سِفر العَدد
الدرس الثالث والعشرون – الإصْحاح التاسع عشر
في الأسبوع الماضي ناقَشْنا القداسة؛ ولَسْتُ متأكدًا من أنني لا أجِد صُعوبة في التَّعبير عن هذه المسألة ولا أَشْعُر بِعَدَم الكفاءة، أكثر مِمّا أشعر به عند الحديث عن القداسة. إنها قَضِيَّة أكثر تَوَسُّعًا وإثارة للجدّل مِمّا قد يَظن المَرْءُ، أليس كذلك؟ إن ما يَجعلها مُثيرة للجَدَل ليس أن الكِتاب المُقَدَّس لا يُعطينا معلومات كافية ومُفصَّلة ومُتَّسِقة تُحَدِّد بِشَكلٍ جَيِّد جَوهر القداسة وعملها، بل أن الناس اختاروا أن يَتجاهلوا ويَهملوا أقسامًا كاملة من الكِتاب المُقَدَّس ويأخُذوا فقط من الباقي تَعريفاتهم لمعظم الأشياء …… والقداسة هي إحْداها. لذلك، تم تخفيف مَفهوم القداسة الى حدٍّ كبير وجَعْلُها سلبيَّة.
كيف أدْهَشك أن تَعلم أن سِفر العَدد (وسِفْر الخُروج وسفر اللاوِيّين أيضًا) يوضِح أن القداسة والنَّجاسة يُمْكِن أن تَنْتَقِل من شَخْص إلى شَيْء، ومن شَيْء إلى شَيْء آخر، ومن شَخْص إلى شَخْص آخر عن طريق الاتِّصال الجَسَدي؟ أو أن القداسة يُمْكِن أن تكون خَطِرة؟ أو أن بعض الناس فقط هم المُخوَّلون للحُصول على القداسة وأن أولئك الذين لا يَملكون القداسة مُعرَّضون لعواقِبٍ وخيمة إذا قرَّروا اكْتِساب القداسة بأي حال من الأحوال.. هذا تعليم صَعب. لكن دَعوني أُذَكِّركم بأننا نقرأ الكِتاب المُقَدَّس وليس تفسير شَخْص ما. إنه مَوجود بالألوان الحَيّة الكاملة، صَريحة وواضِحة. الأمْر يَتَعلَّق حقًا بما إذا كُنّا نَقْبَل ما يقوله أم لا.
ولكن كونوا على حذَر: لم نتعلَّم بعد كل ما يقوله الكِتاب المُقَدَّس عن القداسة؛ وليسَتِ القداسة وحدَها صفةً من صفات الله. عواملٌ أخرى مثل عِلمه الكامل وعدله ورحمته وغفرانه وخلاصه وغضبه على سبيل المثال لا الحصر، تَلْعَب أدوارًا وتعمل جميعها معًا. الله لا يتصرف بطريقة أحادية الأبعاد؛ أي فقط بالعدل أو فقط بالرحمة أو فقط بالغضب. ومع ذلك، لا يمكننا فهم كل من هذه الصفات الإلهية دون فك ارتباطها ثم عزلها ودراستها قدر المستطاع. وفي حين أن القداسة تُطرح كحقيقة في العهد الجديد، فإن المكان الذي سنَجِدُ فيه تفسير القداسة وتعريفها هو في العهد القديم، وبِشَكلٍ أساسي في التوراة.
بِسَبَب العصر الذي انْغَمَست فيه الكنيسة منذ ما يقارب ألفَيْ سنة. وهو عصر أعتقد أنه يَقترب من نِهايته. كانت مُهِمّة الكنيسة عمومًا هي النُّموّ من خلال التَّبْشير. وقد تم أداء هذه المُهِمّة بِشَكلٍ جيِّد الى حدٍّ كبير. للأسف، ما يبدو أنه عانى على طول الطريق هو عَمَلِيّة النُّضْج (التي يَصِفُها بولُس بـ "التكميل") للفَرد المؤمِن . أولئك الذين يَرغبون في التقدُّم في إيمان أعْمَق ومَعْرِفة أكبر لم يَحصُلوا على الكثير من التَّشجيع أو الدَّعم. إن الأمْر يُشبه الى حدٍّ ما مُجتمعًا ذو سكان مُتزايدين ركَّزوا على بناء مدارس ابْتِدائيّة جديدة ممتازة للأطفال؛ ولكن عندما تخرَّج الأطفال من كل صَفّ، تم إنفاق الكثير من الموارِد على المُسْتوى الابتدائي لِدَرَجة أن المُجْتمع أهمَل بناء مدرسة ثانويّة. لذلك، في مرحلة ما، لم يَكُن هناك خيار سوى تكرار نفس المواد التَّعليمية مِرارًا وتِكرارًا، ربما بصيغة وأسلوب مُخْتلفَين قليلاً في ما يُعتبر تنويرًا أعمق. يَجلس الطفل الذي يَبْلُغ من العمر خمسة عشر عامًا فعليًا في نفس الفصل الدِّراسي مع الطفل الذي يَبْلُغ من العمر عشر سنوات، ويَسْمَعون مَنهج المرحلة الابتدائية مرَّة أخرى. المادة الابتدائية ليست خاطئة أو مُعيبة؛ لكنها لا تتحدَّى الطفل وترتقي به إلى المُسْتوى الطَّبيعي التالي المطلوب. كما هو مُطَبَّق على المؤمنين، فإن عَمَلِيّة الكمال مُتوقِّفة.
مع ذلك، فإن التَّخَرُّج إلى التعليم العالي يَجْلِب معه مجموعة من المخاوِف والمشاكِل الخاصَّة به. عندما نكون أطفالًا، تكون القواعد سَوداء وبَيْضاء، صارِمة وسَريعة، والتَّعليمات أساسيَّة. هناك مجال ضئيل مسموح به أو مَقبول (وهو مُحِق في ذلك) للأطفال لإصدار أحكام ذات قيمة بأنْفُسهم لأن الأساس الأول يَجِب أن يكون راسخًا لتحديد تلك القِيَم. لذلك، بما أن مُعْظَمُنا قد تعلَّمنا بالفعل أساسيّات خِطَّة الله للخلاص، ومن هو يسوع وما يتوقَّعه منا، وما يبدو أنه يَنتظرنا في المستقبل، فمن الطَّبيعي أن نَترك وراءنا راحةَ مَعْرِفة الألوان الأساسيَّة فقط، ونُوَجِّه انْتِباهنا إلى تدرّجات الألوان وتناسق الألوان الأكثر صُعوبة من إيماننا.
الصُّعوبة في أن حواف الأبيض والأسود التي اعْتَدْنا عليها تبدأ في التَّلاشي. الإجابات ليست دائمًا واضِحة وموجَزة. إن الإيمان أسْهل بكثير في مَرحلة الأبيض والأسود مِمّا هو عليه كلما تقدَّمنا. لهذا السَّبَب يُقال إنه يَجِب أن نأتي إلى يسوع، في البداية، كأطفال صِغار؛ أن نكون مُستعدّين أن نبدأ بالأساسيات ونَقْبَلها على أنها الحقيقة التي هي عليها، مع القليل من التَّساؤلات. ولكن فيما بعد يُتوقَّع منا أن نَتَقبَّل النِّضال من أجل التَّقدُم في الحِكمة الإلهية والفَهم، لأن هذا الصِّراع هو الذي يُبْقينا مُلْتَصقين بالله ونتقدَّم إلى الأمام. وبالنَّظَر إلى مَوضوعنا الحالي، مَوضوع القداسة، نَجِد أنه من الأسْهَل كثيرًا أن نبدو بِبَساطة مُقَدَسين، أكثر من أن نكون مُقَدَسين.
المُشكلة في القداسة هي أنه بينما هي جَوهرية في شَخْصيَّة الله فهي ليست كذلك بالنِّسبة لنا. لا يكون الإنسان مُقَدَّسا حقًا إلا عندما يكون الله قريبًا منا ويَمنحنا قداسته. والآن، ليس الأمْر كما لو أن بعض الجهد من جانبنا لبلوغ القداسة والحِفاظ عليها ليس مطلوبًا؛ إنه مَطْلوب. ولكن، يَجِب أن يكون الجهد موجَّهًا إلى الثقة بالله واتباع خِطَّته، وليس أن نَصْنع طريقنا الخاص. لقد بَذَل قورح وداتان وأفيرام وأتباعهم جهدًا فائقًا، لكن هذا الجِهد كان مُعارضًا لمُخَطَّط الله. على الرغم من أن قَدرًا من القداسة قد تَحَقَّق بالفعل لأن قداسة الله قويَّة لِدَرَجة أن مُجَرَّد القُرب منها سَيُصيب تِلْقائيًا كل ما هو قريب منها، إلا أنه لم يتَحَقَّق وفقًا لمُخَطَّطه، لذلك دَخلت صِفة الله في عَدْله. ووفقًا لِعَدالة الله، فإن أولئك المُتَمَرِّدين الذين بلَغوا هذه القداسة غير المُصرَّح بها، خلافًا لقَواعده وفَرائضه، شَعَروا بِغَضبه وأُهْلِكوا. ومن ناحية أخرى، فإن الكَهَنَة، الذين خَصَّصَهم الله وأذَنَ لهم بالقداسة، نالوا تلك القداسة بِشَكلٍ شَرعي وآمن.
سوف نَبْتَعِد عن مَوضوع القداسة لبعض الوقت، وسنَجِد في الإصْحاح التاسع عشر من سِفر العَدد مُناقشة مُثيرة للاهتمام حول نوع مُعيَّن من النَّجاسة، وما يَجِب فِعْله حِيالَها. تَذَكَّر أن النَّجِس وغير الطّاهر هو نفس الشَيْء. لذا، بينما نَترك مسألة القداسة، ضَعوا هذا في أذْهانكم فقط: أن القداسة التي في داخِلكم هي الله؛ لقد وَضَع نَفسه هناك. عَلاوة على ذلك، يُمْكِن أن تَتَنجَّس تلك القداسة؛ فمَجيء يسوع لم يُغيِّر كَيفِيَّة عَمل القداسة. إن وظيفتنا، كتلاميذ يسوع، هي أن نَحرص على حِماية قداسته الموجودة داخل هذا الحَرَم المؤقت وغير الكامِل الذي هو جَسَدنا. وبِداية القيام بذلك هي أن نكون مُنْفَتِحين للتعرُّف على ماهيّة القداسة في الواقع، وفقًا للكتاب المُقَدَس.
وبِسَبَب اهتمام الكنيسة الإنْجيليَّة المُتَجدِّد بالأحداث النَّبويّة ونهاية الأزْمِنة، سَمِع مُعظمنا على الأقل عن العِجْلة الحمراء وعن بَحْثْ مجموعة من اليهود المُسْتَمِرّ عن عِجْلة حمراء مِثاليّة؛ هذه العِجْلَة الحمراء الخاصَّة المَطلوبة عندما يُعاد بناء الهَيْكَل المأمول منذ زمن طويل في أورَشليم. حسنًا، هنا في سِفر العَدد التاسع عشر حيث يتم الإعلان عن الغَرَض من طقوس العِجْلَة الحمراء وتفاصيلها، وعلى الرغم من أننا يَجِب أن نمرّ على عِدَّة آيات من إجراءات الطُّقوس قبل أن نَصِل إلى الغَرَض منها، إلا أنه يَتَبَيَّن لنا أن الأمْر كلَّه يَتَعلَّق بتَطْهير شَخْص أصبح نَجِسًا لأنه لَمَسَ جِثَّة إنسان.
اقرأ الإصْحاح التاسع عشر من سفر العّدَد كلَّه
إن الكثير مِمّا قرأناه للتَّو في هذا الإصْحاح (والإصْحاحات السّابِقة) عن هذه الطُّقوس المُتْقَنة لا يُمْكِن إلا أن يبدو لنا نحن المُعاصرين على أنه خُزَعْبَلات؛ شَعْوَذة، أشياء نَتَوقَّع أن تقوم بها بعض قبائل أعماق الغابات في الغابات الإستِوائيّة البرازيلية. وذلك لأننا وَضَعْنا الطُّقوس جانِبًا على أنها غير مُهِمّة وغير ضَروريّة وغير ذَكِيَّة. لم نعد نرى لها قيمة بعد الآن؛ في الواقع، نحن لا نُحِبّها حقًا ولا نَرتاح على الإطلاق للحديث عنها. لكن في طقوس الكِتاب المُقَدَّس صورة مَرْئيّة لما يجري في عالم غير مَرْئي.
صّدِّقوني، قبل أن توجد الكنيسة بوقت طويل، كان الحاخامات يتصارعون مع الكَلِمات التي تَشرح لماذا كانت تَتِمّ تأدِية الطُّقوس، وما الذي يَحدث بالفعل خلال هذه الإجراءات المُقَدَسة، تمامًا كما نَفعَل نحن. هل اكْتَسَبَت دماء وأجزاء أجساد الحَيّوانات المُضحّى بها صفات خارقة للطبيعة؟ هل كانت الإجراءات المُقَدَّسة التي تَمَّت بالطريقة والترتيب الصَّحيحَين تمامًا تخلق تأثيرات شبيهة بالسِّحر على شعب إسرائيل؟ هل الاستحمام في الماء وقول الكَلِمات المناسبة في الوقت المُناسب يتفاعل بالفعل مع أجسادنا وأرواحنا لإزالة كل ما لوَّثَنا وأساء إلى الله؟ إذًا بقدر أهمِّية هذا الإصْحاح من سِفر العَدد وتفاصيله، بقَدَر ما هو مُهِمّ بالنِّسبة لنا، بقَدَر ما نحتاج أن نَخطو خُطوة أخرى في فهم مبادئ الكِتاب المُقَدّس المُتَعلِّقة بالنَّجاسة الطَّقسيّة.
وأوَدّ أن أبدأ باقْتِباس قِصَّة موجَزة من التَّلْمود عن حاخام مَشهور طُلب منه أن يَشرَح نفس القَضِيَّة التي أَشَرتُ إليها للتَّو.
سأل أحد الوثنيين الحاخام يوهانان بن زكاي قائلاً
"يبدو أن ما تفعلونه أنتم اليهود هو نوع من الشَّعْوَذة. يُؤتى بعِجْلَة، فتُحرق وتُسحق وتُدَقُّ حتى تصير رَمادا ويُجمع رَمادها. ثُمَّ إِذَا تَنَجَّسَ أَحَدُكُمْ بِمُلَامَسَةِ جِيفَةٍ يُذَرُّ عَلَيْهِ قَطْرَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ مِنَ الرَماد مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ وَيُقَالُ لَهُ: ”قَدْ طَهُرْتَ“.
سأل ربان يوهانان الوثنيون: "هَلْ مَسَّكَ رُوحُ الْجُنُونِ من قبل؟ فأجاب: ”لا“.
قال الحاخام "هَلْ رَأَيْتَ من قَبِل رَجُلاً تَمَلَّكَهُ رُوحُ الْجُنُونِ؟ أجاب الوثني: ”نعم“.
قال الحاخام "وما الذي تفعله لمثل هذا الرَّجُل؟
فأجاب الوثني: ”يؤتى بجذورٍ ويُجعَل دخان إحراقها يتصاعد حولهُ، ويُرَش عليه الماء حتى يَهْرُب روح الجنون“.
ثم قال ربان يوهانان "ألا تَسْمع أذُناك ما يَقوله فَمُك؟ كذلك الأمْر بالنِّسبة للرَّجُل الذي يتنجَّس بمُلامسة الجِثَّة، فهو أيضًا ممسوس بروح، روح النَّجاسة، والكتاب يقول: ”إِنِّي أَجْعَلُ الأَنْبِيَاءَ الدّجّالين وَالرُّوحَ النَّجِس يَزُولانُ مِنَ الأَرْضِ“.
فَلَمَّا انْصَرَفَ الْوَثَنِيُّونَ قَالَ تَلَامِيذُ الحاخام يُوحَنَّا: " يَا سَيِّدَنَا، لقد صّرَفْتَ ذلك الوثني بإجابة هزيلة كعود من قَصَب، ولكن ما هو الجواب الذي ستعطينا إياه؟
أجاب الحاخام يُوحَنَّا"أَقْسِمُ بِحَيَاتِكُمْ… إِنَّ الْجِثَّة لاَ تَمْلِكُ الْقُوَّةُ بِنَفْسِهَا لِلتَّنْجِيسِ وَلَا مَزْجُ الرَماد وَالْمَاءِ لَهُ الْقُوةُ لِلتَطْهير. الحقيقة أن القوّة التَطْهيرية للعِجْلَة الحمراء هي أمر من القُدّوس. قال القُدّوس: ”لقد جَعَلْتُها فريضة، وأصْدَرتُها مرسومًا. لا يجوز لكم أن تتجاوزوا مَرْسومي. هذه هي الشريعة الطَّقسيّة".
في الجَوهَر يقول الحاخام: أنا لَسْتُ مُتأكدًا تمامًا من كَيفِيَّة عَمَل الأمْر كلَّه، لكنَّني أَعْلم أن العِجْلَة ليس لها قوة سِحْريَّة في حدّ ذاتها، وأعلم أن الجِثَّة لا يُمْكِن أن تُنَجِّس أحدًا بطبيعتها. في النهاية، نحن نقوم بعَمَلِيّة تَطْهير العِجْلَة الحمراء هذه لأن الله أمَرَنا بذلك، وإذا فَعلْنا ذلك فَسَيَحْسِبنا مُطَهَّرين ولا يجوز لنا أن نَفعَل غير ذلك.
لذا فإن الحاخام الطَّيِّب يَنفي أن يكون هناك أي نوع من السِّحْر. إنه يَعْتَرِف بِسُهولة أن كل هذا يبدو بالتأكيد مثل طُقوس الشَّعْوَذة الوَثَنِيّة الخادِعة ……… لكنّه ليس كذلك. وجِزْء من السَبَب في ذلك ليس هو أنه يَقول إن الله قال أنه طَرَد الأرْواح النَجِسَة من أرض بني إسرائيل، لذلك من المُسْتَحيل أن يكون لدى الرَّجُل المُلَوَّث روحٌ نَجِسَة فيه.
ولكن ما يُثير حيرة الحاخام أيضًا…… على الرغم من أنه ليس من السَّهل رؤيته في قِصَّة التَّلْمود هذه ، هو أن هناك مُفارقة غريبة جدًا في سِفر العَدد التاسِع عشر حول عَمَل رَماد العِجلة الحمراء على الرَّجُل المُتَنَجِّس الذي لَمَس الجِثَّة. دعونا نلقي نظرة فاحِصة على ما نُسمِّيه ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء ونرى أين تَكْمُن هذه المُفارَقة.
أول شَيْء نلاحظه، في الآية الثانية، هو أن الحَيَوان المعني هو بقرة حمراء، والتي نسَمّيها عادةً العِجْلَة الحمراء. هذا بالطَّبْع حيوان أنثى. إنها صغيرة في السِّن، ولكنها أكبر من حيوان في عمر السَّنة ولم تُستخدم أبداً للعمل؛ أي أنها لم تُستخدم أبداً لِغَرَض عام (وهذا هو معنى ”لم تُنْتِجْ“). كما يَجِب أن يكون هذا الحَيَوان طاهرًا كسائِر الحَيَوانات المعَدَّة للذبح.
بعد ذلك والأهم من ذلك قيل لنا أن العِجْلَة الحمراء يَجِب أن تؤخذ خارج المُخَيَّم لتُذبح. هذا يمثِّل العنصر الأول من المُفارَقة. هذه العِجْلَة الحمراء، التي ستُستخدم كعنصر أساسي في خَلْطة تَطْهيرية ذات أهمِّية خاصة، ستُقتل في مكان غير طاهِر. تَذَكَّر فقط ما معنى خارج المُخَيَّم. الأرض الطاهِرة الطَّقسيّة الوحيدة هي داخل المُخَيَّم. داخل المُخَيَّم هو المكان الذي يعيش فيه بنو إسرائيل. وبمرور الوقت، أصبحَت هذه المنطقة أكثر تحديدًا وتم تعيين قياسات فعلية (حدود المدينة، إذا أردت). لا تَخلط بين الطَّهارَة الطَّقسيّة والقداسة الطَّقسيّة. الأرض الوحيدة المُقَدَّسة طقسيًا كانت داخل ساحة الهَيْكَل أو خَيْمَة الإجتِماع، والتي كانت تقع في وَسَطِ المُخَيَّم الطاهِر طقسيًا.
لذلك في مكان ما خارج المُخَيَّم، في مكان غير طاهِر، أُقيمَ مذبحٌ خاص. في الواقع، ربما تكونُ كَلِمَة "مَذْبح" كَلِمَة مُبالَغ فيها للغاية. كان هذا مُجَرَّد كومَة خَشَب كبيرة ولكن عاديّة من الخَشَب تُذبح عليها العِجْلَة الحمراء وتُحرَق.
كان الإجراء العام هو أن كاهناً ذا رُتْبة عالية (ولكن ليس رئيس الكَهَنة، الذي كان في مِثالنا في سِفر العَدد هو إليعازار بن هارون) كان يرافق العِجْلَة الحمراء إلى الحَطَب ويشرِف على الطُّقوس. كان هذا الكاهن يَقْطَع حَلق العِجْلَة ثم يجمع بعضًا من دَمِها في إناءٍ طقوسي. ثم كان يَستدير بعد ذلك ويُواجه الباب إلى داخل الحَرَم ويَرُشُّ بعض الدَّم بإصْبعه سبع مرات في اتجاه الحَرَم. وبالطَّبْع كان على مسافة بعيدة، لذا كان لا بدّ من تحديد خط رؤية حتى يتمكَّن من رؤية باب المكان المُقَدَّس، تلك الحُجْرة الأولى داخل الحَرَم.
بعد ذلك كانت تُحرَق العِجْلَة بأكملها (كل جزء منها) فوق هذه النار الضَّخمة. وبينما كانت العِجْلَة تُحرَق كان الكاهن يلقي فوقها خشب الأرز، والزوفا (غالبًا ما يُطلق عليه الزعتر)، وخيطًا أحمر اللون فوقها، ليتمّ حرقه أيضًا. كانَ يَتِمُّ إضافة الخَشَب والزوفا والخَيط إلى المزيج.
عند الانتهاء من مُهِمّته، كان على الكاهِن أن يخلع ثوبه الكهنوتي ويَستحم بالماء. وبعد أن يَلبس ثيابًا جديدة كان بإمكانه العودة إلى المُخَيَّم، لكنه كان يبقى في حالةٍ غير طقْسية حتى غروب الشمس، مِمّا يشير إلى نهاية اليوم الحالي وبداية اليوم التالي. كل من ساعَدَه في هذه العَمَلِيّة كان عليه أيضًا أن يَخْلع ثيابه ويَغْسِلها ويَغْتَسِل، ويغتسل هو أيضًا، ويبقى في حالة نجاسة حتى غروب الشمس.
بعد ذلك كان على الرَّجُل الذي لم يُشارك في أي من الطُّقوس حتى هذه المرحلة (وبالتالي كان لا يزال طاهِراً طقسيًّا) أن يَجمع الرَماد ويَضَعه في مكان مُخَصَّص حيث سيَستخدمه ليَخْتلِط بالماء وبالتالي يَصنع سائل التَطْهير الخاص لاسْتِخْدامه عند الحاجة إليه. هذا الرَّجُل، في جَمْعِه للرَماد، تنجَّسَ. لذلك كان عليه أن يَغسل ثيابه ويغْتسِل ويبقى في حالة نجاسة حتى غروب الشمس، كما هو الحال مع الآخرين.
لأن مُسْتوى النَّجاسة من مُلامَسة المَوت (عادةً المَوت البَشَري) كان عظيمًا جدًا، فلم يَكُن بإمْكانه فقط أن يُنَجِّس أيًا كان أو أي شيء قد لامَسَه، بل كان بإمكانه أن يُنَجِّس أيًا كان أو أي شيء كان قد اقْترَب منه. ومع ذلك، فإن ما لامَسَ جَسَد المَيِّت بالفعل كان مُلَوَّثًا بِدَرجةٍ أكبَر من النَّجاسة من أي شَيْء كان قريبًا منه.
كان عِلاج النَّجاسة التي تُسَبِّبها جِثَّة المَيِّت هو هذا الخليط من رَماد العِجْلة الحَمْراء والماء. كان هذا الخَليط يُرشّ على المَنزِل أو المبنى الذي مات فيه هذا الشَخْص، وكان يُرشّ أيضًا على كل من كان على اتِّصال بهذا الشَخْص. كانت عَمَلِيّة الرَّشّ تتمّ مَرَّتَين: المَرَّة الأولى كانت في اليوم الثالث بعد التَّنْجيس، والمَرَّة الثانية كانت في اليوم السابع بعد التَّنْجيس.
ثم يعود الأشخاص المُتَنَجِّسون الذين تم رَشَّهم بِشَكلٍ صحيح إلى حالة الطَّهارَة الطَّقسيّة في نِهاية اليوم السابع، وفي ذلك الوقت كانوا يَغْسِلون مَلابسهم ويَسْتحِمُّون.
لم يَكُن هذا أمْرًا سَهلًا. أي شَخْص تَنَجَّس من جِثَّةٍ ولم يَخْضَع لهذا الإجراء الطَّقسيّ كان يَجِب أن يُفْصَل. لقد تَحَدَّثنا عن مُصْطَلَح الفَصل هذا (كاريت بالعبرية) ويُمْكِنك مُراجعة الدُّروس السّابِقة لمزيدٍ من المعلومات. وباخْتِصار، فإن الشَخْص الذي قُطِعت عِلاقته بِشَعب إسرائيل، والأهَمّ من ذلك، بإلَه بني إسرائيل، كان يَفقد عِلاقته بإله بني إسرائيل. يَبْرُز سؤالٌ مُهِمّ: لماذا هذه العُقوبة القاسية؟ الجواب على هذه النَّتيجة القاسية هو في قُرْب نهاية الآية عشرين: الشَخْص الذي تدنَّسَ بجَسَدٍ مَيِّت ويَرفُض تَدبير الله لكي يَتَطَهَّر، ”قد نَجَّسَ حَرَم الرَّب. "لقد تَعرَّضَت قداسةُ الله للخَطَر، وليس هناك ما هو أكثر دَناءَةً من جَلْب النَّجاسة إلى مَسْكَنِ الرَّب. ضَعْ ذلك في مُقَدِّمة ذِهْنَك بينما نُواصِل لأننا سَنُعيد النَّظَر فيه.
في نِهاية الإصْحاح، يُقال لنا بعد ذلك أن الشَخْص الطاهِر الذي قام بِرَشّ خليط الرَماد والماء على الشَخْص المُتَنَجِّس يَجِد نَفْسه الآن في حالةٍ نَجِسَة، ومن ثم يَجِب عليه بالطَّبْع أن يَغسل ملابِسه ويَسْتَحم وينتظر حتى تَغْرب الشمس.
والأكثر من ذلك، أي شَخْص طاهِر طقسيًا في الوقت الحالي يَلْمُس ولو قَطرة من ماء التَطْهير الخاص هذا يُصْبِح نَجِسًا. وأي شَخْص أو أي شَيْء يَلْمُس هذا الشَخْص النَّجِس يُصْبِح الآن نَجِسًا. وهذا هو اسْتِكْمال قِصَّة العِجْلَة الحمراء.
دَعوني أبدأ بِفَحص هذا الإصْحاح المُذْهِل والمُحَيِّر الى حدٍّ ما في نِهايته: لاحِظوا أنه كما في الإصْحاح السّابِق المُتَعلِّق بالقداسة (أن القداسة يُمْكِن أن تَنْتَقِل عن غير قَصْد من شَيْء مُقَدَّس إلى آخر)، هكذا الأمْر مع النَّجاسة. يُمْكِن أن تَنْتَقِل النَّجاسة عن غير قَصْدٍ من شَيْءٍ جُعِلَ نَجِسًا إلى شَيْء آخر سِواء كان من الأشياء أو الأشخاص.
أُذَكِّركم بما قُلْتُه في البِداية اليوم: يُمْكِنكم أن تكونوا غير مرْتاحين لهذا الأمْر (يُمْكِنكم حتى أن لا تُحِبّوه كثيرًا) ولكن ها هو هنا بِوُضوح. هذا ليس تَفسيري. هذا ليس مأخوذًا من التَّقليد العبري. هذا ليس تَفسيرًا بَشَريًا. نحن نقرأ هذا مُباشرة من كَلِمَة الله، الكِتاب المُقَدَّس. لذلك نحن مُلْزَمون بالتَّعامُل معه كما هو وليس مُجَرَّد مُحاولة تَمَنِّيه، أو تأويله، كما جَرت العادة المسيحية منذ قُرون.
هيا نبْدأ. يقول القاموس أن المُفارَقة هي حالة أو مَقولة تبدو مُتَناقِضة أو غير مَعْقولة أو سَخيفة. ومع ذلك من المُحْتَمَل جدًا أن تكون صحيحة أو واقعية. والمُفارَقة في ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء هي التالية: كل من له علاقة بإعدادها ومَوتها وحَرقها وجمع رَمادها يُصْبِحُ غير طاهِر. هل فَهِمتم ذلك؟ الناس الذين لا يَتْبَعون أمْر الله في هذا القانون الطَّقسيّ للتَطْهير، يَبْدأون في حالةٍ طاهِرة ولكن يَنْتَهي بهم الأمْر إلى أن يُصْبِحوا نَجِسين طَقْسيًّا. في الظاهِر لا يبدو ذلك مَنطقيًا على الإطلاق. هل يُمْكِن أن يكون يَهوَهْ يأمُر بعض المُقَدَّسين و/أو الطاهِرين بأن يتنجَّسوا طَقْسيًا عن قَصْد؟
إن الشَخْص النَّجِس (من لَمْسِ جِثَّة) يُصْبِح طاهِراً من رَماد العِجْلَة الحَمْراء، لكن الأشخاص الطاهِرين الذين يُؤَدّون الطُّقوس ويَضَعون الرَماد يُصْبِحون نَجِسين. كما يقول الحاخامات عن هذا الإجراء: نفس الرَماد الذي يُطَهِّر المنجَّس يُنَجِّس الطاهِر أيضًا. كيف يكون ذلك ممكنًا؟ هذا مُخالف تمامًا لكل الذبائح الأخرى وتأثيراتها. إن الذبائح الأخرى تُكفِّر وغالبًا ما تُطهِّر. عادةً، التَّعامل مع الذبيحة بِشَكلٍ صحيح يَجْلُب تِلْقائيًا قدرًا من القداسة معه. في الواقع يَجِب على المواطن العادي أن يُسلِّم ذبيحته إلى الكاهن ليَضَعها على المّذْبَح النُّحاسي لأن الكاهِن وَحده هو المُقَدَّس الذي يُمْكِنه الاقتراب من المّذْبَح. حتى الحَيَوان يُعتبر مُقَدَّسًا (وهي مَنْزِلة أعلى من مُجَرَّد الطَّهارَة) في اللحظة التي يقرِّر فيها المُتَعَبِّد أن يقدِّمه كذبيحة، وإلا لما سُمح له حتى بدخول الحَرَم المُقَدَّس. إذَن، ما الذي يَحْدُث هنا؟
إحدى الصُّعوبات في فَهْم ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء والذبائح العادِيَّة وطقوس الهَيْكَل هو المعنى الحقيقي لمُصْطَلَح ”مُقَدَّس“. المُصْطَلَح بالعبرية هو كوديش أو كادوش؛ وهو في الحقيقة يعني بِبَساطة أن يكون مَعزولًا أو مُنْفَصِلًا. عندما تستعِدّ زوجتي لغَسل الملابِس فإنها تَفْصُلُ بعناية بين أنواع المواد وكذلك الغَسيل الفاتِح والغسيل الداكن. إن تطبيق هذا المُصْطَلَح العبري على فَصلها لنوع من الألوان أو القماش عن نوعٍ آخر من القماش هو من ضمن معنى كادوش أو كوديش تمامًا. ولكن هل جَعَلَت الغسيل الداِكن ”مُقَدَساً“ والغسيل الفاتِح شيئًا آخر؟ لا.
إن سِياق اسْتِخْدام مُصْطَلَح كادوش أو كوديش هو المُهِمّ؛ هل يُستخدم في سِياقٍ روحي/ديني أم في سِياق آخر؟ يُمْكِن أن يكون الشَخْص كادوش للهلاك؛ أو يُمْكِن أن يكون كديش للشَّيْطان. ولكن كِلا الأمْرين سلبيَّين. تَذَكَّر: قُدّوس ليست كَلِمَة عبرية؛ إنها كَلِمَة إنجليزية استُخْدِمت كترجمة لكوديش أو كادوش.
إنه فقط عندما يكون الشَيْء مُقَدَّسا للرّب (مفصولاً خصيصًا لِخِدمة الرَّب) فإنه يَحمل معنى ”مُقَدَّس“ كما نُفكِّر في كَلِمَة ”مُقَدَّس“. وهكذا فإن العِجْلَة الحَمْراء ليست "مُقَدَّسة" بِقَدَر ما هي بِبَساطة ”كادوش، أي مُنفَصلة عن غيرها؛ ولكنها مُنفَصلة ليس لخدمة الله (كما في ذبيحة الهَيْكَل العادِيَّة) بل للإهْلاك. ولكن هذا الإهْلاك سيَستخدمه الله ليجعل شعبه طاهِرا مرّة أخرى. لذلك سيكون من الخطأ تطبيق مُصْطَلَح "مُقَدَّس" كما يُعتَقَد في المسيحية على العِجْلَة الحمراء.
المُفتاح الآخر لِفَهم طقوس العِجْلَة الحَمْراء هو أن نُلاحظ أن التوراة تسمّي هذه الذبيحة بالعبرية ” حتآت“. إذا كنت تَدرس معي منذ فترة، فهذه ليست المَرَّة الأولى التي تَسمع فيها هذا المُصْطَلَح، حتآت. هذه هي طقوس العِجْلَة الحَمْراء التي تنتمي إلى التَّصْنيف العام لفئة الحتات من الذبائح. تَذَكَّر أننا في بداية دِراستنا لِسِفْر اللاوِيّين قَضَيْنا الكثير من الوقت نَدْرُسُ التَّصْنيفات المُخْتَلِفة للذَّبائح وأغْراضها الدقيقة التي أَمَر بها الله؛ إنها عَميقة ومُعقَّدة، لذلك سأتحدَّث فقط عن أجزاء ذَبيحة الحتآت ذات الصِلَة بِطَقس العِجْلَة الحَمْراء.
مُعظم مُترجِمي الكِتاب المُقَدَّس سيُترجِمون مُصْطَلَح حتآت بالعبرية على أنها "ذبيحة الخَطيئة". ولكن هذا أمْرُ غامِض الى حدٍّ ما ويَفتقِد تمامًا الغَرَض منه. من الأفضل ترجمة حتآت على أنها ”ذبيحة التَطْهير“. وبِعِبارة أخرى، بينما قد تكون الخطيئة هي التي تؤدّي في النهاية إلى الحاجة إلى هذه الحتآت، فإن تأثير الحتات هو التلَوُّث، التَطْهير.
في ذبيحة الحتآت القياسيَّة لا يجوز أكْل لَحْم الحَيَوان، ويَجِب حَرْق الحَيَوان خارج المُخَيَّم تمامًا كما هو الحال في طقوس ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء. ولكن هناك اختِلافات كبيرة بين نوع العِجْلَة الحَمْراء في طقوس ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء والطَّقس المُعتاد. على سبيل المثال، لا يَجِبُ رشّ دم العِجْلَة الحَمْراء على المّذْبَح، بل يَجِب أن يبقى الدَّم في العِجْلَة بحيث يتم حَرْقُه كَجِزء من الرَماد. هذا لأن أحد المبادئ الأساسيَّة لنِظام الأضاحي هو أن الدَّم هو مِحْوَر العَمَلِيّة بِرِمَّتها.
الحتآت…..ذبيحة التَطْهير اللاويّة العادِيَّة ….. هي ذبيحة فَريدة من نَوعها لأن أحد آثارها هو جَعْل القائمين عليها والمَسؤولين عنها غير طاهِرين. وبالطَّبْع نَجِدُ هذا الأمْر نَفْسه يَنْطَبِق أيضًا على طقوس العِجْلَة الحَمْراء هنا في سِفْر العَدد تسعة عشر. يا له من شَيْء غريب؛ ما هو السَّبَب الذي يَجعل الله يُصَمِّم ذبيحة تُوَلِّد النَّجاسة؟ حسنًا، هذا هو السَّبَب في ذلك: حيوان الذبيحة (في حالتنا هذه، العِجْلَة الحَمْراء) يتطَهَّر عن طريق امْتِصاص نجاسة الشَخْص أو الشَيْء المُتَنَجِّس بِشَكلٍ فعّال. حيوان ذبيحة الحتآت يَعمَل مثل الإسِفَنْج الرّوحي. وبما أن حيوان ذبيحة الحتآت يَخْدُم غَرَضه من خلال امْتِصاص أنواعٍ مُعَيَّنة من التَّلَوُّث الذي كان من المُفْتَرَض أن يَمْتَصَّه، فإنه يُصْبِح مُلوَّثًا بِكَمِّية هائلة من النَّجاسة وبالتالي يَجِب إتلافه. إنه نَجِسٌ بِشَكلٍ خطير لِدَرَجة أنه يَجِب إتْلافه بعيدًا عن أي شَيْء مُقَدَّس؛ بل يَجِب إتْلافه بعيدًا عن أي شَيْء طاهِر (مُخيَّم بني إسرائيل). لا يُمْكِن أن يُقدَّم على المّذْبَح المُقَدَّس في مِثل هذه الحالة، ولذلك يتم إتِلافه بعيدًا عن أي شَيْء مُقَدَّس، على نارٍ عادِيَّة، خارِج المُخَيَّم. في الواقع، من الناحية الفَنِّيّة، فإن ذبيحة الحتآت لا تُقدَّم إلى الله. إنها مُخَصَّصةٌ لِغَرَضٍ ما (إنها كادوش لِغَرَضٍ ما) ولكن هذا الغَرَض ليس أن تكون مُخَصَّصةً لله. فقط الأشياء المُخَصَّصة تحديدًا( كادوش) لله يُمْكِن أن تُقدَّم للرّب.
إن مَفهوم التَّخْصيص لأغراض عامة مقابل التَّخْصيص لله يأتي أيضًا في اسْتِخْدام النار التي تُستخدَم لِحَرْق الحَيَوان. إن نار المّذْبَح النُّحاسي هي نوع إيجابي من النار التي تتحَوَّل وتُنَقّي لأنها تُستخدَم لتقديم الدُّخان للرّب. أما نار الحَطَب الشّائعة التي تَحرق العِجْلَة الحَمْراء فهي نار الحَطَب العادِيَّة التي تُستخدَم للإهْلاك فقط؛ المَقْصود بها التَّخَلُّص من كل ما يُوضَع عليها لأنها خَطِرة ومُتَنَجِّسة، ولا تَخْتَلِف عن حَرْق النِّفايات الطُّبِّيّة.
لقد تَحَدَّثنا مؤخَّرًا عن أن قداسة الله عظيمة جدًا، مثل الإشْعاع النَوَوي غير المَحصور، لِدَرَجة أن كل ما يَقْترب منها يُشِعُّ بالقداسة ويَكْتَسِب قَدرًا من القداسة نَفْسها. إنه نَفْس النوع من التأثير مع العِجْلَة الحمراء التي تَمْتَلئ بأسوأ أنواع النَّجاسة من امْتِصاص دَنَس الآخرين، بحيث أن كل شَيْء يَقْتَرِب منها، كل شَيْء وكل إنسان، يَشِعُّ بالنَّجاسة.
والآن اسْمَحوا لي أن أُشير إلى شَيْء آخر فريد من نوعِه في ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء: ليس من يقوم بالذَّبيحة الطَّقسيّة هو الذي ينال منافِعها. في الواقع الأمْر نفسه بالنِّسبة لأي ذبيحة من ذبائح الحتات:لا يُستخدم دم الحَيَوان لتَطْهير العابِد أو التَّكفير عنه. أي أنه في ذبيحة الحتآت العادِيَّة يتم رَشّ دم الحَيَوان على المّذْبَح وفي بعض الحالات على أثاث الحَرَم الأخرى لأن دم الحَيَوان يؤدّي وظيفة التَطْهير. أما في ذبيحة العِجْلَة الحَمْراء فيُصْبِح دم الحَيَوان جِزءًا من الرَّماد، وعندما يَخْتَلِط بالماء يَنْتَهي به الأمْر إلى أن يُرشَّ على الشَخْص الذي يحتاج إلى التلَوُّث والتَطْهير.
وبِعِبارةٍ أُخرى، فإن الغَرَض الأساسي من ذبيحة الحتات القياسيّة هو اسْتِخْدام دَم الحَيَوان لِغَرَض تَطْهير الحَرَم (خَيْمَة الإجتِماع أو الهَيْكَل) والأشياء المُقَدَّسة فيه. لا يُستخدَم لتَطْهير الشَخْص الذي يُقدِّم الذبيحة، ولا يُقَدَّم ليَهوَهْ.
حسناً. اسْمَحوا لي أن أجمَع لكم بعض الأجزاء: تَذَكَّروا ما ورد في الآية عِشرين: أنه إذا لم يَتَطهَّر أحد (برَماد العِجْلَة الحَمْراء المَمْزوج بالماء) من نَجاسة المَوت (بِسَبَب لمس جِثَّة مَيِّت) فإنه سَيُفْصَل؛ ستَنتهي عِلاقته بجماعة بني إسرائيل وستَنْقَطِع علاقته بالله. لماذا هذه العُقوبة الشَديدة؟ لأن نتيجة إصابة الشَخْص بِنَجاسة من جِثَّة مَيِّت هي أنها تُدَنِّس حرَم الله. إن تنجيس حَرَم الله هو المُشكلة الأكبر؛ ولذلك فإن تَنْجيس حَرَم الله هو الذي يَجِب أن يُعالَج.
خُلاصة القَوْل في كل هذا: رَماد العِجْلَة الحَمْراء (عندما يُمزَج بالماء الحَيّ) مُصَمَّم لتَطْهير حَرَم الله. وقد كان من المَفهوم منذ فترة طويلة داخل اليهودية أن شعب الله هم بِطَريقة غامِضة أيضًا مُقَدَّسات الله (هذا المَفهوم ليس اخْتِراعًا مَسيحيًا جديدًا). هذا هو اسْتِخْدامهم الوحيد. لا عَجَب أن الحاخام الطَّيِّب في قِصَّتنا واجَه صُعوبة في تفسير لماذا كان الرَماد الذي كان من الواضِح أنه كان يَهدف إلى تَطْهير هَيْكَل الله يُستَخدَم أيضًا لسبب غامِض في طقس لتَطْهير الإنسان من أسْوأ أنواع التَّلَوُّث، وهو الاتِّصال بالمَوت. لم يَفْهَم الحاخام ما نَعْرِفه الآن بعد فوات الأوان: أنه في نِهاية المطاف، بمُجَرَّد أن يَنْتَهي المسيح من بَذْل حياته للتَّكْفير عن حياتنا، سَيَتخلّى عن الحَرَم الذي صَنَعَه البَشَر له، ويَجْعَل من البَشَر أنْفُسهم حَرَمَه الجديد بطريقة حَرْفِيَّةٍ كامِلة.
الصورة الطَّقسيّة التي تَظهر هنا هي رَبْط حَرَم الله بالبَشَر. ألا يُقال لنا أننا كمُؤمنين نحن الآن هَيْكَل الله؟ وفي الواقع ألا يَعيش الرّوح القُدُس، الذي هو الله، حَرْفياً داخل هذه الخِيام الهَشَّة التي نُسمِّيها أجْساداً؟ إذًا يَجِب أن تَتَطَهَّر هذه الخِيام وتُنَظَّف لتكون مُناسِبَة لِسَكَن الله فيها. وكما هو الحال بالنِّسبة لخَيْمَة الإجتِماع والهَيْكَل القَديمَين، فإن مُجَرَّد وجودهما على مَقْرُبة من الناس واتِّصالهما بالناس، وَوُجودِهما في عالمٍ مُدَنَّس يعني أن الحَرَم سيكون باسْتِمرار تحت قَصْف النَّجاسة. لذلك فإن التَطْهير المُنْتَظِم لتلك النَّجاسات أمْرٌ إلزامي.
تَذَكَّروا صَلْب يسوع؛ عندما أراد الجُندي الروماني أن يُحَدِّد ما إذا كان يسوع قد مات بالفِعل، أم أنه قد أُغْمِيَ عليه فقط، مدّ يَدَهُ بالحَرْبة وطَعَن جَنْبه. وماذا سالَ؟ دم وماء. الدَّم الذي نَتَوقَّعه، ولكن لماذا الماء؟ لأن الدَّم يُكفِّر والماء يُطَهِّر، وكلا الفِعْلَين مَطلوبَين. الدَّم يُزيل الخَطيئة، والماء يُزيل النَّجاسة. شَيْئان مُخْتلفان، عُنصُران روحيّان مُختلفان، لكن يسوع كان كافياً لِكِلَيْهِما. ماذا كان خليط التَطْهير في سِفر العَدد الإصْحاح التاسع عشر؟ الدَّم والماء. كان الدَّم في رَماد العِجْلة، مَمْزوجًا بماء التَطْهير، ويوضَع على الشَخْص المُدَنَّس بالمَوت.
سَنَنْتَقِل إلى مجال آخر في المَرَّة القادِمة.