى المزيد من بولُس في رومية الإصحاح الحادي عشر؛ وهو قِسْمٌ من العهد الجديد كثيراً ما يتم تَخَطّيه أو يَتمّ التلاعُب به في العَصر الحديث.
اقرأ رومية الإصحاح الحادي عشر من الآية ثلاثة عشرة إلى اثنين وعشرين
يُعلِّم بولُس (كما كان دائمًا) أنّ الله قاسي ولطيف. إنه لَطيف مع أولئك الذين يَثقون به ويُطيعونه، وهو قاسي على أولئك الذين يَبتعدون عنه ويَتمرَّدون. طبيعة الله الأساسية لم تَتغَيَّر. تذكَّروا أنّ بولُس يتحدَّث إلى المؤمنين الأمميين بشكلٍ خاص واليهود بشكلٍ عام. إنه يتحدَّث إليكم وإليّ، لذا لا يُمكننا أن نَتظاهر بأن هذا الحديث ليس مُوجَّهاً لنا.
إذًا ما سندرُسُه في سِفْر العدد خلال الأسابيع العديدة القادمة يُحدِّد المبادئ الأساسية التي وَجَّهت بولُس في حياتِه وتنعكِس في رسائله التي هي أساس ما يجب أن تُكَوِّنْه عقيدة الكنيسة، ولكنها غالبًا تَكون خِلاف ذلك.
في سِفْر العدد نرى أنّ أوَّل ما تفعلُه إسرائيل تقريبًا عند مُغادرة جبَل سيناء هو التمَرُّد. حتّى موسى يصبح مُتذمِّرًا. على مدى الإصحاحات الخمسة عشر التالية سنكون قد فَصلنا لنا ستّة تَمرُّدات يمكن تَحديدها وكلّ واحدة منها كانت حقيقية وتُمثِّل ”نوعًا“ من التمَرُّد على يَهوَه. بعض التمَرُّدات كانت من قِبَل الشعب بشكل عام، وبعضُها من قِبل زعماء القبائل، وبعضُها من قِبَل اللاويين، وحتّى بعضُها من قِبل موسى. في الجوهر كما أنّ الكنائس السبعة في سِفْر الرؤيا هي في نَفْس الوقت حقيقية ولها أنماط، كذلك فإنّ تَمرُّدات شَعب إسرائيل في سِفْر العدد تُقدِّم لنا نَمَطًا يمكننا أن نتوقَّع حدوثَه داخِل الكنيسة. وعندما أقول الكنيسة لا تبدأوا في التَفكير في المَعْمَدانيين والميثوديين والكاثوليك، إلخ. أي لا تَتخيَّلوا الطوائف والمؤسسات والمباني. بل فَكِّروا بالأحرى في المؤمنين الأفراد ثمّ مَجموعات مُختلِفة من المؤمنين.
قريبًا سنَقضي عدة أسابيع في النَظَر في أمور العِلاقات البشرية، والقيادة البشرية، ومَحدودية البشَر، وتوقُّعات الله ومَطالبَه، والنتائج الإلهية لإخفاقاتِنا.
دعونا نقرأ سِفْر العدد الحادي عشر.
اقرأ العدد الحادي عشر كلِّه
يَنتهي الإصحاح عشرة بهذه القصيدة المُتفائلة، المُفعَمة بالصلاة والفرَح، والتي تُعبِّر عن الحالة النفسية والعاطفية لشَعب إسرائيل عندما بدأ في إعداد المُخيّم لرحلتِهم إلى أرض الميعاد:
ترجمة الكتاب المقدس الأميركي النموذجي الجديد، سِفْر العدد عشرة الآية خمسة وثلاثين، فَلَمَّا انْطَلَقَ التَّابُوتُ قَالَ مُوسَى: ”ارْتَفِعْ يَا رَبُّ! وَلْيَتَشَتَّتْ أَعْدَاؤُكَ، وَلْيَهْرُبْ مُبْغِضُوكَ أَمَامَكَ“. ستة وثلاثين، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ قَالَ: ”ارْجِعْ أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَى أُلُوفِ إِسْرَائِيلَ الْكَثِيرَةِ“.
الجُملة التالية من التوراة، الآية واحد من سِفْر العدد الحادي عشر تَقول ما يلي:
ترجمة الكتاب المقدس الأميركي النموذجي الجديد، سِفْر العدد الحادي عشر الآية واحد، وَكَانَ الشَّعْبُ كَالْمُشْتَكِينَ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي سَمْعِ الرَّبِّ، فَلَمَّا سَمِعَ الرَّبُّ اشْتَدَّ غَضَبُهُ، فَاشْتَعَلَتْ نَارُ الرَّبِّ فِيهِمْ وَأَكَلَتْ بَعْضَ أَطْرَافِ الْمُخَيَّمِ.
كَم من الوقت مَرّ بين العدَد الإصحاح عشرة الآية ستّة وثلاثين والحادي عشر الآية واحد؟ كَم من الوقت استغرَق الأمْر حتّى تَغيَّر موقِفهم وسلوكهم تَغيُّرًا جَذريًا إلى حدٍ ما؟ ثلاثة أيام! كم مرَّة ركَعنا على رِكَبنا أو رَفَعنا أيدينا إلى الرَب للتسبيح والعبادة، ثمّ في غضون ساعات يَنتهي بنا الأمر كئيبين مَهزومين. هل يجب أن نَشعُر بالاكتئاب حيال ذلك ونَستسلِم؟ لا، بل يجب أن نتوقَّع ذلك بطريقة ما. ليس بمعنى أن نَتوقَّع الهزيمة قَبل أن نبدأ رحلَتنا، ولكن بمَعنى أنه بالرغم من أنّ روح الله تَسكُن داخلنا، إلاّ أنّنا ما زِلنا نَحمِل هذه الخيام الجسدية وتلك النزعة الشريرة المُتأصِّلة في طبيعتنا. لذلك لا مَفرّ من قَدَرٍ من الفَشل.
ومع ذلك فإنّ مِقدار الفَشل مُرتبِطٌ إلى حدٍّ كبير بإرادتنا. إلى أي مدى نحن على استعداد للإيمان بالله، وتَكريس وقتِنا وطاقاتنا في مَعرفَة الله؟ إلى أي مدى نحن على استعداد لمُقاومة الشيطان ورغباتِنا الخاصة لطاعة الرَب؟ هناك مُقايضة مُباشرة في كلٍ من العهد القديم والعهد الجديد في هذا الصَدد. امشِ مع الرَب وستَفشَل بنسبةٍ أقلّ. ابتعِد عن الرَب، واختَر طريقَكَ الخاص، وستَفشَل أكثَر.
كما تَرَون لعَدَد لا يُحصى من الأسباب، علينا اتّباع يسوع فلا مَفرّ من فَشَل الإنسان أمام الله. عندما دَرَسْنا سِفْر اللاويين رأينا كمْ أنّ الخطية مُتعدِّدة الأوجُه ولا مَفَرَّ منها. كم هي النجاسة خبيثة. كم هي حالة ميؤوس مِنها بدون مُخلّصنا. سنُخطئ. سنَفشَل. ولكننا نستطيع أيضاً أن نُقلِّل من خطيئتنا وفَشَلِنا إذا ما التزَمنا بأوامِر الله، وبقوة الروح القدس، وبخلاص مسيحنا.
تقول الآية واحد أنّ الشَعب أصبح مجموعة من المُتذمّرين. في الواقع لا يُقال لنا بالضبط ما الذي كانوا يَشتكون منه. ومع ذلك يمكننا أن نَستنتِج أنّ الأمْر يتعلَّق بالمسيرة الصَعبة التي كانوا يُعانون منها لأن الآيات التي تَسبِق الإصحاح الحادي عشر الآية الأولى مُباشرةً (أي الآيات العديدة الأخيرة من الإصحاح عشر) كلُّها تتحدَّث عن مسيرتِه واتباعِه للسّحابة الناريّة.
لنكون مُنصفين، كانت درجة الصعوبة التي كان يواجهها هائلة. هل يُمكنكُم أن تَتخيّلوا كمّية الغُبار الخانق المُتصاعِد في الهواء بين اثنين إلى ثلاثة ملايين شخص ومئات الآلاف من الحيوانات؟ لم يَكونوا على طريق سَريع مُهيّأ بشكلٍ جيّد على الرغم من أنهم كانوا يَسيرون في طريق مَعروفة؛ ولكن كان من الصَعب جدًا السَير في المكان الذي أعْتقِد أنهم كانوا فيه (شمال مدين في التضاريس الصَحراوية الجَبليّة والصخرية). كلّ عائلة كان لديها أطفال صِغار. كل عائلة كان لديها مُسِنّون وعَجَزَة. في فصْل الشتاء كانت درجات الحرارة ليلاً تنخفِض في كثير من الأحيان إلى ما دون درجة التَجمُّد؛ وكانت درجة الحرارة في فَصْل الصيف في كل يوم تزيد عن مئة درجة. لم يكُن هذا الأمْر في أفضَل الظروف وقتًا مُمتعًا.
والأسوأ من ذلك أنهم رَفَعوا شكواهم مباشرةً إلى الرَب. ويقول النَصّ إنها كانت شكوى مريرة. في الواقع كَلِمة الشكوى في العبرية هي ” آل را“ ، ال تعني الشكوى ورا تعني حَرفياً الشَرّ. إذًا، بينما كَلِمة ”المرارة“ صحيحة، علينا أن نَفْهَم أنّ جَوهر كَلِمة المرارة مُتجذِّر في الشرّ. والفِكرة من هذه العبارة هي أنّ بني إسرائيل رَدّوا على لُطف الله ، خيِره، بـ "را"، الشَرّ، المرارة.
وكانت نَتيجة هذا العَمَل الوقِحِ غير المعقول أنّ الله عاقبَهم بالنّار. ما كانت هذه النّار؟ حسنًا، أولاً وقَبْل كل شيء كانت إلهية وخارِقة للطَبيعة. ربما كانت بَرْقًا. ربما كانت مُشابهة لما أمْطَرَه يَهوَهْ على سدوم وعمورة. أياً كان الأمْر، فإنه لمْ يَأتِ من خيمة البرّية؛ ويمكننا أن نَعرِف ذلك لأنه يقول أنّ النار اندلَعت في ”ضواحي“ المُخيَّم.
تَوسَّطَ موسى (وهذه كانت وظيفتُه) وأوقَف الله العِقاب. المَكان الذي كانوا فيه عندما حدَث ذلك كان اسمُه ”طابرة“، وتعني طابرة بالعبرية ”الحَرْق“. كان من المُعتاد بين القدماء (وخاصّةً بين العبرانيين) تَسمية الأماكن بأسماء الحوادث التي وَقَعت فيها. وهكذا نَشهَد على أوّل تمرُّد وعواقبِه.
توضِح الآية أربعة التمَرُّد التالي الذي يَتعلَّق بالطعام. في البداية اسمحوا لي أن أشير إلى أنّ هناك بعض الخِلاف حول موقِع هذا التمَرُّد الثاني. يقول بعض العلماء أنهم فَكّكوا المُخيَّم في طابرة وانتقَلوا ثمّ حدَث هذا التمَرُّد الثاني. ويقول آخرون إنهم مَكثوا في طابرة لفترَة من الوقت وهناك حدَث هذا التمَرُّد الثاني أيضًا. أعْتقِد أنهم بَقيوا في طابرة لأنّ النصّ يوضِح ذلك. وأنْ يضيفوا اسمًا آخر (كبروث-هتافا) إلى نفْس المكان ليس أمرًا غريبًا.
ما نَراه يبدأ في التَبلوُر هو أنه سيكون هناك تَوازٍ بين السَفَر من مصر إلى جبَل سيناء، ثم السَفَر من جبَل سيناء إلى قادش. يَرِد هنا مِثال: يريدون تَناوُل اللحم. رأينا هذا في سِفْر الخروج، واستجاب الرَبّ فأرسَل إليهم السمّان ليَأكلوه.
والآن تشيرُ الكَلِمات الأولى من الآية أربعة إلى أنّ مجموعة مُعيّنَة من الناس بدأوا بالمُطالبة باللحم، ثمّ انتشَرت الشكوى في كلّ المُخيَّم. وتُسمّى هذه المجموعة من المُتذمّرين بالعبرية ”أسافسوف“، وتَعني الرُعاع. ويُشبه هذا المصطلح إلى حدٍ كبير كَلِمة عبرية أخرى فريدة من نوعها استُخدِمت في سِفْر الخروج، وهي كَلِمة ”عيرف راف“، وتَعني الجموع المُختلَطة. يُجمِع العلماء إلى حدٍ ما على أنّ كَلِمة ”أسافسوف “ تُشير إلى تلك الجموع المُختلَطة؛ أي الآلاف من غير الإسرائيليين الذين تَبِعوهم من مصر وكان مَطلوبًا منهم أن يُخيِّموا في ضواحي مُخيَّم بني إسرائيل. وبعبارةٍ أخرى فإنّ هؤلاء المُتذمِّرين كانوا أجانب مُقيمين؛ ليسوا عبرانيين؛ كانوا أجانب يَرغبون في البقاء أجانب. لا شك أنّ الإشارة إلى النّار التي اندَلَعت في ضواحي المُخيَّم في التمَرُّد الأول مرتبطة باستخدام كَلِمة ”أسافسوف “ وتَصِف من بدأ كل هذا التذمر من أجل المزيد من التنوع في الوجبات الغذائية. بدأ هذان التمَرُّدان الأوّلان بسبب الأمميين الذين ارتَبطوا ببني إسرائيل، ولكنَّهم أيضًا لم يُشاركوهم إيمانهم أو رسالتَهم. لقد أرادوا فقط الحصول على أية مَنفعة يمكن أن يَحصلوا عليها عبر التقرُّب من هذا الشعب المُفضَّل، ولكنهم أرادوا أيضًا تَجنُّب الصعوبات.
تُضيف الآية التالية تَطوُّرًا مثيرًا للاهتمام. لماذا كانوا يَشتكون من اللحم؟ كان لديهم قِطعان وماشية. اللّحم الذي أرادوه هو السَمك! لماذا السَمك؟ لأن ذلك كان غذاءَهم الرئيسي الذي كانوا يَستمِدّون منه البروتين عندما كانوا عبيداً في مصر.
هناك سلسلة رائعة من الاكتشافات حول أفاريس، وعند سَفح أهرامات الجيزة، وبالقُرب من المَقابر الرائعة تحت الأرض في وادي المُلوك في مصر، كلُّها تؤكد أنّ الطعام الرئيسي للعُمّال، عُمَّال البناء سواء كانوا عِبْرانيين أو مِصريين كان السَمك.
فقد عُثِر على كميّات هائلة من عِظام الأسماك في كلّ مكان مُبَعثَرة في أماكن من الواضِح أنها كانت مُجهَّزة تَجهيزًا جيدًا لتناوُل الطعام، والتي كانت تَكفي لإطعام المئات في آنٍ واحد. وهذا أمرٌ مَنطقي. كان النيل مصدرًا كبيرًا للأسماك فقَد كان نَهرًا طويلًا جدًا يَمتدّ بطول مصر. لذا كانت الأسماك مُتوفِّرة بِوِفْرة في أيّ مكان في مَصر تقريبًا. وكان من السَهل تَجفيف الأسماك وحفظِها ونَقلِها. لم يكُن بالإمكان تربية الماشية إلا في مَناطق مُعيَّنة من مصر حيث كانت هناك مراعي كافية. كان لَحم البقر يُفْسَد خلال ساعات، لذلك كانت لحوم البقر أغلى ثمناً ومُتوفّرة للأثرياء في المُجتمع.
وبالطَبع في البَرّية لم يكُن بوسعِهم أيضًا أن يَزرَعوا بُستانًا إلا إذا توقَّفوا لفَترات طويلة من الزَمن، وهو ما كانوا يَفعلونه أحيانًا. لذلك في الآية خمسة نراهم يَشتَكون أيضًا من عدَم حصولِهم على فاكهة أو خضرواتٍ طازَجَة.
كان طعامُهم الأساسي منذُ خروجهم من مصر هو المَنّ. وقد سَئموا منه بالفِعل.
سَئموا المَنّ المَقلي، المَنّ المَسلوق، المَنّ المُحمَّص، المَنّ المَخبوز….. المَنّ الخام. ويبدو أنّ طعمَه كان لذيذًا كما توضِح الآيتان سبعة وثمانية. ولكن لم يكُن هذا هو النِظام الغذائي الذي اعتادوا عليه، ولم يُقدَّم لهم الخيارات الكثيرة مِثل ما اعتادوا عليه في أرض جوشن.
وكما سئم الشعب من المَنّ، فقَد سئم موسى من الشعب بنفْس القدْر. لقد كان مُرهَقًا ومُشمئزًا ومهزومًا. كان الأمْر ليكون مُضحكًا لو لم يكُن الأمْر مُحزنًا جدًا، لأنّ الآية عشرة تقول: ”فَغَضِبَ الرَّبُّ، فَحَزِنَ مُوسَى“. يا لها من فوضى. يَذهَب موسى المُحبَط إلى الرَب الغاضب ويقول: أُفَضِّل أن أموت على أن أتَعامَل مع هؤلاء الناس بعد الآن. ويَمضي موسى ليقول ماذا فَعَلتُ لأستَحقّ هذا؟ أنا لمْ أخْلق هذا الشعب. لم أُفكِّر في هذه الخطة العظيمة. لم يكُن هذا عهدي الذي قَطعتُه بأن يكون لشعبك أرضُه الخاصة. فلماذا هُم عبءٌ عليّ؟
يَقول موسى، من أين يُفترَض بي أن أحصُل على كلّ هذا الطعام المُتنوِّع الذي يَتذمَّرون للحصول عليه جميعًا؟ كيف يُفترَض بي أن أُرضي الجميع في نفْس الوقت؟ واحد يريد هذا والآخر يريد ذاك. بعد إعادة النظَر، تَخلَّص منّي. موسى كان في مِزاج سيّء حقًا.
من المُثير للاهتمام أنّه بعد أن انفَجر موسى في وجْه الله، لم يوبِّخه الله على ذلك. بل يَمضي في مُعالجَة الطَلبات. أتذكَّر أنّ والدي العزيز الراحل أخبرَني منذ سنوات عديدة أنّه لا بأس أن تَغضَب من الله وأن تُخبِره بما تَشعُر به. يمكنُه أن يَتقبَّل ذلك. وكما تَعلمون، في الواقع، كلَّما كانت علاقتنا وطيدة مع شَخص ما كُلَّما كنا أحرارًا في التَواصل ومُشاركة مخاوفِنا وخيبات أمَلِنا وقلقِنا. وهذا في الواقع ما كان يَفعلُه موسى. كان لموسى علاقة صادِقة مع الله. أخبَر الله عن إحباطاتِه. أخبَرَ الله بما كان يدور في بالِه. ولم يُعاقِبْه الله قائلاً: ”لا تَتحدَّث إلي هكذا أبدًا“. يَهوَهْ ليس حائرًا؛ إنه يعرِف من هو ومَن أنت.
قِيل لنا أن نَقترِب من الله ونُصلّي بالروح والحَقّ. حسنًا، لقد تَقرَّب موسى من الله بالحقيقة، حتى لو لمْ يكُن بروحٍ مُفعمةٍ بالصدق. علينا أن نَحذو حذوَه.
إذًا ها هو حَلّ الله للمُشكلات: أخَذَ سبعين شيخًا (قادة إسرائيل العِلمانيين) وتَقديمهم إلى أمام خيمة الاجتماع. وبعبارة أخرى، جَمعِهِم للتعبير عن الأعباء. تذكَّروا أنّ الله دعا سبعين شيخًا ليَصعدوا جِزءًا من جبَل سيناء مع موسى في سِفْر التكوين. افهَموا: لم يكُن هذا مَجْلِسًا يهدُف إلى إعطاء موسى المزيد من النَصائح (كان لديه بالفِعل نصائح واقتراحات أكثر مما يمكنه تَحمُّلُه).
بل كان على هؤلاء الرجال أن يَتحمَّلوا جزءًا من العبء. كان عليهم أن يُنفِّذوا لا أن يَقترحوا.
والآن، تتحدَّث الآيات العديدة التالية عن شيء يجب أن نَنتبِه إليه جيدًا: إنها تتحدَّث عن روح الله، روحه. لستُ متأكداً من أنّ هناك جانِباً من جوانب اللاهوت أكثر إثارة للجَدَل بما يَخصّ جسد المؤمنين وعَمَل الروح القدس. ولكن يبدو لي أن هناك فُرصة هنا لفَهْم الروح أكثر.
في الآية السابعة عشرة يَقول الله أنه سيَمْسَح هؤلاء الشيوخ السبعين كقادَة مُساعدين لموسى. ولكن لكَي لا يكون هؤلاء السبعون مجرَّد مُشرفين ومُحاسبين وقُضاة عاديين، كان الله سيَبُثّ في هؤلاء الرجال نفْس الروح التي كانت في موسى. كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي سيَحمِل بها هؤلاء الرِجال سُلطة الله، والتي كانت ضرورية للغاية للقيام بواجباتِهم الجديدة. ما يَقوله الكتاب في الواقِع هو أنّ الله كان سيُشارك أو يَسحَب الروح التي كانت في موسى مع الشيوخ السَبعين. إنّ الكَلِمة العبرية هي في-اتسالتي-مين، وتَعني حَرفياً أن يَحجِز أو يَسحَب.
فَهَل ما لدينا هنا هو زَرعٌ لروحٍ من موسى في أجساد السَبعين؟ هل تَبدو فِكرة زَرْع الروح غريبة بعض الشيء بالنسبة لك؟ حسنًا، هذا النَوع من الأشياء سيحدُث مرة أخرى بعد ثلاثة عشرة قرْنًا أو نَحو ذلك في عيد العنصرة. خلال عيد شافوعوت (العَنصرة باليونانية) مُباشرةً بعد موت المَسيح، نَفْس الروح التي قَوّت يسوع كانت ستُشارَك وتُمنَح للنّاس. من المُثير للاهتمام أنّ يسوع يقول أنّ الروح لا يمكن أن يأتي حتى رَحيلُه. لماذا؟ حسنًا، هذه مسألة تَطرَح بعض التكهّنات. هل كان من المُحتمل أنّ يسوع كان مُنذ معموديته ونزول روح الله عليه، هو المَسكِن الوحيد للروح القدُس على الأرض لفترة من الزَمن؟ هل كان هذا، مُشابِهًا لقصة موسى حيث بدا موسى لفترة من الوقت وكأنه الإنسان الوحيد الذي يَحمِل روح الله على الأرض؟ لذلك عندما حان الوقت لتَقاسُمِ سُلطة موسى وواجباتِه، كان لا بد من سَحبِها من موسى (الوعاء الأرضي الوحيد لها) إلى السَبعين رَجُلاً.
أعتقد أنّ هذا ما حَدَث. لقد أوصانا مَسيحُنا أنّ وظيفة كلّ مؤمنٍ مملوء بالروح أن يُطعِّم القطيع؛ أن يَعتني بجَسد التلاميذ؛ أن يحمِل رسالتَه إلى العالَم ويَصنَع تلاميذ جُدد. وظيفة بعض المؤمنين المَملوءين بالروح هي أن يَقودوا مؤمنين آخرين. ولكننا لا يَجِب أن نفعَل أيًا من ذلك بقوَّتِنا الخاصة…… على الرُّغم من أنه يُمكن أن نَنجح (على الأقل ظاهريًا) إلى حدٍ ما.
كان علينا أن نَبدأ في القيام بذلك بَعد رَحيل يسوع، وبنفْس القوة والسُلطة التي كانت لديه: روخ هاكودش……… الروح القُدُس. عندما كان يسوع مَعَنا شخصيًا، كان يَحمِل العبء وحدَه. الآن علينا أن نُشاركَه العبء. هذا هو المَقصود بأن نحمِل صليبنا ونَتبَعه. هذا كلُّه يَتعلَّق بتقاسُم الأعباء. بصراحة، هذا التعليم برُمَّته يجعَل سَلبيّتنا المسيحية العامة تبدو غير مسؤولة إلى حدٍ كبير، أليس كذلك؟
دعوني أكون واضحًا: ليست الفِكرة أنّ روح القدس مَحدود. ولكن هناك روح واحدة فقط مُنبثِقة من روح الله. لا أعتقِد أنني أستطيع أن أشرَح هذا بشكلٍ أفضَل كما لا أعتقد أنّ هناك صورة أفضَل من سِفْر العدَد مع موسى والسبعين رَجُلاً وكيف أنّه بعدَ هذا النَمط ستَتجلّى نُسختُه في العهد الجديد، أولاً في المَسيح ثم من المَسيح إلى الجَماعة المؤمِنة.
بالمناسبة: لاحِظوا أنّ السبعين كان يَجِبُ أن يَمثُلوا أمام الرَب…… أن يُحضَروا إلى خيمة البرية. لماذا؟ لأن الله هو الذي قام بعملية زَرْع الروح، وليس موسى. وبفِعل ذلك في خيمة الله كان واضِحًا للجميع أنّ مُعجزة الروح لم تكُن بقوّة موسى بل بقوّة الله. الأمْر نَفْسُه بالنسبة لنا. يمكننا أن نُقدِّم الشهادة للناس، ويمكننا أن نقول إننا قَرَّبنا الناس من الرَب. هذا صحيح. ولكن لا يُمكننا القيام بما هو أعظم ممّا قام به موسى الذي قاد هؤلاء السَبعين إلى خيمة الاجتماع، مَسْكَن الله. بمعنى آخر، يمكننا أن نُقنعَهم ونَجعلهم يوافِقون على التقرُّب من الرَب، ولكن من تلك النقطة فصاعداً فإنّ مُعجِزة وعَمَل الله هي أن يَزرَع الروح القدس في كلّ مؤمن جديد.
الآن في الأسبوع القادم سنُواصِل الدَرس وننظُر في كيفية إعطاء الله لبني إسرائيل والأجانب لحماً. أعطاهُم السمّان، كما فَعَل قَبلاً. ولكن، سيكون هناك اختِلاف كبير، ففي المرَّة الأولى، فعَل ذلك بنعمتِه لتوفير حاجَة حقيقية ومَلموسة. هذه المرَّة، سيَفعَل ذلك في غَضَب، لإثبات وجهة نَظَر. وسيكون هناك ثَمن باهِظ سيُدفع لإغضاب الله بهذه الطريقة.