الأعداد
الدرس التاسع – الإصْحاحان السابع والثامن
الإصْحاح السابع من سِفْر العَدَد هو أحد أطول الإصْحاحات في التوراة….. حوالي تسعة وثمانين آية. وهو أيضًا واحد من أكثر الإصْحاحات تِكرارًا في التوراة كُلّها، وهو ما ستراه عندما نقرأه معًا. لذا، سَنتناول هذا الإصْحاح بِسُرعة كبيرة.
كإطار مَرجعي نَعلَم من التواريخ الواردة في التوراة نفسها أن كل ما حَدَث بدءاً من سِفْر الخروج أربعين، مروراً بسِفْر اللّاويّين بأكمله وحتى ما نحن فيه الآن في سِفْر العَدَد سبعة، حَدَثَ كُلُّه في فترة زمنيّة قصيرة جداً. وَقَعَت هذه الأحداث كُلّها في إطار زَمَني يبدأ في اليوم الأوّل من الشّهر الأول من السَّنة الثانية بعد خُروجهم من مصر، وينتهي في اليوم العشرين من الشهر الثاني من السَّنة الثانية….. حوالي خمسين يومًا فقط. بِعبارة أخرى، بدأت هذه الأنْشِطة في الشهر الثالث عشر بعد خُروجهم من مصر وانْتَهَت قبل نِهاية الشهر التالي.
نحن نَعلَم أن بِناء خَيْمة الإجْتِماع قد اكْتَمل في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية. ونَعلَم أن رَسامة الكَهَنة قد اكْتَملت في اليوم الثامن من الشهر الأول. ونعلَم أن إحصاء بني إسرائيل، ثم إحصاء آخر كان لبني لاوي فقط، بدأ في اليوم الثاني من الشهر الثاني من السنة الثانية؛ ونعلَم أن السَّحابة تحرَّكَت، وهكذا ضُرب المُخَيّم وبدأ بنو إسرائيل رِحْلتهم من جبل سيناء في اليوم الثاني من الشهر الثاني من السنة الثانية. لا يُمْكِننا أن نُحدِّد بالضَبِط أين وَقَعت أحداث الإصْحاح السابع من سِفْر العَدَد بالضَبِط خلال فترة الخمسين يوماً تلك، رغم وجود مجموعة من الآراء الحاخامية حول هذا الموضوع لا نَحتاج إلى الخَوْض فيها.
اقرأ سِفْر العَدَد الإصْحاح السابع كُلّه
من وجْهَة نظر الثلاثين ألف قدم، ما نَشهَده هو بعض الاسْتِعدادات النِّهائية اللازمة لاكْتِمال عَمَل الكَهْنوت ومَسْكَن الله الأرْضي.
من نظرةٍ أضْيَق قليلًا ما نراه هو أن قائد كل سَبَط من أسباط إسرائيل الاثني عشر يُقَدِّمون تَقْدِماتهم بِدَورهم إلى الرّب. بدءًا من سَبَط يَهُوَّذا، كان رئيس كل سَبَط يَجلب هَديّة سَبَطِه إلى خَيْمة الإجْتِماع….. سَبَط واحد في كل يوم، لما مجموعه إثني عشر يومًا.
كانت الهَديّة الأولى التي تمَّت مُناقشتها (قبل أن نقرأ ما أحْضَره كل سَبَط) هَديّة مُشترَكة: أي أنها كانت تُقدَّم إلى خَيْمة الإجْتِماع كهَديّة مُشْترَكة من كل جماعة قادة بني إسرائيل. وكانت تتألّف من سِتّ عَرَبات أو مركبات لنقل البضائع، كل منها مع ثَوْرَيْن لِجَرِّها. كان من المُقَرَّر أن تُعطى هذه العَربات لِعشائر لاويّة مُحدَّدة كانت مسؤولة عن نَقل مُخْتلَف قِطَع خَيْمة الإجْتِماع.
أُعْطِيَت عشيرة مراري أربعة من العَربات وعشيرة جَرْشون اثنتَيْن. كان من واجب عشيرة مراري نَقل الألواح الخَشبيّة الثقيلة التي كانت تُشكِّل الهَيْكَل الحامل للخَيْمة المُقَدَّسة، لذلك احْتاجوا إلى عربات أكثر من عشيرة جرشون الذي كان عليها نَقل السَّتائر السَّميكة التي كانت تُشكِّل باب الخَيْمة.
تَشرح الآية التاسعة سَبَب عدم حُصول أعلى العشائر مَرْتبة، وهي عشيرة كوهات، على أي عَربات: كان عليهم أن يَحملوا تابوت العهد الأثمن؛ وكان تابوت العهد يُحمَل على أكتاف اللّاويّين، ولا يوضَع على ظَهْر عربة. يبدو أن هذه التّعليمات الخاصة بِحَمْل اللّاويّين لتابوت العهد على أكتافِهم وعدم وَضْعه في عربة يجرّها ثور (كما هو الحال مع العديد من الشرائع التي أُعْطِيَت على جبل سيناء) لم يمضِ وقت طويل على تجاهلها من قبل قيادة بني إسرائيل وجَلبت معها العواقب الموعودة.
نرى حادِثة في واحد أخبار ثلاث عشرة عندما دعا الملِك داود إلى إحضار تابوت العهد إليه، وأوكِلت هذه المُهِمَّة إلى شخص يُدعى عزى. دعونا نقرأ هذه الحادِثة معًا لأن هناك ما هو أكثر قليلاً ممّا تراه العين.
اقرأ واحد أخبار ثلاثة عشر على واحد الى اثني عشر
المُثير للاهْتمام الآن هو أننا نقرأ عن نقل العبرانيين لتابوت العهد على عَربة يجرّها ثَور، وليس على أكتاف اللّاويّين. لقد قال حُكماء اليهود الكبار منذ زمن بعيد أن عزى لم يُقتل لمخالفة واحدة، وهي لمْس تابوت العهد، بل لِمُخالفتين: لمْس تابوت العهد ونقلِه على عربة. لهذا السَّبب يتحدَّث عن غَضَب الرّب المُتَّقِد بشدة. وفي الواقع، كان هذا الأمر كُلُّه خطأ داود بِسَبب إهمالِه الشَّخصي في السَّماح بِحُدوث مثل هذا الأمْر.
حسنًا، لِنَعود إلى سِفْر العَدَد. يوجد في الآية العاشرة شيء آخر مَخفي يُعطينا معلومات: تقول الآية أن رؤساء القبائل جَلبوا ذبيحة تكريسهم للمذبح. ما يَجعل هذا الأمر مُثيراً للاهتمام هو أن الكَلِمَة العبرية المُستخدمة هنا في عدد سبعة، الكَلِمَة التي تُتَرجم عادةً بـِ ”تَقدِمة التَّكْريس“، هي ”الحانوكا“. نعم، هي نفس الكَلِمَة المُستخدَمة في العيد الذي نحتفل به في الخريف، الحانوكا، للإعْتراف بإعادة تكريس الهَيْكَل ليَهوَهْ بعد أن اسْتَولى عليه السّوريّون وجَعلوه مَعبداً لزيوس لمدة ثلاث سنوات.
من المُثير للاهتمام بالنسبة لي أن الاسْتِخدام الأول للحنوكا هو بِدء تشغيل مَسْكَن الله، هنا في سِفْر العَدَد. والاسْتِخدام الثاني للحانوكا في الكِتاب المُقَدَّس كان لإعادة تشغيل مَسْكَن الله بعد أن جَعل حاكِم سوريا، أنطيوخس إبيفانيوس، الكَهْنوت مُعطَّلاً لبضع سنوات. وهذا ما يجعل من الملائم أكثر في كتابي أن نَستخدِم الحانوكا كمُناسبة للاحْتفال بميلاد منْ جَعَلنا ……….. من أتباع يسوع ………… ليكون مَسْكَن الله الجديد.
الأمْر المُثير للاهْتِمام أيضًا هو أن طريقة اسْتِخدام كَلِمَة حانوكا في سِفْر العَدَد سبعة تَضع نقطة أدقّ قليلاً على ما تعنيه في الواقع؛ عندما نرى اسْتِخدام كَلِمَة حانوكا، فهي في الحقيقة تَقدِمة بدء أكثر مما هي تكريس. المقصود بتَقْدِمة الحانوكا هو القُربان الذي هو المُحَفِّز……إنه حفل قَصّ الشريط …………. الذي يقول "مفتوح للعمل". من ناحية أخرى عندما نرى تَقدِمة تكريس حقيقيّة، حيث يتمّ تكريس شيء ما (أي تَخصيصه طقسيًّا) لله، فإن الطَّقس يتضمَّن دائمًا المَسْحة بالزيت. لا نجِد دهنًا بالزيت مع تقديم ذبيحة الحانوكا هذه هنا في سِفْر العَدَد، ولا نَجده أيضًا في طقوس الحانوكا التي تبدأ باسْتِخدام الهَيْكَل، مَرَّة أخرى، لِعبادة يَهوَهْ أثناء التَّمرُّد المَكابي. وبالطَّبع، في بِدء سَيْرنا مع يسوع لا يوجد سوى تقديم أنْفُسنا، الذي يُرمَز إليه عادةً بالمعمودية، ولكن لا يوجد دعوة للتّابع الجديد أن يُدهَن بالزيت لكي يبدأ خِدْمته ليَهوَهْ.
إذًا، مثل الكثير من الأمور الأخرى في التوراة، نَجد أن مفهوم الحانوكا وهدفَه واسْتِخدامه كُلّه بدأ في العهد القديم، وقد تم نَقله إلى العهد الجديد في معنى أَسْمى وأكمَل، وتم تجسيده في يسوع.
والأمر الآخر الذي يجب ألا نَغفَل عنه هو أن سَبَط يَهُوَّذا الذي جاء منه المسيح هو أول من قَدَّم ذبيحة الحانوكا. وما نَجِده هو أن الهدايا التي سَتُقدِّمها جميع الأسباط الاثني عشر مُتَطابقة تمامًا. كل سَبَط قَدَّم نفس الأشياء، حتى نفس الكَمِّية ونفس النَّوْعية.
فكما نَقْرأ في إثني عشر مَقطعاً مُتتالياً كانت تَقدِمة الحانوكا لكل قبيلة: وِعاء واحد من الفضَّة وَطِشْت فضَّة واحد، كل منهما مَمْلوء بدقيق السَّميد ممزوج بالزَيْت (تَقدِمة المِنخاه)؛ ومَلعقة أو مَغْرِفة ذهبيّة واحدة مَمْلوءة بالبَخّور؛ وثَوْر واحد، وكِبْش واحد ناضِج، وحَمَل صغير بِعُمر السّنة (لتَقدِمة أولاه)؛ وتيْس واحد ذَكَر (لتَقدِمة الحتآت)؛ وثوران وخمس كِباش وخمس ذُكور ماعز وخمس حِمْلان صغار بِعُمر السَّنة لتَقدِمة الشلاميم. إذا كانت الأسماء العبرية لأنواع القرابين المختلفة غير مألوفة بالنسبة لك، فعليك أن تعود وتُراجع دراستنا لسِفْر اللّاويّين حيث اسْتَكْشفنا كل نوع من هذه الذبائح بِشكلٍ مستَفيض.
النُّقطة المُهِمَّة هي أن هذه القائمة هي ما قدّمه كل زعيم قبيلة إلى الحَرَم. كانت قبيلة واحدة في كل يوم لمُدَّة إثني عشر يومًا مُتتاليًا تُقدِّم هذه التَقدِمة المُحَدَّدة.
أرى أهمِّية كبيرة في ذلك: لأنه كما أن كل من يأتي إلى الرّب للتَّكْفير والخلاص يجب أن يُقَدِّم نفس الشيء…… بنفسه….. لا أقل ولا أكثر….. هكذا الأمْر بالنِّسبة لِتَقدِمة الحانوكا هذه. لم تكُن القبائل الاثْنَتَي عشرة مُتَساوية على الإطلاق في عدد السُّكان أو السُّلطة أو المكانة أو الثَّروة، ولكن هذا لا يَهُمّ: يجب أن تكون التَقدِمة للرّب نفْسها للجميع.
الآن يقول الحُكَماء العبرانيّون شيئًا آخر مُسْتَفِزًّا جدًا حَدثَ هنا؛ وسأخْبِركم بِصَراحة أنه ليس لديّ أي فكرة عما إذا كانوا على حقّ أم لا، لكنّني أريد أن أنقُلْه لكم.
الحقيقة هي أن سبْتًا واحدًا على الأقل كان يجب أن يَحدُث خلال فترة الإثني عشر يومًا من تقديمات الحانوكا؛ وحِسابيًا، كان يُمْكن أن يكون هناك سبْتان. يقول الحاخامات إن تَقدِمة رئيس سَبَط يَهُوَّذا…..التَقدِمة الأولى…. كانت تُقدَّم في اليوم الأول من الأسبوع. وفي اليوم الثاني تُقدَّم تقدِمة يساكِر، وفي اليوم الثالث كان زيبيولون، وهكذا إلى أن نَصِل إلى اليوم السابع…… السّبْت….. وخَمِّن أي سَبَط قدّم ذبيحته: أفرايم.
إنّ شَرَف أن يكون الأوّل ذهب الى يَهُوَّذا، وشَرَف تقديم ذبيحَتهم يوم السّبت إلى أفرايم، وهاتان القبيلتان هما اللّتان أصبحتا في النِّهاية القَبيلتَيْن العَظيمتَيْن الباقيَتَيْن اللّتَيْن اسْتَوْعَبتا كل القبائل الأخرى، بل وشكَّلَتا المَمْلكَتَيْن اللَّتين سُمِّيَتا إفرايم ويَهُوَّذا، بعد وفاة الملك سُليمان. إن يَهُوَّذا وإفرايم هما اللذان يُطلَق عليهما أيضًا ”بَيْتا إسرائيل“ في سِفْر حزقيال وفي أماكن أخرى من الكِتاب المُقَدَّس.
سواء كان ذلك في يوم السَّبت أم لا، سأتْرُك الأمْر لك. ولكن يُمْكِنني أن أُخبركم أنه كان من المَنْطِقي والمُعتاد أن يبدأ هذا في اليوم الأول من الأسبوع وليس فقط في يوم عشوائي. وبِغَض النَّظر عن الطريقة التي تَنْظُر إليها، فإن أوّل من قدَّم ذبيحة الحانوكا كان يَهُوَّذا (سَبَط المسيح) وسابع من قدَّم هذه الذبيحة كان أفرايم. لم يكن هذا من قبيل المُصادَفة. نجِد أن يَهُوَّذا وإفرايم سيَرْتَفعان شيئًا فشيئًا وبالتأكيد فوق الأسْباط العشرة الأخرى مع تَقَدُّم التوراة والكِتابات والأنبياء التي تُشكِّل العهد القديم.
يَنْتهي هذا الإصْحاح، بِشكل مُناسب، بمعلومة مُهِمَّة: عندما التقى موسى مع الله في خَيْمة الإجْتِماع، كان ذلك من فوق مقعد الرَّحْمة…. الكابوريت (كبورة)، في العبرية…… أي الغطاء الذَّهَبي لتابوت العَهْد….. وكان من خلال الأشكال المُجَنَّحة للكَروبان اللذان كانا مَلْحَقَيْن بالكبورة، أنْ كَلّم الله موسى. وفقط لكي نفهم تمامًا: عبارة ”تكلَّمَ معه“ ………………. عند الإشارة إلى تكلُّم الله مع موسى ………………. بالعبرية هي دِبَر. ودِبَر تعني مُحادثة……. طريقة تَواصُل ثنائي الإتِّجاه على عكس الوحي الذي هو مُجَرَّد أمْر يَنْطُق به الله. على الرغم من أنني متأكِّد من أنه في كثير من الأحيان كان الله يُنادي موسى إلى الخَيْمة ويُصدِر بِبَساطة تعليمات، على الأقل في كثير من الأحيان كان الله يُنادي موسى وكان هُناك مُحادَثة كامِلة، حِوار بَيْنَهُما. حَظِيَ موسى بِشَرَف لم يَحْظَ به إلا القليل من الرَّجال الآخرين في التاريخ، مُحادثة مَلْموسة ومَسْموعة مع الرّب الإله القدير. ومع أننا كمؤمنين نتمتَّع بهذا الامتياز إلى حدٍّ ما في شكل صلاة، إلا أنني لا أسْتَطيع أن أقول إنه نفس الشيء. كم مَرَّة تَمَنَّيْت أن أسأل الله سؤالاً وأحْصَل على إجابة مُباشرة مَسْموعة.
دَعوني أشير إلى أمر مهمّ آخر، وهو أننا كمسيحيين (وأنا أيضًا) كنا نميل إلى فَهْمِه بشكل خاطئ: لم يَقِف موسى أمام تابوت العهد بمعنى أنه كان داخل قُدْس الأقْداس. هذه الفكرة لم تتَّضِح لي إلا مؤخرًا . لا توضح التوراة في أي مكان كان موسى يَقِف داخل قُدْس الأقْداس؛ هذا افتِراض (غير صحيح) يأتي من الفهم الخاطئ الشّائع لعِبارات توراتية مثل ”وَقَف موسى أمام الرّب“. بينما تبدو لنا هذه العِبارة وكأنها تشير إلى وجود موسى فِعليًا في قُدْس الأقْداس، واقفًا بِجِوار تابوت العهد، ولكن في الواقع ما لدينا هو وقوف موسى في المكان المُقَدَّس بِجِوار الحِجاب الداخلي المُسمّى باروخيت ومواجهته للتابوت فقط. "واقفًا أمام الرّب" هو تعبير عبري اصْطِلاحي شائع في الكِتاب المُقَدَّس، ونَجِده يُستخدَم في الكِتاب المُقَدَّس؛ ونَجِد أنه يُستخدم في حالة الأفراد العاديّين (مثل المرأة المُشْتَبَه بها في الزنا) وهو يعني فقط الاقْتِراب من قُدْس أقداس الله، وليس داخِلَه، وبالتأكيد ليس داخل قُدْس الأقْداس.
لطالما رأى الحُكماء والحاخامات اليهود أن موسى كان يقِف خارج الحِجاب؛ المسيحيون الوثنيّون وَحْدَهم هم الذين أساءوا فَهْمَه وتَصَوَّروه واقفًا أمام تابوت العهد مُباشرةً. على كل حال، على الرغم من مكانة موسى السّامية والفريدة كَوَسيط إلا أنه كان لا يزال مُجَرَّد إنسان. وبالمُناسبة، على الرغم من التَّرْنيمة الجميلة التي تقول إننا كمؤمنين نَقِف الآن في قُدْس الأقْداس، فهذا بِبَساطة غير صحيح لاهوتياً حسب الكتاب المُقَدَّس. إن يسوع، الإله-الإنسان المسيح، هو الذي يَقِف في قُدْس الأقْداس كرئيس كَهَنَتنا ووسيطَنا. كان بنو إسرائيل يَحتاحوزن إلى وسيط ونحن لا نزال بِحاجة إلى وسيط. لهذا السَّبب تَعَلَّمنا أن نُصَلّي للآب باسْم المسيح. نحن، كَجَيْش الكَهَنة الخاص بالمسيح، نَقِف بالفعل داخل المكان المُقَدَّس، الذي هو الحُجْرة الصُّغرى داخل الحَرَم (وهو شَرَفٌ عظيم بالفعل)؛ ولكننا لسنا كامِلين بما فيه الكفاية بهذه الأجساّد الفاسِدة لنَقِف في ذلك المكان الأقْدَس.
نجِد موسى متلهِّفًا للغاية لرؤية الله حقًا لدرجة أنه يسأل الرّب إن كان هذا ممكنًا ويَستجيب الرّب إلى حدٍّ ما بإخفاء موسى في شِقّ صخرة بينما كان يَمُرّ فقط. النِقْطة المُهِمَّة هي أنه إذا كان موسى ”يرى“ الرّب يوميًا تقريبًا في قُدْس الأقْداس، فلن تكون هناك حاجة لأن يرى الرّب في مكان آخر.
لا يُمْكِن أن يكون أكثر وضوحًا في التوراة أنه لم يكن مَسموحًا لأحد، ولا حتى لرئيس الكَهَنة، أن يَدخُل قُدْس الأقْداس ويقف أمام تابوت العهد إلا مَرَّة واحدة في السَّنة في يوم الغفران. كان يجب أن يكون هناك حِجاب بين موسى والرّب، لذلك كانت قداسة الرّب عظيمة جدًا. وهكذا عندما كان يُسمَح لرئيس الكَهَنة بالدُّخول في ذلك اليوم الخاص من كل عام، كان عليه أن يَحمل بَخّورًا مُشْتَعلًا حتى يكون البَخّور بمثابة حِجاب لكي لا يموت رئيس الكَهَنة من هذا القرب الشديد من قداسة يَهوَهْ الفائقة.
لِنَنْتَقِل إلى سِفْر العَدَد الإصْحاح الثامن.
سِفر العدد الإصْحاح الثامن
سيّتناوَل الإصْحاح الثامن أمْرَين: التشغيل العَمَلي للشَّمْعدان، ذلك المِصباح الذَّهبي العظيم ذو السبعة فروع الذي كان قائماً على الحائط الجنوبي للمكان المُقَدَّس، والذي كان الحُجرة الأولى (والأصغر) عند دخول المَرْء خَيْمةَ الإجْتِماع، وهذا الفصل سيّتناوَل تكريس اللّاويّين ودُخولهم في الخِدمة. لنَكُن واضحِين: عندما أقول لاويّين فأنا لا أشير إلى الكَهَنة. لقد تم تقسيم سَبَط لاوي الآن إلى مَجموعَتَيْنِ مُتميِّزتَيْن: الكَهَنة (الذين ينحدِرون جميعًا من عشيرة هارون)، واللّاويّيون الذين يُمثِّلون بقية العشائر اللّاويّة. كان اللّاويّيون في جَوهرِهم العمّال الذين كانوا يَتْبَعون الكَهَنة.
اقرأ الإصْحاح الثامن من سِفْر العدد كُلَّه
كان على الكَهَنة أن يصونوا مذبح المَحرقة مرَّتَيْن في اليوم الواحد، والعُنصر المُشترَك بينهُما هو أن النار كان يجب أن تكون مُشْتعلة باستمرار. ولكن دعونا نكون واضِحين: كان الشَّمعَدان يُضاء فقط خلال ساعات الظَّلام….. لم يكن يوقَد أربعة وعشرين ساعة في اليوم. لم يَكُن للمذبح أيضًا نار مُلْتَهِبة مُشتعلة على مدار أربع وعشرين ساعة في اليوم؛ فبَعْدَ انتهاء يوم الذبائح، كان يتمّ تخزين الفحم حتى يبقى جَمر ساخِن لإشعال النار في الصباح التالي.
من التَّعليمات المُثيرة للاهْتِمام هنا هو أنه كان يجب أن يَتَّجِه نور الشمعدان إلى الأمام. أولاً، تَذكَّر أن الشَّمعدان كان عِبارة عن حامِل مِصباح يُحْمل سبع مصابيح زَيْتِيَّة … لم يَكُن يَستخدم الشُّموع. ما هو الغرض من الحديث عن جعل الضَّوْء متَّجهًا للأمام؟ حَسَنًا، من الواضِح أن شكل المصابيح الزَّيْتيَّة كان يَسمح بِتَوْجيه الضَّوء نحو اتِّجاهٍ مُعَيَّن أكثر من اتِّجاه آخر. كانت أهمِّية توجيه الضَّوء للأمام هي أنه سَيُسلِّط الضوء على مائدة الخبز قرب الجِدار المُقابل للخَيْمة. كان الشَّمعَدان يَرمز إلى نور الله. كان على مائدة الخبز مع أرْغِفة الخبز الإثْني عشر التي تَرمز إلى أسباط إسرائيل الإثْني عشر أن تعمل فقط تحت نور الله وحُضوره.
تبدأ الآية الخامسة في التَّذْكير بأن اللّاويّين كانوا مُنْفَصلين عن باقي أسباط إسرائيل؛ لقد حَلّوا محلّ مكانة أبكار إسرائيل وهدَفهم. هذا شيء يَجب أن نُرسِّخه في أذْهاننا حتى نتمكَّن من فَهم كل ما سَيَحدُث في الكِتاب المُقَدَّس من هذه النُّقطة فصاعِدًا، خاصة فيما يتعلَّق بالنُّبوءة. لم يَعُد اللاويّون جِزءًا طبيعيًا من بني إسرائيل.
لم يعودوا مَحْسوبين ضُمْن بني إسرائيل الآخرين. كان الإحْصاء السابق للّاويّين (بِصَرف النَّظَر عن إحصاء بني إسرائيل الآخرين) لإثبات هذا المبدأ الإلهي المُهِمّ. من المؤكد أن اللّاويّين ظلّوا عِبْرانيين عُنْصريين؛ وكانوا يَعْملون من أجل رَفاهية بني إسرائيل، لكنّهم لم يعودوا يُسَمّون أنْفسهم إسرائيليين، ولن يَعْتبرهم الله كذلك.
ما نراه يَحدُث هنا هو أن اللّاويّين يجب أن يتطهَّروا…… يَتنَقّوا…. لِبَدء خدمتهم كَجَماعة مُحّدَّدة من العِبرانيين المُكلَّفين بواجب خِدمة الله عن طريق خِدمة كَهْنوت الله. لاحِظوا أن موسى هو المُوَجَّه لأداء هذه الطقوس وليس الكاهِن. بِمُجرَّد أن يتم تكريس الكَهَنة لن يقوم موسى بأداء أي من هذه الطُّقوس بعد ذلك.
وكما هو مُعتاد في طقوس التَّطْهير، فإن الماء هو الذي يُستخدم. لا أقْصُد أن أُحَلِّل الكَلِمات ولكن هذا ليس نفس الشيء الذي حدث في رَسامة الكَهَنة. كما ذَكرْت في درسٍ سابق، فإن طقوس التَّكْريس أو التَّكْريس للرب كانت تتضمَّن دائمًا المَسْح بالزَّيت. كانت هذه الطقوس بالنسبة اللّاويّين لِمُجَرَّد تطهيرهم وتَنْقِيَتهم بما فيه الكفاية للعمل حول مَنطقة الحَرَم وبالقُرب منه. ومع ذلك لم يكن مَسْموحًا للّاويّين بالدخول إلى أي من المناطق المُقَدَّسة ولم يكن مَسْموحًا لهم بِمُمارسة أي من الطقوس المُقَدَّسة، لذلك لم يكن من الضروري أن يُمنحوا أعلى مُستوى من القداسة كما كان يُمنح للكهنة.
كان ماء التَّطْهير المُستخدَم على اللّاويّين هو نفس نوع الماء المُستخدَم لتطهير الشَّخص الذي لَمَس جُثّة مَيِّت: كان ذلك الماء الذي كان مَمْزوجًا بِرَماد العِجْل الأحمر، مما يعني أنه كان يجب أن يكون قد حدث بالفعل طَقس العِجْل الأحمر. إذن، هذا ليس نفس الشَّيء الذي يُطلق عليه الماء ”المُقَدَّس“. لقدْ ناقشْنا في الدّرس الماضي أنه عندما يُستخدَم مُصْطَلَح ”الماء المُقَدَّس“، فهو في الواقِع مرادف لـ ”الماء الحَيّْ، مأييم شايم بالعبرية). الماء الحَيّْ هو ماء من نبْع جارٍ، أو بركة تُغذّيها الينابيع أو نهر. يشير الماء المُقَدَّس بشكلٍ عام إلى أن الماء الحَيّْ قد وُضع في المغْسَلة النُّحاسيّة العِمْلاقة التي كانت موجودة في فناء خَيْمة الإجْتِماع، والتي كان الكَهَنة يأخذون منها لِغَسل أيْديهم وأرْجُلهم قبل وأثناء وبعد الطُّقوس. إذًا، كان الماء المُقَدَّس هو أحد العُنصرَين المطلوبَيْن فقط في هذه "المياه الطقسية" الخاصة، والآخر هو رَماد العِجل الأحمَر.
في الآية السابِعة، إحدى المُتَطلِّبات هو أنه يجب أن تُمَرَّر شَفرة حلاقة على أجسادهم. الآن، يتمّ فَهم هذه التعليمات بشكل خاطئ على نِطاق واسع. أولاً، تذكَّر أن هذا ينطبِق فقط على الذُّكور، لأن الذُّكور من اللّاويّين فقط هم الذين يُمكنهم خدمةُ لله. ثانياً، فإن "الشفره" هي مُجرَّد مُصْطَلَح يعني أداة حادّة تُستخدم لِقَصّ الشعر. إنهم لا يقومون بالحلاقة بالمعنى الدقيق، بل يقصّوا الشعر. فالحِلاقة كما نُفَكِّر بها اليوم (التي تعني إزالة الشعر إلى درجة ظهور الجِّلْد تحته) لم تكن جزءًا من المُجتمع العبري. ثالثًا، فإن الدعوة لإسْتِخدام الشَّفْرة على أجسادهم بالكامل هي تعبير مَجازي يعني بِبَساطة أنهم يجب أن يقصّوا شَعْر رؤوسهم، لأن شَعْر الرأس يعلو قمة الجسم كالتاج أو الغطاء.
على اللّاويّين أيضًا أن يَغْسِلوا ثيابهم. والآن، لِنَكُن واضِحين: بالإضافة إلى كل هذا، عليهم أن يَسْتحِمّوا بالماء بالكامل، لأن هذا هو إجراء التَّطْهير المُعتاد في كل حالة.
من المُثير للاهْتِمام أن الجِدال الطائفي بين المسيحيين حول المَعْموديّة هو ما إذا كان الرَّشّ مقبولاً، أم أن التَّعْميد بالتَّغْطيس الكامِل ضروري. يَنْبَع الجدال بشكل عام من هذه الآيات لأننا نقرأ أن اللّاويّين يجب أن ”يُرَشّوا“. مَرَّة أخرى: الرَّشّ هو فقط الإجراء المُعتاد لوَضع ماء التطهير، وهو الماء المَمْزوج بِرَماد العِجْل الأحمر. ليس من المقصود به أن يحلّ محلّ الانْغِماس في نهر أو ميكفاه ، الإغْتِسال الطّقسي ، الذي هو ليس إلا انْغِماساً في ماء حَيّ لا رماد فيه.
يَحدُث الرَّشّ فقط عندما يتطهَّر الشخص من حالة نَجاسة شديدة، وعادة ما تكون ناتِجة عن لَمْس جُثَّة مَيِّت. أما الإغْتِسال الطَّقسي، من ناحية أخرى، فهو دائمًا الخُطوة الأخيرة في العودة إلى حالة الطّهارة من أي نوع أو حالة من النَّجاسة. لكن الإنْغِماس هو أيضًا عِبارة عن تَرْميم وتجديد، وهو ما لا يكون كذلك بالرَّشّ بمزيج الماء والرَّماد. وبِعِبارة أخرى، فإن الجِدال بين الرَّشّ والتَّغْطيس لا أساس له على الإطلاق، لأنَّهُما، من وجهة نظر الكِتاب المُقَدَّس، إجراءان مُخْتَلِفان تمامًا لِغَرَضَيْن مُخْتَلِفَيْن تمامًا.
بعد ذلك، بعد تقديم ثَوْرَين نيابة عن جماعة اللّاويّين بأكْملها، تُخبرنا الآية العاشرة أنه كان على بني إسرائيل أن يَضعوا أيْديهم على اللّاويّين. وكان يجب أن يتمّ ذلك ”أمام الرّب“. كما ناقشنا سابقاً في هذا الدَّرْس، ”أَمَامَ الرّب“ تعني بِبساطة أن يتم ذلك أمام (أو بالقرب) من خَيْمة الإجْتِماع، مَسْكَن الرّب، وليس داخل الخَيْمة نَفسها وبالتأكيد ليس داخل حُجْرة قُدْس الأقْداس.
من الواضِح أن مَلْيونَين أو حوالي مليونين من بني إسرائيل لم يضعوا أيْديهم على اللّاويّين، بل كان الشيوخ، القادة العِلْمانيّون من كل سَبَط هم الذين وَضَعوا أيديهم على اللّاويّين. لماذا فعل بنو إسرائيل ذلك؟ هذا هو الفعل النَّموذجي الذي يشير إلى ذبيحة بديلة. كان اللّاويّيون يُقَدِّمون إلى الله كبديل، كبَدَل كل أبْكار بني إسرائيل. بدلاً من كل بني إسرائيل أو بالأحرى بِدِقَّة أكبر، أول أبكار إسرائيل ….. بما أنهم كانوا في خِدمة مباشرة لله، تم استبدالهم باللّاويّين. يشير وضع الأيْدي هذا إلى أن اللّاويّين هم الذَّبيحة لفِداء أبْكار بني إسرائيل من جهة ولِنَقل المسؤولية من الأسباط الإثْنَي عشر إلى هذه القبيلة المُخْتارة من اللاويين.
الكَلِمَة العبرية التي يتم تطبيقها لوضع اليدَيْن هذا والوظيفة البديلة للّاويّين هي كيبور. في أوسع معانيها كيبور تعني ”التَّكْفير“. إن صيغة كَلِمَة كيبور كما هي مُستخدَمة في هذه المقاطع تُضيف حرف الجر ”أل كيبور“؛ وبالتالي فإن أفضل ترجمة لكَلِمَة "كيبور" بالطريقة التي تُستخدَم بها الإنجليزية الحديثة هي ”نيابة عن“. فكما أن الثيران هي الكيبور (التَّكْفير) نيابة عن اللّاويّين، كذلك اللاويون هم الكيبور (التَّكْفير) نيابة عن بني إسرائيل. لكن يُمكِننا فقط أن نأخذ هذا التَّشْبيه إلى هذا الحدّ، لأنه من المؤكَّد أن اللّاويّين لن يُصبِحوا ذبيحة المَذْبَح، أليس كذلك؟
وهكذا بما أن الله لا يَطلُب أو يتسامح مع الذَّبيحة البَشرَّية الفِعْليَّة، فإن الآية الثانية عشرة تجعل اللّاويّين يَلْتَفتون ويضعون أيديِهِم على رأسَيْ الثَّوْرين (مَرَّة أخرى، ليس كل لاوي، ولكن ربما رؤساء العشائر فقط). إذن، الآن، أخذ اللّاويّون مسؤولية الذبيحة المُلقاة على عاتقهم من قبل جميع بني إسرائيل، ونَقلوها إلى الثَّوْرَيْن اللّذَيْن سَيُذْبَحان ويُحرَقان.
هذا يعني أنه في حين أن المعنى التَوْراتي لكَلِمَة كيبور يعني جزئيًا ”التَّكْفير“، إلا أن هذا ليس كل ما تعنيه. فكَلِمَة كيبور تَحمُل أيضًا معنى الدَّفْع أو الفِدية، وهو ما تُعبِّر عنه كَلِمَة ”كاباراه“، وهي فرع من كَلِمَة كيبور.
كما هو الحال مع مُعظم المسيحية، منذ سنوات عديدة عندما كنت أخوض في العهد القديم وأصادف أشياء من هذا القبيل كنت أُدير عينيّ نوعًا ما باعْتِبارها سلوكيّات بِدائية. أشعُر تمامًا بِشَكل مُخْتلف الآن بالطبع. يُمْكننا أن نَسْخَر كما نشاء من هذا الإجراء الذي يَجْعل فيه بنو إسرائيل اللّاويّين بديلاً/ذبيحةً/تعويضًا، ثم يجعل اللّاويّون الثيران بديلاً/ذبيحةً/تعويضًا….. ولكن علينا أن نكون مُمْتَنّين حقًا. لأن هذه صورة وإظهار لنِظام عدالة الله في العمل. لقد كان هذا النِّظام الدقيق…… على أساس الإسْتبدال والدَّفْع والتَّكْفير….. الذي جَعل يسوع قادرًا قانونيًا على أن يكون كل ما هو مطلوب لإرضاء الله فيما يتعلَّق بِخَطايانا وإثمِنا أمامه.
سَنُواصل الإصْحاح الثامن الأسبوع القادم.