10th of Kislev, 5785 | י׳ בְּכִסְלֵו תשפ״ה

QR Code
Download App
iOS & Android
Home » العربية » Old Testament » التكوين » سِفْر التَّكوين الدَّرس السادِس والثلاثون – الإصْحاحان أربعون وواحد وأربعون
سِفْر التَّكوين الدَّرس السادِس والثلاثون – الإصْحاحان أربعون وواحد وأربعون

سِفْر التَّكوين الدَّرس السادِس والثلاثون – الإصْحاحان أربعون وواحد وأربعون

Download Transcript


سِفْر التَّكوين

الدَّرس السادِس والثلاثون – الإصْحاحان أربعون وواحد وأربعون

اقرأ الآية أربعين بأكْمَلها

كان قد مَضى حَوالي أحد عشر عاماً منذ أن باع إخْوتَه الأكبر سِنًّا يوسف للعُبودية.

وهو الآن في الثامنة والعشرين من عُمْره. أتساءل عما إذا كان يوسف لا يزال يعْتقِد أن أحْلامه عن انْحِناء أهْله له، والتي كانت لها عِلاقة كبيرة بِحالتِه الرّاهِنة، تَحْمِل أي أهمِّيّة أم أنها كانت مُجَرّد أحْلام طُفولة؟ لأنه من حيث كان جالِساً، بعيداً جداً عن كنعان وعن عائلَتِه، رُبَّما يكون قد نسِيَ كل شيء عن حِزَم الحُبوب التي كانت تنْحَني أمامَه والشّمس والقمَر وأحد عشر نجْماً يُكرّمونه؛ ولكن، دعونا نكون واضِحين للغاية بشأن ما كانت تعْنيه تلك الأحْلام ليوسف: لقد كانت تعني له أنه إذا كانت تلك الأحْلام صَحيحة، فإنه سيَحْصل على بَرَكة البِكر. أنه سيَتمّ تخطّي العشرة الأوائل من إخْوته الأكْبر منه سناً وسيُصْبِح هو وارِث كل ثرْوة وسلْطة عشيرة بني إسرائيل.

يوسف جالِس في السِّجن، لأن زوجة سيده بوتيفار كذبت وقالت إنه حاول الإعتداء عليها. من الصعب معرفة المدة التي قضاها في السِّجن….ولكنّها كانت مدّة كافية ليكْسب ثِقة السَّجّان. ثم حدَث شيء ما، وغَضِب فِرْعَوْن من اثنيْن من كبار موَظّفي الحكومة: ساقي الخمْر الرَّسْمي ورئيس الخَبّازين. لم يَكُن هذان المَنْصِبان من مناصِب الخدَم، على الرَّغم من أن الجميع كانوا، بِحِكْم التَّعْريف، تابِعين لفِرْعَوْن. لا، من المُرَجَّح أن هؤلاء الرِّجال كانوا في صفّ واحد خلْف بوتيفار في السُّلْطة. لكن، كما هو الحال في كثير من الأحْيان مع الشَّرقيّين (تَذَكَّروا أنهم كانوا شرقيّين… ساميّين…. وليس مصريّين الذين يَحْكُمون مِصر الآن)، فإن بعض المُخالفات المجْهولة تنْتهي بأن تكلِّف الرِّجال حرِّيَتهم أو حياتَهم. على الأرْجح أن الفِرْعَوْن كان بِبَساطة مزاجَه سيِّئاً، أو من حيث لا يدْرون (بما أن هذيْن المسؤوليْن كانا مصريَيْن على ما يبدو) فقد ارْتكبا بعض الأخطاء ذات الطّابع الشَّرقي، وانتهى الأمر باعْتِقال هذيْن الرَّجُليْن؛ ومثل يوسف، احتُجِزا في بيت قائد السِّجن… وليس السِّجن العادي كالذي كان يعاني فيه عامّة الناس.

بعد مُرور بعض الوقت لاحظ يوسف ذات صباح أن وجْهَيْهُما كانا في حيرة وانْزِعاج. اسْتَفْسَر مِنهما عما يُزْعِجْهما فأخبَر كل منهما أنه رأى حِلماً ولم يَستطيعا أن يفهَما ما يعنيه. لم يَكُن الأمر أن هؤلاء الرِّجال رأوا خَطراً في أحْلامَهما، بل كان الأمر أنه لم يَكُن هناك في السِّجن أي عرّافين مُتاحين… لم يَكُن هناك مُفسِّرو أحلام ليُخْبِروهم عن مغزى رُؤاهُم الّليليّة. كانت الأحلام تُعْتَبَر مُهِمَّة في تلك الحَقَبة ولذلك كان هناك مُفَسِّرو أحلام مُحْتَرِفون مُتاحون مقابل أجْر. نبدأ في رؤية مُستوى الإيمان الذي أوْصلتْه إليه كل مُعاناة يوسف، إذ يُجيب "أليْس التَّفسير من عند الله"؟ ويقول: "أخْبِراني بأحْلامَكما".

ففَعلا، وبدأ ساقي الخمْر أوَّلاً وتَحَدّث عن كَرْمة لها ثلاثة أغْصان وعِنَب على الأغصان التي يُصْنَع منها خمراً للفِرْعَوْن. على الفور، يُعْطي الله يوسف المعنى ويُخْبِر يوسف ساقي الخمْر بعض الأخْبار السَّاّرة: خلال ثلاثة أيام سيُعيد فِرْعَوْن ساقي الخمر إلى مَنْصبه وسيكون كل شيء على ما يرام.

يبدو أن هذا الأمر قد شجَّع الخَبّاز الذي، بلا شك، نتيجة لمُشاهَدته تفسير حِلْم ساقي الخمْر، توقع أخباراً سارّة بِنَفْس القدَر. الخَبّاز، الذي كان يَحلم بالطّبع في سياق خُبُراته الحياتيّة، تماماً كما فعل ساقي الخمْر، رأى الخَبّاز ثلاث سِلال من الخبز على رأسِه، ويبدو أنها كانت مُكَدّسة الواحدة فوق الأخرى لأن السَّلة العُلويّة اجْتَذّبَت الطّيور التي جاءت وأكلَت المَخْبوزات من السَّلة مباشرةً، وهي لا تزال على رأس الخَبّاز. كان على يوسف أن يُخْبِر الخَبّاز بالخُبْر السَّيِّئ أنه في نفْس اليوم الذي كان سيُسْتعاد فيه ساقي الخمْر، سيَفْتَقِد الخَبّاز حياته وبالطَّبع، هذا ما حدَث بالضّبْط.

تفْصيل صَغير: تقول العديد من الرِّوايات أن الخَبّاز عُلِّق على شجرة. ليس هذا ما قيل حقاً؛ ما قيل في الواقع هو أنه سيُغرَز على شجرة. لم يَكُن الشَّنْق طريقة مُعْتادة للإعْدام في تلك الحّقَبة ولكن قطْع الرأس كان كذلك، وغالباً ما كانت الجثّة مقطوعة الرّأس تُعلَّق على خازوق (أو شجرة) كتحْذير للآخرين.

الآن، كمَعلومة جانِبيَّة مُثيرة للإهْتِمام، تُثْبِت الكِتابة الهيروغليفية المَصريّة العديد من تفاصيل هذه القصّة. على سبيل المثال، فِكْرة السِّلال فوق رأس الخَبّاز؛ كانت هذه بالضّبْط الطريقة التي يَحمل بها الذُّكور الأشياء في مصر؛ كانوا يُوازِنونها على رؤوسِهم. كانت سِلال الخبز المُكَدَّسة على رأس الخَبّاز مُجَرّد وسيلة عادية لنقل الخبز من الأفران إلى القَصْر، وهو ما كان الخَبّاز يقوم به عِدّة مرّات في اليوم. لقد رأيْنا جميعاً هذا النّوع من الأشياء في برامج الرِّحْلات التِلِفزيونيّة ولكن، إليكم الأمْر: لن تروا أبداً امرأة مصريّة تضَع حِمْلاً على رأسِها، بل كانت المرأة المصرية تَحْمِل الأشياء على كَتِفَيْها وظَهرها؛ وكان هذا بالضّبْط عكْس الطريقة المُعتادة في الثقافات الشَّرقيّة في حَمْل الأحْمال. إذن، هذه البَصيرة الصغيرة هي مُجَرّد دليل واحد من بين العديد من الأدِلَّة على صِحَّة الرِّواية التَوْراتية عن فترة وُجود يوسف، وفي النهاية إسرائيل، في مصر.

إن الجُملة الأخيرة من هذا الأصْحاح هي جُمْلة حزينة إلى حدًّ ما، ولكنها نَموذجيّة جداً للبَشَرِيّة: بعد أن أظْهر يوسف لُطفاً لساقي الخَمر، طلب يوسف من ساقي الخَمر أن يفعل نفس الشَّيء له بعد أن اسْتعاد مَكانته. ولكن، قيل لنا أنه الآن بعد أن عاد كلّ شيء إلى طَبيعته بالنِّسْبة لِساقي الخَمر، نسِيَ يوسف المِسْكين وترَكَهُ يَقْبَع في السِّجن بِسبب جريمة لم يَرْتكِبها.

اقرأ الآية واحد وأربعين بأكمَلها

لقد قُلْت لكم شيئاً سابقاً رُبَّما يكون قد فاجأ بَعضكم: أنه في زمَن يوسف، كان يحْكُم مصر السّاميّون… من نَسل سام بن نوح. في الواقع، لم يَكُن فِرْعَوْن مصر في الوقت الذي أصْبح فيه يوسف حاكِماً على الأرض مَصرياً وأنه خلال فترة مئة وخمسين عاماً تقريباً، توقّفَت فجأة سِجِلّات الحكومة المَصرية الرسميّة المُتَعَلِّقة بتاريخ مصر.

السَّبب في ذلك هو أن المُلوك والفراعِنة كانوا يميلون إلى عدم تدوين الهَزائم وأوْقات الخُضوع. إن فَهْم ذلك يُساعِد على فَهْم كيف أصْبح يوسف قوياًّ جداً، وكيف كان إسرائيل في البداية حُرًّا لِيَرْتفع ويزْدهِر، ولكن فيما بعد، كيف أصْبَحوا تحت وَطْأة غَضَب مصر وأصبَح بنو إسرائيل في النِّهاية عبيداً.

لقد ذكَرْت أنه كان هناك العديد من السِّجِلّات في ذلك الوقت، ومع ذلك، فقد تم تَدوينها وحِفظها من قبل مُواطنين مِصْريّين عاديّين، وهي تَحْكي قصَّة هؤلاء الحُكّام الأجانب، حُكّام الهِكْسوس.

أودّ أن أقرأ عليكم رِواية قصيرة مأخوذَة من المُؤرِّخ المَصري "مانيثو" الذي جَمَع العديد من هذه السِجِلّات وترَكَها لنا لِنَتأمّلَها.

"كان هناك مَلِك يُدعى توتيمايوس وفي عَهده حَدَثَ ما حَدَث. لا أعرف لماذا اسْتاء الله مِنّا. جاء، بشكل غير مُتوَقَّع من مناطق الشَّرق، رجال من عِرْق مَجهول. واثقين من النَّصْر زَحَفوا على أرْضِنا. بالقوّة أخذوها بِسُهولة، دون مَعْركة واحدة، وبعد أن تغلَّبوا على حُكّامنا أحْرَقوا مُدُننا دون شَفَقة ودمَّروا معابد الآلهة. لقد عاملوا جميع السكان الأصليين بقسوة كبيرة لأنهم قتلوا البعض وسَبوا زوْجات وأطفال الآخرين واسْتَعْبَدوهم وأخيراً عَيّنوا واحداً مِنهم مًلِكاً. كان إسْمه ساليتيس وكان يعيش في مَمْفيس وجَعَل مصر العُليا والسُّفلى تدْفَع له جِزْية… وعندما وجَد مدينة في مُقاطعة سيس تُناسِب غَرَضه (كانت تقع شَرْق الفِرع البوباسي للنّيل وكانت تُسَمّى أواريس) أعاد بِناءها وجَعَلها قويّة جداً بإقامة الأسْوار ووَضَع قوّة قوامها مئتين وأربعين ألف رجلاً لِحُفظها.

كان ساليتيس يَذْهب إليها كلّ صَيف، تارَةً لجَمْع الذَّرة ودفْع أجور الرِّجال، وطَوراً لِتَدريب قوّاِته المُسَلَّحة وتَرويع الأجانب".

لَدَيْنا هنا رِواية عاطِفيّة ومُخْتَصرة لِلْغاية عن غَزو السّاميّين من آسيا لِمَصر. لَدَيْنا حتى الإسْم، وهو إسْم عَرَبي، لِلْملِك الفاتِح…. ساليتيس. كم كان يجب أن يَعْلَق في أذْهان الشَّعْب المَصري أن يَتمّ اجْتِياحهم بهذه السُّهولة والسُّرعة من قِبَل هذه الحُشود غير المُتَحَضِّرة (في أذْهانِهم).

مع ذلك، بِعِناية الله الإلَهيّة التي لا يُمْكِن فَهْمها، مَهّد ذلك الطَّريق لِيوسف لِتَوَلّي مَنصب سُلطة ولِبَقاء بني إسرائيل رَهينة في مَصر لأكْثَر من أربعة قرون.

الآن، أوَدّ أن تُلاحظوا اسْماً ذَكَرَه مانيثو: أواريس. لأنَّنا في سِفْر الخُروج سَنَقضي بعض الوقت في الحَديث عن هذه المَدينة. أواريس هي المدينة الكبيرة التي صارت مَوْطناً للعِبرانيّين، بني إسرائيل، في أرْض غوشان، مَصر. المكان ذاته الذي يقول مُعْظم عُلماء الآثار العِلْمانيين إن لا وجود له: مكان تواجَدَ فيه عَدد هائل من العِبْرانيّين بعد زَمن يوسف؛ ولاحِظوا كم كان هذا المكان كبيراً، لأنّ ساليتيس، الفِرْعَوْن الأجْنبي الجديد، وَضَع هناك ما يَقْرُب من رُبْع مليون جِنْدي للمُحافَظة عليه فقط.

أمْرُ أخير: لقد اسْتَخْدَمْت قبل قليل بعض المُصْطلحات… بَدَوي وسامي وشرقي…. بِشَكل مُتَبادل نوعاً ما. دَعْني أشْرَح ذلك: إن الكُتْلة الأرْضيّة القارِّيّة الشَّامِلة التي تَحْتوي على ما نُسَمّيه اليَوم الشَّرق الأَوْسَط هي آسيا. لذا، فَمِن المُناسب أن نُطْلق على الأشْخاص الذين يَنْحَدِرون من الشَّرق الأَوْسَط آنَذاك، كما هو الحال الآن، آسْيَويّين، أو…. شُعوب آسيا. لا يُشير الشَّرقيّون إلى الأشْخاص الّذين يَنْحَدِرون من قارَّة آسيا بِأَكْمَلها، بل إلى سُكّان الشَّرق الأَوْسَط والأشْخاص الذين يَمْتَدّون إلى الصّين. الشَّرقيون هم مَجْموعة فِرْعية من الآسْيويين. السّاميّون هم الأشخاص الذين يَنْحَدِرون من سُلالَة سام. أحْفاد إبراهيم هم ساميّون لأن إبراهيم كان ساميّاً. لذلك فالعَرَب والعِبْرانيّون كِلاهُما ساميّون وكان البَدو فِرْعاً مُعَيَّناً من الشّعوب السّاميّة التي تَميل إلى أن تكون من سُكّان الصَّحْراء والرَّحّالة. لذا، فَمِن الصَّحيح أن نَقول إن القّوْم الذين غَزوا مصر واحْتَلّوها كانوا أ) بَدْواً، لأنّهم كانوا من سُكّان الصَّحراء…. ب) ساميّين، لأنَّهم كانوا من نَسْل سام، ج) شَرقيّين، لأنهم كانوا جِزءاً من ثقافة الشَّرق الأَوْسَط، د) آسْيَويّين لأنهم كانوا من قارَّة آسيا.

نُتاِبع الآن دِراستنا لسِفْر التَّكوين واحد وأربعين.

تَمُرّ سَنَتان من نهاية الأصْحاح السَّابق ويوسف يَقْتَرب من الثلاثين من عُمْره والسِّجن لا يزال مَوْطَنه. لم تكُن الأحْلام حتى الآن سوى مَتاعِب ليوسف، ولكن الآن كل ذلك على وَشَك أن يتغيّر.

لدى الفِرْعَوْن حِلْمان، وهما مُزْعِجان بالنِّسْبة له. لماذا هما مُزْعِجان الى هذا الحدّ؟ لأنَّهُما كانا يَبْدُوان حَقيقيّيْن جداً، حتى أنه بعد أن اسْتَيْقظ. الآية السابعة تقول أنه شَعَر بالارْتِياح عندما أدْرَك أنَّهما مُجَرّد أحلاماً. إلا أن المَضْمون كان يبدو أكثر من مُجَرّد حِلم… أشبَه بِرُؤيا… لذلك شَعَر أنه يَجِب أن يُتابِع المَعْنى. دعا جميع "السَّحَرة" و "الحُكَماء" لِيُخْبِروه معنى هذه الأحْلام. هاتان المَجْموعتان من الرِّجال اللّتان اسْتَدْعاهما الفِرْعَوْن كانتا بِمَثابة العُقول المُدَبّرة الخاصّة به، مَجْلس وِزرائه، وهما تُمَثِّلان النُّخْبة الرّوحيّة والفِكْرّية في مصر… وقد أُحْبِطوا.

كانت دِيانة مصر، الرّوحانيّة، تتألَّف من الكثير من السِّحر والشَّعْوَذة لِتَتماشى مع الآلِهَة والإلَهات الكثيرة. وكان الفِرْعَوْن، كَسائر رَعاياه، يؤمِن إيماناً قويّاً بِدِيانة مصر القديمة ذات الطّابِع البابِلي الصّوفي، فكانت جِزءاً لا يَتَجزّأ من الحياة. يُمْكِن لِلْمَسيحيّين أن يتعلَّموا الكثير من الْتِزام هؤلاء الوَثَنيّين الثابِت بِدينِهم (رغم أنه كان زائفاً)، لأنَّهم كانوا يَعْتبرونه مِحْوَر حَياتهم. كان كل جانِب من جَوانب وجودِهم مُرْتبطاً بِنِظام مُعْتَقداتهم، غير مُدْرِكين أنه كان نِظاماً مُزَيَّفاً صَمّمه الشَّيْطان؛ لذلك كان من الطَّبيعي أن يكون لدى فِرْعَوْن هؤلاء الخُبَراء في الدّين، هؤلاء الرّوحانيّون، كَجِزء من مَجْموعة مُسْتَشاريه المُقَرَّبين.

على العَكْس من ذلك، لم يَكُن "الحُكَماء" مُمَثِّلين للرّوحانيّين، بل كانوا مُثَقَّفين مَصْريّين؛ كانوا يُمَثِّلون المَعْرِفة والعُلوم الدُّنْيَويّة التي تَطوّرت إلى هذا المُسْتوى الرَّفيع في مصر.

لقد أخْبَر فِرْعَوْن هؤلاء الرِّجال عن أحْلامه، لكنّهم وَقَفوا صامِتين ولم يَفْهَموا مَعْناها. والآن يَتَقدَّم ساقي الخمْر الرَّئيسي، الذي كان قد سَجَنَه فِرْعَوْن منذ سَنَتَيْن، على مَضَض ويُخْبِر فِرْعَوْن عن يوسف هذا الذي فَسّر أحلامَه وأحْلام رئيس الخَبّازين بِدِقّة. يأمُر فِرْعَوْن على الفَوْر بإحْضار يوسف أمَامه.

يُخْبر فِرْعَوْن يوسف أنه قد راوَدَتْه أحْلام لم يَسْتطع أذْكى وأفْضَل من عِنْدَه أن يفَسِّرها، ولكن قيل له أن يوسف يَسْتطيع ذلك. يُجيب يوسف بِصُدْق تام: "لَسْت أنا بل الله سَيُعطي فِرْعَوْن جَوابه……. ".

وهكذا، ها هو العَبْد العِبراني، يوسف، يَقِف هنا في صُحْبة فِرْعَوْن والقادة الدّينّيين الأكثر إثارَة للإعْجاب والنّخْبة المُثَقَّفة في مصر كلِّها، يُطلَب منه أن يَفعل ما لا يَسْتطيعون فِعْله، لأنّهم لم يكونوا مُؤهّلين للقيام به. وبما أن هذه كانت في الواقع أحْلاماً نَبَويّة لِلحَقيقة المُقَدَّسة أعْطاها الله لفِرْعَوْن، فكيف يُمْكِن للبُسَطاء غير المؤهَّلين تماماً لِتَوْظيف المَعْرِفة الدُّنْيويّة والدّين الزّائف، وإن كان صادِقاً، أن يَفْهموا مَعْناها؟ لا يُمْكِن أن يكون الأمْر كذلك أبَداً؛ بل وأنه، الى الأبد، لن يَعرف الحَقيقة إلا أبْناء الله في اتِّحاد روحي مع الآب ويوسف على وَشَك أن يُعْلِن الحقيقة للفِرْعَوْن.

أولاً، يوضِح يوسف أن هذه الأحْلام هي من الله. بعد ذلك، يُخْبِر فِرْعَوْن أن كلا الحِلمَيْن يتعلَّقان بِنَفْس الأمر: زَمَن مجاعة عَظيمة قادِمة. الحِلْم الأوَّل كان عن البَقَر؛ أولاً سبْع بَقرات سَليمة، ثم سَبع بَقرات مَريضة. الحُلُم الثاني كان عن الذَّرة؛ أولًا سبع سيقان ذرة سَليمة، ثم سبع سيقان مَريضة. كان من المُهِمّ أن يكون هناك حِلْمين لأن أحَدَهُما يتعلَّق بالماشِيَة والآخر بِمَحاصيل الحُقول، أي أن كلا العُنْصُرَيْن الرَّئيسيَّيْن من الإمْدادات الغِذائية كانا سيَتأثران بما هو قادِم.

وكما هي طَريقة الله، فإنه لا يأتي بالدَّيْنونة دون تَحْذير كافٍ لأولئك الذين يَلْتفِتون إليه. لذا، يقول الله أنه سَيَحْرص على أن تكون هناك سبْع سَنوات رائعة وغير عاديّة وَوُفرة في نُموّ الطَّعام والحَصاد، قبل سَبع سنوات… ليس من إنتاج أقلّ من المُعْتاد…. ولكن من مَجاعة رَهيبة.

ما سَيأتي بعد ذلك هو حِكْمة من يوسف حَول ما يجب القِيام به حِيال التَّجْربة القادِمة. بِطبيعة الحال، طَبيعة الحِكمة لا يُمْكِن أن يكون لديْنا شكّ في مَصْدَرها: خالِق الكلّ. يقول يوسف، بالحَرْف الواحد، يا فِرْعَوْن، خِلال السَّنَوات السَّبع القادِمة، ضَعوا قانوناً في كل أنْحاء مصر أن يُخزّن عشرين بالمئة من كل المَحاصيل خِلال السَّنَوات السَّبْع القادِمة لِذاك اليَوم، بعد سَبْع سَنوات في المُسْتَقبل، عندما تَكون هناك حاجَة إليها في أوْقات الجَدَب. بَدلاً من أن تَعيشوا في رَفاهِيَة كبيرة خلال السَّبْع سَنوات من الوُفْرة غير العاديَّة، كونوا حُكَماء واسْتَخْدموا ذلك الوقت للإسْتِعْداد. أظُنّ أن الناس لم يَكونوا مُبْتَهِجين جداً بهذا الحِكم. في النِّهاية، عندما نَظَروا حَوْلهم كان كل ما رَأوه هو الرَّخاء وبَدا المُسْتَقْبل مُشْرِقاً، لا تَلوح أي مَشاكل في الأفُق. لماذا هذه السَّلْبيّة؟ لا شكّ أن الكَثيرين رَأوا أن هذه مُؤامَرة من هؤلاء الحُكّام الهِكْسوس الأجانب البَغيضين لمُجَرّد مُصادَرة الطَّعام من الشَّعْب وإثْراء أنَفُسهم بِطَريقة ما. كَمْ من الصَّعْب أن نُصَدِّق الله بَدَلاً من أعْيُنِنا، خاصَّة عندما تَسير الأمور على ما يُرام. لَكن، يجب على المَرْء أن يُعطي الفِرْعَوْن الكَثير من الفَضْل في أخْذ يوسف على مَحْمَل الجَدّ… والتَّصَرُّف بِناءً على ذلك، وليس مُجَرّد التَّفْكير فيه.

أتَساءَل: هل سَيَكون لدينا الإيمان لِنَفْعَل ما كان هذا الفِرْعَوْن الوَثَني على وَشَك أن يَفْعله؟ هل سَيَكون لَدَيْنا الإيمان لِنَسْمَع من الله أن زَمَن الضِّيق الرَّهيب قد اقْتَرَب وأنّنا نَحْتاج أن نَسْتَعدّ بأن نَضَع جانِباً بَعْضاً من وَقْتنا وثَرواتِنا وأتْعابنا ومَصالِحنا وأنْفُسِنا؟ هل يُمْكِن أن نَحْرُم أنْفسنا عَمْداً عندما نَكون في خِضَمّ الوُفْرة، عندما تَكون الحَياة جيِّدة؟ هل يُمْكِننا أن نَفْعل ذلك بالإيمان وليس بِما نَراه بأعْيُنِنا؟ هل يُمْكِننا أن نَفْعل ذلك عندما يُخْبرنا أفْضَل وألْمَع العُقول وأكْبَر قادَتْنا الدينيِّين المَرْموقين، أنه لا يُمْكِن مَعْرِفة المُسْتَقْبَل… إلا بما يَسْتِطيعون تَمييزَه من مَواقِع سُلْطَتهم؟

أيُّها الأحِبَّة، أتَمَنّى بالتَّأكيد أن نَسْتطيع؛ لأنه قد قيل لنا ذلك. نحن الآن في زَمن الوُفْرة والفَيْض في الوقت الحالي، قبل بِداية أعْظَم تَجْرِبة مرّت بها البَشَرِيّة أو سَتَمُرّ بها البَشَرِيّة على الإطْلاق. كيْف أعْرِف هذا؟ لقد كَشَفه الله لنا. لقد أظْهر لنا في كَلِمَتِه ما هي العَلامات التي يجب أن نَبْحث عنها؛ وقد حَدَثَت وتَحْدُث بالفِعل. لقد أخْبَرَنا بِشَكل لا لُبْس فيه أنه عندما تعود أورشليم إلى أيْدي اليَهود، سَيَشْهد ذلك الجّيل مَجيء الرّب. لقد أخْبَرَنا أيضاً أنه قَبْل أن يَضَع يسوع قدَميْه مرّة أخرى على جَبل الزَّيْتون بِبُضْعة أشْهر، سَيَكون هُناك وَقت رَهيب جداً لِدَرجة أننا لا نَسْتَطيع أن نَسْتَوْعبه. لقد أخْبَرَنا أن نَسْتَعِدّ؛ أن نَسْتَعِدّ بِتَسْليم حَياتنا له. من خلال اتِّباع الحِكمة التي تأتي من الله: العَيْش في حُدود إمْكانيّاتنا والخُروج من الدُّيون والسَّعي إليه بدلاً من المَلذَّات الشَّخْصيّة وتَعَلُّم الإتِّكال عليه ولا شَيء غَيْره. الثِّقة به والإيمان به وليس ما تُخْبرنا به حَواسُنا الجَسَديّة وفِكْرُنا الفاسِد، لأن أولئك الذين لا يَسْتعدّون في زَماننا هذا سَيَخْتَبِرون دَماراً أضْعاف ما كانت مصر على وَشَك أن تَخْتَبِره.

لا يَهُمّ أن مُعْظَم قادَتنا الديّنيّين عُميان عن ذلك، ولا يَهُمّ أن نِخْبَتنا الأكاديميّة تَسْخر منه. لا يَهُمّ أن حُكومتنا ترى كلّ شَيء من مَنْظور الواقع الجُغرافي السّياسي، ولا يَهُمّ أن مُشَرّعينا يَرون الأمور من مَنْظور تحقيق السُّلْطة الشَّخْصيّة والحِفاظ عليها، لأن مُعظَم قادَتنا العِلْمانيّين والدِّينيّين غافِلين عن الواقِع كما كان حُكماء فِرْعَوْن والسَّحَرة. كما ترى، لم يَعْهَد الله إلَيْهم بالحَقيقة: لقد عَهَد بها إلينا… كَنيسَته الحَقيقية. ليس واجهة المُؤَسَّسة الكَنَسيّة بِبيروقْراطِيّاتها وعَقائدها المَصْنوعة من قِبَل البَشَر، بل شَعبه، أتْباعه، الذين تَقَدَّسوا بِدَم المَسيح.

بالنِّسْبة للفِرْعَوْن، كان السّؤال التالي هو من كان سَيتأكّد من أن كل ما يَجِب القيام به قد تمّ؟ كانت الإجابة واضِحة. فالرَّجُل الذي اخْتارَه الله لِتَبْليغ الرِّسالة يجب أن يَكون هو الذي سَيَقوم بالتَّحْضيرات: يوسف.

في أحَد أكثر الأحْداث غير المُحْتَمَلة، يُخرَج العَبْد العبْراني من الزِّنْزانة ويُنصَّب حاكِماً على مَصرْ بأكْمَلها. يَنْتَقِل يوسف من الزِّنْزانة الخارِجيّة إلى سَقيفة والسُّلْطة العليا الوَحيدة عليه هي فِرْعَوْن نَفْسه.

أُقيمَ احْتِفال لِكي تَعْرِف مصر كلّها مَكانة يوسف لَدَيْهم، وكَجِزء من هذا الإحْتفال، أعْطى فِرْعَوْن يوسف إسْماً جَديداً: زافناث بانياس. يَبْدو أن الصِّيغة التي لَدَيْنا لإسْم يوسف اليَوم هي كَلِمَة مصْريّة وعِبْريّة هَجينة. يقول العُلَماء إنها تَعني إما "الله يتكلَّم، يَحيا"، أو أنّها تعني "خالِق الحياة ومُديمُها". لكن الدِّراسات الحَديثة تَضع هذا الأمْر مَوْضع شكّ. من المَنْطِقي أكثر أن يكون هذا الإسم مَصرياًّ خالِصاً، وبالفِعْل، نَجِد أن هناك كَلِمَة شائعة في تَسْمية المَصريّين وهي "ذات-ن-أف"، وتعني "هو الذي دُعِيَ" ويُمْكِن التعرُّف على الكَلِمَة الثانية من إسْم يوسف الجديد "بانيا"، بِسُهولة في الّلغة المَصْريّة. كانت كَلِمَة "بانيا" كَلِمَة مُعْتادة في مصر تعني "الحياة". لذلك من المُرَجَّح أن المَعْنى المَصْري لإسْمه كان شَيئاً على غِرار "هو الذي يُدْعى الحياة".

في أيّامنا هذه، الإسم هو مُجَرّد وسيلة لتَحديد هويّة الشّخص؛ ولكن في العُصور القديمة كان الإسْم أكثر من ذلك بِكثير. كان الإسْم هو سِمْعة الشَّخص. كان بياناً لشَخْصِيَّة الشَّخص وصِفاته أو رُبَّما حتى مَكانته في المُجتمع. وهكذا، عندما تَحوّل يوسف من عبدٍ في البَيْت إلى سجينٍ ثم الى وزيرٍ لِمَصر، كان من الضَّروري أن يكون هناك إسْم جديد؛ إسْمُ يَعْكس نَظْرة فِرْعَوْن لمَكانة يوسف وهَدَفه ولِخَتم تَعيين يوسف وجَعْلَه دائماً… وبِدون شكّ، لتَحقيق وَلاء يوسف… أعطى فِرْعَوْن لِيوسف زَوْجة: أسيناث ابْنة كاهِن. لم يَكُن هذا بالأمر السَّهْل. كان هذا الكاهِن من مَعْبد أون… مَدينة إله الشَّمس. في ذلك الوقت، كان هذا المَعْبد لِتَكريم الإلَه رَعْ، الذي سُمّي فيما بعد أتوم- رع، وكان رَعْ هو الإله المَصْري الأعْلى. فيما بعد، أصْبَحَت مَدينة أون… التي تَبْعُد حوالي سبعة أو ثانية أمْيال شمال القاهرة…. تُعرَف بإسْم هِليوبوليس، مَدينة الشَّمس. لذا، تزَوَّج يوسف من إبْنة كاهِن إله الشمس، رَعْ.

وبمُجَرّد الإنْتهاء من المَراسِم، شَرَع يوسف في التَّنَقُّل في جميع أنْحاء مصر، وأقام نظاماً وحَرِص على توْفير كمِّيّة هائلة من الحُبوب وتَخزينها. لقد قيل لنا أن السَّنوات السِّت التي سَبَقَت المَجاعة كانت وَفيرة… مُصْطَلح الكِتاب المُقَدَّس يعني أنه كانت هناك ستّ سنوات من المَحاصيل الوَفيرة.

مَضَت ستّ سنوات، أي سَنة واحدة قبل بِداية المَجاعة. كان ليوسف الآن وَلَدان من زَوْجته المِصريّة، المَولود الأوّل هو منسّى والأصْغر هو إفرايم. بالمُناسبة، هذه أسْماء عبريّة وليست مَصْريّة. لكن، بِسَبَبْ عادات تلك الأيّام، التي لا تزال هي نَفسها حتى يَوْمنا هذا عند العِبْرانيّين والعديد من الثَّقافات الأُخرى، فإن جِنْسيّة الأم ونَسَبُها يُحَدّدان جِنْسيّة الأبْناء. لذا، على الرَّغم من إسْمَيْهما العبريَّيْن، كان هذان الولدان بلا شكّ طِفْلَيْن مَصريَّيْن. الآن، كان بإمكان الأم الأجْنبيّة لإسرائيل أن تتخلَّى عن جِنْسيَّتها وآلِهَتْها وتُصْبح عَضواً في بني إسرائيل؛ إذا حَدث ذلك، فإن الأم لا تَعُد تُعتبر أجْنبيّة (رغم نَسَبِها) بل عِبريّة. هذا لم يَحْدُث في هذه الحالة. كانت أسينات، أم أولاد يوسف، مصريّة ولا يوجد دَليل على أنَّها تخلَّت عن جِنْسِيَّتها. في الواقع، كان من غير المَعْقول، نَظراً لِمَكانتها كإبْنة كاهِن إلَه الشَّمس وكأميرة مَصريّة، أن تُصْبِح عبرانيّة. احْفَظوا هذه الحقيقة المُهِمَّة عن آسنات ومْنَسّى وإفرام في ذاكِرتكُم. لقد تَحَدّثنا عن هذا الأمر بعِدّة طُرُق من قَبْل: ولكن تَذَكَّروا أن هذين الحَفيدَيْن الّلذيْن لم يَكُن يعقوب على عِلم بِوُجودهما، أفرايم ومنسى، ابنَيْ يوسف هذين المَولودَيْن من زَوجته المَصريّة، هما مَصْريّان بكلّ المَقاييس… أُمَمِيَّيْن. لاحِظ أيضاً أن التوْراة واضِحة في نُقْطتَيْن مُهِمَّتيْن في الآيتين واحد وخمسين وإثنين وخمسين: أوّلاً، أفرايم تَعني "خَصب" بِمَعْنى الوُفْرة. سَنرى هذا في مُباركة يعقوب النَّبَويّة لأفرايم لاحِقاً في سِفْر التَّكوين. لكن، لاحِظ أيضاً أن يوسف لم يُنْظر إلى مصر كَعدوّ بأي حال من الأحوال. بدلاً من ذلك، فهو يرى مصر كَصَديق، بل كَمَكان للرّاحة، حتى أنه يُشير إليها كَنَوْع من الوَطَن البديل. لذا، بينما سنَرى في النِّهاية أن العِبْرانيّين سَيُصْبِحون عبيداً مَصْريّين، سنَجِد أيضاً في الكِتاب المُقَدَّس بَعضاً من فَضْل الله تِجاه مَصر، خاصَّة في أخر أيّام من الأيّام الأخيرة.

حَسَناً، ستَحُلّ المجاعة تماماً كما قال الله. ولكن، يُقال لنا هنا أيضاً شَيئاً غالِباً ما يَتمّ تَجاهله: كانت هذه المَجاعة واسِعة الإنْتِشار. الآن، تقول العديد من الأناجيل أن المَجاعة كانت شديدة في جميع أنْحاء العالَم، ولكن هذا ليس ما يقولُه العِبريون. يقولون أن المَجاعة انْتَشَرت على "بانيم او ذي إريتز" ……. "وَجْه الأرْض". هذا مُصْطَلَح عام جداً وليس مصْطَلَحاً يَسعى للإشارة إلى جميع كِتَل اليابِسة، المَعْروفة وغير المَعْروفة، لِكَوْكَب الأرْض بِأكمَلِه.

مع ذلك، وكما سَنَكْتشَفِ بعد قليل، لم تتأثَّر مَصر وَحْدَها، بل الشَّرق الأَوْسَط بأكْمَله.

لاحِظوا كيف تمّ توزيع الحُبوب المُخَزَّنة. لقد تم تَقْنينها أو بَيْعها. لم يَتمّ توزيع الحُبوب. لقد تمَ العُثور على سِجِلّات مصرية في ذلك الوقت، تصِف المجاعة وكَيْفِيّة توزيع وإيجاد الحُبوب، وهي تُثْبِت تماماً صِحّة سِجِلّ الكِتاب المُقَدَّس الذي سَنراه بعد قليل. ما نعْرفه هو أنّه عندما نَفَدت نقود الناس، تخلّوا عن ماشِيَتهم الجائعة لفِرْعَوْن مقابل الحُبوب، الطّعام الأساسي. وعندما نَفَدَت ماشِيَتهم، تخلّوا عن أرْضِهم وعندما لم يَكُن لدَيْهم أي شيء آخر يَبيعونه، باعوا أنْفُسَهم كعبيد لفِرْعَوْن. بهذه الطّريقة، امْتلك فِرْعَوْن في النّهاية كل الأرض وكل ثَروة مصر. كما أتاحَت له أيضاً إنشاء قُوّة عامِلة هائلة من طَبقة العبيد لِبِناء مَعابِد وطُرُق ومُدُن رائعة. بِقَدَر ما كان هذا الأمْر ساخِراً وقاسِياً، فقد اسْتَخْدم الله هذا المَوْقف لإنْقاذ الأرْواح: وَلِضمان بقاء بني إسرائيل.

فِكْرة أخيرة وسَنَمْضي قُدُماً: أتساءل ما هو رأي الشَّعْب المصْري في يوسف خلال فترة المَجاعة هذه؟ هل يظنّ بأنّه نال الشُّكر لأنه أجبَرَهم على ادِّخار الحُبوب… والإكْتفاء بالقليل منها في وقت الوفرة….. وبالتالي السَّماح لهم بالنَّجاة فيما بعد؟ أم أنه حَصل على اللّوْم وكراهِيّتهم عندما اضطرَّ الكثيرون إلى بيْع أنفُسهم للعُبودية من أجل الحصول على تلك الحُبوب؟ على كل حال، لقد جَعل فِرْعَوْن من يوسف الرَّجُل الأوّل؛ كان يوسف هو المَسؤول الأول عن هذا البرْنامج، وكما رأينا فقد أقام فِرْعَوْن احتفالاً عاماً كبيراً ليوضِح للجميع ما هو مَنْصِب يوسف. كل السّاسة الماكِرين يَضعون شخصاً بينهم وبين الشَّعْب ليكون بِمَثابة حاجِز وشخص يتَحْمِل كل اللوم في آن واحد. عندما تسير الأمور على ما يرام، يقفز السياسي إلى الواجهة ليأخذ الفَضل وإعْجاب الشَّعْب، ولكن، عندما تَسوء الأمور أو عندما لا تَحْظى بِشَعبيّة، يُصبح السِّياسي صامِتاً وغير مَرئي ويتلقَّى الرَّجُل المَوجود في الواجِهة الإنْتِقادات. شَيء ما يُخْبرُني أن المَرارة المُتَبَقِّية من هذا الحَدَث المُتَعَلِّق بمُصادرة الحُبوب من أراضي الشَّعْب المصري الخاصّة، ثم بَيْع ما كان يجب أن يكون حُبوبهم…. غالباً على حِساب حُرّيتهم الخاصّة …… كان له عِلاقة كبيرة بكَيْفِيّة سَيْر الأمور في وقتٍ لاحق، لأن بعد وفاة يوسف وتولّي فراعنة جُدَد ونموّ وازْدِهار عائلة يوسف، العِبْرانيّين، انْقَلَب عليهم شَعب مصر المَحروم. إن أموراً مثل حالة المَجاعة هذه لا يُمْكِن نِسيانها بِسهولة، ولا يُمْكِن أن نتصوّر أن هذا لم يَكُن له عِلاقة كبيرة بِقَلْب مصر الطاولة على عائلة يوسف في النِّهاية، باسْتِعْبادهم.

الأسبوع القادِم، الإصْحاح إثنين وأربعين.