سِفر العَدَد
الدرس الرابع والثلاثين – الإصْحاحان إثنان وثلاثين وثلاثة وثلاثين
عندما الْتَقَيْنا في المَرَّة الأخيرة، كان موسى ومَجْلِس قيادة بني إسرائيل قد وافقوا على طَلَب رأوبين وجاد بأن يُسمح لهم بامْتلاك الأرض التي انْتَزَعها بنو إسرائيل للتَّو من المِديانيّين، أرض موآب. هذه الأرض الواقعة على الجانِب الشَّرْقي من نهر الأردن، في ما يُعرف الآن بمَمْلَكة الأردن الحالية، ستُصْبِح أراضي مُخَصَّصة لرأوبين وجاد.
لا يوجد أي دَليل على أن الحرب مع مِديان (التي أمَر الله موسى بِأن يمضي قُدُمًا فيها) كان من المُفْتَرَض أن تكون مُرْتَبِطة بأي شكل من الأشكال باحْتِلال موآب. بدلاً من ذلك، كان هَدف يَهوَهْ هو تدمير أولئك الذين قادوا بني إسرائيل (كاُمَّة) إلى الزِّنا من خلال إغرائهم من قبل النساء الوثنيّات والآلِهة الوثنية. بينما لم يَتِمّْ تناوُل هذا المَوضوع على وجه التحديد في سِفْر العَدَد، يبدو لي أن ما كان ينبغي أن يَفعله بنو إسرائيل هو بِبَساطة هزيمة المِديانيّين وحَليفهم موآب، والمَضي قُدُمًا وتَرْك اُمَّة موآب السابقة فارِغة؛ لم يَكُن الاسْتقرار هناك على جَدْوَل أعمال الرَّب.
لم يَكُن موسى مُرْتاحًا جدًا لهذا الاقْتِراح، وعلى الرَّغم من أن رأوبين وجاد وافقا على إرسال أفضل قُوّاتهما للقِتال إلى جانب القبائل الإسرائيلية العَشر الأخرى مع بدء غزو كنعان، يُمْكننا أن نَسْتَكشِف أن كل شيء لم يَكُن على ما يرام. إن ما اقترَحَه رأوبين وجاد لم يَكُن يَقَع ضمن عَهد إبراهيم؛ فالأرض التي أرادوها لم تَكُن ضمن حدود الأرض التي وُعد بها إبراهيم وإسحاق ويعقوب. ومع ذلك لا نقرأ أن الرَّب قال لهما ”لا“. في الأساس كان رأوبين وجاد سيَعيشان خارج مُخَيَّم بني إسرائيل، خارج أرْض الميعاد، لأنَّهما رأيا فائدة أكبر في مراعي موآب الوفيرة من العيش في أرض الرَّب، أرض كنعان.
من المُفيد أن نسأل أنْفُسَنا أولاً، لماذا قَرَّرَ رأوبين وجاد (من بين جميع الأسباط الاثني عَشَر) أن يَطلبوا هذه الأرض بالذات؟ كان سَبَبهم المُباشر هو أنهم كانوا يَمْتلكون قُطْعانًا ومواشي كثيرة وأن موآب كانت مَرْعى شِبْه مِثالي. ولكن إذا عُدنا إلى الوراء بِضْعة قُرون عندما كان يعقوب يعطي بَرَكته على فِراش المَوْت لأبْنائه الإثْنَي عشر نجد بعض القرائن؛ وتبدأ بحقيقة أن رأوبين كان في الأساس مُتَبَرِّئًا من يعقوب. لم يُعطَ لرأوبِين، بِكْر يعقوب، الحقوق التقليدية للبِكْر لأن رأوبين كان على علاقة جِنْسيَّة مع إحدى مُحظيات أبيه. ذَكر يعقوب أن رأوبِين كان ”غَيْر مُسْتَقِر كالماء“ وبالتالي لن يتفوَّق أبدًا. كان لدى رأوبِين كل السِّمات الجَسَديَّة والذَّكاء والمزايا التي تؤهِّله للتفوُّق؛ لكنه كان يَفْتَقِر إلى الأخلاق وقوة الشَّخْصية، ومع الوقت سنرى أن رأوبِين فضَّل أسلوب حياة البدو الرُّحَّل في التَّنَقُّل الدائم على أسلوب حياة أكثر اسْتِقْرارًا وثَباتًا.
عندما نتَذَكَّر بَرَكات يعقوب على أبْنائه، على الرَّغم من أنها تبدو غير مَعقولة لعُقولنا الحديثة، نُدْرِك أن كل بَرَكَة نَبَويَّة لم تَكُن على إبْن وَحْده، بقَدر ما كانت على نسل ذلك الإبْن المُسْتَقبلي؛ بل كان المَقْصود منها أن تكون نُبوءة نَبَويَّة على أولئك الآلاف المؤلَّفة الذين سَيَكونون أعضاء في القبيلة التي سُمِّيَت بإسم الإبْن شَخصيًّا. كان يعقوب ينْطُق بِمَصائر القبائل التي سيُنْجِبها كل إبْن من أبْنائه، وكان يَنْطُق بالصِّفات التي ستَنْمو في كل قبيلة من هذه القبائل، ولم تَكُن تلك الصِّفات إلا امْتِدادًا للصِّفات التي سبق أن تطوَّرَت وظَهَرَت في أبْنائه. إن سِمَة عدم الاسْتِقْرار التي اتَّصَف بها رأوبِين سَتَنْتَقِل وتتحقَّق داخل قبيلته على مرّ القُرون، وهي التي أدَّت بِقَبيلة رأوبين إلى اخْتِيار غير حكيم للبَقاء خارج أرْض الميعاد، من أجل البقاء في موآب، وهي أرض غير مُخَصَّصة لشعب الله.
وبِمُرور الوقت أصْبَحَت قبيلة رأوبين أقلّ بُروزًا في تاريخ بني إسرائيل. في الواقِع، يَزْعَم بعض المؤرِّخين التَوْراتيِّين أنه بِحُلول زَمَن شاول، انْدَمَج رأوبين في قبيلة جاد واخْتَفى. لكن الكِتابات التَّوْراتيَّة الأخرى لا تؤيِّد هذه النَّتيجة الحادَّة لرأوبين، بل ما نَجِده هو أن قبيلة رأوبين اتَّخَذَت نَمَط حياة البدو وتاهَت في أطراف الصَّحْراء في شرق الأردن مُتَنَقِّلة مع قِطْعانها ومَواشيها. من النّاحية التقنيَّة كانت قبيلة رأوبين لا تزال تَحْتَفِظ بأراضيها وتُحافِظ على هَوِيَّتها القَبَلِيَّة، ولكن من النّاحية العَمَليَّة لم تَحْكُم أراضيها أو تنشئ بُنْيَة تَحْتِيَّة داخلها أو تُدافِع عنها بِقُوَّة، لذلك أصْبَحَت أراضيها أكثر فأكثر تحت نُفوذ قبيلة جاد. كَبَدو، لم يَكُن لدى قبيلة رأوبين اهْتمام كبير بالسَّيْطَرة على الأراضي.
كان مَصير جاد مُخْتَلِفا قليلًا عن مَصير رأوبين؛ فقد أعطى يعقوب جاد أقلّ البركات وكانت بَرَكَة غريبة جدًا بالفِعْل. كانت البَرَكَة "جاد، سَتُهاجمه مجموعة، لكنه سيَتَعقَّبهم." يبدو الكلام غريبًا، أليس كذلك؟ إلا أن كَلِمَة جاد مُرْتبطة بالجذر العبري جدود (اسم يعني جُنْد) ويرتبط به الفعل يجودنو، أي "أغار". هذه البَركة من يعقوب على جاد سُجِّلت كتلاعُب بالألفاظ، فهي تتعلَّق بمستقبل جاد كقوّة عَسْكَريَّة وحقيقة أنهم سيَضْطرّون إلى محاربة الأعداء طوال أيامهم بسبب مَوقعهم. من الأفضل ترجمة إعلان يعقوب على جاد على النحو التالي "جاد، سيَشنّ عليه جيش غارة، ولكنه (جاد) سيُهاجمهم من الخلف". بِعِبارة أخرى، كان جاد سيَكون قبيلة من المُحاربين وسيكون لهم موقف مُتَشدِّد الى حَدٍّ ما. سيكونون ذوي توجهاتٍ عَسْكَريَّة بِدافع الضَّرورة. كان الأعداء يُضايقون جاد باسْتمرار، لكنهم في النهاية سيَنْتَصرون بِشَكْلٍ عام. ووفاءً لهذه النعمة التي تعود إلى خمسمئة عام أصبح جاد قبيلة مُقاتِلين شُجْعان وفَعَّالين للغاية أثناء وُجودهم في البَرِّيّة. هذا هو أحد الأسباب التي جَعَلَت موسى يُصِرّ على أن يكون لديه جُنود من قبيلة جاد يُرافقون بني إسرائيل إلى كنعان.
عَلاوة على ذلك، شكّل رأوبِين وجاد (مع سمعان) إحدى فِرَق بني إسرائيل الأربعة، وخيّموا معًا في الجانب الجنوبي من خَيْمَة الاجتماع. كان رأوبِين وشمعون أخَوَيْن، وكانت أمُّهما لِيا زوجة يعقوب الأولى. وكان جاد هو إبْن خادِمة لايا، زيلبا، لذلك كانت هناك علاقة طبيعية بين هؤلاء الثلاثة.
والآن في عِناية الرَّب الإلهية، على الرَّغم من أنه لم يَكُن مقصودًا أبدًا أن يَسْتقر رأوبِين وجاد حيث اسْتَوْطنوا، إلا أنهما وفَّرا وسيلة حماية (نوع من العازِل الدِّفاعي) للمساعِدَّة في حماية الأراضي القَبَلية الأخرى (التي كانت ستقع داخل أرْض الميعاد كما كان من المُفْتَرَض أن تكون) من الغُزاة الذين لا حَصْر لهم من الشرق. كان رأوبين وجاد سيتحمَّلان العِبء الأكبر من العديد من الغزاة الذين أرادوا المُرور عبر أراضيهم للوصول إلى قبائل بني إسرائيل الأخرى.
بداية الآية السادسة عشرة مُهِمَّة، لأن سِياق الحديث يَضيع في اللغة الإنجليزية. يبدأ هذا المقطع، " ثم صعدوا (أو تقَدّموا) إليه (موسى) وقالوا … "إنَّ كَلِمَة صَعِدوا أو تقدَّموا بالعبرية هي " فا يجيشو"؛ وتعني التَّوَسُّل الى شخصٍ ما بطريقة لَيِّنة أو حَميمة. وبِعِبارة أخرى لم يَكُن قادة رأوبِين وجاد يُطالبون بِبَقائهم أو يَرْفضون المَضي قُدُمًا. بل أرادوا أن يَشْرحوا سبب تَفْضِيلهم مِنْطقة موآب لِمَنازلهم ثم يقدِّموا عَرضًا يُرْضي الآخرين والرَّب لإظهار وَلائهم المُسْتَمِر المقصود لبني إسرائيل ولعهد إبراهيم وموسى.
ما عَرَضوه هو أنه إذا سُمِح لهم بالاسْتِقرار في شرق الأردن فإنهم سيَبْنون مكانًا لِحَيواناتهم، وسيَبْنون مُدُنا لعائلاتهم. إلا أنهم سَيُقدِّمون أيضًا فرقة كبيرة من القوّات العَسْكَريَّة المُدَرَّبة بشكل مُمْتاز للتوجُّه إلى كنعان والقتال جنبًا إلى جنب مع باقي قبائل إسرائيل. والكَلِمَة العبرية التي تُشير إلى هذا النوع من القوّات الخاصّة التي يَتِمّ تَقديمها هي "نيخالاتس"؛ وتعني حَرْفيًا أن يَتِمّ انْتِقاؤهم أو اخْتِيارهم خِصِّيصًا. والفكرة هي أن هؤلاء هم أشْرَس المُقاتِلين، أفْضَل الأفْضل. عَلاوة على ذلك، فإن هذه القوّات من رأوبِين وجاد ستكون طَليعة جَيش بني إسرائيل أثناء قِتاله وغَزْوِه في كنعان.
كان الاتفاق هو أن هؤلاء النخالات لن يعودوا إلى أراضيهم القبلية في شرق الأردن حتى تمتلك كل قبيلة بني إسرائيلية أرضَها في كنعان؛ سيبْقون ويقاتلون مع إخوتهم طالما استغرق الأمر. كذلك لن يَطلبوا أرضًا إضافية على الجانب الغربي من الأردن، في أرض الميعاد. بل سيَكْتَفون بالعَيش في شرق الأردن فقط، لأن هذا هو خيارهم الخاص.
يُوافق موسى (بلا شك بِمُوافقة مَجلس القيادة) على هذا الاقْتِراح. دَعونا نُعيد قراءة جزء من الإصْحاح إثنين وثلاثين.
أعِد قراءة سِفر الأعداد الإصْحاح إثنان وثلاثين على خمسة وعشرين حتى النِّهاية.
إذَن نرى هنا أن حوالي نُصف أكبر قبيلة إسرائيلية، وهي قبيلة المناسح، قَرَّرَوا أيضًا أنهم يُريدون البقاء في منطقة شرق الأردن (ربما لِنَفس الأسباب التي أرادَها رأوبِين وجاد). ورغم أنه لم يُذكَر شيء عن ذلك، إلا أن هذا كان يمكن أن يكون أمْرًا مؤلمًا ومثيرًا للجَدَل. بالنِّسْبة لِقَبيلة تَنْقَسم على نفسها بهذه الطريقة كان يعني وُجود خِلاف كبير بين العشائر التي تُشَكِّلها، وكان هذا وَضْعًا خطيرًا جدًا. وكان هذا يعني أيضًا أن رَجُلَيْن كانا يتنافسان على زَعامة سِبْط المناسح (أي الأمير، ناسي) الذي كان على رأس سِبْط المناسح، ولا شك أن هذا الانْقِسام في القبيلة حيثُ كان جِزْءٌ منها يعيش على الجانب الشَّرْقي من الأردن والجِزْءُ الآخر يعيش على الضِّفّة الغربية للأردن كان أمْرًا أساسيًّا لِحَلٍّ سِلْمي للخِلاف.
ليس لَدَيْنا أي تفاصيل عن كَيْفِيَّة حُدوث كل ذلك، ولكن من هذه النّقطة فَصاعدًا سَنَبْدأ في سَماع الكِتاب المُقَدَّس يتحدَّث عن "السِبْطَيْن والنصف" الذين بَقوا على الجانب الشَّرْقي من الأردن؛ وهذا يعني بِبَساطة أن قَبيلتَيْن كامِلَتَيْن (أي كل عشائر رأوبِين وجاد) بالإضافة إلى نِصْف عشيرة المناسِح (حوالي نصف العشائر الكثيرة التي كانت تُشَكِّل المَناسِح) قد اتَّخَذوا قرارًا بالاسْتِقْرار في شرق الأردن. ومَضَت العشائر المُتَبَقِّية التي شَكَّلت النصف الآخر من سِبْط المناسحِ مع قبائل بني إسرائيل الأخرى إلى كنعان لِغَزْوِها والإسْتيطان فيها.
اسْتَوْطَنَ رأوبِين مُباشَرَةً على الضِّفّة الشَّرْقية للبحر المَيِّت، بينما سكن جاد منطقة تقع في شرق نهر الأردن وتَقع بِشَكْلٍ عام بين الطَّرَف الجنوبي لبحر الجليل والطَّرَف الشَّمالي للبحر المَيِّت. واسْتَقَرَّت نصف قبيلة مناسيح على أرض تبدأ من الطَّرَف الجنوبي لبحر الجليل وتمتدّ شمالاً إلى حوالي جَبَل حَرَمون. لم يَحْدُث هذا كلّه على الفور؛ فقد اسْتَغْرق الأمر بضع عشراتٍ من السنين قبل أن تَتَشَكَّل الحدود، ولكن حتى ذلك الحين كان تَكوين كل منطقة يتقلَّب مع الوقت والظروف السِّياسيّة.
وكما جَرت العادة في تلك الحَقَبَة، أعادت هذه القبائل الإسرائيلية الثلاث بناء بعض المُدُن التي دمَّروها في المعركة مع مِديان، وغَيَّروا أسماء المُدُن إلى أسماء مُدُن عِبرية، واسْتَقَرَّوا فيها. إن أسباب إعادة بِناء مدينةٍ ما بدلاً من البدء من جديد في مكان آخر كثيرة ولكن بِشَكْلٍ عام هي: أ) أن المدينة كانت تَقع دائمًا بالقرب من مَصْدر مياه جيِّد، ولم تَكُن المياه مُتوفِّرة بِسُهولة في كل مكان؛ ب) كانت هناك عادةً طُرُق ومسارات ثابِتة ومَبْنِيَّة إلى كل بلدةٍ ومدينةٍ حيث كان التُّجار وأصْحاب المتاجِر يَجْلُبون البضائع اللّازمة؛ ج) السَّبَب الأكثر وُضوحًا هو أن مَواد البِناء من المدينة السّابقة كانت مُلْقاة هناك جاهِزة لإعادة اسْتِخْدامها في بِناء المدينة الجديدة. وبما أن مُعْظَم أعمال البناء كانت من الحِجارة، فقد كان الأمْر بِشَكْلٍ عام مُجَرَّد تَكْديس الحِجارة مَرَّةً أخرى.
أولئك الذين زاروا إسرائيل معي قد رأوا العَشرات من التِّلال التُّرابيّة الضَّخمة التي تُسَمّى "تِلس" المُنْتَشِرة في جميع أنحاء الأرض. هذه التِّلال هي بقايا المُدُن القديمة التي كانت مَوْجودة هناك ذات يوم، ولكنها الآن مُغَطَّاة بالكثير من التُّراب والحُطام الذي جَلَبَته الرِّياح والأمطار على مدى قُرون. الأمْر هو أن كلّْ تَلّْ عبارة عن نِظام من الطَّبَقات؛ وتبدو كل طَبَقة مثل الكعكة الطبقية، وكل طبقة تُمَثِّل مدينة كانت مُزْدَهِرة ذات يوم ودُمِّرت. والطبقة التي تَعلوها مُباشَرَةً تُمَثِّل المدينة التالية التي بُنِيَت مُباشَرَةً على المدينة المُدَمَّرَة السابقة، باسْتِخْدام الكثير من أنْقاضها ومواد البناء. في بعض الأحيان يكون هناك ما يصِل إلى ثمانية عشرة أو عشرين طَبَقة في التَّل الواحد؛ أي ثمانية عشرة أو عشرين مدينة، كل واحدة منها مَبْنِيَّة على بقايا المدينة التي سَبقتها. ليس لديّ شك في أن المُدُن التي دَمَّرها جَيش بني إسرائيل في موآب كانت قد بُنِيَت على أنقاض مُدُنٍ قديمة أخرى. والآن سَيُكرِّر رأوبِين وجاد ومناسيه العَمليَّة بِبَساطة، ويُضيفون طَبَقة أخرى إلى العديد من التِّلال. ومن بَعدهم سَتَفعل الحضارات الأخرى الأمْر نفسه. لذلك فإن تَحديد أسماء هذه المُدُن التي نراها في سِفْر العَدَد إثنين وثلاثين أمْر صَعب للغاية في عَصْرنا لأن الأسْماء كانت مَوْجودة فقط حتى تدمير تلك المدينة؛ وعادةً ما كانت المدينة الجديدة التالية التي بُنِيَت عليها تُمنح إسمًا جديدًا (على الرَّغم من أنه غالبًا ما كان الإسْم نفسه ولكن بِلُغَةٍ مُخْتَلِفة).
لنَنْتَقِل إلى الإصْحاح ثلاثة وثلاثين.
اقرأ الإصْحاح ثلاثة وثلاثين من سِفْر العَدَد بأكْمَله
ما لَدَيْنا هنا هو سَرْد موجَز لرِحْلة بني إسرائيل عبر البَرِّيّة. ويُمْكننا أن نَتعلَّم منه عِدَّة أشياء تتجاوَز مُجَرَّد طريقهم. على سبيل المثال نَجِد أنه على الرَّغم من أنه يُقال في المقاطع السّابقة أن بني إسرائيل غادَروا مصر في عيد الفِصْح، إلا أن هذا ليس صحيحًا من النّاحية التِقَنِيّة. لأنه قيل لنا أنهم غادَروا مصر في الخامس عشر من نيسان، وهو اليوم الأول من عيد الفطير (اليوم التالي لعيد الفِصْح). ولكن كما شَرَحْتُ في دَرس سابِق، سنرى قريبًا أن عيدَي الفِصْح والفطير قد انْدَمجا معًا في الكِتاب المُقَدَّس بحيث أصبح الاحْتِفال بهما احْتِفالاً واحدًا وأصبح الاحْتِفال كلّه يُسَمّى بالتَّناوب عيد الفِصْح أو عيد الفطير. اسْمَحوا لي أن أُعيد ذِكر ذلك لأنه قد يُساعِد على فَهم الصعوبات التي يواجِهها بعض العُلَماء والقَساوِسة (وطلاب الكِتاب المُقَدَّس) في التَّوَصُّل إلى اسْتِنْتاج بشأن اليوم الذي صُلِب فيه المسيح.
كان عيد الفِصْح، حَسَبَ فريضة الله في الكتاب المُقَدَّس، عيدًا مُدّته يوم واحد كان من المقَرَّرَ أن يَحدث في الرابع عشر من شهر نيسان العبري، وكان عيد الفَطير عيدًا مُدّته سبعة أيام كان من المقَرَّرَ أن يبدأ في اليوم التالي لعيد الفِصْح، في الخامس عشر من نيسان. إذًا عيد الفِصْح (يوم واحد) وعيد الفطير (سبعة أيام)، إذا أَخَذناهما معًا يُشَكِّلان ثمانية أيام مُتَتالية من الأعياد، لكنَّهُما في الواقع عيدَيْن مُنْفَصِلَيْن يَجريان فقط على التوالي.
اسْمَحوا لي أيضًا أن أُشير إلى معلومة أساسيَّة: الطريقة التي كان يَتِمُّ بها عيد الفِصْح المصري الأصْلي والطريقة التي كان يَتِمُّ بها عيد الفِصْح بعد الخُروج من مصر وفي الأزْمِنة اللّاحقة كانت مُخْتَلِفة الى حَدٍّ ما. فأوَّلاً في مصر على الرَّغم من أن حَمَل الفِصْح كان يُذبح في مصر ويُلطخ دَمَه على أعْمِدَة أبواب البيوت في الرابع عشر من نيسان، إلا أن حَمَل الفِصْح لم يَكُن يؤكَل إلا بعد ساعات قليلة، بعد حلول الظَّلام، مِمّا يعني أنه كان الآن بداية يوم جديد، وهو الخامس عشر من نيسان. تَذَكَّر أن الطريقة التَّوْراتيَّة لتحديد نِهاية يوم وبداية يوم جديد هي غُروب الشَّمس. لذلك في نهار يوم الرابع عشر من نيسان في مصر، يُذْبح الخروف وتبدأ عملية الطَّبخ؛ ثم بعد حلول الظّلام (وهو اليوم التالي) يأكلوه.
الأمر الآخر الذي يجب أن نَفهمه هو أنه في حين أن الرابع عشر من نيسان يُسَمّى تِقَنِيًا عيد الفِصْح وفي هذا اليوم ذُبح الخروف وأُعِدَّ، إلا أن الرَّب لم يَقتل بِكر المصريين حتى منتصف الليل بعد أن أَكَل العبرانيون حَمَل الفِصْح. لذلك بما أن النَّهار كان قد تَغيَّر عند غروب الشمس (حوالي الساعة السابعة مساءً) فقد قُتل أبْكار المصريين في وقت مُبْكر من يوم الخامس عشر من نيسان الذي سيُصْبِح بعد ذلك اليوم الأول من عيد الفطير (ماتزا) التَّوْراتي الذي يَسْتَمِرُّ سبعة أيام. ثم في صباح اليوم التالي بينما كان لا يزال الخامس عشر من نيسان، اجْتَمَع العبرانيون وغادَروا مصر. هذا مُخْتَلِفٌ قليلاً عما نُفَكِّر فيه عادةً، ولكن هكذا حَدَثَ الأمْر.
في تعليمي لسِفْر الخُروج، علّمتُ هذا بِعِبارات أكثر بَساطة، مُسْتَخْدِمًا المُفْردات التي تَسْتَخْدمها الكنيسة عادةً والمُرْتَبِطة بالخُروج؛ أي الطريقة الشائعة في الحديث عن أن الفِصْح كان علامة على تَلْطيخ دم الحَمَل على أعْمِدَة الأبواب، وأَكْل الحَمَل، وقَتْل الرَّب لأبْكار المصريين، وخُروج بني إسرائيل من مصر. الآن جزء من السَّبَب في أن الكنيسة قَدَّمَت الفِصْح المصري لأول مَرَّة بهذه الطريقة (على الرَّغم من أنه من النّاحية التِّقَنيَّة بَعيد عن الحقيقة) هو على الأرْجَح بِسَبَب العُلَماء الوَثَنِيِّين المُشَوَّشين (الذين لم يَرغبوا في سَماع أي شيء يَقوله الحاخامات اليهود) الذين لم يَفْهموا أن هناك أ) كان فِصح مصري مُخْتَلِف قليلاً عن كل أعياد الفِصح اللاحقة، ب) أن الخُروج، سِفْر اللاويين وحتى بروتوكول سِفْر العَدَد لعيد الفِصْح وعيد الفطير، تم تَعديله في سِفْر التَّثْنِية ثم تمَّ تَعديله أكثر من خلال تأسيس التَّقاليد، ج) نَتيجة لـ "ب" فإن تَعريفات الكتاب المُقَدَّس التِقَنِيَة لعيد الفِصْح مقابل أيام عيد ماتزا هي شَيْء، ولكن ما كانت الطَّريقة اليَهودية الشَّائعة في التحدُّث عنها، وكيف عَدَّها اليهود وما أطْلَقوا عليها من إسْم كان شيئًا آخر تمامًا. د) نَشأت في النهاية عِدَّة تقاليد مُخْتَلِفة حول كَيْفِيَّة القيام بعيد الفِصْح وعيد ماتزا، وكانت كلّها تَحْدُث في وقت واحد.
وبِصِفة عامَّة، كان هناك تقْليد واحد لليهود الذين يعيشون في يهودا، وآخر لليهود الذين يعيشون في السّامِرة (الذين انْفَصَلوا عن هَيْكَل أورَشَليم وبَنوا هَيْكَلهم الخاص بهم)، وتقليد آخر لليهود الذين يعيشون في الجَّليل لأنهم كانوا مُضْطَرِّين إلى السَّفَر لِمَسافات بعيدة للوُصول إلى هَيْكَل أورَشَليم، وتقليد آخر لليهود الذين يعيشون في الشَّتات (أي اليهود الذين يَعيشون خارج الأراضي المُقَدَّسة تمامًا)، وذلك لِمُراعاة عَيْشهم بين الوَثَنِيِّين ومسافات السَّفَر المُسْتَحيلة في بعض الأحيان اللّازِمة للوُصول إلى الهَيْكَل في أورَشَليم لحُضور الاحْتِفالات.
لا أقْصُد أن أخْرُج عن المَوْضوع هنا، ولكن في وقتٍ ما سنُناقِش عيد الفِصْح كما حَدَث في الوقت الذي صُلِب فيه يسوع وسأبْذُل قصارى جُهْدي لأشْرَحَ سبب وُجود مثل هذا الخِلاف حول أي يوم توفِّيَ، وحتى ما إذا كان العّشاء السِّرّي هو عشاء الفِصْح (وجبة العشاء) أو شيء آخر تمامًا. وبالإضافة إلى حَقيقة أن التَّرْتيب الذي حَدَث في الفِصْح المِصري (وفي أي يوم) لم يُتَّبَع في الفِصْح اللّاحِق، كانت هناك أيضًا هذه التقاليد العديدة المُتَنَافسة حول كَيْفِيَّة إجراء الفِصْح التي كانت موُجودة في أيام يسوع، بالإضافة إلى اسْتِخْدام المُصْطَلحات اليهودية اليَوميّة الشَّائعة المُسْتَخدَمة في رِوايات الإنجيل وليس اسْتِخْدام المُصْطَلحات الطَّقْسيَّة التِّقَنيّة لأيام العيد (كما هو موُجود في التَّوْراة) والتي، عندما تؤخَذ معًا، تؤدّي إلى المُشْكلة. بالإضافة إلى ذلك، لا تَتطابَق الأناجيل الأربعة مع إنجيل يوحَنّا. ومع ذلك، يُمْكِن فَهْم ذلك عندما نَفْهَم أن الأناجيل الأربعة كانت من وِجْهَة نظر اليهود الجليليِّين (مع تقاليدهم الخاصّة بعيد الفِصْح)، ولكن من المُتَّفَق عليه بِشَكْلٍ عام أن الرسول يوحَنَّا (الذي كَتَب إنجيل يوحَنَّا) قد أصبح يهوديًا من يهودا بعد أن بدأ حَياته كصيّاد جَليلي أو كان يُعَبِّر عن التقليد اليهودي (مع تقاليدهم المُخْتَلِفة الخاصة بعيد الفِصْح). ولكن، هذا دَرْس طويل ومُعَقَّد في حدِّ ذاته، لذا دَعونا نَتَناول ذلك في وقت آخر.
إذًا نِقْطة البِداية في سِفْر العَدَد ثلاثة وثلاثين هي رعْمَسيس (في أرض جوشن) في مصر، وكان اليوم الذي غادَروا فيه مصر هو اليوم الخامس عشر من الشهر الأول من السنة التَّقْويمية الطَّقْسيَّة العِبرانيّة (تَذَكَّر أن العِبْرانيِّين اسْتَخْدَموا عِدَّة تقاويمٍ مُخْتَلِفة لأغراضٍ مُخْتَلِفة)، وكان هذا الشهر يُسَمّى نيسان.
ليس لَدَيْنا سِوى تاريخ واحد آخر: تاريخ وفاة هارون، رئيس الكَهَنَة، في اليوم الأول من الشهر الخامس من السنة الأربعين في البَرِّيّة، وقد حَدَثَ ذلك في جَبَل حور. وهذا يعني أنه لم يَمْضِ وقت طويل جدًا من تاريخ وفاة هارون حتى زَحَفَ بنو إسرائيل إلى موآب، ثم حادِثة بِلْعام، ثم حَرْب مِديان (التي رُبَّما لم تَسْتَمِرّ سوى أيام قليلة)، ثم مَوت موسى؛ ربما في فترة ثلاثْ وأو أربع أشهر أو نحو ذلك.
وقيل لنا أن موسى أُمَرَ بكِتابة خَطّ سَيْر هذه الرِّحلة. والآن، ما هو الغَرَض من القيام بذلك بما أن التَّوْراة كانت تُدَوِّنه ونحن نتابع؟ كل ما يُمكننا فِعْله هو التَّخْمين لأنه لم يَتِمّ إخْبارنا. والحقيقة هي أنَّنا إذا عُدْنا إلى الوراء وتحَقَّقْنا من أسماء الأماكن التي خَيَّم فيها بنو إسرائيل (تلك التي صادَفْناها حتى الآن)، سنَجِد أن هذه القائمة في سِفْر العَدَد ثلاثة وثلاثين لا تتطابَق. سنَجِد بعض أسماء الأماكِن مَفْقودة، وأخرى مُضافة.
عندما نُحْصيها، سنَجِد أن إثنين وأربعين مَحَطَّة (الأماكن التي تَوَقَّفوا فيها وحَدَثَ فيها شيء أو آخر) مُدْرَجة في سِفْر العَدد ثلاثة وثلاثين. لذلك، حاوَلَ بعض العُلَماء أن يَجِدوا دَلالة في الرقم "إثنين وأربعين". لستُ مُقْتَنِعاً بوُجود أي دَلالة. إذا أمْعَنّا النَّظر بما فيه الكفاية يُمْكِننا أن نجِد اسْتِخْدامات أخرى للعَدَد "إثنين وأربعين" في الكِتاب المُقَدَّس (مثل فترة السبع سنوات في نهاية الأزْمِنة التي يُسَمِّيها المسيحيّون الضِّيقة التي تَنْقَسِمُ إلى فَتْرَتَيْن مُدَّةَ كلٍّ منهما إثنين وأربعين شهرًا). حتى نَسخة متّى من سِلْسِلة نَسَب يسوع تتكوَّن من إثنين وأربعين جيلًا. ولكن، سيكون من الصَّعب جدًا إيجاد رابِطة لاهوتيَّة مُشترَكة تَربط بين كل هذه الاسْتِخْدامات المُخْتَلِفة للرَّقْم "إثنين وأربعين"، وأنا لا أرى ذلك. رُبَّما في وقت ما في المُسْتَقبل سيَفْتح الرَّب عَيْنَيّْ على شيء أفْتَقِده حاليًا في هذا الصَّدَد.
على أقلّ تقدير، يتَّفِق مُعْظَم العُلَماء والحاخامات على أن ما لَدَيْنا هو قائمة بالمَحَطَّات التي مَرَّ بها بنو إسرائيل حيث حَدَثَ شيء ذو أهَمِّية. وإجمالاً، هذا تَذْكير للقُرّاء المُسْتَقْبَليّين بِرحلة بني إسرائيل الشَّاقة، وكيف أن الرَّب في مَحَطَّاتٍ مُخْتَلِفةٍ أرْشَدهم وعاقَبَهم ورَزَقَهم وأهْلَكَ بَعْضَهم، وأنْقَذَ مُعْظَمهم. إنه تَذْكير بِمَدى ما كان عليهم أن يَتَغَلَّبوا عليه من أجل الإفلات من قَبْضة مصر، والمُطالبة بالأرض التي خصَّصَها الرَّب لهم. وأعْتَقِدُ أنه قد حَقَّق الغَرَض مِنْهُ لأنني لا أستطيع أن أُفَكِّر في حَدَث أعْظَم في تاريخ بني إسرائيل (حَدَثْ ذي طبيعة راقية) مَحْفور في ذِهْن وروح كل يهودي أكثر من خُروجهم من مصر.
والآن، لا يوجَد سوى عدد قليل من هذه المواقِع الإثنين والأربعين المَعْروفة بِدَرَجةٍ ما من اليقين اليوم. ونتيجة لذلك هناك العديد من الخرائط التي تُشير إلى مسارات مُخْتَلِفة للخُروج، ولا أعتقد أن الأمْر يَسْتَحِق أن نَتعامل معها لأن هذه الخرائط تُظهر الى حَدٍّ ما أن بني إسرائيل كانوا يَتَجَوَّلون في الأساس حول سيناء، مع المَوقع المسيحي التقليدي لجَبَل سيناء في الطَّرَف الجنوبي من شبه جزيرة سيناء كمِحْوَرٍ لِرحْلاتهم. والحقيقة هي أن سيناء لم تَكُن لِتَسْتَطيع أبدًا أن تَدْعَم مجموعة من ثلاثة آلاف إسرائيلي، ناهيك عن ثلاث ملايين. لذا، لا أُصَدِّق ذلك.
لا توجد ذَرَّة من الأدِلَّة الأثَريّة التي تَدعم خُروجًا يَتْبَعُ خط سَيْر الرِّحلة التَّقْليدي. إن المَوْقف الذي طالما تَمَسَّكَ به الكثير من العُلَماء المسيحيّين والعنيد بشأن هذه المسألة المُتعلِّقة بمسار الخُروج هو السَّبَب الرئيسي في أن لَدَيْنا الكثير من العُلَماء العِلْمانيِّين (وحتى العُلَماء المسيحيّين الأكثر ليبِراليّة) الذين يُشَكِّكون في وُجود خُروج، لأنهم يُصِرُّون على البَحْث عن آثار الخُروج في المَواقع الخاطئة.
أنا مُتأكِّد بِشَكْلٍ معقول من أن جَبَل سيناء الحقيقي يقع في شبه الجزيرة العربية، في منطقةٍ كانت في وقت من الأوقات تحت سَيْطَرة مِديان، لأن هذا هو بالضَّبْط المكان الذي يقول الكِتاب المُقَدَّس أنه يَقَع فيه. وكذلك يقول أعيان مثل فيلو وجوزيفوس أن المَوقع هو في الجزيرة العربية (ويجب أن يكونوا أدْرى مِنّا). وقد عُثر على العديد من القِطَع الأثريَّة في منطقة مِديان السَّابقة (في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية) التي تَتَناسَب مع الثقافة العبرانية وتلك الفترة الزَّمَنِيَّة وأوْصاف الكِتاب المُقَدَّس للخَصائص الجُغْرافيَّة لجَبَل سيناء. وهناك ثَروة من الفولكلور العربي المَحَلِّي الذي يَدْعم ذلك أيضًا. لا يوجد مثل هذا الفولكلور أو التقليد لِشِبه جزيرة سيناء.
عندما نَصِل إلى الآية خمسين، يَصِل خط سَيْر الرِّحْلة المُدَوَّن في سِفْر العَدَد ثلاثة وثلاثين إلى مَحَطَّته الأخيرة: آبِل – شِطِّيم في سهول موآب. وهنا حيث أعْطى الرَّب الإله موسى تعليمات عامَّة حول الكَيْفِيَّة التي يجب على بني إسرائيل أن يَمْضوا بها لِغَزو كنعان. باخْتِصار، عليهم أن يَطْرُدوا جميع الناس الذين يَعيشون هناك حاليًا. ثم على بَني إسرائيل تَدْمير جميع أصْنامهم وأدوات عِبادة الأوثان. فأينما بُني مَذْبَح أو مَعْبَد أو مكان مُرْتَفِع لإله وَثَني، يجب هَدْمه.
لِنَكُن واضحين: كنعان يجب أن تُخلى من شَعْبها. الرَّب لا يُريدهم هناك بعد الآن. إن دِيانة الكنعانيّين البَغيضة يجب أن تُطاح، وأن تُزال كل بقاياها. لم يأمُر الرَّب بإبادةٍ جماعيَّة؛ ولكن من المَفْهوم أن الذين يُقاوِمون استيلاء بني إسرائيل (الجُنود في المعركة) أو الذين يَرْفضون الرَّحيل بعد الانْتِصار في المَعْركة سيُقتَلون. كما أن التَّعْليمات (وهو مبدأ إلهي راسِخ منذ زمن طويل) هي أن كل من يتخلّى عن آلِهَته الكاذِبة ويَنْضَمّ إلى بني إسرائيل مُرَحَّب به.
لا يجوز لبني إسرائيل تحت أي ظَرْف من الظُّروف أن يَسْمَحوا لِشَعب أو قبيلة غَريبة بالبقاء كشَعْب مُنْفَصِل عن بني إسرائيل، ولا يُمْكِن أن يُعبَد أي إله غير يَهوَهْ في أرض كنعان. أرجو أن تَضَعوا هذه المَجْموعة من التَّعليمات في الاعْتِبار من الآن فصاعدًا: لأن ما يَحْدُث عندما نُقَرِّرَ تعديل تعليمات الله لأنها تبدو أكثر رَحْمة أو عَدْلاً أو مَحَبَّة أو تَسامُحًا مع أحاسيسنا البَشَريّة السياسيّة الصَّحيحة هو تَمَرُّد، بكل بساطة وَوُضوح. والنَّتيجة ستكون كارِثة.
بعد ذلك، في الآية أربعة وخمسين، تُعطى تَعليمات بشأن تقسيم الأرض بين أسباط بني إسرائيل. ولكن، انْتَظِر، ألم يُعْطِ الرَّب هذه التَّعْليمات نَفْسها بالفِعْل؟ نعم ولا. في الإصْحاح ستة وعشرين من سِفْر العَدَد، تم الحديث عن تَقْسيم الأرض من حيث إجراءْ إحِصاء للأَسْباط كَمُقَدّمة لِتَقْسيم الأرض حسب حَجْم كل سِبْط. ولكن، كان ذلك عندما كان هناك إثني عشر سِبْطا لِتَقْسيم الأرض بينهم؛ أمّا الآن، لا يوجد سِوَى تِسع أسْباط بالإضافة إلى نِصْف سِبْط مَنَسَّى. وهذا لأن رأوبين وجاد بالإضافة إلى نصف قبيلة مَنَسّى حَصَلوا على إذن بالإسْتِقرار على الجانب الشَّرْقي من نهر الأردن، وبذلك تنازلوا عن أي حَقّْ في الأرض داخل أرْض الميعاد.
ينتهي الإصْحاح ثلاثة وثلاثين بِتَحذير شديد (لم يؤخذ على مَحْمَل الجَّد بالمُناسَبَة) من الله لبني إسرائيل بأنهم إذا لم يَتْبَعوا تعليماته بِدِقَّة حول الطريقة المُسْتَخْدَمة في الاسْتيلاء على كنعان، فَسَتَتْبع ذلك أمور سَيِّئة.
دعني أَقْتَبِس لك الآيتين الأخيرتَيْن من الإصْحاح ثلاثة وثلاثين:
الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد سِفر العَدَد ثلاثة وثلاثين على خمسة وخمسين: ""وَإِنْ لَمْ تَطْرُدُوا سُكَّانَ الأَرْضِ مِنْ أَمَامِكُمْ يَكُونُ الَّذِينَ تَسْتَبْقُونَ مِنْهُمْ أَشْوَاكًا فِي أَعْيُنِكُمْ، وَمَنَاخِسَ فِي جَوَانِبِكُمْ، وَيُضَايِقُونَكُمْ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِيهَا.". ستة وخمسين "فَيَكُونُ أَنِّي أَفْعَلُ بِكُمْ كَمَا هَمَمْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِهِمْ.".
لم يَسْتَجِب بنو إسرائيل لهذا التَّحْذير أبدًا؛ لم يستجب يهوشع لهذا التَّحْذير ولم يَسْتَجِب داوود، ولا حتى الإسرائيليين الحديثين الّذين عادوا إلى وطنهم بعد نَفي دامَ ألف وتسعمئة سنة اسْتَجابوا لهذا التَّوْجيه الإلَهي. لا تزال إسرائيل تَسْمَح للأجانب، غير المُنْتَمين إلى إسرائيل، بالإقامة فيها. وتَسْمَح للدِّيانات الوَثَنِيَّة (خاصَّةً الإسلام) بالوُجود فيها إلى جانب عِبادة يَهوَهْ. حتى أنها تَمنَح أعداءها مَناصِب في هيئتها الحاكِمة، الكِنيست.
تَسْمَح بالإلْحاد وتُشَجِّعه وتَسْمَح بالمِثْلِيَّة الجِّنسيّة وتُشَجِّعها وتَسْمَح بل وتُدافع عن سيطرة المُسْلمين على أرض الهَيْكَل في مَسْكن يَهوَهْ السابق. بل والأسْوأ من ذلك أنها تتنازَل عن أجزاء من أرض الميعاد لأعْدائها مُقابل وعود سلام لم تَتَحَقَّق؛ أرض تقول الكتب المُقَدَّسة أنه لا يحق لها التَصَرُّف فيها مُطْلقًا لأنها لا تَمْلُكها بل الرَّب يَمْلكها.
إلى أن يَتوقَّف بنو إسرائيل عن هذه المُمارسات، وتؤمَّن الأرض كما أُمِرَت، ويَعودوا إلى الرَّب ويَتوبوا، سيَظَلّ هناك دائمًا حُروب وإرهابيّون وتفجيرات انْتِحاريَّة ومجموعة من الناس أو أخرى تُكَرِّس حياتها لجَعْل بني إسرائيل بائسين.
بالمُناسَبَة، لا يَهُزّ أحدُكم رأسه هنا وهو يَعْرِف ذلك ويُفَكِّر: "كيف يُمْكِن أن يكون بنو إسرائيل أغْبِياء". لأن مُعْظَم المُشْكِلات في حياتنا الفَرْديَّة ، كأعضاء في مَلَكوت الله، ذلك الكَيان الذي يُشير إليه بولُس بأنه إسرائيل الله أو إسرائيل الحقيقيَّة . هي بِسَبَب أننا لا نؤمِّن حياتنا كما أَمَرَنا، ولا نُطيع الرَّب ونَتوب، وهكذا تُصْبِح حياتنا بائسة.
بالمُناسَبَة: الأرض التي خصَّصّها الرَّب لبني إسرائيل؛ الأرض التي سيَحْتَلُّها بنو إسرائيل ويَمتلِكوها قريبًا بقيادة يسوع هي الضِّفّة الغربية. هل يبدو هذا الإسْم مألوفًا؟ هذا صحيح، إن الأرض التي تُطالِب إدارَتنا الحالية بَني إسرائيل بالتخلّي عنها لأعْدائهم، الضِّفّة الغربية، هي الأرض ذاتها التي قال الرَّب إنها لبني اسرائيل ولهم وحْدَهم . لقد دَفع بنو إسرائيل ثمنًا باهِظًا لمدة ثلاثة ألاف وثلاثمئة عام لِرَفضهم اتباع تعليمات الرَّب الصَّريحة فيما يتعلق بتلك الأرض ومن يُسمح له بامْتِلاكها والسَّكَن فيها. هل تَفْتَرِض أن تلك الأُمَم، مثل أمريكا، التي تُصِرّ على أن يَسْتَمِرّ بنو إسرائيل في تَجاهُل تلك التَّعْليمات ستَنْجو من غَضَب الله؟ ماذا عن ما يقارِب خمسين بالمئة من الكنيسة التي تُصِرّ على أن يَتَخَلَّى بنو إسرائيل عن أرْضهم، لأنه من المُفْتَرَض أن اليهود لم يَعُد لهم حقّ فيها؟
سنَبْدأ الإصْحاح أربعة وثلاثين الأسبوع القادم.