21st of Kislev, 5785 | כ״א בְּכִסְלֵו תשפ״ה

QR Code
Download App
iOS & Android
Home » العربية » Old Testament » التثنية » سِفْر التَثْنِيَة الدرس الأوَّل – المقدِّمة
سِفْر التَثْنِيَة الدرس الأوَّل – المقدِّمة

سِفْر التَثْنِيَة الدرس الأوَّل – المقدِّمة

Download Transcript


سِفْر التَثْنِيَة

الدرس الأوَّل المقدِّمة

نبدأ اليوم دراسة السِفْر الأخير، السِفْر الخامِس من أسْفار التَّوراة، سِفْر التَثْنِيَة . لقد قَطعنا شَوطًا طويلًا، أليس كذلك؟ لقد رأينا حتى هذه النّقطة في التَّوراة خَلْق العالَم والبَشَرِيّة ودمار العالَم (وجميع البَشَر ما عدا ثمانية أشخاص) بطوفان عظيم، ثم إعادة التَّوْطين في الأرض بِسرعة كبيرة. لقد رأينا خَلْق شَعبًا مُخصَّصًا لله، لأن العالَم (بعد الطوفان) سرعان ما أصبح شِرّيرًا مَرَّة أخرى وابتعد عنه. هذا يعني تِلقائيًا أن العالَم انْقَسَم وانْفَصَل إلى مَجموعتين مُتَميِّزتَين: شعب الله والجميع الآخرين. شعب الله يُدعى العبرانيّون والجميع الآخرين يُدعون الأمم.

لم يتم اختيار العبرانيين بسبب نوع من الجدارة الخاصّة من جانِبهم؛ ولم يتم اخْتِيارهم لأنهم كانوا شعبًا عظيمًا (لأنهم لم يكونوا كذلك). السَّبب الدَّقيق لاخْتيارهم غير مذكور بِدِقَّة في الكِتاب المُقَدَّس. في أوقات لاحِقة يقول الله إنه اختار بني إسرائيل بسبب مَحبَّته للبَطاركة إبراهيم وإسحاق ويعقوب (رُغم أن هذا سبب عام وغير مُحَدَّد لاختياره).

لقد أصْدَر الرَّب عَهدين رئيسيَّين، كلاهما لبني إسرائيل: العهد الأوَّل كان لإبراهيم بأن يَنشأ منه الشعب العبراني (الذي سُمِّيَ فيما بعد ببني إسرائيل) وأن يَحصلوا على حصَّة خاصة من الأرض لهم؛ والعهد الثاني على جبل سيناء (للنّاموس) صَدَر من خلال موسى إلى أُمَّة من الناس تُسَمّى بنو إسرائيل. وقد حدَّد هذا العهد الثاني بالضَّبْط كيف كان على بني إسرائيل أن يَعيشوا الحياة المُفتداة التي أرادها الله؛ لذا فقد تألَّف من فَرائضٍ وقواعِدٍ مَدنيّة ودينيَّة وأخلاقيّة. كان يَجِب أن تُطاع هذه الشَّرائع طاعةً صريحةً وكاملةً من دون اسْتِفسار. ومع ذلك، كانت هذه الشَّرائع أيضًا مثالاً مثاليًا يَعكس نَقاء ونَمَط السماء نفسها، ولم يَكُن بنو إسرائيل قادرين أبدًا على اتباع هذه الشَّرائع ومَبادئها وأنْماطها حتى أي دَرجة معقولة.

بنو إسرائيل، كما يبدأ سِفْر التَثْنِيَة ، كانوا حتى هذه النقطة شعبًا بلا وطن. لقد تكوَّنوا ونشأوا كأُمة في قلب الخَطَر، مصر. لقد أنقذهم الله من الخطر وخلَّصَهم وأعطاهم الآن شرائعه وأوامِره حتى يتمكَّنوا من مَعرفة شخصيّة الله وما يُرضيه وما لا يُرضيه. من خلال طاعة هذه الشَّرائع ومراعاة المناسبات المُقَدَّسة الخاصة يُمْكِن تحقيق الانْسِجام مع الله؛ أما عِصيانها وعدم احترامها فقد جَلَب غَضَب الله على رؤوسهم. لقد أنشأ يَهْوَهْ أيضًا مَجموعة نُخبة مُختارة من الناس من بين شعبه المُختار عمومًا: هذه المجموعة هي سِبْط لاوي الذين سَيكونون كَهَنته وخُدّامَهُ وحُرّاس قداسة الرَّب على الأرض.

في هذه اللَّحظة، يَقِف بنو إسرائيل (جميعُهُم، البالغ عَددهم ثلاثة ملايين) على الحافّة الشَّرْقيَّة لنهر الأردن، في موآب، غير بعيد عن أريحا، وموسى على وَشَك أن يُخاطبهم بِخطاب مُثير. هذا الخطاب هو الذي يُشكِّل أساس سِفْر التَثْنِيَة .

أُهنِّئُكم جميعًا على صُمودكم حيث أمْضَينا ما يزيد قليلاً عن ثلاث سنوات للوصول إلى هذه النّقطة في دِراستنا للتوراة. الخَبَر السَّيِّئ هو أننا سنُنْهي سَنَتنا الرابعة معًا قبل أن نُكْمِل سِفْر التَثْنِيَة ونَتخرَّج من التَّوراة إلى الأسفار العديدة التالية من الكِتاب المُقَدَّس العبري، التاناخ. والخَبَر السّار هو أنه على عكس ما قد يكون الكثير منكم قد سَمِعَه، أو ربما افْتَرَضه، فإن سِفْر التَثْنِيَة ليس تِكرارًا على الإطلاق للأسفار الأربعة الأولى من التَّوراة، كما أنه ليس مُلَخَّصًا لها. إذَن ما الذي يُمْكِن أن نَتَوقَّعه في سِفْر التَثْنِيَة ؟

حسنًا، أولاً، دَعونا نُلقي نَظْرة على اسم (سِفْر التَثْنِيَة ) نفسه. يأتي سِفْر التَثْنِيَة من اليونانية ديوتيرونوميون توتو التي تعني "القانون الثاني". كما ذَكَرْتُ في مُناسبات عديدة أن تَرْجَمة اللغة العبريَّة الأصلية إلى لغة أخرى، اليونانيّة، ثم من اليونانيّة إلى اللّاتينيّة؛ ثم من اللّاتينيّة إلى الإنجليزية، مَحْفوف بالمشاكل كما تَتَصوَّرون (وقد أشَرْت إلى بعضها خلال وَقْتنا هذا). فنحن لا نتعامل فقط مع لغات مُختَلِفة ولكننا نَتعامل مع ثقافاتٍ مُختَلِفة أيضًا؛ لذا فإن ما تُشير إليه الكَلِمَة في لغةٍ وثقافةٍ ما لا يكون له دائمًا مقابل مُباشر في لُغة وثقافة أخرى. وقد أدّى ذلك إلى وجود مئة نسخة من الكِتاب المُقَدَّس المَوجودة اليوم، ولكل منها مَزاياها وعُيوبها لطالِب الكِتاب المُقَدَّس الجادّ. إن عنوان هذا السِفْر الخامس من الكِتاب المُقَدَّس هو ضحيَّة هذه الاختلافات اللُّغَويّة والثقافيّة.

لم يطلق العبرانيّون أسماء على أسفار التَّوراة. بل كانوا يَتَحدَّثون عنها باسْتِخدام الكَلِمات العديدة الأولى التي تَسْتَهل كل سِفْر. فالكَلِمات الأولى من عَهْدنا الجديد هي "هذه هي الكَلِمات"؛ لذلك أشار العبرانيّون في البِداية بِبَساطة إلى التَّوراة باسم إيليه ها ديفاريم"(أي "هذه هي الكَلِمات" بالعبريَّة). الإسم الشّائع حاليًا بالعبريَّة هو سِفْر ديفاريم (سِفْر هذه هي الكَلِمات)، وحتى هذا الإسم عادةً ما يُختصَرْ إلى مُجَرَّد سِفْر ديفاريم.

يأتي مُصْطَلَح سِفْر التَثْنِيَة في الواقع من خَطأ في فَهْم معنى الإصحاح السابع عشر الآية ثمانية عشرة التي تقول: "هذه نسخة من تعليم موسى". لا تعني كَلِمَة ديوترونوميان اليونانية "نسخة" بل تعني "ثانية" …. بمعنى "أخرى". لذلك في حين أن العبريَّة تعني "نسخة"، فإن اليونانية تعني "ثانية". لكن الغَرَض من هذا الكِتاب ليس مَجْموعة ثانية من الشَّرائعَوراة ثانية)، بل هو بِبَساطةٍ نسخة مِمّا علّمَه موسى سابقاً، مع تَعديلٍ طفيفٍ للاخْتِلاف في الظروف بين التِّجْوال في البَرِّية كَبَدو، وبين العيش في حياةٍ مُسْتقرَّةٍ في كنعان.

ومع ذلك، ومن أجل التَّواصل بِلُغتنا الأم الإنجليزية، سأسْتَخْدِمْ كَلِمَةسِفْر التَثْنِيَة “ لأنها الكَلِمَة التي نَعْرفها جميعًا.

يعود أقْدَم نصّ مَوجود من سِفْر التَثْنِيَة إلى القرن التّاسع ويُسَمّى النَّص الماسورتي (الذي يَتَضمَّن الكِتاب المُقَدَّس العبري بأكْمَله). إلا أن اكْتِشاف وتَرْجَمة مخطوطات البحر الميِّت (التي يَعود تاريخها إلى ما قبل المسيح) تَحْتوي على أجزاء كبيرة من سِفْر التَثْنِيَة وقد أثْبَتَ الفَحْص أنَّها مُتَطابِقةٌ تقريبًا مع النَّص الماسورتي (باستثناء أخطاء إمْلائيّة أو أخطاء طفيفة من النّاسِخ أو اخْتِلافات نَحَويّة). لذا فإن ما هو مُتاحٌ لنا اليوم دقيق حتى ما لا يقل عن مِئة – مِئتين قبل الميلاد.

العديد من العُلَماء المُعاصِرين لديهم مَيْل لِمُحاولة دَحْض صِحّة أسفار موسى الخمسة (ومُعظَم الكِتاب المُقَدَّس في هذا الشأن). الطَّريقة الأساسيّة التي يَستخدِمونها لذلك تُسَمّى النَّقْد الأدَبي؛ وهناك طريقة أخرى تُسَمّى النَّقد النَصّي، والفِكْرة بشكل عام هي فَحْص النَّصوص القديمة لتحديد ما إذا كان تم تَدْوينها مَنْطِقيًّا بالنِّسْبة للعصر الذي يدَّعون أنه كُتب فيه؛ ويَبْحثون عن علامات تَدُلّ على أنه رُبَّما تمَّ دَمْج أكثر من أُسلوب واحد للكِتابة (مما يُشير لهم إلى تَعدُّد الكُتّاب)، وحتى إذا كان ما قيل مُناسِبًا لما هو مَعْروف أثريًّا عن ذلك العصر. لذلك يُقال الآن أن سِفْر التَثْنِيَة قد كُتب في القرن الثامن قبل الميلاد وليس في القرن الرابع عشر أو الثالث عشر (وهو على الأرْجَح الوقت الذي كان فيه موسى يقود بني إسرائيل للخُروج من مصر).

دَعْني أؤكِّد لك، مع ذلك، أنه لا داعي لتَصديق هذا الاكْتِشاف العِلْمي المَزْعوم الأخير الذي يَقْترب أكثر من كَوْنه بِدْعة. أولاً، إنه ليسَ عِلْميّْ على الإطلاق. لا توجد "اخْتِبارات" أو "معايير" يُمْكِن من خِلالها قياس ما إذا كان هؤلاء الأشخاص على حقّ أم لا. فالأمْر كلّه يَتَعلَّق بالتَّكَهُّنات التي تدور حول نَظْرتهم الذّاتية للعالَم في كثير من الأحْيان. وهذا لا يَخْتلِف عن المَوْجة الأخيرة من أفلام هوليوود عن رجال الكُهوف وكيف أنه لا بدّ أن تكون الدَيناصورات قد عاشَت وعَمِلت في بيئة أرْضيَّة بِدائية. إن نفس العُلَماء الذين يَرْفضون الاعْتِراف بِدِقَّة الوثائق العبريَّة القديمة التي نُسَمِّيها الكِتاب المُقَدَّس لأنه (بالنِّسْبة لهم) لا توجد وثائق خطِّيّة كافية لمُجْتمعات أخرى من تلك الحَقَبة للتَّحَقُّق من صِحّة المُحْتوى، هم أنفسهم الذين يَعْثرون على هياكِل عَظْميَّة لحيوانات أو هياكل عَظْميَّة بَشَرِيّة وبعض لَوْحات الكُهوف الباهِتة ورؤوس رِماح وغيرها من القِطَع الأثريّة المُتَناثرة ويَصْنَعون أفلامًا رِوائيّة طويلة تُظْهِر رجالًا مُشعَّرين يَنْخرون في بعضهم البعض ويَتَقاتلون على نِساء مُشعّرات بنفس القَدَر، بينما يَنْهَشون أضلاع الماموث النَّيْئة. وبالطَّبع يَجِب أن يكون هناك دائمًا تلك الزّواحف الضَّخْمة (المُنْقَرِضة الآن) التي تَركض في مَجموعات وتَتفاعل (بل وتتواصَل بِذَكاء) مع المَخْلوقات الأخرى بِطُرقٍ مُحَدَّدة للغاية. وعلى حدّ عِلْمي، لم يُتْرَك لنا أيّ من هذه المخلوقات، سواء أكان إنسانًا مُشَعّرًا أو زاحفًا عِملاقًا من الزَّواحِف العملاقة ذات الجلد السّحلي، أي وثائق خطِّية من أيام "رَجُل الكهف" هذه. ولكن يبدو أن هؤلاء العُلَماء لا يَجِدون أي مُشكلة في الإصرار على أن رُؤيتهم للماضي القديم مع وجود أدِلَّة حقيقيَّة ضَئيلة هي الرؤية الصَّحيحة.

في حين أنه من المُحْتمَل جداً أن يكون قد حَدَث تَنْقيح لجميع أسفار التَّوراة إلى حدٍّ ما على مرّ القرون، إلا أن الحقيقة هي أن كل جزء من التَّوراة الذي تمَّ العثور عليه (من أي عَصْر) يتطابَق بشكل كبير مع بَعضِه البعض. والدّليل على ذلك أن سِفْر التَثْنِيَة قد صاغَه موسى (أو على الأرجح كاتِبِه) جِزْئيًا، بالإضافة إلى بعض المُساهمين الآخرين، لأن جِزْءًا من سِفْر التَثْنِيَة يعود إلى فَتْرَة ما بعد وفاة موسى. هل يُمْكِن أن يكون بعض التَّنْقيح قد حَدَث في القرن الثامن وهو الوقت الذي يقول بعض العُلَماء أنه تمَّ تأليف سِفْر التَثْنِيَة فيه لأول مَرَّة؟ بالتأكيد، وهذا مُحْتمَل جداً؛ ولكن القَوْل بأن المتن الرئيسي لهذا السِفْر قد كُتب لأول مَرَّة بعد خَمسمئة سنة من سِفْر الخُروج ليس سِوى الشَّكْل الأكثر فجاجة من أشكال الفِكْر العِلْماني أو اللِّيبرالي اليهودي المسيحي الحديث الذي يَسعى إلى مُواءمة الكِتاب المُقَدَّس مع كل ما هو صحيح سِياسيًّا وشائعًا حاليًا بين زُمَلائهم الأكاديميين.

في الواقِع في المسيحية الأولى لم يَكُن هناك أي مَفْهوم لأي شيء سوى التَّوراة التي كَتَبَها موسى؛ حتى في الدِّيانة اليَهوديَّة الأقْدَم بكثير لم يَكُن هناك أي تفكير جَدّي أو مُعارضة لما كان معروفًا بشكل عام بأن موسى هو الذي كَتَب التَّوراة. نَجِد أمثال يوسيفوس فلافيوس، يُصِرّون على أن التَّوراة من تأليف موسى. في النِّهاية، لم تَظْهَر أولى الاعْتِراضات العِلْمِيّة على صِحّة التَّوراة حتى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر في أوروبا، خلال فَتْرَة عصر التَّنوير (عندما اخْتُرِعَت النَّزْعة الإنسانية العِلْمانيَّة واعْتَبر فَلاسِفة التَّنوير المُعادين للسَّاميّة أن الدين نشاط غير ذكي للجماهير غير المُتَعَلِّمة). من الصَّعب بالنِّسْبة لي أن أضع غَطْرَسة هذا النَّمَط من التَّفْكير وعدم عَقْلانيَّته في إطار صارِم بما فيه الكفاية؛ أكاديميون من ثلاثة آلاف سنة بعد وُقوع الأحْداث يُريدون أن يُجادِلوا كتابات المؤرِّخين الذين كانوا حاضرين، أو على الأقل أقْرَب من ألْفَي سنة، للأحْداث الفِعْليَّة كما وَقَعت، ويقولون لهم أن ما رأوه هم، لم يروه. وما عايَشوه، لم يدركوه بشكل صحيح. أرْفُض ذلك رَفضًا قاطِعًا.

سيكون سِفْر التَثْنِيَة سِفْرا مُفاجئًا لمُعظمكم. سيكون مُفاجئًا في المقام الأوَّل في المفاهيم التي يُقَدِّمها بشكل جميل ومُفَصَّل عن الله وأرض كنعان والشَّريعة ومواضيع أخرى مُهِمَّة. في الواقع، أوَدُّ أن أُقَدِّم لكم أن سِفْر التَثْنِيَة هو نَسْخة موسى من عِظَة يسوع على الجبل. إليكم السَّبب:

يبدأ موسى هذا السِفْر بِسَرد كيف وَصَل بنو إسرائيل إلى ما وَصَلوا إليه في هذه اللَّحظة. وأثناء ذلك يَشرَح ما لا يقل عن خمسين بالمئة من جميع الشَّرائع التي أُعْطِيَت في جبل سيناء. وبِعِبارة أخرى، سوف يَسْتَعرض كل النّاموس تقريبًا، نِقْطة بِنِقْطة، ويُخْبِر بني إسرائيل ما الذي يَجِب أن يَسْتَنْتِجوه هو هَدَف الله من هذه الشَّريعة.

سنَجِد أن موسى سيأخُذ النّاموس من مُسْتواه الميكانيكي المادي البَحْت، إلى مُسْتوى روحي أعْلى من المبادئ الإلَهيّة التي تَحْكم كل الأشياء، في أي مكان في أي عَصْر. سوف يَشرَح لماذا وُضِعت بعض الطُّقوس على هذا النَّحو، وما هو الغَرَض الرّوحي منها، والمَبادئ الإلَهية الكامِنة وَراءها، وبالتالي لماذا هي مُهِمَّة ويَجِب أن تُطاع كما أمَر بها.

لذلك سنَجِد موسى يقول أن هذه هي الشَّريعة التي سُنَّت في جبل سيناء، قبل أربعين سنة، وهذه هي الطريقة التي مارَسَها الجيل الأوَّل من الخُروج حتى الآن؛ ولكنَّني سأُخْبِركم ما الذي يَعْنيه كل ذلك، وبينما نَسْتَعِدُّ لدُخول أرض الميعاد، هكذا يَجِب أن نَفْهَمها وكيف يَجِب أن نُنَفِّذ تعليمات الله عندما نَسْتَقِرّ هناك.

وبالطَّبع، في النَّسخة الموجودة في العهد الجديد لخطاب موسى، نَجِد يسوع في سِفْر متّى يَفعل نفس الشيء بشكل أساسي. لقد نَقَل موسى الشَّريعة في سِفْر التَثْنِيَة من المُسْتوى الجَسَدي/السُّلوكي الأوَّلي إلى مستوى أكثر روحانيّة؛ وفي الموعظة على الجبل يأخُذ يسوع العُنْصر الرّوحي الذي أعطاه موسى للنّاموس في سِفْر التَثْنِيَة (الذي فُقِد الكثير منه) ويَنْقله إلى مُستوى روحي أَسْمى وأطْهَر. يقول يسوع (وأنا أُعيد الصِّياغة): "إليكم كيف كان أسْلافكم تاريخيًا يُفكِّرون في وَصِيَّة الله هذه، وكيف أثَّرت عليها تقاليد البَشَر، أما أنا هنا لأُخْبِرَكُم ما يَعْنيه من هنا فصاعدًا وكيف هو في السَّماء".

لّدَينا وَسيط الله الأوَّل، موسى، يَشرَح المَثَل الأعلى للنّاموس في سِفْر التَثْنِيَة ؛ ولَدَينا وسيط الله الثاني والأفضل، وهو يسوع، يَشرَح المَثَل الأعلى للنّاموس في سِفْر متّى. كان سبب وشُروط الشرح الأولى للشريعة في الكِتاب المُقَدَّس على يد موسى، هو مَوته القادم ودُخول شعب الله بعد ذلك إلى أرض الميعاد في كنعان، مَلَكوت الله الأرضي. كان سبب وشُروط التَّفسير الثاني للنّاموس في الكِتاب المُقَدَّس على يد يسوع هو مَوته القادم ودُخول شعب الله بعد ذلك إلى مَلَكوت الله، مَلَكوت الله الرّوحي.

آمل أن يكون هذا مَنْطِقيًّا بالنِّسْبة لك، لعددٍ من الأسباب. أولاً، إذا كنت تَستطيع أن تَفهم التَّشابه الذي رَسمْته لك للتو، فلديك سياق أساسي جيد لفهم سِفْر التَثْنِيَة . ثانيًا، هذا ليس سوى دليل دْراماتيكي آخر على أنماط الله الثابتة التي تبدأ في سِفْر التَّكوين ولا تنتهي أبدًا. إنها تتكرّر، مِرارًا وتِكرارًا؛ ولكن بينما نتحرَّك عبر الكِتاب المُقَدَّس نرى هذه الأنماط تبدأ كمُجَرَّد تُرابٍ وطين (مادي) وتنتقل تدريجيًا إلى مستوى روحي أعلى وأعلى حتى نهاية الكِتاب المُقَدَّس حيث تكون كل النّواميس والأنماط التي وَضَعها يَهْوَهْ في الكمال الرّوحي المُطلَق والنهائي والجَوهر الذي خطَّطه يَهْوَهْ ورَسَمه لخليقته لأنه في الأساس سيأتي وقت تبدأ فيه الخُطوط الفاصِلة بين السّماء والأرض في التّلاشي وتَنْدَمِج تمامًا في النهاية في واحد.

ثالثًا، يُساعد على إثبات أن "حداثة" ما يُسَمّى بالميثاق الجديد (أو العهد الجديد) لا تتعلّق بمجموعة جديدة من المبادئ أو مبادئ إضافية، أو بعض المبادئ (القوانين) التي أُلغِيَت واسْتُبْدِلت بمبادئ مُختَلِفة؛ بل الحداثة هي أن مسيح زمن التَّوراة قد جاء أخيرًا، وهو يسوع النّاصِري، وكل ما وَعد به قد جاء معه أو (في بعض الحالات) تم التقدُّم في المَسيرة نحو العالَم الآتي في نهاية المطاف. وبِعِبارة أخرى فإن قَرْع الطُّبول المُسْتَمِرّ الذي طالما سَمِعناه في الكنيسة عن المَحَبَّة والنِّعْمة والسلام والرَّحْمة والفِداء على أنها وَحي جديد وجَوهر نظام العهد الجديد هو بِبَساطة غير صحيح؛ لقد تمَّ تَقْديمها لأول مَرَّة في التَّوراة، والكثير منها هنا في سِفْر التَثْنِيَة .

والآن اسْمَحوا لي أن أعلِّق على جانب آخر من جوانب هذه العِظَة على الجبل المُوازية لخطاب موسى في موآب لشعب إسرائيل (في الواقع كانت سِلْسِلة من ثلاث خِطابات في سِفْر التَثْنِيَة ): كانت هذه عِظَةً أكثر من كونِها إعادة تقديم لمُدَوَّنة الشَّرائع التي أُعطيت كَوَحي من الله على جبل سيناء. هذا هو السَّبب في أن العِظة على الجبل تُسَمّى عِظَة وليس "وحيًا". لقد كان يسوع يَعِظ ويُعلِّم عن الشَّريعة، ولم يكن يسوع يخلق شريعة ثانية أو جديدة. لقد كان الأمْر نَفْسُه على الجبل في موآب مع موسى كخطيب: كان يَعِظ عن الشَّريعة، ولم يكن يَضَع شريعة جديدة أو يُغيِّر شريعة قديمة. لذا فإن ما سَنَدرسه في سِفْر التَثْنِيَة سيُساعد في تحديد السِّياق، ليس فقط للأسفار التي تليه مُباشرةً (مثل سِفْر يسوع والقُضاة)، بل للعهد الجديد أيضًا.

ربما يكون أحد أصْعب الأمور بالنِّسْبة للمسيحي الذي فَهِم عصر الاستعادة الذي دَخلنا فيه، وحقيقة أن بني إسرائيل في طور تسليم شِعْلة الإنجيل إليهم من قِبَل الأمميّين الذين أخذوا زِمام التَّبْشير لمدة ألف وتِسعُمئة سنة تقريبًا، هو كيفيَّة التَّعامُل مع ذلك القسم من الكِتاب المُقَدَّس الذي أُحيل إلى سَلَّة المهملات لفَتْرَة طويلة: العهد القديم.

نحن الذين نَتكلَّم باعْتِزاز عن الجذور العبريَّة لإيماننا قد ناضَلْنا مع بقيّة إخوتنا وأخواتنا في المسيح الذين يُشكِّلون الجزء الأكبر والأكثر شيوعًا في الكنيسة حول كيفيَّة التَّعامل مع مُدَوَّنة الشَّرائع القديمة جدًا التي نَجِدها في التَّوراة. كيف يُحافظ المسيحي المُعاصر على التَّوراة؟ هل نَتجنَّب ارتداء الملابس ذات القِماش المُخْتلط؟ هل سنُعيد تأسيس مُجتمع يُقَرِّر فيه الذُكور كل شيء؟ هل علينا أن نأكل فقط الطعام المزروع بموجب فرائض الكوشر (الشريعة الغذائية) التَّوراتية؟ هل علينا أن نُعيد إنشاء مُدُن ملجأ لمن يَقتلون بالخطأ؟ هل سنَحْتَفِل بالأعياد التَّوراتية ونَحْتَفِل بالسبت اليهودي؟ هل علينا أن نَتَبنَّى تقاليد يهودية حاخامية مثل ارتِداء الكيباه (غَطاء الرأس الذي يرتديه اليهود) والإحتفاظ باللّحى الكاملة والقراءة من كتب الصَّلَوات اليَهوديَّة؟ هل يَجِب أن نُصِرّ على أن نَجلس بمعزل عن زَوجاتنا أثناء الصَّلَوات الجماعيّة؟

هل يَجِب على النِّساء أن تَعْتَبِرْنَ أنْفُسَهُنّ غير طاهِرات أثناء الدَّورة الشَّهرية وأن تَبْتَعِدْنَ عن أزواجِهنّ خلال تلك الفَتْرَة وتَغْمرنَ أنْفُسهُنّ في "ميكفا" (حوض أو بركة مخصَّصة للطّهارة الطقسيّة في الشريعة اليهودية) عند انتهاء الدَّورة؟ تَرى أن الأمْر هو أن موسى في سِفْر التَثْنِيَة يَلفت الانتباه إلى أن القضية التي يُعالجها في موآب ليست ما إذا كانت هذه الشَّرائع والمبادئ لا تزال قائمة، بل كيْفِيّة تطبيقها وإعادة تطبيقها في ظروفٍ مُجْتمعيَّةٍ مُتَطوِّرة وفي مواقع مُختَلِفة. لقد فَعل يسوع نفس الشيء بشكل أساسي، لكنه كان مُهتمًا في خِطْبته بأمْرٍ لم يَكُن موسى مُضْطرًا إلى مُعالجته؛ لم يَكُن موسى مُضْطرًا إلى أن يقول للناس أن النّاموس سيَسْتمِرّ لأنه كان يُخاطب شعب النّاموس، وأن أي فكرة بأن النّاموس سينتهي لم تكن واردة.

ولكن بعد ألف وثلاثمئة سنة، وعلى تلَّة تَطُلّ على الجليل، كان يسوع يتحدَّث إلى حشدٍ من اليهود والوثنيّين، وكان عليه أن يوضِح تمامًا أنه لا ينبغي أن يُفسَّر أي شيء قاله على أنه يُلغي ولو أدنى جزء من النّاموس، ولم يَكُن يغيِّر أقوال الأنبياء. في الواقع، لا يُمْكِن التفكير في مثل هذا الأمْر حتى زوال السماء والأرض (قال). وبالطبع نَجِد هذا الكلام في إنجيل متّى خمسة، لذلك يا إخْوَتي، انْتَبِهوا جيدًا لسِفْر التَثْنِيَة لأننا سنرى كيف تَطوَّر المُجتمع بعد أربعة عقود، وبالتالي الحاجة العمليَّة للتَّغيير في تفاصيل تطبيق الشريعة لتُناسب حالتهم الجديدة. نحن في نفس الوضع اليوم.

سِفْر التَثْنِيَة ، مثل كل أسفار الكِتاب المُقَدَّس الأخرى، لم يُكتَب في فراغ. إنه ليس كتابًا قائمًا بذاته. سِفْر التَثْنِيَة ، مثل العهد الجديد، سيُساء فهمه ويُساء تطبيقه إذا لم يَقرأ المرء ويَفهم ما جاء قَبْله كأساس. يَفتَرِض سِفْر التَثْنِيَة (كما افترَضَ موسى) أن العديد من الأمور التي ستتم مُناقشتها كانت معروفة ومُسْتَوعَبة في حياة العبرانيّين اليومية منذ زمن بعيد. لذلك لن يَشرَح موسى شروطه لأنها كانت مَعروفة ومألوفة؛ لن يُكَرِّر شريعة من سِفْر الخُروجْ أو سِفر اللّاويّين أو سِفْر العَدَد عندما يريد أن يَعِظ بها، بل غالبًا ما يُشير إلى شريعة أو أمر معيَّن بشكل مُختَصَر لأنه مَفْهوم.

سوف يَسْتنِد موسى إلى حوادِث مثل العجل الذهبي وقضية بلعام وبلاّق، بل وسيتحدَّث عن "ما حَدث لميريم". "ما حدث لميريم" كان سيئ السمعة ومتأصِّلًا في الشعب لدرجة أنه لن يَشرَح ما هو واضِح (أنها عُوقِبت بمرض جلدي بسبب تمرُّدها ونُفِيَت من المُخَيَّم حتى ينتهي مَرضها).

كان لسِفْر التَثْنِيَة تأثير هائل على تَطوُّر التقليد اليهودي الذي سيأتي في المُستقبل البعيد. ولكن حتى قبل ذلك، كان الأنبياء الذين حَمَلوا عِظات الله إلى بني إسرائيل نيابةً عنه سيَسْتخدمون الألفاظ والصُّوَر التي اسْتَخدمَها موسى في هذا الكتاب الذي لا مثيل له.

يأتي ما يُقارب ألفَي أمْر من أوامِر التَّوراة الأصلية البالغ عددها ستّمئة وثلاثة عشر أمْرًا في سِفْر التَثْنِيَة . إن الطريقة التي شَرح بها موسى الشَّريعة هي أقرب إلى الطريقة التي شرح بها الحاخامات (على الأقل في البداية) الشَّريعة، ولذلك فإن الهالاخاه (الأحكام القانونية الحاخامية) الحاخامية لها شكل ونظام أكثر شبهاً بسِفْر التَثْنِيَة من الأسفار الأربعة السابقة للتوراة.

ويُشَكِّل سِفْر التَثْنِيَة جزءًا مُهِمًّا من الليتورجيا اليَهوديَّة القديمة والحديثة؛ فعلى سبيل المثال، تَحْتلُّ عبارة " ‘إسمعوا يا بَنِي إسرائيل" الواردة في سِفْر التَثْنِيَة سِتّة على أربعة الى تِسعة مكانةً مُتميِّزةً في خِدمة الكنيس اليهودي. كما تتخلَّل عبارات أخرى من سِفْر التَثْنِيَة في الصَّلَوات اليَهوديَّة المعتادة مثل الأميدا والألينو.

ولكي أُعِدُّكُم على أفضل وجه لدراسة هذا الكتاب الهائل، أوَدّ أن أضع بعض الأسُس للأمكنة الرَّئيسية التي تَمّت مناقشتها حتى تتمكَّنوا من البحث عنها.

لقد قام ج. هـ. تيغاي، وهو باحِث عِبْرِي مشهور، بعمل بارع في تقييم المَوضوعات الرَّئيسية التي تشكِّل سِفْر التَثْنِيَة ، وبما أنه سيكون من الصَّعْب عليَّ أن أُحَسِّنه سأضَعه كما يراه هو.

على رأس القائمة هو أن المبدأ الأسْمى والأكثر جَوهرية الذي يَستند إليه سِفْر التَثْنِيَة هو التَّوحيد. بينما لا يبدو لنا نحن المسيحيّين واليهود المُعاصِرين أن هذا وَحْيٌ مُزَلْزِل للأرض، إلا أن مبدأ وُجود إله واحد فقط كان غير مَفْهوم تقريبًا لعقل العبراني والوَثَني في ذلك العصر.

لقد حاوَلْت طوال سنوات دِراسَتْنا معًا أن أُشير إلى الحقيقة التي لا مَفَرّ منها، وهي أنه عندما يقول الكِتاب المُقَدَّس أشياء مثل "آلهة"، بِصيغة الجَمْع، و"إلَه الآلِهة ورَبّ الأرْباب"، كان هذا بِبَساطة يَعْكُس ما كانت تؤمِن به كل ثقافة بَشَرِيّة: أنه كان هناك العديد من الآلِهة وكان لكلّ أُمَّة آلِهة خاصّة بها تَرأس منطقة مُعَيَّنة. علاوة على ذلك، أنه بينما كان بنو إسرائيل يؤمِنون بإلَه واحد، لم يَكُن الأمْر أنه كان هناك إلَه واحد في الوجود…..إنه في حالتهم الخاصة لم يَسمَح لهم إلَهَهُم إلا بإلَه واحد. وأنه لم يَسْمَح بأي مُنافسة. ونتيجة لذلك، بالنِّسْبة للعبرانيّين، ولجميع الذين أحاطوا بالعِبرانيّين، كان بنو إسرائيل في نَظَر العبرانيّين يفتقرون الى الآلِهة. كان وجود إلَه واحد فقط أمْرًا مُحْرِجًا للغاية!

وقد حاولت أيضًا أن أُشير إلى أنه من خلال الأربعة أخماس الأولى من التَّوراة، لا نَجِد حقًا أن يَهْوَهْ (أو موسى أو أي شخص آخر في هذا الشأن) يَدفع بِقُوّة بفكرة أنه ليس مَسموحًا لبني إسرائيل بإله واحد فقط، بل أن هناك إلهًا واحدًا فقط في الوجود وهو إله الجميع وكل شيء. حسنًا، يتم تناول هذا الأمْر هنا في سِفْر التَثْنِيَة ويوضِح موسى أنه لا يوجد سوى إله واحد، انتهى. وهو مَفْهوم لا يتقبَّله بنو إسرائيل بشكل خاص، ولا يؤخذ على مَحْمل الجَّدّ، حيث نرى شعب إسرائيل ينتقل من ردّة إلى ردّة، ويَعبدون إلهًا بعد إله، ويُعانون كثيرًا بسبب ذلك.

المَوضوع الرئيسي التالي الذي سنَجِده في سِفْر التَثْنِيَة هو الولاء ليَهْوَهْ. يَسير الولاء جنبًا إلى جنب مع تيار الفكر التَّوْحيدي. والمَنطق هو أنه إذا كان هناك إله واحد فقط، وقرَّر هذا الإله أن يُبارك بَني إسرائيل دون سائر الشعوب، فالجواب الواضح هو الولاء المُطلق له. في الواقع، لا يَقْتصِر الأمْر على عدم عودة بني إسرائيل إلى عبادة آلهة أخرى أو أشياء مثل النجوم والقمر والمذنبات…. بل عليهم أن يَهدموا المعابد والمذابح والمقامات العالية لهذه الآلِهة غير الآلِهة في جميع أنحاء أرض كنعان.

ثم نَجِد أن موسى يُناقِش مَفْهوم الله بأكمله. أخبرني رَجل كان مسيحيًا منذ ما لا يقل عن خمسين عامًا منذ عدة أشهر أنه إلى أن درس التَّوراة معنا لم يُدرك حتى ذلك الحين أنه لم يَكُن يعرف حقًا من هو الله. وأنا أتَّفق معه تمامًا. في التَّوراة، وبالأخصّ في سِفْر التَثْنِيَة ، نَحصل على صورة مُهيبة وموجزة جدًا لصفات الله بحيث يُمْكِننا أن نفهم من هو الله بِعِمِق أكثر مما يُمْكِننا أن نَفْهمه من دِراسة وثائق العهد الجديد فقط .

على سبيل المثال، يتم صَقل قرب الله بشكل أكبر؛ فالله يَسكن في السماء ولكن حُضوره هو الذي يَسكن مع بني إسرائيل. لم يَكُن الله هو الذي كان في النار على قمّة جبل سيناء؛ بل كان كافود الرَّب، أي مَجْده. لم يَنْتقِل الرَّب من السماء إلى مقدس الخيمة (خَيمة البرِّيّة)، لكنَّ مَسكنه هناك يحوم فوق تابوت العهد. وبعبارة أخرى، كما تَحدَّثْت سابقًا، يأخذ موسى الطبيعة المادية النَّموذجية لعالم الآلهة الكاذبة الموجودة، كليًا أو جزئيًا، على الأرض (غالبًا في أشكال حيوانات أو فرعون أو نهر) ويَجعلها لاغية؛ بل يَسْتَحضِر موسى الطابع الروحاني واللا-مادي ليَهْوَهْ كجَوهره الحقيقي.

ومع ذلك، فإن يَهْوَهْ هو إلَهٌ لديه ما يُشبه العواطف؛ فهو الإله الذي يُحِب ويَغْضَب بل ويغار. إنه ليس كائنًا بعيدًا يُهَيِّئ العالَم ويمنح البَشَر قواعد للعيش، ثم يأخذ إجازة طويلة مع لافتة "عدم الإزعاج" مُعلَّقة على بابه. هذا إله يتوق إلى العلاقة الحميمة مع الناس الذين يُحِبّونه.

بعد ذلك، يتم التأكيد على مَوضوع علاقة العهد بين الله وبني إسرائيل. يتم اسْتِعراض العَهْدَين الأوَّلين ومُناقَشَتِهِما. وفي الإصْحاح سِتَّة وعشرين، يؤكِّد موسى أنه على الرغم من أن علاقة العهد لها أساس قانوني وديني، إلا أن العلاقة بين الله وبني إسرائيل تتجاوز العلاقة العاطفية والرّوحية ….. أو المُتَجَلِّية بالرّوحية…..؛ بل إن بني إسرائيل لديهم التزامات مُحَدَّدة يُمْكِن تحديدها للوفاء بها. والوفاء بهذه الالتزامات يَعكس مَوقفًا صحيحًا ويدل على نيّة بني إسرائيل في أن يكونوا مُطيعين للطريقة التي أمَر الرَّب بها بأداء العديد من هذه الالْتِزامات التي يَجِب أن تؤدى، وهذا جِزء لا يتجزأ من علاقة العهد هذه.

هناك الكثير مما يُمْكِن أن تَتعلَّمه الكنيسة الحديثة من ذلك. يَذهب مَوضوع العهد هذا إلى حدِّ ما ليوضِح أن العمل الجَسَدي يَجِب أن يُرافق إيمان بني إسرائيل الرّوحي. وأن مُحاولة الفَصِلْ بين الاثنين هي حَماقة. بعبارة أخرى، الأعمال جزء لا غِنى عنه في مَسيرة المؤمن بالله. اليوم، الأعمال هي عَمليًا كَلِمَة من أربعة أحْرُف داخل جَسَد المؤمنين. لقد تم إضفاء الطابع الرّوحي على كل شيء لدرجة أن ما نقوم به هو أمْر ثانوي تمامًا نسبةً لما نَشعر به؛ أنه بمُجَرَّد أن نقبل يسوع مُخَلِّصًا لنا، ليس لَدَينا أي التزامات أخرى تِجاه الآب ….. كل شيء يُصبح اختياريًّا.

يَتناول سِفْر يعقوب في العهد الجديد هذا الأمْر مُباشرة. الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد يعقوب إثنان على ستة وعشرين: "لأنه كما أن الجَسَد بدون الروح مَيِّت، كذلك الإيمانْ بدون أعمال مَيِّت". ولكن، لم تكن هذه فكرة جديدة؛ فالأعمال المُقْترنة بالإيمان كانت مِعيارًا في اليَهوديَّة لأن هذا المَفْهوم موجود في التَّوراة ومَشروح هنا في سِفْر التَثْنِيَة .

سوف يُفاجَئ البعض منكم أن المَوضوع الرئيسي الآخر في سِفْر التَثْنِيَة هو المَحبَّة. إن المَحَبَّة التي تتم مُناقشتها تتعلّق في المقام الأوَّل بمَحَبَّة الله تجاه بني إسرائيل وبِدَرَجة أقل تِجاه البَشَرِيّة جَمْعاء. رِباط المَحَبَّة هذا يَجِب أن يَنْعَكِس أيضًا في شعب الله، ليس فقط تِجاه الله بل أيضًا تجاه بَعْضهم البعض حتى الأجانِب.

إن من هم بني إسرائيل، في نظر يَهْوَهْ، هو أيضًا مِحْوَر سِفْر التَثْنِيَة . بنو إسرائيل هم أُمَّةٍ إلَهها ومَلِكُها هو يَهْوَهْ. بنو إسرائيل هم بمثابة ابن لله لأنه خَلَقهم وافْتَداهم وأَرْشَدهم في البرِّيّة، ويُحارِب من أجْلِهم ويَحْميهم واختار بني إسرائيل من بين جميع أُمَم الأرض لعِلاقة خاصة وفريدة من نَوعها معه.

من المَوضوعات الأخرى التي سَتتم مُناقشتها بشيء من الإسْهاب في سِفْر التَثْنِيَة هي الأرض التي هي الآن إسرائيل؛ والشَّريعة وضرورة البقاء بأمان داخل حدود السُّلوك والفِكر التي رَسَمها الرَّب لبني إسرائيل. من أكثر المواضيع المُثيرة للاهْتِمام التي سنَكْتَشفها هي عَمَليّة مَركزيَّة مكان العبادة القربانيَّة. أي أن بمُجَرَّد امْتِلاك بني إسرائيل لأرض الميعاد سيكون هناك مكان واحد مُشْترَك حيث يَجِب على الجميع أن يُقَدِّموا ذبائحهم، حيث يوجد المكان الوحيد المُصَرَّح به للتَّكفير.

وكما هو مَركزي جدًا في كل من اليَهوديَّة والمسيحيّة اليوم، يتم التَّرْكيز على موضوع الإنسانيّة في سِفْر التَثْنِيَة . فاليَتامى والأرامِل والفُقَراء والمَرْضى والعبيد والأجانِب الذين يَعيشون بين بَنِي إسرائيل، وحتى الحيوانات والجنود الأَسْرى، يتِمُّ الاهْتِمام بهم حيث يتم حَثّ بني إسرائيل على أن يكونوا إنسانيّين في كل تعامُلاتهم مع مخلوقات الله.

لذلك على الرَّغم من هذا الخطاب الخاطئ بشكل رَهيب الذي كان دَعامةً أساسيَّة لعقيدة الكنيسة لقرون من الزَّمن، وهو أنه في العهد القديم نرى الله الغاضِب، الله المُنْتَقِم، الله القانوني المُتَعَطِّش للدِّماء…..لكن في العهد الجديد نرى الله المُسالِم، الله الرَّحيم والمُضَحِّي بِنَفسه، إلَه النِّعْمة والسَّلام …… هذه الفِكْرة تتحطَّم تمامًا ليس فقط عندما يَدرس المَرْء الأسفار الأربعة الأولى من التَّوراة، ولكن بِشَكلٍ خاص عندما يَدرس سِفْر التَثْنِيَة .

وستبدأ هذه الدِراسة بِجَدِّيّة الأسبوع المُقْبِل.