سِفْر العدد
الدَرس السابع عشر – الإصحاح الخامس عشر
ناقَشنا في الأسبوع المَاضي التَمَرُّد الكبير لِبَني إسرائيل على يَهوَه، عندما رَفضوا أن يثقوا به، ولذلك امتَنَعوا عن دخول أرض الميعاد التي كانت قد أُعِدَّت لهم. وأكثَر من ذلك، درسْنا عواقِب هذا التَمَرُّد (التَيْه لمدَّة أربعين سنة في الصحراء، مع عدَم السَماح لأيٍ من الذين هم في سِنّ المسؤولية بدخول أرض الميعاد باستثناء يشوع وكالب).
ولكن، تَحدَّثنا أيضًا عن مَبدأ الله التأسيسي الذي أَطلَق عليه العُلماء اسم ”الجزاء المتوارَث“. باختصار، المبدأ هو أنّ العِقاب الإلهي المُستحَقّ للأب على خطيئة ضدّ الله، يمكن أن يؤجَّل ليَخْتَبِرَه أولادُه أو حتى الأجيال اللاحقة. والمَبدأ نفسه ينطبِق أيضًا على الرَحمة: أي أنّ الرَحمة المُستحقَّة للأب يمكن تأجيلُها وإعطاؤها لذريَّتِه. سنُواصِل اليوم دراسة المزيد من المبادئ الإلهية الهامَّة التي تمّ تَوضيحُها في هذا الإصحاح.
أريد أن أُكرِّر خاصةً للقادمين الجُدُدْ إلى صَفّ التوراة أنّ العهد الجديد الذي لا يُقدَّر بثَمن بالنسبة لنا جميعًا هو في الأساس مَبْني على نقطتَين فقط: أولاً يُخبرُنا من هو المسيح الذي تنبّأ به العَهد القديم، مع النِقاط البارِزة لما فَعَله ولماذا فَعلَها؛ وثانيًا يَشرَح العَهد القديم ويأخُذ في الاعتبار مجيء يسوع وكيف أنّه يُحقِّق الكثير من معاني وأوامِر التوراة وبِشارات الأنبياء. لذلك، أكثَر من نِصف العبارات والجُمَل التي تُشكِّل العهد الجديد هي مُجرَّد اقتباسات مُباشرة من العهد القديم.
ولكن علينا أيضًا أن نُدرِك أنّ أي تَفسير يأتي حُكمًا بعد المادّة التأسيسية أي أنّ كلّ ما يَجب أن يَفعلَه أي واعِظ اليوم (ومعظمُهم يفعلون ذلك) هو التَّعليق على ما كُتِب سابقًا (تحديدًا، الكتاب المقدَّس). التوراة والأنبياء هي المادّة التأسيسية، وبالتالي فإنّ العَهد الجديد يُعلِّق عليها (بولُس خاصَّة). في العِبرية يُسمَّى هذا التعليق تقليديًا مِدراش. لذا، إذا كان كلّ ما نقرأه هو الشَرْح وليس المادَّة التأسيسية، فسَنَفْهَم بعض الأمور بشكل صحيح وبعض الأمور بشكل خاطئ. إنّ التوراة هي التي سنَجِد فيها كلّ المبادئ الإلهية التأسيسية مَشروحةً بالتَفصيل. يَتوقَّع العَهد الجديد تمامًا من قرّائه أن يكون لديهم مُسبَقًا الكتاب المقدَّس الأوّل، وهو التوراة. فبدونِها، من المُحتمَل أن يُحاول المَرء مثلاً أن يجرِّب تَعلُّم الجَبْر دون أن يكون قد دَرَس الرياضيات الأساسية. قد يَحصُل المَرء على خلاصة من دروس الجَبْر، ولكن الأساس سيَذهَب سُدىً دون أن يَكتشفه أحَد والأسباب التي تَكمُن وراء المُعادلات الجبرية ستَظلّ مَجهولة وبالتالي سيُساء استخدامُها في بعض الأحيان.
لن نَقضي وقتًا قَصيرًا في هذا الأمْر، ولكن هناك سِمة مهمَّة في مَبدأ الجَبْر الرأسي هذا أوَدُّ أن أوضِحُها قليلًا. وهي أنّه بشكل عام إذا كان الشخص الذي ارتكَب جريمة ضد يَهوَه، تائبًا ونادِمًا، يتم صلاخ……العَفو… من العقوبة ويَتمّ تأجيلُها ونقلُها إلى الجيل التالي من عائلته. مَلحوظة: تمّ العَفو عن العقوبة بِنقلِها إلى الجيل التالي. لكن الخطيئة وذَنْب ارتكاب تلك الخطيئة، يبقيان بشكل دائم. ومع ذلك، إذا قَبِل ذلك الجيل التالي واعترَف بأنه يَتحمَّل بِحَقّ آثام آبائه…..وقَبِلَ وأكرَم مبدأ الله في الجزاء المتوارَث…. ثم تاب، وطلَب الصلاخ … العَفو، أو الصَفح عن القَصاص…. عندها يَنتقِل العقاب إلى الجيل التالي، وهكذا دواليك.
في عصرِنا السياسي الحديث، نُطلِق على فِعْل تمرير المُشكلة عبارة ”رَكْل العُلبة على الطريق“. أي أنه بدلاً من أن يواجِه الزعيم السياسي مُشكِلةً مُعقَّدةً ويَفعل الشيء الصحيح لأنها مُشكلة سياسية قابِلة للانفجار، فإنه يَجِد طريقة لتَضميد المشكلة ويَترُكُها للزعيم التالي الذي سيَخلُفُه. وبالطبع، عادةً ما يَتم تَسليم القائد التالي هذه العُلبة، ويُصبِح هدفُه رَكْل نفْس العُلبة وغيرِها من العُلَب الأخرى بقدْر ما هو قادر ، إلى حين وصول بَديله.
لذا، فإنّ جزءًا لا يَتجزّأ من مَفهوم الجزاء المتوارَث هو القُدرَة على رَكْل العُلبة في الطريق. يَتم تأجيل العقوبة المُستحَقّة للمذنِب وتمريرُها إلى الجيل التالي، وإذا كان هذا الجيل التالي نادِمًا، وطَلَب الصَلاخ….العَفو. يُمْكِنُه تمرير العقوبة التي كان من المُفترَض أن يَتحمَّلها إلى من يَليه.
الآن، دعوني أؤكِّد: هذه ليست خُرافة قديمة. هذا مَبدأ كتابي تأسيسي من الكتاب المقدس أمَرَ به الخالِق. إنه مَنسوج في الكَلِمة كلها، ويَتعلَّق بسبب حاجتِنا إلى مُخلِّص.
كما ترى، الله ليس إنسانًا حتّى يَتغيَّر. عندما يكون العَدْل مُستحَقًّا لله لأن شخصًا ما قد خالَف أوامِرَه، فلا بدّ من انتزاع العَدْل. لا يمكن أن يتمّ الأمْر بطريقة أخرى وإلا كان الله ببساطة مُتقَلِّبًا وتَعسفيًا ولا يمكن أن يؤخَذ بكَلامِه. ومع ذلك، فإنّ تأجيل العَدالة، وأن يَتحمَّل شخصٌ بريء العقاب العادل بدلاً من الطرَف المُذنِب، يَسمَح قانونًا لله أن يَفعَل ما يريد فِعلَه حقًا: إظهار الرَحمة لمَخلوقاتِه.
والمَقصود هو أنّه وإنْ ركَلَتْ آلاف العائلات عُلبة القَصاص والعِقاب على الطريق عَبْرَ كل أجيال البشرية، فلا بد أن يَنتهي الأمْر في مكانٍ ما؛ لا بد أن يقَعَ كل شيء في النهاية على عاتِق شخصٍ ما. إنه ليس طريقًا لا نهاية له. لا يَستمرّ الأمر حتّى الأبدية ثم يَنسى الله الأمر ببساطَة. لكن أيّ إنسان يُمكن أن يَتحمَّل كل هذا القَصاص والذَنْب الذي تراكَم على مَرّ القرون، في خطَّ عائلته، وفي عالَم مليء بالعائلات؟ إنّ عُلبة القَصاص المؤجَّلة التي رُكِلت في الطريق لفترة طويلة، توقَّفتْ عن التدحرُج عندما وَصَلت إلى قدمي يسوع.
عندما نقرأ كيف أنّ مَسيحَنا دفَع ثَمن آثامنا، ترى أنّه لم يكُن ذلك فقط بدلاً عن آثام الجيل الذي عاشَ فيه يسوع، ولم يكُن فقَط عن الأجيال القادمة. لقد كان عن ”آثام الآباء“. الآثام التي حَدثَت في مئات الأجيال السابقة. وكان مَبدأ الله في الجزاء المتوارَث هو الذي لَعِب دورًا رئيسيًا في السَماح بتأجيلِ تلك العقوبات الإلهية المُدمِّرة إلى أن يكون لنا مُخلِّص يَتحمَّلُها عن كل الأجيال الماضية.
كما ترى، ربما نَكون قد أفلَتْنا من العقاب الإلهي الذي كان يجب أن نواجِهَه بِحقّ وأن نختَبِره: عقابٌ ليس فقط بسبب أفعالِنا، بل بسبب خطايا آبائنا التي انتقَلَت إلينا. ولكن، حتى لو كنّا غافلين عن ذلك فإنّ هذا العقاب قد استُخرِج بالفِعل. لقد وُضِعَ على يسوع المسيح. إذًا، بهذه الطريقة، تَحقَّقت عدالة الله حَرفيًا، كما يَجب أن تكون. أُجِّل العقاب لفترة طويلة، لكنَّه في النهاية نُفِّذ بالكامل عندما عُلِّق يسوع على ذلك الصليب.
غَيَّر يسوع، بِطُرُق عديدة، ديناميكية الجزاء المتوارَث. في يوحنّا الفَصل التاسع الآية الأولى، عندما سأل رَجُل يسوع عن سبب ولادة رَجُل مُعيَّن أعمى، أراد أن يَعرِف ما إذا كانت خطايا وَالد ذلك الرَجُل هي التي سبَّبت العمى، أم خطايا ذلك الرَجُل نفسه. ما كان يُشير إليه هذا الرَجُل هو مبدأ الجزاء المتوارَث المَفهوم جيدًا. أجابَ يسوع أنه لا خطايا ذلك الرَجُل الأعمى ولا خطايا أبيه كانت المُشكلة؛ بل ظَلَّ أعمى حتّى تَظهَر أعمال الله فيه. وشَرَع يسوع في شفائه.
قال يسوع وبَيَّن، أنّ الإنسان سيَحمِل خطاياه وَحدَه؛ من ذلك الوقت فَصاعدًا. أصبَح هذا الحال منذ مجيء يسوع، ليس لأن مَبدأ الجزاء المتوارَث تَغيَّرَ أو أُلغي، ولكن لأنه من ذلك الوقت فصاعدًا، عندما مَنَح الله الصلاخ لرَجُل أخطأ في حقِّه رَجُل كان قد طَلَب من الله الصلاخ باسم يسوع…. تمّ تأجيل العِقاب الإلهي على ذلك الرَجُل وانتقَل إلى يسوع. عندما يخطئ رَجُلٌ، في عصرِنا، مؤمِن كان أو غير مؤمن… ذلك الإنسان… أنت، أنا، أي شخص…. مُستحِقّ للعقاب الإلهي. غَيْر المؤمن يَتحمَّل هذا العقاب بنفسِه، روحيًا بعد موتِه الجسدي عندما يواجِه الموت الأبدي. ولكن، بالنسبة لنا كمؤمنين، فإنّ علاجَنا هو أن نَثِق بالمسيح ونَتوب ونَندَم، ونَطلُب من الله الصلاخ باسمِه وسيَتحمَّل يسوع ذلك القَصاص الإلهي الذي كنّا نستحقُّه. إنّ مبدأ الجزاء المتوارَث الذي أرْساه الله، والذي نَجِدُه هنا في سِفْر العدد، هو أساس تَمكين كفّارة المسيح للبشرية ليَكون بديلاً صالِحاً لما كان ينبغي أن يَكون هلاكَنا الشَخصي الأبدي.
دعونا نقرأ سفر العدد الخامِس عشر.
لنقرأ العدد الخامِس عشر جميعًا
لقد سَبَّب هذا الإصحاح للكثيرين من عُلماء الكتاب المقدَّس الكثير من الانزعاج لأنّ هذا الإصحاح يبدو للبَعض في غَيْر مَحلِّه. لذلك يَستنتجون أنّ أحدهُم أضاف هذا الإصحاح كلَّه، أو أجزاءً منه، في تاريخٍ مُتأخِّر يَصِل إلى عام مئتين قَبل الميلاد.
ولكنني لا أتَّفِق مع هذه الفرضية؛ يُمكنني بسهولة أن أرى العلاقة مع الإصحاحين السابقَيْن والحاجَة إلى اتْباعِهِما مُباشرةً بمحتويات الإصحاح الخامس عشر. بما أنّ الإصحاحين السابقين كانا يَتعلَّقان بأخطَر أنواع التَمَرُّد على يَهوَه، فقد انتابَ موسى والآخرين قَلَقٌ كبير حول إذا كان الرَب سيَحترِم عهودَه مَعهم أم لا، وإذا كان سيَسمَح لإسرائيل بدخول الأرض على نفْس الأساس أو على أساس مُشابِه، كما سبَق أن شَرَحْنا، قَبل التَمَرُّد بفترة من الزَمن. لذا، بالنسبة لي، فإنّ مُحتويات الإصحاح الخامس عشر ليست فقط مُناسِبة، بل هي ضرورية حتّى يَفهَم شعب إسرائيل أنّ الله سيُدخِل شعبَه إلى كنعان.
لذلك، من بين الكَلِمات القليلة الأولى من الإصحاح الخامس عشر، في الآية الثانية، يقول الله: عندما تَدخُلون الأرض التي أعطيكم إياها لتَستقرّوا فيها. يقول الله متى وليس إذا. لذا، نرى أنّ الله أعْطى صلاخ……عَفوَه….. عن التَمَرُّد أي أنّه يريد ببساطة أن يَمضي قدماً في خِطّتِه: استيطان أرض كنعان مع بني إسرائيل. ومن هناك يُعطي الرَب تعليمات أخرى، مُعدَّلة إلى درجةٍ ما فيما يتعلَّق بتقديم الذبائح.
الأمْر الأساسي الذي يجِب أن نُلاحظَه هو أنّ الأحكام والشرائع التي سيَأمُر بها بني إسرائيل ستدخُل حيِّز التَنفيذ بعد دخولِهم أرْض كنعان، أي بَعْد حوالي ثمانية وثلاثين سنة في المُستقبَل. هذه القوانين لا تَدْخُل حيِّز التنفيذ على الفَور. في الواقع، هناك طرُق قليلة يمكن تنفيذُها عَملياً لأنّ مَوارِد الحبوب والخَمر، والعدَد الكافي من الحيوانات المُناسِبة للذبيحة في ظِلّ المُتطلِّبات الأكثر صرامة والأكبر حجماً التي تُفرض الآن، لا يمكن أن تتمّ إلا في مُجتمَع مُستقِرّ عندما تكون الزراعة وتربية المواشي مُنظَّمة بشكل جيّد.
إذَن، يُظهِر هذا الإصحاح بوضوح أنّ الله لم يَرفُض شَعبه إسرائيل بسبب تَمرُّدِه؛ وأنّ عدم أمانتِه لم تُبطِل أمانة الله له ولعهودِه. كما أنّه يوضِح أيضًا أنّ التوبة مع تقديم الذبائح المُناسِبة…التي تُشير بالمعنى الأوسَع إلى عودة إسرائيل إلى الاحترام، والطاعة لأوامِر الله، يُمكِنُ أن تُجلِب الاستعادة والمُصالَحة مع يَهوَه.
عندما ندخُل إلى الآية الثالثة، نَجِد أنّ جميع الذبائح الحيوانية التي تُعتبَر نوعًا من الذبائح العشية كان يَجب أن تكون مَصحوبة بتَقدِمة من الحبوب والزيت ونوع من التَقْدِمة السائلة. والآن، ما هي ذبيحة العشية؟ حسنًا، لقد حَيَّر هذا الأمْر الحاخامات والعُلماء المَسيحيين على حدٍ سواء. غالبًا ما تُترجَم على أنها ذبيحة مَحروقة؛ ولكن هذا بعيد عن الحقيقة لأنّ الكَلِمة العبرية لنوع الذبيحة المُحدَّد جدًا من الذبائح التي تُسمّى مَحروقة هي عُلَّى ويُترجِمُها آخرون على أنها ”ذبيحة في النار“. ربما يكون هذا أقرَب قليلاً إلى الفِكرة. يَعتقِد البَعض أنه يجب تَرجمتُها على أنها ”تقدِمة طعام“. في الواقع، لا يُمكننا أن نكون مُتأكِّدين من القَصد الأصلي؛ ولكن الحاخامات من قَبل زَمن المسيح تعامَلوا مع هذا المُصطلح على أنّه يَعني ”هديّة“. أو، في سياق كيفية مُمارستِها في الواقع، ”هدية طَعام أُحرِقت بالنار“. إذًا، أيًا كان نوع الذبائح الحيوانية التي كان يَستطيع الكهنة أو العابِد أو كلاهما أن يَحتَفِظا بجزء منها كطعام، كان يَجب أن تَتضمَّن ذبيحة من الحبوب والزيت وغالبًا ما كانت تَتضمَّن خَمْرًا.
والآن، اعذروني على التَعمُّق قليلاً في التَفاصيل الفَنِّيَة للطبيعة الدَقيقة لهذه الذبيحة العشية، ولكن علينا أن نَعتاد على حقيقة أنّه كانت هناك عِدّة أنواع من الذبائح، ولكُلٍّ منها لأغراض مُختلفة، تمامًا كما نَجِد عِدَّة عهود مُختَلِفة، ولكلٍ منها أغراض مُختلفة. لم تُلغَ ذبيحة واحدة الذبائح الأخرى، ولا كلّ عَهد جديد قَطعَه الله مع إسرائيل يُلغي العهود الأخرى. لقد غَطَّينا مُعظم هذه الذبائح في سِفْر اللاويين، ولن نَتطرَّق إليها مرة أخرى. وأنا مُقتنِع بأنّ السَبب في تَعدُّد أنواع الذبائح هو تَعليمنا الطبيعة مُتعدِّدة الأوجُه للخطيّة وعواقبِها. لقد أرادت المسيحية الحديثة أن تَجعل الخَطيّة مسألة بسيطة للغاية: الخَطيّة هي الخطيّة؛ مما يعني أنه سواء ارتكَبْتَ إبادة جماعية لشَعب، أو سرقْتَ سيارة، أو كذبتَ على أمِّك، فإنّ الأمر كلَّه سيّانٌ بالنسبة لله. هذا ليس صَحيحًا بالتأكيد، والتوراة توضِح لنا بشكل مَنهجي وصَريح أنّ بعض الخطايا وبَعض الشرور أسوأ من غيرِها في نَظَر الله.
وشُرِح ذلك لنا من خلال أسباب وطقوس كلّ نوع من أنواع الذبائح المُختلفة.
دعونا لا نَدَع تلك العبارة عن ”إنتاج رائحة مُرْضية للرَب“ في الآية ثلاثة تَمُرُّ من دون نِقاش. لقد تحدَّثت عن هذا الأمْر من قَبل، وطلبتُ مِنكم أن تكونوا على اطِّلاع به. لقد كان اعتقادًا قديمًا…… قَبل وجود بني إسرائيل… أنّ جِزءًا على الأقل من الغَرَض من إحراق الحيوانات على المَذبح هو خَلْق دخان ليَتصاعَد إلى أنف أي إله أو إلهة كانت تُعبَد. بينما يمكننا أن نفهَم ذلك على أنه كِنايةً عن رِضا الرَب بما يَخصّ طاعة شرائعه القُربانية، يمكنني أن أؤكِّد لكم أنّ بني إسرائيل كانوا يُفكِّرون كما كان يُفكِّر جيرانُهم الوثنيّون: أنّ يَهوَهْ كان يَستمتِع برائحة الدخان الفِعلية. هذا أمْرٌ مُهمٌّ لأنّه يَجب ألا نَعتقِد أنّه لمجرَّد أنّ يَهوَهْ أعْلَنَ بني إسرائيل شعبًا مُقدَّسًا، فهُم سيبدؤون بالتَصرُّف والتَفكير تلقائيًا بطريقة مُقدَّسة أو مُطِيعَة. لقد عَمِلوا وِفق المُعتقدات العامّة للعالَم الذي كانوا جزءًا منه في ذلك العَصر. كان الله فقط في المَرحلة الأولى من عَملية إعادة تربية طويلة الأمد لشعبِه.
في الآية خمسة نرى ذِكْر الخَمر الذي تمّ تَعيينه على أنّه الإراقة…. أي الجزء السائل من التَقْدِمَة.
كان من المُناسب تمامًا، بَعد التَمَرُّد الذي حَصَل عندما أعاد الكشَّافة عُنقود العِنب الكبير الذي يَرمُز إلى خَصْب أرض كنعان المثالي، أن يَختار الله وأن يؤكِّد على الحاجة إلى الخَمْر كجزء من طقوس الذبيحة.
أريد أن أنتقِل الآن إلى الآية الرابعة عشرة لأنّها تَفتَح قَضيّة ذات أهمية لجميع طلاب الكتاب المقدَّس، وخاصّةً أولئك الذين يَعرفون بالفِعل يسوع كمُخلِّص. إن كنتُم تريدون أن تَعرِفوا المزيد من التفاصيل عن مُختلف أنواع الذبائح التي يَتمّ الحديث عنها هنا، في الآيات العديدة الأولى من سِفْر العدد الخامس عشر، راجِعوا تعاليمي حول هذا الموضوع في سِفْر اللاويين.
الآن، المَسألة تَتعلَّق بما تُسمّيه تَرجمتُنا ”الغرباء“ أو ”الأجانب“ داخل إسرائيل. وهي تَتمحور حول طبيعة الالتزامات التي تَقَع على عاتق هؤلاء ”الغرباء“ أو ”الأجانب“ الذين يَعيشون داخل إسرائيل فيما يَتعلَّق بالطقوس القُربانية وعبادة يَهوَه.
أولاً، رُبَّما في عالَمنا المُعاصِر، أفضَل مُصطلح يُعطينا صورة ذهنية أوضَح عن المَقصود بالغَريب أو الأجنبي في الكتاب المقدَّس هو ”الأجانب المُقيمين“. وبعبارةٍ أخرى، هؤلاء مُهاجرون شَرعيّون من جِنسٍ آخر من البَشر، من أمَّة أخرى؛ غَير العبرانيين، عاشوا بين العبرانيين ولكن لم يَكونوا مِنهم. الكَلِمة في الكتاب المقدَّس بالعِبرية هي "غير".
لذا، قَبْلَ أن نُلقي نظرة عن كَثَب على ما يَقوله سِفْر العدد عن الالتزامات، دعونا نُلقي نظرَة عن كَثَب على ماهية "الغَير" في العُصور القديمة في الكتاب المقدَّس.
أوَّلاً، كان مفهوم الغَير، مِثل الكثير من المَفاهيم الأخرى التي نَجِدُها في الكتاب المقدَّس عن الثَقافة الإسرائيلية القديمة، شائعًا في مِنطقة الشرق الأوسط. لذلك لمْ يكُن هذا المَفهوم جديدًا على بَني إسرائيل ولم يكُن اختراعًا كتابيًا جديدًا ذا مَعنى جديد لمجرَّد أنه كان مُدرَجًا في التوراة.
تَعني "غير" في أبسَط مَعانيها التوراتية ”الغريب المَحمي“. هذا مَفهوم ضيافة مُقدَّس في الفكِر الثقافي شرق الأوسطي وبعبارة أخرى فإنّ الضَيف في منزِل أحدِهم، حتى لو كان غريبًا تمامًا وصادَف أن دخَل بيت في رحلتِه، كان مُرحَّبًا به ، ويُقدَّم له الطعام والمأوى، بل كان يَحظى أيضًا بالحِماية والمَلاذ؛ وكانت هذه الحماية مَضمونة بحياة المُضيفين أنفسهِم.
ولكنْ هذا المَفهوم كان يُمْكِن أن يَشمَل أيضًا خطوة أخرى إذا أراد ذلك الغَريب أن يَبقى في تِلك القرية أو العائلة. وكانت الفِكرة هي أنّه مُقابِل توفير الحِماية والرعاية لشخصٍ ليس من تلك القبيلة، يجِب أن يكون مُخلِصًا لتلك القبيلة التي أرادت أن تَرعاه. الآن السَبب الذي يَجعلُنا بحاجة إلى فَهْم الفروق الدقيقة العديدة للغير هو أنّ كتابات العهد الجديد توضِح أنّ الأمميّون الذين يأتون للإيمان بيسوع يُقارَنون بالغيريم ويُقابَلون الغيريم (الغيريم هو جَمْع الغير). بعبارة أخرى، نحن المؤمنون الأمميّون لدينا أوجُهُ تشابُه واختلاف مُهمَّة كتابيّة مع الغير. لذا، إذا أرَدنا أن نَفهَم بشكل أفضَل هذه العلاقة الغامِضة والمُعقَّدة التي تربُطُنا كمَسيحيين أمميّين، بإسرائيل، نَحتاج إلى فَهْم مفهوم الغَير بشكل أفضَل.
ربّما كتَبَ رَجُلٌ يُدعى دبليو. آر. سميث وَصْفًا موجَزًا للغير التوراتي منذ أكثر من قَرْن مضى. وقد قال ”تَعود كَلِمة غير إلى حياة البَدو الرُحَّل، وهي تَدلّ على رَجُل من قبيلة أو منطقة أخرى جاء للإقامة في مَكان لم يكُن يتَقوّى فيه بوجود أقاربِه، فوَضَع نفسَه تحت حماية عشيرة أو رئيس قبيلة قوي“.
خلال فترة إقامتِهم في مصر وهروبِهم من مصر، كان بين بني إسرائيل العديد من الغرَباء……. العديد من "الغيريم" ارتبَطوا بإسرائيل. حَدَث الشيء نفسُه عندما غزوا كنعان. العَديد من الكنعانيين التحَقوا بقبيلة إسرائيلية أو أخرى كغيريم.
كانت حقوق الغير في العالَم القديم واضِحة لذلك لا يُسهِب الكتاب المقدَّس في شرحِها لنا على الإطلاق: كان الأمْر معروفًا في زَمن الكتاب المقدَّس.
لأنّه من الصَعب جدًا تعريف الكَلِمة بدقَّة، فمن الأفضَل أن نُناقِش صِفات الغير، الغريب….. الأجنبي، الأجنبي المُقيم. أولاً، اعتبَرت إسرائيل نفسَها غير قَبْل انتقال بني إسرائيل إلى مصر (بينما كان الآباء يَعيشون في كنعان)، وخلال فترَة وجودِهم في مصر. أي أنَّهم كانوا غُرَباء مَحمييّن، غُرَباء مُقِيمِين في كنعان وفي مصر لأنها لم تكُن أرضَهم. في الواقِع، حتّى بَعد أن امتلكوا أرض الميعاد، كانوا لاهوتياً لا يزالون يَرَون أنفسهم غُرَباء؛ وهذا لأنّ الله أوضَح أنه بينما كان بنو إسرائيل سيَمتلِكون الأرض، إلا أنهم لم يَمتلكوها. كانت أرْض يَهوَه، وكان بنو إسرائيل في الأساس مُستأجَرين.
من أين جاءتْهم هذه الفِكرة؟ استمِع إلى سِفْر اللاويين الإصحاح خمسة وعشرين الآية ثلاثة وعشرين حَسَب ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة ”لاَ تُبَاعُ الأَرْضُ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّ الأَرْضَ لِي، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ غُرَبَاءَ وَلكن مُسْتَأْجِرِينَ مَعِي.
ما تقولُه العبرية الأصلية هو أنّ الأرض لي، لأنَّكم لستُم سوى غرباء ومُسافرين معي. حَسب التقليد القديم، لم يكُن بإمكان الغيريم أن يَمتلكوا مُمتلكات. لذا، فقد فَهِم بنو إسرائيل جيدًا ما قَصَده الله من كونِهم غيريم معه: لن يَتمكَّنوا أبدًا من بَيع ممتلكاتِهم، لأنّهم لم يَستطيعوا امتلاكَها في المَقام الأول. ولذلك، كان على "الأغيار" أن يعمَلوا إما كعُمّال في أرضِ شَخصٍ آخر، أو كحِرَفِيّين. في كثير من الأحيان كانوا تَحت وصاية الدولة: أي أنَّهم كانوا تحتَ سُلطة قبيلة، لكنَّهم كانوا يَحصُلون أيضًا على نوع من الرعاية الاجتماعية للبَقاء على قَيْد الحياة.
فكما كان بنو إسرائيل أنفسُهم، من الناحية اللاهوتية، غيريم للرَب حتّى بعد أن حَصلوا على كِنعان، كذلك كان اللاويون غيريم لِبَني إسرائيل. لم يكُن اللاويون يَملُكون أيّ أرض، وكانوا تحت حِماية أسباط إسرائيل. يُشار إلى اللاويين مَرَّتَين في سِفْر القُضاة (الإصحاح السابع عشر الآية سبعة والإصحاح التاسع عشر الآية واحد) على وَجه التحديد على أنّهم غيريم بين بني إسرائيل.
لذا، نُلاحِظ هذا النوع من التَراتُبِيَّة ولم تكُن هناك مُساواة تامّة بين الغيريم والقبيلة أو الأمة التي كان يُقِيمون بينها. كان الغير، في بعض النواحي، مواطِنًا من الدرجة الثانية. إذا جاء شخصٌ من عِرق آخر للعَيش بين بني إسرائيل…… كان يَتمتَّع بحماية مُتساوية بموجَب القانون، ولكن لم يكُن لديه دائمًا نفْس الامتيازات التي يَتمتَّع بها الإسرائيلي. أين كان الفَرْق؟ إذا استَطعنا تَقسيم قوانين إسرائيل إلى قوانين مَدَنية ودينية، هنا نرى الفروق. بمعنى آخر، بما يَخُصّ القوانين المَدنية مِثل القَتل، والاغتصاب، والزِنا، والسَرقة، وما إلى ذلك، كانا على قَدَم المساواة، وكان كلاهما مُلزَمًا بإطاعة القانون المَدَني، والخضوع للعِقاب وِفقًا للقانون المَدَني، والعَيش تحت شروط القانون المَدَني. دعوني أكون واضحًا: هذا ليس قانونًا مُنفصِلاً عن التوراة. تَحتوي التوراة على القانون المَدنِي والديني، وهذا ما أشير إليه.
ومع ذلك، كانت طاعة الشرائع الدينية مسألة أخرى. فكما يُمكِن النَظَر إلى الشريعة كلِّها على أنّها تَنقسِم إلى مجموعتَين أساسيتَين (مَدَنيّة ودينية)، كذلك رأى العبرانيون دائمًا أنّ الشريعة الدينية تَنْقَسِم إلى مجموعتَين أساسيتَين: النَوع الذي يُحظِّر، والنوع الذي يأمُر بشيء ما يجِب القيام به. وأحيانًا يُطلَق على هذَين النَوعين اسم الوصايا السَلبية (تلك التي تُحظِّر شيئًا ما)، والوصايا الإيجابية (تلك التي تأمُر بشيء).
عامةً، يجب على الغير أن يُطيع الوصايا الدينية السَلبية، ولكنَّه ليس مُطالبًا دائمًا بطاعة الوصايا الدينية الإيجابية. كمِثال على ذلك، لا يُطلَب من الغير أن يلتزِم بأيٍ من الأعياد التوراتية (على الرُغم من أنَّه مُرحَّب به تمامًا للانضمام إليها). ومع ذلك، إذا قرَّر المُشارَكة في الأعياد، فعَليه أن يَفعَل ذلك بشكلٍ صحيح. لا يُمكِنُه أن يفعَل ذلك بطريقتِه الخاصة.
كمِثال على الطريقة التي يجِب أن يُطيع بها الغير وَصيّة دينية سَلبية، يمكننا أن نَنظُر إلى لاويين الإصحاح السابع عشر الآية الخامسة عشرة: ”وَمَتَى أَكَلَ إِنْسَانٌ حَيَوَانًا مَيِّتًا أَوْ مَذْبُوحًا مِنْ بَهِيمَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، يَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَيَغْتَسِلُ بِمَاءٍ وَيَبْقَى نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ فَيَصِيرُ طَاهِرًا. ستّة عشرة، ”وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَغْسِلْهَا أَوْ يَغْتَسِلْ فَيَحْمِلُ إِثْمَهُ“.
حيثُ تقول الآية أنّ هذا يَنطبِق على ”مواطن أو أجنبي“، "غير" بالعِبرية.
هذا يُعطيني أيضًا فُرصة لأذْكُر شيئًا لم أفْهَمْه إلا مؤخَّرًا، وهو: أنه في كثير من الأحيان سنَرى في التوراة عِبارة مِثل" تَكُونُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ لَكُمْ وَلِلْغَرِيبِ الْمُقِيمِ…. أو مِثل، "تكون هناك شريعة واحدة لك (الإسرائيلي) وللغريب المُقيم"؛ أخطأتُ هنا في الماضي حين افتَرضتُ أنّ هذا بَيان ومَبدأ عام حول شرائع التوراة بشكلٍ عام. في الواقع، هذا ليس مَبدأ عام. إنه يُشير فقط إلى القانون أو التَشريع أو الأمْر الذي يَقَع في سياق ذلك البَيان. لذا، عندما تُعطى وَصيَّةً ما، ثم يُقال قَبلُها أو بعدُها مباشرةً أنّه يجِب أن تكون هناك شريعة واحِدة للإسرائيلي أو الغير، فإنَّها تُشير إلى تلك الشريعة بالذات وليس إلى جميع الشرائع بشكلٍ عام.
وهذا ما يؤكِّده العديد من الحاخامات، وخاصَّةً ابن عزرا، ويَجِب فَهمُه بالفِعل.
والآن، بعد أن فَهِمْنا من هُم الغيريم بالضبط، وأنهم عادةً ما يُسَمّون (وإن لم يكُن بشكل دقيق) غُرَباء وأجانب؛ وأنَّهم في الواقِع مواطنون من الدَرجة الثانية، على الرغم من أنَّهم مُطالبون بإطاعة الوصايا السَلبية تمامًا مِثل جميع بني إسرائيل؛ لديّ سؤالٌ لكَ. هل أنتَ أيها المَسيحي الأممي "غير" بني إسرائيل؟ أم أنّ لكَ صِفة أخرى؟
انتقِل إلى أَفَسُس الإصحاح اثنان من الآية ثمانية إلى اثنان وعشرين.
اقرأ أَفَسُس الإصحاح اثنان من الآية ثمانية إلى اثنان وعشرين
آها. هذا هو الدَليل الذي نَحتاجُه. كان الوثنيّون في وقتٍ من الأوقات أجانِب، غير فيما يَخصّ عهود إسرائيل. كنّا غرباء، أجانِب، مُستبعدين، كما هو الحال بالنسبة إلى حياة إسرائيل القَومية. ولكن، الإيمان بيسوع جَعلَنا قَرِيبِين. في الواقع، لقد أصبَحنا مواطِنين تابعين. إذًا، نحن لسنا غيريم، نحن الآن جزءٌ من ذلك الكَيان الذي دعاه بولس في رومية ”إسرائيل الحقيقيّة“، وهُنا في أفسس يُدعى ”بَيت الله“. نحن لا نُصبح مواطنين جَسدييّن في إسرائيل الأرضية، بل نُصبِح مواطنين روحِييّن، مع إخوانِنا المؤمنين اليَهود، في إسرائيل الرّوحية. وهذا كلُّه عن طريق العهود التي خَلَقَها الله مع إسرائيل.
سنَتعمَّق أكثر في الإصحاح الخامس عَشر الأسبوع القادم ونَبدأ في تناوُل المَزيد من المبادئ الإلهية العَميقة والأساسية الموجودَة هنا.