الأَعْداد
الدَّرْس الثامِن – الإصْحاح السادِس
يَتألّف سِفر العَدَد، الإصْحاح السادِس، من قسْمَين رَئيسِيَّين: فالآيات الإحْدى والعِشْرين الأولى تحدّد مقام النّاصِرِيّين، ثم تُعطينا الآيات الخَمْسة الأخيرة ما أصْبَحَ يُسمَّى بالبَرَكَة الهارونِيّة. كلا المَوضوعَيْن يَسْتحِقّان أن نَمْنَحهما الوقت الكافي وهذا ما سَنَفْعَلُه.
هذا هو المَوْضَع الوحيد في التوراة الذي يُشار فيه إلى النّاصِرِيّين؛ ولَكِنَّنا سنُصادِف النّاصِرِيّين في عَدَد من المواضِع في العَهْد القديم خارِج التوراة، وسنَرى أيضاً أنه لا يزال مَعْمولاً به في عَصْر العَهْد الجديد حيث أن بولُس نَفْسه يُشارِك في طُقوس النّاصِرِيّين بناءً على اقْتِراح يَعْقوب (أخو يسوع) زَعيم اليَهود المِسْيانيّين، كَدَليل لليهود الآخَرين على أن بولُس نَفْسُه يوافِق على التوراة ويُكَرِّمها ويُطيعُها رغم أنه يؤمِن بأن يسوع هو المسيح.
يَظْهَر النّاصِريون في العديد من قِصَص الكِتاب المُقَدَّس المُهِمّة: شَمشون (من سَبَط دان)، وصَموئيل (الذي وُصِف بالتَّعاقُب بأنّه أفرامي ولاوي)، والبْعض يقول أن يوحَنّا المَعْمَدان (وهذا ما لديّ بعض الشُّكوك حَوْلَه لأنه كان لاويًّا، ولكن يُمْكِن أن يكون كذلك). يَدَّعي البعض أن يسوع كان ناصِرِيًّا، لكنَّني لا أرى أي دَليل يَدْعَم هذه الفِكْرة، وكل الأسباب تَدْفَعُني لِلْقَول بأنه لم يَكُن كذلك. السّبَب الرّئيسي وراء تَسْمِية يسوع أحيانًا بالنّاصِري هو التَّقليد المَسيحي الخاطئ الذي نَشأ عن خَطأ ولا يزال سائدًا: والخَطأ هو أن النّاصِري والنّصراني هما نَفْس الشّيء. يسوع يُدعى نَصْرانيًّا لأن هذا ما كان يُدْعى به الناس الّذين عاشوا في الناصِرة، مَسْقَط رأسِه. ولكن، لم يَكُن للنّاصِرة عِلاقة مُباشَرة بالنّاصِرِيّين.
دَعونا نقرأ معًا الإصْحاح بأكْمَله .
اقرأ الإصْحاح السادِس من سِفر العَدَد كلّه
في الآيتين الأولَيَين نَكْتَشِف السِّمَة الأولى المُهِمّة للنّاصِري: يُصْبِح المَرْء ناصِرِيًّا بِنِذْرِه. السِّمة الثانية المُهِمّة هي أن كِلا من الرِّجال والنساء يُمْكِن أن يُصْبِحوا ناصِريّين. ولكن سأُخبركم الآن أنه كما يَحْدُث غالبًا في الكِتاب المُقَدَّس، تَتَغيَّر الأمور على مَرّ السِّنين. فقد تَطوّر مقام النّاصِري، ومن يُمْكِن أن يكون ناصِرِيًّا، ومُدَّة بقاء الشَّخْص ناصِرِيًّا، وما هي الْتِزاماته وواجِباته وما إلى ذلك، على مَرّ القُرون.
اسْمَحوا لي أن أسْتَخدِم هذا التَّعْليق للتَّذْكير بأنه في حين أن ما نَقْرأه في الكِتاب المُقَدَّس هو الحَقّ، فإن هذا لا يعني أن كل ما يَحْدُث فيه هو ما أقَرّه الله. على سبيل المثال نقرأ عن بناء بني إسرائيل للعِجل الذَّهَبي، ثم عِبادَتْهم له. القِصَّة حقيقيّة: ولكن هل وافق الله على ذلك؟ بالطبع لا. لم يَكُن هذا أمرًا إلهيًّا يجري التّعامل معه في مَهْزِلة العِجل الذَّهَبي. والآن، تلك الرَّدَة بالذات تَحدَّث عنها الكِتاب المُقَدَّس على أنها خطأ، وحَدثَت وقد حَلَّت عواقِب وَخيمَة على أولئك الّذين شارَكوا في صُنْع وعبادة صنَم الثور، لذلك ليس من الصَّعب على أي قارئ أن يَعرِف أن الشَّر كان يَحْدُث، ولَكِنَّنا سنقرأ في أوقات أخرى في الكِتاب المُقَدَّس عن حَدثٍ ما، ولكن لا يُذكر لنا إلا القليل أو لا يُذكر لنا ما إذا كان هذا بالضَّرورة أمرًا جيدًا أو سيِّئًا قد حَدث. يُترك لنا أن نُميِّز ما إذا كان ذلك خَيْرًا أم شرًّا وِفقًا لِفَهمنا للتوراة……. وهو فهم من المُفتَرَض أن نَمْتَلكه بالفِعْل. وبِعِبارة أخرى، يُفترَض من مَعْرِفتنا بالله ووصاياه، ومن قراءتنا لِسِياق القُصّة، ما إذا كان الهدَف من القُصّة هو الثَّناء على عمل حَسَن أو شَجْب عمل سيّئ.
إذًا ما كان عليه النّاصِري وما كان يَفْعَله النّاصِري لم يَكُن هو نَفْسَه بعد بضع مئات من السِّنين من تأسيسه كما كان عليه عندما أُعْطِي لموسى؛ وما نقرأه هنا في سِفر العَدَد لا يتطابق حقًا مع الطريقة التي كان يعمل بها النّاصِري في أيام شمشون، ولا فيما بعد في أيام صَموئيل، ولا فيما بعد في أيام القدّيس بولِس. هذا ليس لأن الله غيَّر الأشياء…………… بل لأن الإنسان غيَّر الأمور.
في سِفر العَدَد خمسة حيث تعامَلْنا مع قَضِيَّة مِحْنة الماء التي تخْضَع لها الزوجة المُشتَبَه أنها زانية. أمر الله ……. لقد أخبرتُك أنه بعد موت المسيح بِفَترة وجيزة أعلن حاخام ذو نفوذ كبير إلغاء مُمارسة شريعة الله هذه. والآن، هل كان هذا القرار الحاخامي انْعِكاسًا لأن يَهوَهْ كان يُغيِّر شيئًا ما، ويُلغي شريعة من شَرائعه، ويَسْتَخدِم إنسانًا للقيام بذلك؟ لا، كان هذا رَجُلًا يُغيِّر شيئًا كان يَعتقد أنه يجب تَغييره بِسَبَب ظروف مُعَيّنة في ذلك الوقت أزْعَجَته كثيرًا. هل فَعَل الحاخام هذا بِقَصْدٍ شرّير؟ لا؛ في الحقيقة من مَنْظور دُنْيَوي…………. وربما حتى من مَنظور سَماوي…. لقد فعل الشّيء الصّحيح، لأن مسألة التّعامل مع الزِّنا بِرُمَّتها أصْبَحَت مُلْتوية ومُنْحَرِفة. فقد كان الرِّجال يتهَرّبون والنِّساء تُضطَهَدْن لا لسبب سِوى أن الرِّجال سئموا من زوجاتهم الحاليّات، وبإعلانهم أنهم يَشِكّون في أن زَوجاتهم غير مُخْلصات يُمْكِنهم الحصول على طلاق سريع، وكانت تتمّ تَهْنِئَتهم على تَقواهم من قبل السُلْطَة الدينية اليَهودِيَّة. وبِعِبارة أخرى، أصْبَحَت قوانين الزِّنا احتيالًا شرعيًا.
حَدثَ خطّ مُماثل من التَطوُّر في المُمارسات والأعْراف مع مقام النّاصِري.
أقول لكم ذلك لأن بَعضكم قد سَمِعَني أتحدَّث في مُحاضرات أخرى أنه كان هناك نَوعان أساسيّان من النّاصِرِيّين: الدّائم ومدى الحياة. فالدائم، رغم التَسْمِية، كان يُشير إلى النّاصِري الذي نَذَر نِذرًا لفترةٍ زَمَنِيَّة مُحَدَّدة، ثم لم يَعُد ناصِرِيًّا بعد انتهاء المُدَّة المُحَدَّدة. أما النّاصِري مدى الحياة فَمَعْناه أنه وُلد ناصِرِيًّا مدى الحياة وسيموت ناصِرِيًّا، أي أن أُمَه هي التي جَعَلَتْه ناصِرِيًّا وهو لا يزال في رَحْمِها. الأمْر هو أنه لا توجد وَصِيَّة الله هذه في الكِتاب المُقَدَّس تُقِرُّ بمَقام النّاصِري مدى الحياة. سوف نقرأ عن ذلك ولكن هذا يعني فقط أن المُمارَسة كانت مَوجودة، وليس أنها كانت مُمارسَة أمَر بها الله.
ما هو ثابِت هنا في سِفر العَدَد سِتَّة هو شريعة النّاصِري الدائم، مِمّا يعني أن هذا الشَّخْص هو ناصِري فقط لفترة من الزَّمَن وعادة لِغَرَض مُحَدَّد. لن أسْتَخدِم مُصْطَلَح دائم أكثر من ذلك لأنه مُرْبِك؛ لأنه بالنسبة لي ، وأظنّ بالنِّسْبة لكم … دائم يعني ”لا ينتهي أبدًا“. لا أفهَم لماذا صاغ بعض العُلَماء مُصْطَلَح "ناصِري دائم" للإشارة إلى النّاصِري. النّاصِري المُشار إليه في سِفر العَدَد سِتّة هو مؤقَّت. يبدو أنه لا توجد أي دِراسة في الكِتاب المُقَدَّس على الإطْلاق حول النَّصْراني مدى الحياة.
قد تكون إحْدى الأسئلة الجيِّدة هي، لماذا يريد شخصٌ ما أن يُصْبِح ناصِرِيًّا في المقام الأول؟ الجواب بِشَكْلٍ عام هو أن يَقْسُم شخصٌ ما قَسَمًا لله أنه إذا مَنَحَه الله نوعًا من النِّعْمة الخاصَّة مثل أن يَشْفيه من مَرَضٍ ما أو يَسْتعيد ثَرْوَته، أو (إذا كانت امرأة) أن يِهِبَها ولدًا، أو يُنْقِذه من عدو، إلخ. ثم بالمُقابِل كانوا يُسَلِّمون حياتهم إلى الله لخِدمَته لِفَترة من الزَّمن. والآن، لم يَسْتَغْرِق الأمر وقتًا طويلاً قبل أن يُصْبِح عرض الشَّخْص أن يُصْبِح ناصِرِيًّا أمْرًا عاديًا مثل جَعْله جزءًا من رِهان. على سبيل المثال " إذا لم يَكُن طول هذا الرَّجُل هناك سبعة أقدام على الأقل سأكون ناصِرِيًّا“. ونَعْلم من السَّجِلّات اليَهودِيَّة أن الكَهَنَة كانوا في بعض الأحيان يُشْرِفون على ذبائح مئات النّاصِرِيّين في وقت واحد، فكان الكثيرون يَفْعَلون ذلك. ونرى بولس في سِفر أعمال الرُّسُل في العهْد الجديد يَشْتَرِك مع أربعة رِجال لا بُدّ أنهم انْتَهكوا نُذورَهم النّاصِريّة بطريقة ما، ولذلك كان لا بدّ من تطْهيرِهم.
اقرأ أعمال الرُّسُل واحد وعشرين على عشرين الى ثمانية وعشرين
من الواضِح أن الأمْر يتعَلَّق بأربعة ناصِرييّن، ومن الواضِح أيضًا لِمَن يَعرِف التوراة (وهو ما يَفترِض العَهْد الجديد أن قارئه يَعرفها) أن الأمر يتعَلَّق تحديدًا بأربعة رِجال تَنَجّسوا خلال فترة نِذْرِهم النّاصِري. نحن نَعرِف هذا لأن ما نراهم يَفْعَلونه هو الدُّخول في فترة تطهير مُدَّتها سبعة أيام تتضَمَّن شِراء الذّبائح المُناسِبة وحَلْق الرأس. بينما كان حَلْق الرأس هو الإجراء المُتَّبَع أيضًا في نهاية فترة النِّذْر، إلا أن فترة التَّطْهير التي مُدَّتها سبعة أيام لم تَكُن مَطْلوبة على حدّ عِلْمِنا. قيل لنا أن بولُس أيضًا حَلَق رأسَه وخَضع لإجراءات التَّطْهير مع هؤلاء الرِّجال. هذا يُمْكِن أن يعني شيئًا واحدًا فقط: أن بولُس كان قد نَذَر نِذْر النّاصِرِيّين. لم يَكُن من المُتَصَوَّر، ناهيك عن المَسْموح به، أن ينضَمّ شخصُ ما إلى الآخرين في طُقوس التَّطْهير لمُجَرَّد إظهار التَّعاطف أو كَعَمَل من أعمال الوِحْدة. كان هذا عَمَلاً جادًا للغاية. ما أقولُه هو أن ما كان بولُس يقوم به لم يَكُن عملاً أو عَرْضًا ما .
وجِزءٌ من السّبَب الذي جَعَل يعقوب البار يَجْعل بولُس يَفْعَل ذلك هو أن بولُس كان سَيَمْشي في أورشليم أصْلَع الرأس؛ وهي علامة أكيدة على أنه قد خَضَع لِطَقسٍ ناصري. كان الجميع يَعْرِف ماذا تعني صَلْعة الرأس هذه، ولذلك كان سيكون لَوْحة إعْلانات مُتَنَقِّلة تُشير إلى أن بولُس كان يَتْبَع ناموس موسى.
حتى أننا نرى مرَّة أخرى يكون فيها بولُس، بِشَكْلٍ لا لُبْس فيه، في نهاية نِذْر ناصِري كان قد نَذَرَه شَخْصِيًّا: الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد أعمال الرُّسُل ثمانية عشرة على ثمانية عشرة: " وَأَمَّا بُولُسُ فَلَبِثَ أَيْضًا أَيَّامًا كَثِيرَةً، ثُمَّ وَدَّعَ الإِخْوَة وَسَافَرَ فِي الْبَحْر إِلَى سُورِيَّةَ، وَمَعَهُ بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ، بَعْدَمَا حَلَقَ رَأْسَهُ فِي كَنْخَرِيَا لأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ نِذْرٌ.
يُمْكِننا أن نَعرِف أيضاً أن تفاصيل كثيرة جِداً قد تُركَت في رواية بولُس وقَصّ شَعْره، لأن النِّذْر النّاصِري كان من المُفْتَرَض أن ينتهي في الهَيْكَل، وكان من المُفْتَرَض أن يُقدَّم الشَّعر نَفْسه كَذَبيحَة ويُحْرَق. كان يَقُصّ شَعْرَه في كَنْخَرِيَا، وليس في أورَشليم. والآن، ربما قَصَّ شَعْرَه قليلاً، ثم ذهب بعد ذلك إلى أورَشليم وحَلَق رأسَه أو رُبَّما في هذا العَصْر سَمَحَت الشَّريعة الحاخامية لأولئك اليهود الّذين كانوا مُشَتَّتين في جميع أنحاء الإمْبراطوريّة الرّومانيّة وكانوا قد نَذَروا نِذْراً ناصِريًّا، أن يَقُصّوا شَعْرَهُم، أو يَحْلِقوا رؤوسَهم في مكان آخر، رُبَّما حتى يُحافِظوا على الشَّعر ويُحْضِرونَه فيما بعد إلى الهَيْكَل. من الصَّعْب أن نَعْرِف على وَجه اليقين.
ربما يكون التَّشْبيه الجَيِّد لِما كان عليه النّاصِريّون هو أنهم كانوا رُهباناً وراهبات الدِّيانة العِبرانيّة إذا جاز التَّعْبير. على عَكْس الكَهَنَة اللّاويّين الّذين وُلِدوا في خِدْمة الله مدى الحياة، كان النّاصِري مُجَرَّد أيّ إسرائيلي ٍعادي اتَّخَذ قرارًا شخصِيًّا؛ تَطَوَّع أو تطوَّعَت لِتَكريس نَفْسه أو نَفْسها كُلِّيّا لله ولِخِدْمته لِفَترة زَمَنِيَّة مُحَدَّدة.
ولكن من النّاحية التَوْراتيّة، كان الشَّخْص المُكَرَّس لِخِدْمة الله كاهِنًا. فهل يعني ذلك أن الشَّخْص الذي أصْبَح ناصِرِيًّا قد أصْبَحَ كاهنًا؟ بِشَكْلٍ عام لا. كان على الكاهِن أن يأتي من سُلالةِ مُحَدَّدة جدًا تَنْحَدِر من سُلالة هارون. إن المَقْصود من كل ما يبدو، أن إنشاء الله لِمَقام النّاصِري كان في الواقع اسْتِثْناء اللّاويّين من القيام بالنِّذر النّاصِري. وهذا ما تدُلُّ عليه العِبارة الافْتِتاحيّة في الآية الأولى، وهي ” أخْبِر شعب إسرائيل….. ". لم يَعُد اللّاوِيّون مَحْسوبين ضُمْن "شعب إسرائيل". كانت قد تمَّت تَنْحِيَتهم جانبًا، لقد خَضَعوا لإحْصاء مُنْفَصِل تمامًا، وسَنَجِدُ لاحِقًا أنهم لم يَحْصَلوا حتى على أرِضِهم الخاصَّة في أرض الميعاد. اعْتِبارًا من الآن إذا كان اللّاوِيّون سَيكونون مُنْفَصِلين عن هذا المقام النّاصِري، كان ينبغي أن يقول الله " قُلْ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ، وَقُلْ لِبَنِي هَارُونَ " أو شيء من هذا القبيل.
الآن سنَجِد لاحِقًا تداعيات في الكِتاب المُقَدَّس…. خارِج التوراة……. أن بعض اللّاويّين قد نَذَروا نِذْر النّاصِرِيّين. لماذا يَفْعَلون ذلك أمْرٌ غامِض. ربما كان هذا تغييرًا آخر من تلك التَّغْييرات التي لم يُشَرِّعها الله والتي ناقَشْناها والتي حَدَثَت نوعًا ما بِشَكْلٍ عَفوي في المُجْتَمَع العِبْراني؛ أو أن بعض القبائل كانت تَلْتَزِم بالشَّريعة والبعض الآخر لم يَلْتَزِم بها، أو أن اللّاويّين غير الكَهَنَة (اللّاويّين العاديّين الّذين لم يَكُن مَسْموحًا لهم أن يكونوا كَهَنة) سُمِح لهم بِنِذر نُذور الناصِريّين ليكونوا أكثر شَبَهاً بالكَهَنَة.
تُعْطينا الآيات من ثلاثة الى سِتّة الصِّفات الرّئيسيّة للنّاصِري، سواء كانوا ذُكوراً أو إناثاً:
واحد) ليس عليهم فقط الإمْتِناع عن المشروبات الكُحوليَّة، بل لا يُمْكِنهم أيضًا شِرْب النَّبيذ؛ في الواقع لا يُمْكِنهم حتى أَكْل العِنَب أو المُشاركة في أي نوع من مُنْتَجات العِنَب. العِنَب بأي شكل من الأشكال مَمْنوع. سَنَتَحدَّث أكثر عن ذلك. إثنان) أنهم مَمْنوعون من قَصّ شَعْرِهم خلال فترة نِذْرِهم. و ثلاثة)، يُمنَعون من لَمْس جُثة مَيِّت. ما نَجِده في الجَوْهر هو أن النّاصِري، من خلال نِذْرِه واتباعه لهذه المُتَطَلِّبات الثلاثة الأَساسِيَّة والمُباشَرة، يُعطى مكانة مُساوية للكَهَنة، مع أن النّاصِري ليس كاهِناً. وبالطَّبع مع مُرور الزَّمَن، ومع ازْدياد دَور التَّقليد في اليَهودِيَّة، بدأت القواعِد تتراكم على القواعد حول مُتَطَلِّبات النّاصِري. وكما يَتوقَّع المَرْء من القواعد والعقائد البَشَرية، تغيّرت القواعِد بِمُرور الوقت. لذا سنرى في أجزاء مُخْتَلِفة من الكِتاب المُقَدَّس رَفْع بعض المَحْظورات النّاصِريّة وإضافة أخرى؛ لكن هذه لم تَكُن من صُنْع الله، بل كانت من صُنْع البَشَر.
الآن اثْنَتان من هذه الصِّفات الثّلاث المَذْكورة في سِفر العَدَد سِتّة على ثلاثة الى ثمانية تُشْبِهُ إلى حدّ كبير ما هو مَطْلوب من الكاهِن. ولكن إذا نَظَرْنا عن كَثب أكثر، فإن مُتَطَلِّبات النّاصِرِيّين في الواقع أكثر صَرامة إلى حدٍّ ما مِمّا هو مَطْلوباً من الكاهِن. من المؤكَّد أنه يُمْكِن للكاهِن أن يَشرب النَبيذ، وهو في الواقع يَشْرَبُها أثناء بعض الطُّقوس، على الرغم من أنه ممنوع من شِرْب النَبيذ كَمَشروب خلال الفترة التي تَسْبُق مَجيئه إلى الخِدْمة مُباشَرة أو عند اقْتِرابه من المكان المُقَدَّس. لا يُمْكِن للناصِري أن يَشْرب النَبيذ على الإطْلاق، ولا حتى أن يَتَذوَّق مَصْدر النَبيذ، العِنَب. كان الكَهَنَة لا يَسْتَطيعون لَمْس جُثَث المَوتى، ولكن كان بإمكانِهم أن يَلْمِسوا آباءهم وأجْدادَهم وأزواجَهم وأولادَهم المُتَوَفّين. لم يَكُن يجب على النّاصِرِيّين أن يلْمِسوا جُثة تحت أي ظرف من الظروف، وهذا يَشْمُل العائلة القريبة. لذلك اقْتَرَبَت مُتَطَلِّبات النّاصِري في بعض النواحي من مُتَطَلِّبات رئيس الكَهَنَة.
إلّا أنّه كان على النّاصِري أن يقوم بالأشياء بطريقة مُعاكسة عن تلك التي يقوم بها الكَهَنة: لم يَكُن مَسْموحًا للكَهَنة أن يُطوِّلوا شَعْرهم بينما لم يَكُن مَسْموحًا للنّاصِريّين أن يَقُصّوا شَعْرَهم أبدًا. لذلك كان مقام النّاصِري فريدًا تمامًا بين بني إسرائيل.
لماذا النّهي عن أكْل العِنَب؟ كالعادة، لم يتم إخبارُنا مُباشَرة، لكن بعض عُلَماء اليهود يَعْتَقِدون أنهم يَعرِفون السّبَب، ويجب أن أعْتَرِف، يبدو الأمْر مَعْقولاً جداً ويتناسَب مع أنْماط الله التي ناقَشْناها في الماضي: غالِبًا ما يُرْمَز إلى إسرائيل بالكَرْمة. والفِكْرة هي أنه في كل سنة سَبتِيّة (كل سنة سابِعة)، تُكرَّس أرضُ إسرائيل للرَّب.
لا تُحْصَد الحُقول. لا تُحرَث الأرض ولا تُعشَّب. وفيما يتعَلَّق بِدِراستنا هذه، فإن الكُروم لا تُحرَث ولا تُزرَع. لا يجب فقط أن يُترك العِنَب على الكروم لِيَتَعَفَّن، بل حتى التَّقْليم الضَّروري جداً مَرّتَين سنوياً لِكروم العِنَب كان قد عُلِّق خلال السنة السَّبْتيّة… السَّنة التي كانت الأرض قد جُعِلَت مُكَرَّسة ومُخَصَّصة للرَّب. فكما أن النّاصِري مُقَدَّسٌ وَمُخَصَّصٌ للهِ لِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وخلال ذلك الوقت يَرْمُز النّاصِري إلى الغَرَض الجَوهري لإسرائيل: مُقَدَّسٌ وَمُخَصَّصٌ ليَهوَهْ. والغَرَض من السَّنة السَّبْتيّة هو أن تَرْمُز إلى تلك القداسة والتَّخْصيص لبني إسرائيل. لذلك فكَما أن كُروم العِنَب لا تُمَسّ ولا يُقطَف عِنَباً خلال السنة السَّبْتيّة، كذلك النّاصِريّون لا يَمِسّون أو يأكلون عِنَبًا خلال مُدَّة نِذْرِهم (مَهْما طالت أو قَصُرت تلك الفترة الزَمَنِيَّة)، والتي هي في جَوهَرها أشْبَه بِسَنة سَبْتيّة خاصة بالنّاصِري.
في الواقع، إن كَلِمَة ناذِر (التي نَشْتَق منها كَلِمَة ناصِري) قد اسْتُخدِمَت كمُصْطَلَح يُسْتَخدَم لتقْليم كروم العِنَب. وهكذا ترى العِلاقة الوثيقة بين شَرْط النّاصِرِيّين ومُعامَلة العِنَب وكُروم العِنَب.
هناك بعض الانْطِباعات الخاطئة عن النّاصِرِيّين، لذا دَعونا نُوضِحُها. لم يَكُن النّاصِريّون نوعًا من النُّسّاك الغُرَباء الّذين ذهبوا ليأكُلوا الجَراد والعَسَل، ويعيشوا في الصَّحْراء كما فَعَل يوحَنّا المَعْمَدان. إذا كان المَعْمَدان ناصِرِيًّا، فإن الجَراد والعَسَل الذي كان يأكُله، والحياة الانْفِراديّة التي عاشَها بِشَكْلٍ عام، لم تَكُن جِزءًا من ذلك. لم يَكُن لدى النّاصِرِيّين مَحْظورات غِذائية خاصّة باسْتِثْناء عَدَم أُكِل العِنَب أو مُنْتَجات العِنَب، وكان عليهم أن يأكلوا الكوشَر، كما كان يَفْعَل جميع العِبرانيّين. علاوة على ذلك كان بإمكانهم الزواج، لذلك لم تَكُن العُزوبيّة جزءًا من ذلك. كانوا يَرْتَدون ملابِس عاديّة. كانوا يَشْغُلون بِشَكْلٍ عام وظائف عاديّة ويَعمَلون في الحِرَف اليَوميّة. الشّيء الذي كان يُمَيِّزهم على أنهم مُخْتَلِفون، أكثر من أي شيء آخر، هو الشَّعر المُبَعْثَر الذي جاء مع الوقت. بِخِلاف ذلك ظلّوا جِزْءًا كامِلاً من المُجْتَمَع الإسرائيلي العادي.
لديّ بعض الشُّكوك الجَدِّيّة في أن يُوحَنّا المَعْمَدان كان ناصِرِيًّا، والكِتاب المُقَدَّس لا يُسَمّيه ناصِرِيًّا أبدًا. إن الافْتِراض بأنه كان ناصِرِيًّا يأتي من أنّ أُمَّهُ إليشاع نذَرَت ألا تَشْرب النَّبيذ حين كان يوحَنَّا في بَطْنِها، وأنها كانت تُصِرّ على أن يوحَنَّا (اسم يوحنا الحَقيقي بالعِبْرِيَّة) لن يشرب النَّبيذ أو المشْروبات الكُحوليّة (اليايين أو الشيكار). الافْتِراض الآخَر هو أنه قيل أنه يجب أن يكون شَعْرُه طويل. حسنًا، لم يَكُن النّاصِريّون هم اليهود الوَحيدون في ذلك العَصْر الّذين كان لهم شَعْر مُبَعْثَر أو شَعْر طويل، أو الّذين امْتَنَعوا عن النَبيذ أو المشْروبات الكُحوليّة. كانت إحدى الجماعات المَعْروفة التي قامَت بالشّيء نَفْسه هي جماعة الرّخابيّين. نَجِد ذِكرًا لهم في سِفر إرميا، حيث اصْطَحَب إرميا بعضًا من بني إسرائيل إلى الهَيْكَل وعَرَض عليهم نَبيذًا لِيَشربوا ولكنهم رَفضوا بِسَبَب تقاليدهم العائلية التي يُفترَض على أنهم يَنْحَدِرون من نسلِ يَثرون، والد زَوجة موسى. وكان جِزء من تقاليدِهم يَتضمَّن عَدَم زِراعة العِنَب أو حتى زِراعة أي نوع من البُذور وأنّ عليهم أن يعيشوا في الخِيام. لذلك بينما كانوا يَمْتَنِعون عن زِراعة العِنَب كان ذلك بِبَساطة تقليدًا عائليًا نابِعًا من سَبَبٍ غير معروف على ما يبدو. لقد قرَّروا في الأساس أن يَعيشوا مثل البَدو وتُشير سجِلاّت أخرى من خارِج الكِتاب المُقَدَّس إلى أنهم كانوا يُطَوِّلون شَعْرهم .
بِحلول أيام يوحَنَّا المَعْمَدان كانت قد ظَهَرَت تقاليد كثيرة. كان العديد من الجَماعات والأفراد يُدينون الكَهْنوت الفاسِد والإيمان الأجْوَف الخالي من الرّوح الذي كان يُمارسه الكثيرون الآن، وأدّى ذلك إلى كل أنواع العِبادات ورُدود الأفْعال الغَريبة. كان الزُّهد في ازْدياد، ممّا يعني أن العديد من اليهود كانوا يَهْجُرون وَسائل الرّاحة في الحياة والمُجْتَمَع ويُحاوِلون التَّقَرُّب إلى الله عن طريق إنكار الذّات. لم يَكُن الإسينيّون الّذين اشتهروا بمَخْطوطات البحر الميت سِوى واحدة من هذه الجَماعات العديدة وهناك الكثير من الأدِلَّة على أن يُوحَنَّا المَعْمَدان كان على الأقل على اتِّصال كبير بهم، ومن المُحْتَمل جدًا أنه كان هو نَفْسُه عُضْوًا رَسْميًّا في جماعة الإسينيّين.
كان يوحَنَّا، حسب كل الرِّوايات، زاهِدًا. لقد عاش في البّرِّيّة، وكان على ما يبدو شخصًا غريبًا جدًا. كان يأكُل نِظامًا غِذائيًا مُقَيّدًا جدًا ويَلبِس المَسوح ولم يَقُصّ شعرَه أبدًا. كنا سنَجِد مئات الأفراد (وعلى الأرْجح الآلاف) الّذين كانوا يُشْبِهون يوحَنَّا في مَظْهَرِهم، لأن هذه كانت شَخْصيَّة الكثيرين مِمَّن اختاروا نَمَط الحياة الزاهِدة.
سبب آخر للشَّك في أن يوحَنَّا المَعْمَعدان كان ناصِرِيًّا هو أنه كان لاويًّا بالفِعْل من حيث النَّسَب. وبموجب ناموس موسى لم يَكُن مقام النّاصِري مُفتوحًا للّاويّين. لكن هذا لم يَكُن عَيْبًا، بل كان بِبَساطة تَجَنُّب الازْدِواجيَّة التي لا داعي لها. كان اللّاويّون قد أُعِدّوا بالفِعْل لِخِدمة الله مدى الحياة، سواء كانوا كَهَنة أو مُجَرَّد عُمّال هَيْكل عاديّين من ذوي الياقات الزرقاء. كان يُوحَنَّا سيكون لاويًّا مُخَصَّصًا بالفِعْل لِخِدْمة الله مدى الحياة بِغَض النَّظَر عن الظُّروف التي وُلد فيها. إن نِذْر يُوحَنَّا بعَدَم شرب النَّبيذ ربما كان أكثر نُبوءة بإعلان يسوع أنه لن يشرب النَّبيذ بعد عيد الفُصْح المحتّم حتى يشرب نبيذًا جديداً مع تلاميذِه، أكثر من كَوْنَه إشارة إلى أنه رُبَّما كان ناصِريّاً.
والآن قد يكون من المُحتمل جداً أن أجزاءً من نوع من النِذر النّاصِري المعدّل قد اسْتُخدِمت في عصور مُختلفة وفقاً لمُمارسات مُختلفة وليس بالضرورة للغرض كما هو مذكور في سِفر العَدَد سِتة. عندما نبحث في التلمود والميشنا نَجِد كل أنواع الأحكام المُختلفة الصادرة عن حاخامات مُختلفين عاشوا في عصور مختلفة، حول كون المَرْء ناصِرِيًّا. حتى شمشون (في سِفر القضاة) الذي وُصِف صراحةً بأنه ناصري مدى الحياة لم يُبدِ اهتمامًا كبيرًا بالقيود النّاصِرية الواردة في سِفْر العَدَد سِتَّة باسْتِثناء ما يتعَلَّق بِشَعْرِه. ومن المؤكَّد أنه فَعَل كل شيء مُمْكن لعَدَم خِدْمة الله حتى اللَّحظات القليلة الأخيرة من حَياتِه.
لذلك يَجِب علينا أن نكون حَذِرين في تَعيين مُخْتَلَف الشَّخْصيات التَوراتية التي ستأتي بعد قُرون من شريعة العَدَد سِتَّة بِلَقَب ناصِري بالمَعْنى الذي تتحَدَّث عنه التوراة هنا. إن الإمْتِناع عن النَّبيذ أو المشروبات الكُحولية لم يَكُن العلامة الأكيدة للناصِري ولا إطالة الشَّعر.
إن الكَلِمَة العِبْرِيَّة التي نُتَرْجِمُها بالعِبْرِيَّة إلى ناصِريّ هي نَذير. بما أن العِبْرِيَّة هي ما يُسَمّى بِلُغَة جذر الكَلِمَة….. أي أنها تأخذ الكَلِمَة ثم من خلال تَغيير أصوات حروف العِلَّة، وأحيانًا من خلال إضافة أو حَذْف حَرْف ساكن، تُوَسِّع أو تُضَيِّق معنى تلك الكَلِمَة، سَنَرى عدّة كَلِمَات عبرية مُتَفرِّعة من كَلِمَة نذير، وهي مُثيرة للاهْتمام في إسْتِخْدامها في الكِتاب المُقَدَّس.
الكَلِمَة الجذرية الأَساسِيَّة، نذير، تعني حرفيًا ”مَفصول“ أو ”مُهّذَّب". لذا، فإن التَّرْجمة الحَرْفِيّة للكَلِمَة للشَخْص الذي يَنْذُر النِذر لا تكون "ناصري"، بل يُطلق عليه "شخص مفصول" أو "مُهَذَّب". في حين أن النَّذير… n-a-z-i-r هو مُصْطَلَح إيجابي يُشير إلى كَوْنِه مُكَرَّسًا بِشَكْلٍ خاص لِخِدمة الله، يجب أن يكون النّاصِريون أيضًا nazar…… n-a-z-a-r، أن يكونوا مفصولين من العِنَب…… مَفْصولين بالمَعنى السَّلْبي الذي يُشير إلى كونِهم مَمْنوعين من العِنَب.
بالإضافة إلى ذلك هناك كَلِمَة عِبرية أخرى هي نيزر n-e-z-e-r …….. تعني حرفيًا الغُصن أو الفرع. إنها المُصْطَلَح المُستخدَم لشجرة العِنَب غير المُشذَّبة. ولكن هذا المُصْطَلَح يُسْتَخدَم أيضًا للدلالة على الغطاء المجيد لرأس رئيس الكَهَنة (الذي يحيط به عُصبة ذهبيّة)، وكذلك الشَّعر الطويل للنّاصِري. لذلك عندما نقرأ هذه المقاطع بالعِبْرِيَّة نرى التوازي الواضِح بين غطاء رأس رئيس الكَهَنة (قبعته الخاصة)، وغطاء رأس النّاصِري (شعره الطويل). ناذار ونذير ونذار …………. تُرى كيف تعمل هذه الكَلِمَات العِبْرِيَّة معًا لتُساعدنا على فهم العلاقة بين الكَهَنة وكروم العِنب والنَّصرانيِّين وكون الناصريّين مكرّسين …. مفصولين… لله.
تتحَدَّث الآيات من تِسعة الى إثني عشرة بإسْهاب عن كَون النّاصِري، ذَكَراً كان أو أنثى، يُصْبِح نَجِساً طُقوسياً بالإقِتِراب من جِثّة. في الواقِع لم يَكُن من الضَّروري مُلامَسَة جِثَّة شَخْص مَيت لتَنجيس النّاصِري، فمُجَرَّد التواجد في نَفْس الغُرفة مع شخص مَيِّت كان كافياً للتلويث وبالتالي إنهاء فترة نذر النّاصِري، بِمَعْنى أنه بعد فترة سبعة أيام من التَّطْهير (مثل ما مرّ به هؤلاء الرِّجال الأربعة وبولُس في أعمال الرُّسُل واحد وعشرين)، يبدأ الإطار الزمني للِنِّذر النّاصِري من جديد. لذا يُمْكِنك أن تتخيّل كيف كان النّاصِري يتجنَّب المَوتى بشدّة. ولكن، على مرّ السنين، ابْتكر الحاخامات العديد من النّجاسات الجديدة التي يُمْكِن أن يُصاب بها الشَّخْص، مما يَضْطرّه إلى إعادة فترة نِذْرِه. ولكي أعطيك مثالاً على ذلك، في وقت ما بعد مَوت المسيح مُباشَرة كان هناك شخص اسمه المَلِكة هيلانة، وكانت زوجة مَلِكٍ يَحكم دولة مدينة في بلاد ما بين النَّهرين؛ وكانت وثنيّة اعتنقت اليَهودِيَّة. كان ابْنُها (أمير مَمْلَكَتها) على وَشَك الذَّهاب إلى الحَرْب، فَنَذَرَت أنه إذا عاد ابْنُها سالِمًا سَتُصْبِح ناصِرِيّة لمُدَّة سبع سنوات (وهي فترةٌ زَمَنِيَّة طويلة غير مُعْتادة في ذلك العَصْر). عاد سالِمًا مُعافى فَوَفَت بِنِذْرِها ونَذَرَت نِذرًا ناصِرِيًّا.
بعد اكتمال فترة السَّبع سنوات ذهبت إلى أورَشليم لأداء الطُّقوس المعتادة للإحْتِفال بانْتِهاء النِذر بِنَجاح، فأخْبَرها بعض الحاخامات أنها لم تُراعِ مُتَطَلِّبات النّاصِريين كما يجب، وأخْبَروها أن عليها أن تَبْدأ من جديد (وهذا ما فَعَلَته). ولكن قُرْبَ نِهاية فترَة السَّبع سنوات الثانية أصْبَحَت نَجِسة (لا يوجد سِجِل لِسَبَب النَّجاسة) ولذلك كان عليها أن تَقْضي سَبع سنوات أخرى. إذّن فقد كانت نَصْرانيّة لمُدَّة واحد وعشرين سنة، ولكن أربع عشرة سنة من تلك السَّنوات كانت بِسَبَب إفساد فرص نجاح النِذر ………………… على الأقل كان ذلك وفقًا للحاخامات.
هناك عِبارَة في نِهاية الآية الثانِية عشرة مُثيرة للاهْتِمام للغاية: ستقول كل الأناجيل تقريبًا كما يقول كِتابِنا المُقدَّس اليهودي الكامِل، … " لا تُحْسَب الأيام السّابِقة لأن تَكْريسها صار نَجِساً". هذا ليس صَحيحاً. ما تقوله العِبْرِيَّة هو أن الأيام السّابقة من نِذْر النّاصِري لن تُحْسَب لأن نِذْرَه تَنَجّس. تذكَّروا أن نِذْره يُشير إلى شَعْر النّاصِري لأن علامة تَكْريس النّاصِري هي شَعْره، كما أن علامة تكْريس رئيس الكَهَنة هي غَطاء رأسه الفريد، قُبَّعَته الخاصّة.
عند العِبرانيّين وثقافات الشَّرْق الأوسَط الأُخْرى كان يُفكَّر في الكَبِد والكِلْيَتَيْن بِنَفْس الطريقة التي نُفَكِّر بها نحن اليوم في القَلْب والدِّماغ. بِعِبارة أُخرى، لم يَكُن الحُبّ من القَلْب بل كان من الكِلى. لم تَكُن عَمَلِيّات التَّفْكير تَحْدُث في الدِّماغ بل في القَلْب. كان لِلْكَبِد عِلاقة كبيرة بالمكان الذي تُولَد فيه أعْمَق المشاعِر، مثل الغَضَب والغيرَة.
كان الشَّعر جزءًا آخر من التركيب البنْيوي البشري الذي كان يُنظر إليه على أنه مُهِمّ جدًا في ثقافات الشَّرْق الأوسَط القديمة. فقد كان الشَّعر يُعْتَبَر مَقَرّ حيَوِيّة الإنسان وقوّة حياته. وكان الشَّعر، في العالَم الوَثَني، غالِباً ما يُقدَّم كَذَبيحَةً مَحْروقة للآلِهة والإلاهات. لذلك بما أنه كان يُعتقد أن الشَّعر هو مَقَرّ الحياة، فقد كان الشَّعر هو الذي يَحْمُل الدَّنَس الذي قد يَتَعَرَّض له النّاصِري. وبِنَفْس الطّريقة كان الشَّعر يَحْمُل طهارة قُوَّة حياة الإنسان؛ فعندما كان النّاصِري يُكْمِل فترة نِذْرِه بِشَكْلٍ صحيح كان يَحْلق شعره أو تَحْلق شَعْرها من على الرأس، ويُحْرَق كَتَقْدِمة لأنه كان شيئًا طاهِرًا ونظيفًا ومُقَدَّسًا لِيُقَدِّمه لله. شَعْر النّاصِري المُدَنَّس لم يَكُن يُقدَّم لله؛ فبِحَسَب العَصْر الذي كان يُقدَّم فيه كان يُحرَق في نارٍ مُشْتَرَكة أو يُدفَن في الأرض. نَحْصَل على الطُّقوس الكامِلة للناصِري الذي أكْمَل نِذْرِه من الآية ثلاثة عشر الى عشرين. باخْتِصار، يقدِّم الذّبائح الأرْبَعة الرّئيسيّة: ذبيحة المَحْرَقة وذبيحة الحُبوب وذبيحة السَّلام وذبيحة الجبر. تُكلِّف النّاصِري ثلاث خِراف، في المِجْموع، لإنهاء نِذْرِه. تذْكير كم هو مُكْلِف عندما تَتَّخِذ قرارًا بِتخْصيص نَفْسَك للرّب.
وبعد أن يَحلق شعره، تنتهي الطُّقوس بالكَلِمَات ”بعد ذلك يُمْكِن للناصري أن يشرب الخمر مرة أخرى“. والمقصود أنه قد تحرّر الآن من نِذْرِه.
ينتهي الإصْحاح السادس من سِفر العَدَد بالبَرَكَة الهارونية الرائعة. دعونا نُعيد قراءتها معاً.
أعِد قراءة الأَعْداد سِتّة على إثنين وعشرين حتى سبعة وعشرين
لطالَما كانت هذه البَرَكَة تلي مُباشَرةً الشَّريعة المُتَعَلِّقة بالنّاصِري لُغْزًا مُحَيِّرًا للعُلَماء. ولكن ما هو واضِح، على الرغم من ذلك، هو أنه في حين أن شريعة النّاصِري تتحَدَّث إلى عَدَد قليل من الناس، فإن البَرَكَة الهارونيّة هي على بني إسرائيل، بِشَكْلٍ جَماعي.
كانت هذه البَرَكَة تُتلى كل يَوم مُباشَرةً بعد ذبيحة الصَّباح. في الواقع هذه البَرَكَة هي قصيدة عِبْريّة قديمة جدًا. كانت إحدى الواجِبات الأَساسِيَّة للكَهَنة هي مُبارَكَة بنيِ إسرائيل؛ ومع ذلك فإن هذه البَرَكَة تَجْعَل الجميع مَعْنِيّين…..الشَّعْب والكَهَنة………… اعْلَموا أن الكَهَنة لَيْسوا سِوى قَنوات من الإلَه؛ ليس لَدَيْهُم أي سُلْطَة للمُبارَكَة أو اللَّعْنة. يُمْكِنهم فقط أن يتكلَّموا ويُذَكِّروا الشَّعْب بما وَعَد به الله والله يتصرّف.
في كل مَوْضَع في أسفارِنا المُقَدَّسَة تقول هذه المُبارَكَة يا ربّ أو يا أدوناي، تقول العِبْرِيَّة الأصْلِيَّة يا يَهوَهْ. يَهوَهْ يُبارِكُك، يَهوَهْ يُشْرِق وَجْهَهُ عليك، يَهوَهْ يُعْطيك السلام.
البَرَكَة في لُغَتِنا وفي المَسيحية هي مُصْطَلَح واسِع وشامِل للغاية؛ ولكن هذا في الحقيقة فقط بِسَبَب جَهْلِنا. أما من ناحية الكِتاب المُقَدَّس فالبَرَكَة مُحَدَّدة جدًا في مَعْناها: البَرَكَة هي أن الله يَهِب شَعْبَه الأشياء التي يَعْتَبِرها مُهِمّة وصالِحة لنا. وعندما نَنْظُر في الكِتاب المُقَدَّس نَجِد أن البَرَكَة تتألَّف عُمومًا من الصِّحّة الجيِّدة والأرض والأمان والطَّعام الكافي والأولاد.
البَرَكَة هي فِعْل. إنها تَنْطَوي على فِعل. شُعور الله باللُّطف نَحْوَنا ليس بَرَكَة لنا. نحن بالتّأكيد نُريده أن يَتَفَضَّل عَلَيْنا ولكن هذا ليس معنى البَرَكَة. بنَفْس الطّريقة، المَحَبَّة هي أيضًا فِعل. قد تكون المَحَبَّة أكثر كَلِمَة يُساء فَهْمها ويُساء إسْتِخْدامها في الكِتاب المُقَدَّس بأكْمَله. لأن المَحَبَّة في العِبرانيّة لم تَكُن عاطِفة، بل كانت فِعْلًا. إنه فقط في كنيسة الوَثَنِيِّين الغربِيّة فقط أصْبَحَ الحُبّ شُعورا رومانْسِيًّا دافئًا وداخليًّا رقيقاً. بالتّأكيد للمَحَبَّة عُنْصُرٌ عاطِفي؛ ولكن كما يُخْبِرْنا يعقوب أن الإيمان بِدون عَمَل ليس إيمانًا على الإطْلاق، كذلك المَحَبَّة التي ليس لها عَمَل ملْموس لَيسَت مَحَبَّة على الإطْلاق. هل تُريد من الله أن يَشْعُر بالعاطِفة والدِّفء تِجاهَك ولكنك لا تريد أن يُعْطيك ما تَحْتاج إليه بِشَكْلٍ مَلْموس؟ حسنًا نحن جميعًا مَحْظوظين: لأن فِعْل البَرَكَة هو فِعْل العَطاء. وما الذي يُعْطينا إيّاه؟ مَكْتوب هنا في البَرَكَة الهارونيّة أنه يُبارِكُنا (بِمَعْنى أنه يُعْطينا بِفاعِلِيّة) الحِماية والنِّعْمة والسَّلام. في العِبْرِيَّة هي الحِماية والنِّعْمة وشالوم.
شالوم لا تَعْني السَّلام فقط، بل تعني العافِيَة بكلّ معنى الكَلِمَة. إنها تعني أن الله قريب مِنْك، وتعني أن خَلاصَهُ قد أُتيح لك، وتعني كِفايتَهَ لك في الأمور المادِّيّة، وعَدَم الحَرْب.
أُحِبُّ هذه البَرَكَة. إنها تُلَخِّص نِيَّة الله ومَوقِفَه وشخْصيَّته. لكن لاحِظوا من تَسْتَهْدِف هذه البَرَكَة على وَجه التَّحْديد: بني إسرائيل. هذه لَيسَت بَرَكَةً للعالَم كُلِّه. إنَّها فقط لأولئك الّذين يُشَكِّلون المَجْموعة المُحَدَّدة التي يَدْعوها ”شَعْبي“ ، بني إسرائيل، وأولئك المُنْضَمِّين الى بني إسرائيل. هذا لم يَتَغَيَّر أبدًا.
كل ما في الأمْر أنه بَدَلاً من الانْضِمام إلى بني إسرائيل عن طريق التَّعَهُّدات والقَسَم والخِتان، يَنْضَمّ المَرْء الآن إلى بني إسرائيل عن طريق الإيمان بِيَسوع المسيح. وهذا هو التَّدْبير، منذ حوالي العام ثلاثين بعد الميلاد، إذا أراد الإنسان أن يُشارِك في بَرَكَة الله الفعليّة.
الأسْبوع القادِم، سِفر العَدَد الإصْحاح السابع.