سِفْر العدد
الدرس الخامس عشر – الإصحاحان الثالث عشر والرابع عشر
إنّ الإصحاحان الثالث عشر والرابع عشر من سِفْر العدد هما في الحقيقة قِصّة واحدة طويلة. ربما يَنبغي علينا أن نقرأهُما واحدًا تِلو الآخر، لكن لأنّهما طويلَين، لذلك سنقرأ الإصحاح الثالث عشر ونُناقِشُه ثم نقرأ الإصحاح الرابع عشر.
دعونا نَتذَّكر أنّ الإصحاح الثاني عشر يَنتهي بشكوى هارون ومَريم من موسى؛ والنَتيجة هي أنّ مَريَم أُصيبت بمَرَض ”تزارعت“، وهو مَرَض جلدي جاء كدَينونة إلهية مُباشرة من الله. واحْترامًا لمَريم، قرَّر مُخيَّم إسرائيل بأكملِه الانتظار (بدلًا من المَضي قُدُمًا) خلال فترة التَطهير التي استمرَّت سبعة أيام من مَرَضْ تزارعت، حيث تمّ وَضْعُها خارج المُخيَّم ولم يكُن بإمكانِها مخالَطة أحَد.
بمجرَّد انقضاء فَترة التطهير، انتقَل بنو إسرائيل إلى صحراء باران. يُفترَض على نطاق واسِع أنّ كل ما سيحدُث في سِفْر العدَد الثالث عشر والرابع عشر يَحْدُث أثناء تَخييمهم في قادش…… وتُسمَّى أيضًا قادش-بارانيا…………………… وتُسمّى أيضًا عين مِشبات، وهي واحة ضَخمة وخَصْبة على طرَف الصحراء، على الحدود الجنوبية لأرض كنعان.
اقرأ سِفْر الأعداد الإصحاح الثالث عشر كلَّه
من الصَعب أن نُقلِّل من فداحة التَمرُّد على الرَب، والكارثة التي تمّ وَصفُها هنا. وعندما نَصِل إلى الإصحاح الرابع عشر سنَرى العواقب تبدأ في الظهور. كما في قِصّة يوسف، هناك نَمَط ونوع حقيقي وتاريخي في آنٍ واحِد له معنى ومغزى خاص به؛ بالإضافة إلى كونِه نَبَوياً واستِعارة؛ وهو نوع سيَتكرَّر (بطرُق عديدة) ليس فقط من قِبل بني إسرائيل في العصور اللاحقة بل من قِبل الكنيسة.
ما نشهُده هنا هو (لو كانت رِواية) حَدَث يمكننا أن نُسمّيه سقوط إسرائيل الأول. ما كان يَنبغي أن يكون قِصّة رائعة عن الانتصار والازدِهار، حكاية وِراثة إسرائيل للأرض وكل الخَيرات التي أعدَّها الرَب لها. تَتحوّل بدلاً من ذلك إلى قصة مأساوية عن الكُفر والفَشل والضُعف ونِكران مُباشَر لنِعمة الله. لا تَختلف هذه القصّة في تأثيرها تمامًا عن قِصّة آدم وحواء وسقوط الإنسان. لم يَكَد يُخلَق آدم وحواء حتّى استسلما لنزعاتِهما الشريرة، وفَشِلا في الحصول على النِعمة. في قصّتنا هذه، كانت إسرائيل قَبْل أيام وأسابيع فقط قد كُرِّست من الرَب، وأعطاها الرَب التوراة، وتَنعَم بحضور يَهوَهْ الدائم، ولكنها رَمَت كل ذلك بعيداً للاستجابة لمَخاوفها ورغباتِها. لذا أرجو أن تُدركوا أننا نقرأ عن واحدة من تلك اللحظات التي غَيَّرت التاريخ في قِصّة البَشرية.
كان بنو إسرائيل إلى مَشارف تَحقيق قرون من الوَعد، ثم انسَحبوا. عندما كان النَصر في مُتناول أيديهم، تَراجعوا خائفين. تَراجعوا ورَفَضوا قُبول ذلك الوَعد. آه كم عِشنا جميعًا على حافة شائكة حتّى تلك اللحظة التي قَبِلنا فيها مسيح الله؛ ولم يكُن لدينا أدنى فِكرة عن الخَطر الذي كان يُحيط بنا.
تَبدأ روايتُنا بتعليم يَهوَهْ لموسى بأن يُرسِل مجموعة من الرجال لاستكشَاف أرض كنعان. وكان من المُقرَّر أن تَتكوَّن تلك المَجموعة من رَجُل واحد فقط من كل سِبْطٍ من أسباط إسرائيل الاثني عشر. ومع ذلك، فإننا نواجِه على الفور مَعضِلة كتابية صغيرة. لأنه، في وقتٍ لاحِق في سِفْر التثنية، قيل لنا هذا: سِفْر التثنية الإصحاح واحد الآية اثنان وعشرون ”ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيَّ جَمِيعُكُمْ وَقَالُوا: لِنُرْسِلْ أَمَامَنَا رِجَالاً لِيُفَتِّشُوا لَنَا الأَرْضَ وَيَأْتُونَا بِخَبَرِ الطَّرِيقِ الَّتِي نَسْلُكُهَا وَالْمُدُنِ الَّتِي نَدْخُلُهَا. ثلاثة وعشرون، فَسَرَّنِي الأَمْرُ وَأَخَذْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ رِجَالِكُمْ، رَجُلاً وَاحِداً لِكُلِّ سِبْطٍ.
هل ترى المَعضِلة؟ يَقول سِفْر العدد الثالث عشر أنّ الله أمَرَ موسى أن يُرسِل جواسيس، ومع ذلك يَقول سِفْر التثنية واحد أنّ شَعب إسرائيل تَقدَّم إلى موسى وقال إِنَّه يُريد إرسال جواسيس، وظنَّ موسى أنّها فكرة جيدة فاختار الاثني عشر رَجُلاً. ماذا نَفهَم من هذا؟
الجواب بِحسَب إحدى الكتابات الحاخامية مَوجود في كَلِمَة عبرية رئيسية مُستخدَمة في سِفْر العدد الثالث عشر الآية واحد: الكَلِمَة العبرية التي تعني ”أرسَلَ“. الكَلِمَة في العبرية هي ” شيلح ليخا“؛ والتي تَعني حَرفيًا ”أرسِل عن نفسك“. وبعبارة أخرى يقول الله لموسى، ”إذا أردتَ أن تُرسِل بعض الجواسيس، فلَكَ إذني“. ما نَراه في الآية واحد ليس أنّ الله يقول فجأةً من تَلقاء نفسه ”يا موسى، تَعالَ إلى هنا دقيقة، أريدُك أن تُرسِل بعض الكشَّافة…“ بل هو أنّ الله كان يَستجيب لطَلب من موسى، وموسى كان يَستجيب لطلَب الشعَب برَفْع الأمْر إلى الرَب؛ لذلك يَقول يَهوَهْ لموسى أن يَمضي قُدُماً ويُرضي نفسَه (وطَلَبْ الشَعب) بإرسال هؤلاء الكَشَّافة. بعد كل شيء كان الله يَعلَم ما في أرض كنعان. كان بني إسرائيل هم الذين كانوا غير مُتأكِّدين.
لنَكُن واضحين في أمْرٍ ما: هناك فَرْق بين التَجسُّس والاستكشاف. بعض نُسَخ الكتاب المقدَّس تقول إنّ الاثني عشر كانوا يَستكشفون، والبَعض الآخر يَتجسَّسون. إنه يُشبِه إلى حدٍ ما الفَرْق بين السرقة والتسوُّق. ما أُمِر به في سِفْر العَدَد هو الذهاب للاستطلاع ورؤية الأرْض من أجْل طمأنة الشَعب. كان الأمر أشبَه بالبَحث عن مُجتمع جديد لشراء مَنزِل، وليس مِثْلَ التَمهيد لعَملية عَسكرية. ولو كانت عَملية عَسكرية، فمِن المؤكَّد أنّ قادة الأسباط لم يَكونوا ليَذهبوا، ولم يَكونوا ليُرسِلوا اثني عشرة شخصًا؛ كان من الأنْسَب أن يُرسِلوا اثنان أو ثلاثة لأن التَخفّي كان سيَكون هو المِفتاح؛ وفي وقتٍ لاحِق عندما نرى في الكتاب المقدَّس ”تَجسُّسًا“ عَسكريًا فِعليًا سيكون في الواقع رَجُلَيْن أو ثلاثة رجال على الأكثر.
القادة الذين تمّ اختيارُهم لهذه المُهمَّة هم قادة رفيعو المستوى، ولكن ليس بالضرورة أن يَكونوا أُمَراء أو شيوخ كل قبيلة. لكن، لاحِظ أنّ هناك قبيلة واحدة تُرِكت خارج هذا المَزيج تمامًا: قبيلة لاوي. ليس هذا إلا تأكيداً آخر على أنّ الانقسَام بين قبيلة لاوي الكهنوتية وباقي أسباط إسرائيل كان كامِلاً؛ كامِلاً بما يكفي لأنّ لاوي لم يَعُد يُشار إليها كجزء طبيعي من إسرائيل.
في الآية السادسة عشرة، نرى جانبًا مُثيرًا للاهتمام، وهو أنّ أحد شيوخ القبائل قد تَغيَّر اسمُه في النهاية على يَد موسى: هوشع بن نون. أصبَح هوشع مَعروفًا باسم يشوع… أو، بشكل أكثر دِقّة في العِبرية، يوشع. إذَن ما هو الفَرق بين هوشع ويهوشع؟ حسَنًا في بعض النواحي هو أمرٌ مُذهل للغاية. هوشع تعني ”الله يُخلِّص“. يهوشع تعني ”يَهوَه يُخلِّص“. جزءٌ من سبب تَغيير الاسم هو أنّ هوشع وُلِد في مصر، ومن الواضِح أنه وُلِد قَبل الخروج بوقتٍ طويل. ما تَعلَّمناه في سِفْر الخُروج هو أنّ الله لم يَكشِف عن اسمِه الشخصي، يَهوَه، حتّى وقتٍ لاحق، عندما أعطاه لموسى على جَبَل سيناء. لذلك فإنّ اسم يشوع هوشع، لا يُمكِن أن يكون موجودًا عندما كانت إسرائيل في مصر، لأن اسم الله لم يكُن مَعروفًا بَعد.
وبالطبع كان اسم مُخلِّصنا المُعطى بالعبرية هو يشوع، وهو مُجرّد تصغير لهيوشع….. يهوشع يُخلِّص. يسوع، يشوع، يهوشع وهوشع كلُها نَفْس الاسم بلهجات ولُغات مُختلفة، من عصور مُختلفة. وبالنَظر إلى سِفْر يشوع سيكون يهوشع (يشوع) وليس موسى هو الذي يَقود الشَعب إلى أرض الميعاد. موسى يقودُهم إليها وليس إلى داخلِها. في مُوازاة مباشرة، توراة موسى تَقود الشَعب إلى أرْض الميعاد النهائية، ولكن ليس إلى داخلِها، لذلك أخَذَ يشوع، يسوع المسيح، هذا الدخول على عاتِقه.
يأمُر موسى مجموعة الإثني عشرة شخصًا بالصُعود عَبر النَجف (صحراء قاحِلة) إلى بلاد التلال. في الجَوهر لم يكونوا في الحقيقة يَستكشفون النَجف، لأنه كان مجرد مَكان يجب أن يَمرّوا فيه للوصول إلى هدفِهم، بلاد التلال. أو، في الحقيقة، إنه يُشير إلى المنطقة المُحيطة بالخليل. ومُهِمَّتهم هي تحديد عدَّة أمور كما هو مُشار إليها في الآية الثامنة عشرة – إلى الآية عشرين.
لذلك دَعونا نقرأ سِفْر العدد الثالث عشر من الآية الثامنة عشرة – إلى الآية عشرين مرة أخرى.
أَعِدْ قراءة سِفْر العدد الثالث عشر من الآية الثامنة عشرة
إذَن كان على المُستكشفين أن يَتفقّدوا الناس، ويتفقّدوا الأرض، ويتفقّدوا البَلدات، ويَتفقّدوا ما إذا كانت هناك مَناطق مُشجَّرة، ويَتفقّدوا مدى جودة نمو الأشياء في التُربة.
يَتَّفق معظم الحكماء العبرانيين الكِبار على أنّ هذا كلَّه كان يَتعلَّق بأمور مِثل المُناخ، وخصوبة التُربة، وتوافر (أو عدم توافرها) أو المَوارد الطبيعية. لم يكُن الأمر يتعلَّق بما إذا كان شعب كنعان مُحاربين أشدّاء أم لا، لم يكُن الأمْر يتعلَّق بالحقيقة في نظرة، على الرغم من أنّه بالتأكيد كان من المُهِمّ مَعرفة الظروف. ففي نهاية المطاف لم يكُن الكنعانيون تحت أي ظرف من الظروف سيَشعُرون بسَعادة غامرة عندما يَظهر ثلاثة ملايين عبراني مع إنذارٍ بالطَرد.
بالإضافة إلى ذلك، يَرِد المَوسَم الذي حدثَت فيه هذه المُهِمَّة الاستكشافية: وَقْت نُضج العِنب الأول، مما يعني أنه كان في فَصل الصيف، في الفترة الزمنية يوليو / أغسطس. كان الجو حاراً في النَجف.
لذلك في الآية واحد وعشرين نُلاحظ أنهم انطلقوا؛ وتَفقَّدوا المكان، وكان مكانًا كبيرًا. بدأوا بسلوك طريق عبر الصحراء المُنخفضة ثم اتَّجهوا إلى الخليل، ثم سافروا في النهاية إلى مكان يُسمَّى لبو حماث. هناك بعض الخلاف حول المَوقع الدقيق لهذا المكان، ولكن من المؤكد أنه كان شمالاً، في ما يُسمّى حاليًا سوريا ولبنان. وهي مِنطقة كانت جزءًا رَسميًا من إسرائيل في ذلك الوقت في عَهد المَلكَين داود وسليمان.
كانت المَسافة من قادش إلى لبوة-حماث حوالى مئتي وخمسين ميلاً. لذا، لا عَجَب أن ذهابَهم إلى هناك وعودتَهم استغرَق أربعين يومًا.
الآن لماذا كانت الخليل وِجهة؟ ببساطة لأنّ إبراهيم دُفِن هناك. في الخَليل (حبرون) ، وُعِد إبراهيم بالأرض لأوَّل مرة. كانت حَبرون هي المَكان الذي استقرَّ فيه إبراهيم لأوَّل مرَّة في أرض كنعان، وكانت مَوْطِن جميع الآباء بدَرجة أو بأخرى. كانت جَميلة وخَصْبة؛ جيِّدة للمراعي وللمحاصيل. كانت حَبرون عاصمة بني إسرائيل غير المُسمّاة في السنوات القليلة الأولى من إقامتِهم هناك؛ وبسبب التاريخ العبراني للمكان، كانت أيضًا مَكانًا مُقدَّسًا لبني إسرائيل.
وتقول الآيات أنّه على طول الطريق صادَفتْ فرقة الاستكشاف ثلاثة رجال يُسمون الأناكيين. من هُم؟ هَويَّتهم غير مؤكَّدة. والشيء الوحيد الذي نَعرِفُه هو أنهم كانوا جِنسًا من الناس طِوال القامة، وقد قورِنوا بالنفيليم والرفائيم الذين تحدَّث عنهم سِفْر التكوين، قَبْل الطوفان.
تذكَّروا أنّ النفيليم والرفائيم كانا كما يقول الكتاب المقدس نِتاج عن جُماع أبناء السماء مع بَنات البَشر. وبعبارة أخرى، كانت هناك مَخلوقات شبيهة بالمَلائكة قد عاشرت نساء البشر وكانت النتيجة سُلالة من الناس الضخام، الأقوياء، والأشرار. هل كان الأناقيون هُم النسخة الأحدَث من النفيليم، أم أنهم كانوا يُقارَنون بنفيليم بطريقة بَلاغية؟ من الصَعب مَعرفة ذلك. كان جِلْيات (المُحارِب العملاق الذي قَتَله داود) من الأناقيين (أو بالعبرية أناكيم). على أي حال، لقد تَرَك هؤلاء الأناكيون انطباعًا كبيرًا على الكشَّافة الاثني عشر.
ثمّ لِسَبب ما يَتوقَّف الكتاب المقدس ليُخْبِرَنا أنّ حبرون تأسست قَبْل زوعان بِسَبْع سنوات. لا يوجد شيء سوى التَكهُّنات حول سبب ذِكْر هذا الأمر. ولكن الشيء الوحيد المَعروف الآن هو أنّ زوعان ستُسمّى فيما بعد تانيس في مصر. وقد جُعِلَت تانيس عاصِمة لمصر في نفْس الوقت الذي جَعَل فيه الملك داود أورَشليم عاصِمة لإسرائيل.
ثم ذَهَبوا بعد ذلك إلى مكان يُسمّى إسكول ليَجِدوا عُنقود عِنب كبير الحجم. كبير جدًا لدرجة أنّ العنقود الواحد يجب أن يُعلَّق بين عَمودين ليَحملوه. هذا ليس حقيقياً، بل هو كِناية لشَرْح الخِصب الشديد للأرض. لا يَختلِف الأمر عن قولِنا إننا وَجَدنا بطّيخة ”بحَجم منزِل“. لا أحد في ثقافتِنا سيَفهَم ذلك على أنّه يَعني أنّ البطّيخة كانت بحَجم ثلاثين قدمًا؛ إنه مُجرَّد قول حديث يُفسِّر أنها كانت كبيرة جدًا. نفْس الشيء يَحدُث هنا.
من المُثير للاهتمام أيضًا أن نُلاحظ أنّ كَلِمَة ”إسكول“ تَعني ”عنقود“ مِثل ”عنقود“ العِنب.
كانت هذه مِنطقة لزراعة العِنب، لذلك سُميت الأشياء بعبارات خاصة بكَلِمَة ”العِنب“. لذلك نرى كيف يمكِن أن تَتشابك أسماء الأماكن والقِصص في الكتاب المقدَّس، وأحيانًا يَصعُب مَعرفة أيهما جاء أولاً: القصّة أم اسم المَكان. بعبارة أخرى، هل سُمّي المَكان باسم شيء حَدَث هناك، أم أنّ القِصَّة قد رُوِيَت حَسَب اسم المكان.
تَذكَّروا: كل ما نقرأه قد تَناقلتْه الألسُن شفوياً لقرون. لذا، استُخدِمت العديد من الوَسائل الأدبية والصَوتية التي تَجعل القصص أسهَل للتذَكُّر والتَلاوة. لو كنا نَعْرِف العِبرية بشكلٍ أفضل، لرأينا أنّ العديد من آيات الكتاب المقدَّس تتناغَم قافيتُها مرَّة أخرى، لأنّها وُضِعَت في الأصل بطريقة تَسمَح بتناقُلِها شفهيًا. وكما أنّ الأطفال يَتعلَّمون الأغاني كأدوات لتَذكُّر بعض الحقائق، كذلك استخدَم القُدماء القافية والقصائد وتراكيب الكَلِمات غير المُعتادة في سَرْد الحكايات.
على أيّ حال، عاد قادة الأسبط هؤلاء بعد ستّة أسابيع تقريبًا، وذهبوا مُباشرةً إلى موسى وهارون ليُخبروهما بما رأوه. يُخبِرون موسى أولاً بما رأوه، ثم يُخبِرون ”كلّْ جَماعة“ إسرائيل. هذا لا يعني كلّ بني إسرائيل. إنه يَعني فقط شيوخ وقادة إسرائيل. وليس علينا أن نَقرأ مُطوَّلاً لنَحصُل على تلميح بسيط عن عَزْم هؤلاء الكشَّافة لأنهم يقولون: ”جِئنا إلى الأرض التي أرسَلتَنا إليها“. لا الأرض التي وَعَد بها الرَبْ أو الأرض التي أقسَم بها إبراهيم. وبعبارة أخرى، لقد فَصَلوا أنفُسَهُم عن الوَعد، عن العَهد، وعن الله. كان هذا بالنسبة لهم مُجرَّد مسألة سياسية/اقتصادية.
وفي الجزء الأول من تَقريرها، تُقدِّم مجموعة الكشَّافة وِجهة نَظَر إيجابية للغاية. نعم، تَقول إنها أرْض تَفيض لَبَنًا وعسَلاً. وهذا استجابة لتَعليمات موسى بينما كانت الفِرَق تَستعدّ للذهاب في مُهِمَّتها لتحديد ما إذا كانت الأرض خَصبَة. كما قَدّمَت لموسى أيضًا الفاكهة التي عادَت بها؛ وهذا رَدًّا على سؤال ”هل كانت الأرض مُشجَّرة“ أي هل كانت تَحمِل نباتات كبيرة وليس فقط أحراشًا.
ولكن في الإجابة عن السؤال عن قوَّة أهْل كنعان أجابَت بأنهم كانوا أقوياء، أمّا المُدُنْ فكانت كبيرة ومُحصَّنة جيدًا. وبالمناسبة، لم تكُن تلك مُبالغة. فقد عُثِر على مُعْظَم أسوار المُدن الكنعانية المُسوَّرة التي تم التَنقيب عنها وبَلَغ ارتفاعها بين ثلاثين إلى خمسين قدمًا، وسِمْكُها من عشرة إلى خمسة عشرة قدمًا. يقول المستكشفون أيضًا أنّ ”الشَعْبَ طَويلَ القامَة“، العناقيين، كانوا موجودين هناك. وكان هناك أيضًا العماليقيون، الذين يُعتقد أنهم الشَعْب المُهَيْمِن (المُتَجَوِّلون) في المناطق الصحراوية في كنعان وسيناء. وكانوا هناك أيضًا بأعداد كبيرة. والحثيون، وهي حضارة مُتَقَدِمَّة للغاية ومركزها في تركيا الحديثة؛ وتَواجَدَ أَيْضًا اليَبّوسيّون، البناة الأصليون لمدينة القدس؛ والأموريون، وهم على الأرجح قبيلة إبراهيم الأصلية، وهي مجموعةٍ شَرِسةٍ للغاية سعت إلى السلطة والهيمنة وكانت دائمًا مَصْدَر إزعاج لجيرانها. وكان الكنعانيون، وهم تَكَتُّل من العديد من نَسِل حَفيد نوح كنعان، يميلون إلى العيش على طول السهول الساحلية للأرض. وكانت كل هذه المجموعات موجودة هناك، ومستقرة جيدًا. ومن المؤكد أنهم لم يكن لديهم أي مصلحة في تسليم دول مُدُنهم لهؤلاء العبرانيين.
دَعونا نَفهَم شيئًا: لقد كان تَقييم الكشَّافة مُتوازِنًا وغير مُبالَغ فيه. لقد كانوا يقولون الحقيقة، وكانت الحقيقة تُخيف قادة وشيوخ إسرائيل الذين اجتمَعوا لسَماع تقرير الكشَّافة. يُمكننا أن نَتخيَّل بسهولة صوت الشعب المُتصاعِد المُعبِّر عن القلق والخوف؛ ضَجيجٌ مُتزايد من التَذمُّر والتَمرُّد. لأن الآية ثلاثون تقول: ” أسكَتَ كالب الشَعب" قال له أن يَهْدأ ويَستقِرّ. ويقول كالب، حسناً، كفى واقعية. نحن نَعرف ما نواجِهُه، والآن فَلْنَذهب ونأخُذ الأرض لأننا بالتأكيد سنَتغلَّب على كل هذه العَقبات.
هذه ليست نَفْس النتيجة التي تَوقَّعَها السامِعون. لقد قرَّر الكشافة الآخرون والشيوخ أنّ مواجَهة شَعب كنعان الهائل بمَثابة انتِحار. ولكي يُثبِتوا وِجْهَة نَظرِهم، تَخَلّوا عن تَقريرهم المُتوازِن وقالوا إنّ الأناكيين كبار جدًا، لدرَجة أننا كنّا نبدو كالجَراد بجانِبهم! لقد كان وَضْعًا ميؤوسًا منه، في تقديرِهم.
لكن، هنا تكمُن المُشكلة. كان الكشَّافة والشيوخ في تَمرُّد ليس ضِدّ موسى، بل ضِدّ يَهوَه. كان رفضُهُم أن يأخذوا كلام الله على مَحمَل الجَدّ إهانة كبيرة لقداسته. وستَكون هناك عواقب وخيمة.
أيها الإخوة المؤمنون دعوني أقول لكم شيئًا: غالبًا ما نَعتقِد أنّ أهمّ ما في الاستِماع للرَب هو ألاّ نَفعَلْ شيئًا لا ينبغي فِعلُه. ولكن بنَفْس القَدْر في كثير من الأحيان….. وكما القَضية في هذه النِقطة مع الكشَّافة الاثني عشر……. تَمرُّدُنا على الله هو أنّنا لا نَفعل أشياء من الواضِح أنّه يجب أن نَفْعَلَها. وبدلاً من ذلك نُركِّز على العَقبات وننظُر بعيدًا ونَزْدادُ خوفًا ويَنفَذ صبرُنا. نُفكِّر: حَسَنًا إذا كان الأمْر صَعبًا وخطيرًا، بالتأكيد لا يُمكِن أن يكون من الرَب. إذا كان الله قد أعَدّ هذا الاتّفاق، فسيكون الأمر سَهلاً وبدون مشاكل. إذا واجهَتنا مَشاكل وصُعوبات ولم يَسِر الأمْر كما تصوَّرناه، فلا بد أننا نَسير ضدّ إرادة الله. ربما يكون هذا النوع من التَفكير قد انتَزع بَرَكات وانتصارات من أفراد مؤمنين ومَجموعات من المَسيحيين أكثر من أي شيء آخر. إنه افتِراض خاطئ.
أوَدُّ أن أَرسُم لك مُقارنَة حول قصة الكَشّافة الاثني عشر هذه التي ربما لم تُفكِّر فيها. إنها مُقارنة مُعاصرة للغاية وسيكون لها تأثير عميق ودائم علينا نحن الكنيسة.
كان الله قد قاد شعبَهُ، إسرائيل، إلى أرْض الميعاد؛ لكن عشرة رِجال مَوثوق بهم ومُحترمين من القادة….. قَرَّروا الوقوف في طريق دخول شعب الله إلى أرض الميعاد تلك. هؤلاء الرجال فَعلوا ما كان سيَفعلُه أي قائدٍ صالِح: التحقيق، والتقييم، ثمّ التوصُّل إلى نتيجة صادِقة وعمليّة دون انفِعال.
لقد حُرِم عشرة قادة يَفتقرون إلى الإيمان والثقة ولكن كان لديهم سُلطة على ثلاثة مَلايين من بني إسرائيل (الذين تَطلَّعوا إليهم للقيادة) من ميراثهم الذي قدَّره الله لهُم. والكثيرون داخل الكنيسة اليوم يَفعلون نفس الشيء من خلال العَمَل بِجَدّ وفعالية لتَعريفنا بالمسيح ولكنَّهم بعد ذلك يُنكرون صِلتَه (وبالتالي صِلتَنا) بشَعبِه الخاص، اليهود، وأرضِه الخاصة، إسرائيل.
من يَستطيع أن ينظُر إلى الكتاب المقدس ويَجِد كَلِمَة واحدة تُلغي عَهد الله حيث يقول إنّ أرض كنعان تَخصّ شعبَه إسرائيل؟ أين نَجِد عبارة واحدة تقول إنه من أجل السَلام العالمي والإنسانية يجب دَفْع إسرائيل للتخلّي عن جِزِءٍ إن لم يكُن كُلّ من ميراثها من الأرْض المُقدَّسة؟ ومع ذلك فإنّ نِصف الكنيسة اليوم على الأقل تَقِف إلى جانب أعداء إسرائيل في مَسألة الأرض.
لقد نَدَّدت طوائف بأكملها عَلانيةً بِحقّ إسرائيل في الأرض ذاتها المَنصوص عليها بالتَفصيل في كَلِمَة الله. يَعتقِد البعض المؤيّد لإسرائيل أنه من العَدل تقسيم بعض تلك الأرض على الأقل وإعطائها لهؤلاء الفلسطينيين المَساكين. أليس هذا في النهاية مُجرَّد محبة وعدالة بسيطة كما عَلَّمَنا المسيح؟ وإذا كنا نُحب الفلسطينيين فإنّ الرَدّ الوحيد المُمكن هو اقتطاع جزء من أرض الميعاد وإجبار إسرائيل على إعطائها لهم من أجل أُمَّتهم.
إنّ عواقب أولئك الذين يَسعون إلى إحباط خطة الله لشعبِه، إسرائيل، في المُطالبة بميراث أرضِه وَخِيمة. كان هؤلاء الكشَّافة الاثنا عشر على وَشَك أن يَكتشفوا مدى الجدِّية التي يأخُذ بها الله عُهودَه وأوامِرَهُ وحقوق شعبِه وواجبَه في أن يأخذوا مكانَهم في أرض الميعاد. والكنيسة اليوم على وشك أن تَكتشف أيضًا أنّ الرَب الإله لا يَتغيَّر، وأنه لا يُطلِق تهديدات فارغة، وأنه لم يَتراجَع عن وَعْده للأمّة التي خَلَقها من خلال إبراهيم.
لنقرأ الإصحاح الرابع عشر من سِفْر العدد.
اقرأ الإصحاح الرابع عشر من الآية واحد إلى اثنا عشرة
تُلخِّص الآية واحد كل شيءٍ بشكلٍ جيّد: بكى الشعب كثيرًا في تلك الليلة، أي أنّ الشيوخ والقادة أخذوا يَصرخون ويَتشاحنون، وعندما رأى الشعب ما يَحدُث، انهار في نوبة هَلَع كبيرة. كانت جماعة إسرائيل مُتّحِدة ضدّ موسى وهارون وبالتالي ضدّ الله. مُلاحظة إلى الحكماء: لا يُمكنُكم أن تكونوا ضدّ وسيط الله من ناحية، ومن ناحية أخرى تقولون إنَّكم مع الله. بَعدها بدأ التَجديف الذي كان في قلوبِهم يَتدفَّق من أفواهِهم: ”يا ليتَنا بَقينا في مصر“. التَرجمة: نحن نُفضِّل العبودية لأسيادنا الأشرار السابقين على الخلاص من الرَب، لأنّ العبودية كانت أكثر راحة وإلفة وبدا أنّ لها مزاياها.
يتساءلون: لماذا يا الله جِئت بنا إلى هنا ليَذبحنا الكَنعانيون؟ هل تكرهُنا؟ الآن بِقَدْر ما قد نَميل جميعًا إلى الاستماع إلى ذلك ونهُزَّ رؤوسنا اشمئزازًا من بني إسرائيل هؤلاء، ألا نَفعل جميعًا نَفْس الشيء من وقتٍ لآخر في مَسيرتنا مع الرَب؟ ألَمْ َنتوقَّف جميعًا خلال لَحظة صَعبة قائلين: ”لماذا يا الله“؟ لماذا تَفعل هذا بي؟
كان حَلّ الشيوخ للمُشكلة هو ما قد يَتوَقَّعُه المَرء: ”لنُعيِّن قائدًا مُختلفًا ونعود إلى مصر“. لنَعُد إلى العبودية والسَبي. على الأقل كنا نأكُل بشكل أفضل. على الأقل كان لدينا َمنازل نَعيش فيها ولم يكُن مطلوبًا منّا القِتال وتَعريض حياتِنا للخَطر. أليس البشر مَخلوقات مُضحِكة؟ ما أسرَع نسيانِنا لألَم وعذاب حياتنا الماضية، حياتنا قَبل الله، ونَعود إليها حتى بعد أن نكون قد هَرَبنا منها لبعض الوقت. هذه الحقيقة مُنتشِرة بين البشر لدرجة أنّ هناك أمثالاً كُتِبت لتحذِيرِنِا وتذكيرِنا بميولِنا البشرية المُدمِّرة للذات.
مُنذ سنوات عديدة عندما تَزوَّجتُ زوجتي كانت تَملِك منزلًا جميلًا في كاليفورنيا. وعندما سَمِعَ أحد أصدقائها أنها ستنتقِل من ذلك المنزل، سألها إن كانت تُفكِّر في تأجيرِه له ليَستخدمَه كمنزل للفتيات المُعتدى عليهن أجَّرته وبقي الحال كذلك لأكثر من خمسة عشرة سنة.
عاشَت فيه خلال تلك الفترة عشرات الفتيات المُعتدى عليهِنّ والعديد من الفتيات الهارِبات اللاتي التقطتَهنّ الشرطة المَحلِّية، والعديد منهن أخذتهنّ الخَدمات الاجتماعية من آبائهن المُعتدين. وفي بَعض محادثاتِنا مع صديقِنا والمُشرِف على هذا البرنامج على مَرّ السنين، أخبرَنا عن خيبة أمَلِه وإحباطِه: أنّ العديد من هذه الفتيات، وكثير منهنّ يُعانين من إصابات وندوب دائمة من سوء المُعاملة، لذلك يَهرُبن من هذا المنزل الآمن، باحثاتٍ عن فُرصةٍ لحياةٍ أفضل، ليَعُدْن إلى البيئة المُسيئة. كنَّ يَعُدْن إلى ما يَعْرِفْنَ وحيث كان الاعتداء عليهنّ. كان ذلك لتَجنُّب ما هو جديد وأفضَل مما هو مألوف ومُريح.
هذا ما نَفعلُه، كمؤمنين، عندما نَقبَل خلاصَنا، ثم نَمضي في حياتِنا كما لو أنه لم يَحدُث أبدًا. لقد أوْصَلنا الله إلى أرض الميعاد، ثمّ تَردّدنا ورَكَضنا عائدين إلى العالم. وعادةً ما نَعتقِد أننا نأخُذ الله معنا عندما نَختار العودة إلى العالَم. لكن هل هذا هو الحال حقًا؟ سنَرى الإجابة على هذا السؤال، في المَرَّة القادمة التي نَلتقي فيها.