سِفْر التثنية
الدَرْس سِتّة وعشرون – الإصحاح واحد وعشرون
نَبدأ اليوم الإصحاح واحد وعشرون من سِفْر التثنية، مع طَقْس غَريب جداً يَصعُب على حاخامات اليَهود وحُكماء العبرانيين القدماء تَفسيرُه. حتّى أنّ العُلَماء المَسيحيين لا يُكلِّفون أنفسَهُم عَناء المُحاوَلة. سنَستكشِف هذه الطُقوس ونُحاوِل أن نَفهمَها.
يَنقسِم هذا الإصحاح في الحَقيقة إلى قِسمَين: الآيات واحد إلى تِسعة التي تُناقِش مُشكِلة المُعتَدي المَجهول الذي قَتَل شخصًا؛ ثمّ الجِزء المُتبَقّي الذي يَبدأ قسمًا من أربعة فُصول، يَتناوَل عِدَّة شرائع مُتنوِّعة لإسرائيل.
مِفتاح فَهْم الجُزء الأوَّل من الإصحاح واحد وعشرين هو أنه يَدور حول مَوضوع إثْم سّفْك الدَم.
دعونا نَقرأ معاً الإصحاح واحد وعشرون من سِفْر التثنية. سنَقرأ القِسم الأول فَقط.
إنّ المُقارَبَة المُعتادة لهَذا الإصحاح من قِبَل العُلَماء والمُعلِّمين هي التَركيز على مُحاولَة إيجاد مَعنى لكّل عُنصُر من العناصر الطَقسيَّة التي يَنطوي عليها هذا الكَسْر الغامِض لعُنُق البَقرة (أنثى) الذي يَتِمّ كَرَدّ فِعْل على مُشكلة جَريمة قَتْل لم تُحَل في المُجتمَع المَحَلي. الموضوع الأهَمّ الذي سنَبدأ به اليوم يَتناوَل التَأثير الروحي السَلبي الرَهيب والخَطير الذي تتركُه جَريمة القتْل غَير المَحلولة على البَلْدة الأقرَب إلى المَكان الذي وُجِدَت فيه جثَّة الضَحيّة، وبشكلٍ أكثَر دِقَّة كيف يؤثِّر هذا على إسرائيل كَكُلّ.
تَكمُن المُشكِلة في أنّ خطيئة إثم سَفْك الدَم (أو بالأحرى حالة ذَنْب الدَم) قد أُلقِيَت على إسرائيل نَتيجةً لهذه الجَريمة التي لم تُحَلّ.
دعونا نتحدَّث عن الدَم والإثم الدَمَوي لبَعض الوقْت، لأنّ المؤمنين (خاصَّةً المَسيحيين ذَوي الثقافة الغَرْبية) لا يَعرِفون سوى القَليل جدًا عن ماهِيَة الإثْم الدَموي ولماذا الدَم مُهِمّ جدًا في نِظام الله للعدالة والفِقْه. باختِصار إثم سَفْك الدَم هو حالة خَطيرة من التَدنيس والخَطيئة التي تَلحَق بالشَخص الذي يَنتهِك قوانين الله المُتعلِّقة بالدَم. أوَدُّ أن أبدأ بتَقديم بيان شامِل إلى حدٍ ما على أمَلْ أن أكون قد شرحتُه بعُمقٍ كافٍ في نِهاية اليوم لأعطيكُم مَنظورًا أفضَل حول هذا المَوضوع الحَسّاس: يَقَع الدَم في مَركَز نِظام عدالة الله مِثْل نُقطة الارتِكاز. عندما تتأرجَح بشكلٍ كامِل في اتِّجاه واحِد يَكون هناك تأثير واحِد، وعندما تتأرجَح إلى اتِّجاه آخَر يَكون هناك تأثير مُعاكِس. على أحَدْ الطَرفَين، يَكون سوء استِخدام الدَم هو السَبب في طَلَب الرَب للقَصاص من الإنسان، وعلى الطَرَف الآخر يَكون الاستِخدام السَليم للدَم هو العِلاج لجَريمة الدَم. وبِصِفَتِنا أمريكيين نَعيش في مُجتمَع مُتعِّفف بعِناية، فإننا لا نعرِف شيئًا تقريبًا عن ضَرورة الدَم ودَوْرِه ومِحوَريَّتِه في الكتاب المُقدَّس، لأنّه يُزعِج آذانَنا، ويَجعلُنا نَغُضّ الطَرْف عن أعيُنِنا، ويُثير استياءنا مُجرَّد الحَديث عنه بِعَكْس تَرديد بعض الأناشيد المَسيحية عن دَم مُخلِّصنا الذي يَجعلُنا بِيض كالثَلج من الداخِل.
خلال دِراسة التوراة، نَجِد أنّ الكتاب المُقدَّس لديه هذا الافتتان بالدَم، وفي نفسِ الوَقْت يَضَع قيمة له من حيثُ الضَرورة ودَرَجات التَقدير. كمَسيحيين لدينا عَشرات التَرانيم التي تَحتفِل وتَرْثي ”دَم يسوع الثَمين“. يُحِبّ غير المؤمنين، ولا سِيَّما المُلحِدين، أن يُشيروا إلى ما يَعتبرونَه بَشِعًا وهَمَجيًا أي إراقَة الدِماء وسَفْك الدِماء الذي يَمتَدّ من سِفْر التكوين حتّى سِفْر الرؤيا. يَتجنَّب المَسيحيون العَهد القديم إلى حَدٍ كبير بسَبب سَفْك الدِماء، وفي نفسِ الوقت يُقلِّلون بطريقة ما من دَور الدَم في العَهد الجديد وخاصةً في سِفْر الرؤيا.
عندما يَدرُس المَرء الكتاب المُقدَّس بعِناية نَجِد أنّ الدَم هو العُنصر الرئيسي المَطلوب لعَقْد العُهود وكذلك للتَكفير عن الخَطايا. يُحرَّم أكلُه ويُحرَّم أخذُ دَم (حياة) إنسان بريء. الدَم يُسبِّب التَدنيس من ناحية، ومن ناحية أخرى هو المُطهِّر الأعلى للتَدنيس على الأرْض. بالنسبة للعِبرانيين القُدماء ومُعظم الثقافات القديمة الأخرى أيضًا، كان الدَم أمْرًا أساسيًا ولا غِنى عنه في العِبادة.
لا يُضَيِّع الكتاب المُقدَّس وقتًا في نَقلِنا إلى مَوضوع الدَم لأنّه في الإصحاح الثالث من سِفْر التكوين يُحدِث الرَب نفسه أوَّل مَوت مُسجَّل في التاريخ عندما يَقتُل حيوانًا ويَستخدِم جِلدَه لسِتْر عُري آدم وحواء. لماذا قَتَل الله حيوانًا بريئًا من أجْل تَوفير اللّباس بينما كانت هناك إمكانيات أخرى مِثْل أوراق الشجر أو الصّوف؟ لأنّه من تلك النُقطة فصاعِدًا سيُقال بأن الدَم وحدَه يُمكِن أن يُكفِّر عن الخَطايا ضِدّ الآب. إذًا كان الله مُخيَّرًا: إما أن يأخُذ حياة المُجرمَين (آدم وحواء) أو أن يُقدِّم بديلًا ويَقبَل حياة هذا البَديل كتعَويض وتَكفير عن خطايا المُجرمَين.
هناك مَبدأ آخر من مبادئ الله المُتعَلِّقة بالدَم، وهو أنّ الحياة العُضويَّة المَملوءة بالدَم تَختلِف عن الحياة العُضوية التي لا دَم فيها. أي أنّ الحياة الحيوانية تَختلِف تمامًا عن الحَياة النباتيَّة. الحَياة النباتية، على الرُغم من قيمَتِها، أقَلّ قيمة في نَظَرِ الله من الحَياة الحيوانية. يُمكِن أن تُقدَّم الحياة النباتيَّة إلى الله للشُكْر وكباكورَة للثِمار، ولكن لا يُمكِن أبدًا أن تُكفِّر الحياة النباتية عن الخَطيّة. ويتجَلّى هذا في أنه عندما شَعَر آدم وحتّى حوّاء بالعار، استَخدما الحياة النباتيَّة (أوراق الِتين) لسَتْر نفسَيْهِما. من وِجهة نَظَر عقلانيّة مادّيَة، كانت أوراق التِين تِلك تَعمَل بشكلٍ جيِّد تمامًا في دورِها كلِباس. فلماذا استبدَل الله أوراق التِين تلك بجُلود الحيوانات؟ لم يَجِد الله أنّ تلك الثياب المَصنوعة من أوراق التِين غير مَقبولة لأّنها أساءت إلى حِسِّه في الموضَة، ولم يَعتقِد أنّ جلود الحيوانات كانت أكثر مَتانة؛ بل لأنّ العارَ الذي شَعَر به آدم وحواء كان نتيجَة ذنبِهما، وكان ذنبُهُما نتيجةَ التَعَدّي على الرَب. والتَعَدّي على الرَب لا يُمكِن دَفْع ثمنهِ إلا بالدَم، ولا يُمكِن دَفْعُ ثمنِه أبدًا بالحياة النباتية. لذلك جَعَل الرَب آدم وحواء يَلبَسان نتيجةَ تَعدّيهِما على الرَب، وكان فوق عُريِّهِما الجسدي بقايا الحيوان البَريء الذي أُخِذَ دَمَه للتَكفير عن خطيَّتِهما ودَفِع ثمنَها. لقد أرضى دَم الحيوان روحياً طَلَب الله للعدالة.
ولكن على الرُغم من أنّ فِعْل الخطيئة قد دُفِع ثمنُه، إلاّ أنّ طبيعة آدم وحواء بأكملِها كانت قد أُصيبَت الآن بالخَطيئة؛ لقد خالَفا وصيَّة الله الوَحيدة: لا تأكُلا من تلك الثَمَرة من شَجرَة مَعرِفة الخير والشَر. كان آدم وحواء يعرِفان بطبيعتِهِما أنّ طبيعتَهُما الخاطئة يجِب أن تُغطّى؛ حاوَلا أن يفعَلا ذلك بالحياة النَباتيّة، ولكن الله قال إنّ ذلك غَير كافٍ. الدَم وَحدَه يمكِن أن يُغطّي الخَطيَّة. بالطبْع لم يكُن آدم وحوّاء يفكّران بِوَعي بخُصوص الخَطِيَّة؛ كانا يَعرفان فقط أنّهما يَشعرُان بالعار وظَنّا أنّ السَبب في ذلك هو عريِّهِما الجسَدي. لذلك بَحثا عن عِلاج جَسَدي من خلال التَستُّر عليها. الدَم جَسدي بالطَبع، وكلّ الجَسْد يَحتاج إلى الدَم، لكن الكائنات الروحية مِثْل الملائكة والشيروبيم، وحتّى الشيطان وشياطينِه، لا تَحتاج إلى الدَم لكي تتواجَد. ومَع ذلك فإنّ الدَم الجسدي له تأثير روحي، وهذا التأثير الروحي هو ما يَهُمّ الله ولذلك يجِب أن يَكون مُهِمًّا بالنِسبة لنا.
يَستخدِم الكتاب المُقدَّس مُصطلحًا لوَصْف طقوس إزهاق روح حيوان كَبَديل عن المَوت الذي يَستحِقُّه الإنسان الذي تَعدّى على الله: الذَبيحة. لقد ذكرتُ للتوّ أنّه في وقتٍ مُبكِر من الكتاب المُقدَّس تم إرساء مَبدأ الدَم حيث إنّ الحياة الّتي فيها دم، تَختلِف عن الحياة الخالِية مِنه (الحياة الحيوانيّة مُقابِل الحياة النباتية)؛ ونَجِد في وقتٍ مُبكِر أيضًا أنّ البَشر (مع إدراكهِم لضَرورة التَضحية لله) يُفضِّلون عادةً أن يَفعلوا ذلك بالطريقة الّتي يُفضِّلها كل إنسان وِفقًا لمبادئ الله. وهكذا لدينا مِثال هابيل وقايين اللذين يُطلَب منهُما أنّ يُقدِّما ذبيحة لله، فيأتي هابيل بحيوان وقايين بغَلَّة. وبالطَبع، يُرفَضُ النِتاج لأنّ التقدِمَة تنطوي على التَكفير، وبالتالي فإنّ الحياة النَباتيّة غير مَقبولة لهذا الغَرَض. هذه القاعِدة تُغضِب قايين لدرجَة أنه يقرِّر قَتْل هابيل وهكذا يكون لدينا أوَّل جريمة قَتْل مُسجَّلة. دعْني أُفَسِّرُها بمعنى آخر؛ لدينا هنا أوَّل قَتْل غَير قانوني لإنسان على يَد إنسان آخر. يُطلِق الكتاب المُقدَّس أيضًا على فِعْل القَتْل هذا اسم سَفْك الدَم.
إذَن لدينا الآن مَبدأ آخر راسِخ حول الدَم: إنّ القَتْل غَير المشَروع والظالِم لإنسان يَخلُق إثم سَفْك الدَم على الجاني. والإثم الدَمويّ خَطير بحيثُ لا يمكِن أن يُستَوفى إلاّ بدَم الجاني كتَعويض. إنّ الإثم الدَموي هو تَدنيس شَديد للشَخص الذي ارتكَبَ الجَريمة لدَرَجَة أنه يُسبِّب انفِصالاً فَوْريًا بين ذلك الشَخص والله.
ولكي نَكون واضِحين هناك خَطايا أخرى تُسبِّب أيضًا إراقة الدَم، وإحدى هذه الخَطايا هي أن يَتناوَل الإنسان دمًا من أيّ نَوع. ونَجِد لاحِقًا في الكتاب المُقدَّس أنّه لم يكُن مَسموحًا حتّى زَمن نوح، بعدَ الطوفان العَظيم، أن نأخُذ حياة حَيوان من أجْل الطَعام، فحتّى ذلك الوقت كان المَصدَر الوَحيد المَسموح به للطَعام هو النباتات. وبعِبارة أخرى، حتّى زَمَن الطوفان العَظيم، كان قَتْل الإنسان لحَيوان وأكلُه جَريمة دَم (جريمة ضِدَّ شريعة الله المُتعلِّقة بالدَم)، وبالتالي كان ذلك يَستوجِب إثْم الدَم. ومن هذا أيضًا جاء تَحريم أكْل الدَم، وهو أمْرٌ مُختلِف عن أكْلِ اللحم، فأكْلُ الدَم يَعني إمّا شُرْب دَم الحيوان مُباشرةً، أو قَتْل الحيوان خَنْقًا أو بوَسيلة أخرى لا تَسمَح بإراقة دمِه، ثمّ أَكِل لحمِه أو قد يَعني استِخدام الدَم كمُكوِّن في الطَعام.
إذَن، وببساطة، يَنشأ إثم الدَم عندما يَنتهِك الإنسان أيًا من شرائع الرَب المُتعلِّقة بالدَم: من أكْلِه، إلى قَتْل إنسان ظُلْمًا، إلى إساءة استخدامِه (أو إهمال استخدامِه) في إجراء طَقْسي. إلاّ أنّ قصة قايين وهابيل تُعطينا تَلميحًا قويًّا إلى جانِبٍ سَلبي آخر من جوانب إثْم الدَم. إنّ إثْم الدَم لا يُدنِّس مُرتكِبَه فَحَسْب، بل الأرْض التي وَقَعَ فيها؛ وحتّى مُجتمَع الناس الذي وَقعَ فيه. استَمِع إلى سِفْر التكوين الرابِع فيما يتعلَّق بإحدى النتائج غير المَقصودة لقَتْل هابيل:
تَرجمة الكتاب المُقدَّس المنقحة، تكوين الإصحاح الرابع الآية عشرة، فَقَالَ الرَب: ”مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ يَصْرُخُ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ الحادية عشرة، وَالآنَ مَلْعُونٌ أَنْتَ مِنَ الأَرْضِ مَلْعُونٌ الَّتِي فَتَحَتْ فَاهَا لِتَتَلَقَّى دَمَ أَخِيكَ مِنْ يَدِكَ. الثانية عشرة ”إِذَا حَرَثْتَ الأَرْضَ لاَ تَعُودُ تُعْطِيكَ قُوَّتَهَا، وَتَكُونُ هَارِبًا وَتَائِهًا عَلَى الأَرْضِ“.
لدينا هنا رُبَّما الحالة الأكثَر شُهرَة في الكتاب المُقدَّس عن الإثم الدَموي والنَتيجة هي أنّ الأرض نفسها تتأثَّر. ليس الأمْر أنّ دَم هابيل قد ”لامَس“ التُربة بالضَرورة (مع أنه لا بُدَّ أن يَكون قد لامَسَها بالتأكيد)، ولذلك فإنّ الاتِّصال بين دَم هابيل والتُراب تُسبِّب في تلوِّث ذلك التُراب باللّعنة. أمّا الذَنْب على التُراب فنَتَجَ عن قُربِه من فِعْل القَتْل. لقَد أنتَج تأثيرًا روحيًا سَلبيًّا؛ فالإثم الدَموي جَلَب معَه نتيجة جسديّة وروحيّة. كان لهذا القَتْل تأثيرٌ روحي يَتمثَّل في لَعْن الأرض لأنّ الأرْض تَحمَّلت أثَر الإثم الدَموي الذي ارتُكِب عليها ممّا تَسبَّب في التأثير المادّي على الأرض وتدهْوُرِها وبالتالي عَدَم إنتاجِها للمَحاصيل بشكلٍ جيّد (أو سَهْل) كما كانت تَفعَل قَبْل وقوع الإثم الدَموي.
لا يُمكنُني أن أؤكِّد بما فيه الكِفاية أنّ هذه ليسَت بَعضَ الخُرافات القديمة المُسجَّلة في الكتاب المُقدَّس. إذا لمْ تكُن شرائع الدَم سوى نِتاج خَيال البَشَر الخَصْبة، فإنّ ذبيحة يسوع لم تكُن ضَروريّة على الإطلاق. لذلك أرْجو أن تَفهموا أنّه بينما قد نَجِد مبادئ الدَم والإثم الدَموي هذه غَريبة، إلا أنّها لا تَزال سارية المَفعول بالكامِل، وهي أيضًا السَبَب في أنّ مَسار تاريخ الفِداء قَد سار في طريق هادِف للغايَة. وأنا أشعُر بأسَف شَديد لأنّ أولئك المَسؤولين في كَنيسة المَسيح عن تعليمكُم عن مَبدأ الدَم هذا قد اخْتاروا بدلاً من ذلك أن يَتَّخِذوا النَهْج الأكثر لُطفًا، وأن يَتجاهَلوا ببساطة قَوْل الحقيقة عن العَواقب الرَهيبة للإثم الدَموي الذي يتراكَم على أكتافِنا ساعة بعدَ ساعة. أوَدُّ أن أعالِج ذلك وسنتحدَّث عن ذلك أكثَر بعدَ قَليل.
مع هذا الفَهْم دعونا نُكمِل مع سِفْر التثنية واحد وعشرين ونُحلِّل تلك الآيات التسع الأولى. الحالة الوَحيدة التي يَتمّ مُناقشتُها هنا تتعلَّق بشَخصٍ يَكتشِف ضَحيّة قَتْل ولكن يَبدو أنّ لا أحَد يَعرِف من ارتَكَب هذا الفِعْل والافتِراض هو بما أنه لم يَتمّ التَعرُّف على القاتِل، فلا يُمكِن مُعاقبتُه وِفْقًا للشَريعة (بالإعدام). لاحِظوا أنّ القَضيَّة لا تتعلَّق بالعُثور على القاتِل وتقديمِه للعدالة، بل تتعلَّق بما يَجِب القيامُ به حِيال المُشكِلة الخطيرة للغاية المُتمثِّلة في إراقة الدِماء التي تَقَع الآن على الأرض وعلى أهْل المُجتمَع المَحَلّي.
لاحِظ أنّه تَمّ تَعريف القَضيّة على أنها اكتِشاف الجُثَّة ”في العراء“. تمّ العُثور على هذه الجُثّة في حَقْل أو على جانِب الطريق. من الناحية الفنيَّة، هذا لا يُغطّي ما يجِب القيام به في حالة العُثور على شَخص مَيِّت داخِل مدينة أو قَريَة. ولكن بما أنّه لا يوجَد شيء في التوراة يَتناوَل هذا الفارِق الدَقيق على وَجْه التحديد، فقد افتَرَض الحاخامات والحُكماء أنّ أجزاءً مُعيَّنة من هذه الشَريعة، يُمكِن تَطبيقُها على جريمة قَتْل غير مَحلولة وَقَعت داخل مدينة.
تتحدَّث الآية اثنان عن الشُيوخ والقُضاة (في الواقِع يالعبرية هي شوفيت) الذين سيأتون إلى مَكان العُثور على الضَحيَّة ويبدأون إجراءً قانونيًّا. بما أنّ هذه الشَريعة تتصوَّر تلك الحَقَبَة التي تَستقِرّ فيها إسرائيل في أرْض كنعان، وقد قُسِّمت الأرْض إلى اثني عشر إقليمًا (واحِد لكلّ سِبط من الأسباط الاثني عشر)، فهؤلاء المَسؤولون الحُكوميّون (الشيوخ والقُضاة) هُم بالطَبِع الذين يَتولّون الأمور في إقليمهِم.
لذلك إذا كانت الجَريمة قد وَقَعت داخل إقليم يَهوذا، يَتولّى الشيوخ والقضاة الذين هُم أعضاء في سبِط يهوذا النَظَر في الأمر.
مُهمَّتُهم الأولى هي قِياس المَسافة من موقِع الجثَّة إلى البَلدات القَريبة بعِناية وتَحديد أيّ بَلْدة كانت الأقرَب إلى مَكان الجَريمة. يجِب تَوَخّي الحَذَر الشَديد لأنّه يَتمّ تَعيين الأقرَب للإثم الدَموي الناتِج عن الجَريمة. والآن فكِّروا دَقيقة واحِدة لأنّ هذا ليسَ إجراءً فَكَّرَ فيه رِجال عبرانيون، بل ابتدَعَه الرَب. لاحِظوا كمْ هو حقيقي وحَيَوي خَلْقُ يَهوَهْ لحُكومة بَشرية لإدارة شرائعِه على الأرض، وكَيف يَعتبِر سُلطتهُم في تَحديد مَوقِعِ، سُلطة صَحيحة تمامًا في نَظرِه. يُعتمَد على هؤلاء المَسؤولين الحُكوميين ليُحدِّدوا، بِصِفَتِهم وُكَلاء الله الدُنيَوييّن، أي مُجتمع سيَتحمَّل مسؤولية التعامُل مع إثم الدَم الناجِم عن هذه الجَريمة التي لم تُحَل. البَلْدة التي كانت الأقرَب لم تَتحمَّل الذنْب فحَسْب، بل أصبَحَت مسؤولة عن تَطهير الذَنْب (للتَكفير عنه). فإنْ لم تَفعَل ذلك ظَلّت في ذنبِها الدَموي أمام الله إلى الأبَد.
يَبدأ الإجراء الطَقْسي للتَكفير عن هذا الذَنْب الدَموي في الآية ثلاثة، خلالَه، على شيوخ البلدة القَريبة من مَكان الجريمة أن يُقدِّموا بقَرة لم تُستخدَم قَطّْ في عَمَل ميداني أو لأي غَرَض من أغراض العَمَل بشكلٍ عام. وعليهمِ أن يأتوا بالبقرة إلى وادٍ قَريب وهناك يَكسِرون عُنُقَها ويَقتلونَها.
الوادي هو مَجرى النهَر، الذي يَكون جافاًّ في بعض أوقات السَنة عادةً ويَجري فيه الماء في أوقاتٍ أخرى. التَعليمات المُتعلِّقة بالوادي غير مؤكَّدة وَالتَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ أَنْ يَكُونَ وَادِيًا ”جَارِيًا“ أَوْ ” شَدِيدَ الْجَرَيَانِ“ يتناقَض مع مَوقِع إسرائيل لأنّ هناك القلَيل من الأوديِة المَعروفة التي تَسيل بقوَّة في أوقات مُتوقَّعة (وهو أمرٌ نادِر جداً على الأقَلّ في العَصْر الحديث). لذا فالسؤال المَنطِقي هو بما أنّ المَراسِم يَجِب أن تَتُمّ بالقُرب من جثَّة القَتيل، وعلى مَقرُبة من القَرية المُعيَّنة، وبالتأكيد داخِل حدود أراضي السِبط، فما الذي يحدُث في الحالة الأكثر شيوعًا حيثُ لا يوجَد وادٍ لمَجرى نَهر قويّ؟ تَتَّفِق مُعظَم الدراسات الجَديدة على أنّ ترجمة كَلِمة إيتان العِبرية إلى ”فيضان“ أو ”جريان قَوي“ ليسَت صَحيحة. تَميل الكَلِمة في سِياقات أخرى في الكتاب المُقدَّس إلى الإشارة إلى ”قَوي“ بمعنى ”شَديد“. في الكتاب المُقدَّس على سبيل المِثال، عندما يتحدَّث الكتاب المُقدَّس عن مَلِك (أو حتّى الرَب) يَحكُم بـ ”يَد قوية“ فإنّ الترجمة الأفضَل لمَعنى الكلمات في القَرْن الحادي والعشرين تَكون ”يَد قاسية“. إنَّها تَعني الحُكم من دون تَسامُح، من دون تساهُل، لا تَلين ولا تَتزعزَع. لذلك من المُرجَّح أن هذا يُشير إلى إحضار البَقرة إلى وادٍ إسرائيلي نَموذجي، وهو وادٍ غير ناجِع، أي أنّه وَعْر وصَخري لدرجَة أنّه لا يُمكِن زراعتُه ولا يوفِّر أي ماء مُفيد. يُمكِن لأولئك الذين زاروا إسرائيل أن يتصوَّروا ذلك بِسهولة فالوِديَان هناك جافَّة مُعظَم أيّام السَنة، ولا تتوفَّر فيها المِياه إلاّ في بعض الأحيان على شَكْل فَيَضانات مُؤقَّتة. ستَجِد خَطًّا من الشُجيرات الجافَّة وأشجار الأكاسيا بالعِبرية شَطيم على طول هذه الوِديان، لكنَّها أيضًا مُتَناثِرة في الصخور والتُربة رَملية غير عُضوية بشكلٍ عام. إذا حاوَلْتَ إزالة الصخور لزِراعة الأشياء، فإنّ الفيضان التالي سيَجلِب ببساطة المَزيد من الصُخور. وإذا زَرَعْتَ مَحصولاً ما، فإنّ الفيضانات المُفاجئة ستُدمِّرُه في ثوانٍ قليلة. ليس هذا فحَسْب، فالمِياه المَوجودة تَحت الوادي عادةً ما تَكون على شَكْل تُرْبة رَطِبة على عُمْق عِدَّة أقدام، ونادِراً ما تَكون مُناسِبة لبئر.
لذلك كان الموضوع على الأرجَح مُتعلِّق بإحْضار البَقرة إلى مَكان لا يُمكِن زراعتُه ولن يُستخدَم لزِراعة المَحاصيل أو الحُصول على الماء. هناك حيثُ يقوم شيوخ البَلدة بِكَسْر عُنُق البقرة. دعوني أشير إلى أمرَين حَول هذا الإجراء. أولاً، إنه قاسٍ إلى حَدٍ ما. لا يُمكِن كَسْر عُنْق البقرة بسهولة. ستَكون العملية مؤلِمة وستَستغِرق بعضَ الوقت. ثانيًا، وَرَد ذِكْر هذه الطريقة للقَتْل الطقوسي في سِفْر الخروج (الإصحاحين ثلاثة عشر وأربعة وثلاثين) كوَسيلة لذَبْح أبكار الحيوانات النَجِسَة (الحيوانات التي لا تَصلُح للتَضحية بسبب نوعِها أو غير المؤهَّلة للاستِخدام كقرابين بسبب عيوبِها). لا يوجَد في هذه البَقرة المُستخدمَة في هذه الطقوس ما يُشير إلى أنّها لم تكُن مُناسِبة للتَضحية الطَقْسية أو أنّها كانت نجِسةً بأيّ شكلٍ من الأشكال.
ثم خِلال هذه الطقوس نَرى أنّ الكهنة يتقدَّمون إلى الأمام؛ لا نَعرِف ما هو دورُهُم. يبدو أنَّهم مَوجودون هناك بشكل أساسي لمُجرَّد التأكُّد من أنّ العَمليّة تَتِمّ بشَكل صحيح. هذا يَطرَح نُقطَة مُهمّة جدًا: إنّ قَتِل البقرة رَدًا على اكتِشاف ضَحيّة قَتْل مَجهولة الهَويَّة ليس ذَبيحة. لقد أثبَتَ الله بالفِعْل أنّ الذبيحة لا يمكِن أن تَحدُث إلاّ في خَيمة الاجتِماع (الهَيكل فيما بَعْد)، على أرْض مُقدَّسة، وبالطبع هذا الإجراء الطَقسي الخاص الذي نَدرُسُه يمكِن أن يَحدُث في أي مكان. علاوةً على ذلك فإنّ الكهنة لا يقومون بالقَتْل، ولا يوجَد مَذبَح، ولا يُحرَق الحيوان بالنار.
لذلك فهذه ليسَت ذَبيحة بأي حال من الأحوال بل هي شيء آخر.
هناك جانِب آخر غريب من الطقوس. يَغسِل شيوخ البلدة المُكلَّفين بالإثم الدَموي أيديهِم (بالماء) فوق جِسْم البقرة ويَتلون الإعلان كما هو مَذكور في الآيتين سبعة وثمانية. يَقول كثير من مُترجمي الكِتاب المُقدَّس أنّ هذه الكَلِمات التي يَقولها الشيوخ هي نِذْرٌ لله؛ وأنا أختلِف مَعهُم. عَدَم ذِكْر اسم الله (وهو أمْرٌ لا بُدّ منه في النِذْر) وبُنيَة الجُملة لا تَستخدمِ حَرْف إم العبري في بداية الجُملة، ليَجعلَها نِذرًا. وبعِبارة أخرى، مع تَضمين إم تُصبِح الترجمة ”أقْسِم“، ولكن بدون إم تُصبِح ببساطة ”أعْلِن“. لا تَحتوي هذه الآية في سِفْر التثنية واحد وعشرين على ”إم “، ولذلك ليس لدينا أي سبب لنَستنتِج أنّ ما نَطَق به الشيوخ كان نِذْرًا أو قَسَمًا.
ربّما يَكون غَسْل اليَدَيْن إشارة رَمزيّة إلى براءة الشيوخ من الأمْر برُمَّتِه وأنّهم يقولون الحَقيقة. إنّهم يقولون إنّه لا يَجِب أن يَتحمَّلوا إثم الدَم لأنَّهم لم يَكونوا مُتَوَرِّطين في القَتْل، ولم يَعرِفوا هويَّة القاتِل، ولم يكُن بإمكانِهم توقُّعَه أو مَنْعَه بشكلٍ مَعقول. لقد كان غَسْل اليدين هذا شائعًا جدًا في مَعناه في الشرق الأوسط القديم لدَرَجة أنه يؤكِّد هذا المعنى.
تَذكَّروا أنّه بعد ذلك بوقتٍ طويل كان مَعنى حَرَكة غَسْل اليدين تلك لا يَزال موجودًا كما نقرأ في إنجيل متّى عن بيلاطُس البُنطي وهو يفعَل شيئًا مُماثِلاً في المَحكمة التي انعَقَدَت للحُكم على يسوع بالموت، عندما قال للجَمْع (وهو يَغسِل يَدَيه): ”أنا بَريء من دمَ هذا الرَجُل“. حتّى يومِنا هذا بالذات هو قَول شائع في كلّ مَكان تقريبًا في العالم فنحنُ ”نغْسِل أيدينا من الأمْر“ إشارةً إلى براءتِنا.
والآن نعود إلى إعلان شيوخ البَلدة عن البَراءة. إنّ ما يَرقى إليه تَصريحُهم هو صلاة إلى الله أكثَر من أيّ شيء آخر. الإعْلان لله الذي لَيس نِذرًا هو بحُكْم التَعريف صلاة. في هذه الصلاة يَطلُب الشيوخ مباشرةً من الرَب أن يُبَرِّئهم من إثم الدَم الناجِم عن موت الشخص البَريء (ضَحيّة القَتْل). لاحِظ الفِكرة: بما أنّ هذا الإجراء الطَقسي ليس ذَبيحة، يمكِن أن يَكون له أي صِفة تَكفيريّة؛ يمكن أن يَكون غَرَضُه فقط التَوضيح للشَعب، لِطاعة أوامِر الرَب أيضًا. والحَقيقة أنّ هذه الصلاة هي التّي كانَت مِفتاح الغُفران في هذا الموقِف. والشيوخ يَتَّكِؤون على مكانتِهِم المُخلَّصَة للحُصول على الغُفران كما يَطلُب كل مؤمِن من الله الغفران: نحن مَفدِيّون ومَكانتُنا المَفديَّة تُعطينا الحَق في أن نَطلُب من أبينا الغُفران والرَحْمة (غير المَفديّين لا يتوفَّر لهُم مِثل هذا الشيء).
لاحِظ كَلِمات النِهاية في الآية ثمانية: ”وَيُغْفَرُ لَهُمْ الذَّنْبِ“.
سامِحوني على تَكرار شيء حاولتُ أن أؤكِّد عليه مرَّات عديدة، ولكن هو غير مَفهوم: مِرارًا وتكرارًا في التوراة عندما يَضَع الرَب إجراءات الطقوس التَكفيرية هذه، يَنتهي المَقطَع بقوْل الرَب: ”وسيُغفَر لهم“. يا قَوم، المَعنى واضِح؛ هذه الذبائح الطَقسية (وفي حالتِنا اليوم الصَلاة التي تُقال ضِمن إجراءٍ طَقسي ليس ذَبيحة) تَجلِب غُفرانًا فِعليًّا وحَقيقيًا وكامِلاً لا لِبْس فيه وليسَ غُفرانًا جزئيًا. لقد سَمِعتُ كثيراً من المرّات أنّ الوُعّاظ يَقولون إنّ الخَطايا في العَهد القديم كانت ”تُغطّى“، لكنّها لم تُغفَر فِعليًّا وأنّ الغُفران الحقيقي يَحْدُث فقط في العَهد الجديد. هذا خاطئ تمامًا. هذه المَسألة حول الخطايا ”المُغطّاة“ مُقابِل الخطايا ”المَغفورة“ هي مسألة خاطئة تمامًا. لا يوجَد في الكتاب المُقدَّس، بعَهدَيه القَديم والجَديد، مَفهوم الخطيئة المُغَطّاة وغير المَغفورة. إنّ القَوْل إنّ الخَطيّة مُغطاّة هي مُجرَّد كَلِمة عاميّة من اختيار المترجِم. غُطِّيَتْ، غُفِرَتْ، تَعني نَفس الشيء وهي تَرجمة لنفْس الكَلِمة العِبرية كفير أو كفارة وتَحمِل نفْسَ الوَزن ولها نفسُ التأثير. غُفِرت لأولئك العبرانيين في زَمَن التوراة الذين اتَّبعوا نِظام الذبائح بالفِعل خطاياهُم غُفرانًا كامِلاً. إذا كان المَرْء مُصمِّمًا على التمسُّك بكَلِمة ”غُطيتَ“ في العَهد القديم (ولا يوجَد خطأ في ذلك)، فلا يوجَد أي أساس على الإطلاق لتَغيير المَعنى فجأة إلى ”غُفِرَ أو كُفِّرَ في العَهد الجديد. يَتِمّ هذا التَبديل لمُحاولة إثبات أو تَمويه عَقيدةٌ يُحرِّكها البشر.
إذًا ما الذي أضافَتهُ ذبيحة المسيح وكان مُختلفًا عمّا حَدَث مع الذبائح الحيوانيَّة؟ حسنًا، على الأقَلّ كانت ذَبيحتُه قادِرة على التَكفير عن أشياء لم يَستطِع نِظام الذبائح أن يُكفِّر عنها. كانت ذبيحتُه قادِرة على التَكفير عن القاتِل. كان يُمكِن لذبيحتِه أن تُكفِّر عن عابِد الأصنام. لا يوجَد شيء من هذا القَبيل في نِظام الذبائح كإجراءٍ طَقسي للتَكفير عن القاتِل أو عابِد الأوثان. مِثْل هذا الشخص كان ببساطة ”مَقطوعًا“ (مَفصولاً) بشكلٍ دائم. لقد تَمّ إعدامُه جسديًا وفَصْلُه روحيًا عن الله. ومَع ذلك، إذا اعتَرَف المَرء حقًا وتابَ وَوَثِق بيَسوع، فيُكفَّر ذَنبُه حتّى عن القَتْل. ومع ذلك فإنَّك لا تُعفَى من أخْذِ حياتِك الجسديّة للتَكفير عن الإثم الدَموي، ولا تُفلِت من العدالة الدُنيَوية؛ فقط حياتُك الرّوحية هي التي تَضمَن لك الاستِمرار.
علاوةً على ذلك، فإنّ نِظام الذبائح اللاوية لمْ يَخلُق طريقًا يمكِن للإنسان أن يَستبدِل به طبيعتَه الشرّيرَة بطَبيعة مُقدَّسة جَديدة. ونتيجةً لذلك لم يَستطِع أي إنسان أن يَجِد طريقَه إلى السَماء. بدلاً من ذلك في العَهد القديم، إذا مات الإنسان وهو في حالة استِقامة، بموجَب قوانين التوراة، فإنّ روحَه أو نَفسَه تَذهَب إلى مكان يُسميّه الكتاب المُقدَّس ”حِضْن إبراهيم“.
لم يكُن حُضْن إبراهيم هو الجَنّة، لأنّه لا يُمكِن أن تَتبدَّل طبيعة أيّ إنسان بطَبيعة جديدة مُقدَّسة وأن يَكون طاهراً بما يَكفي لدخول الجَنّة. صَحيحٌ أنّ ذبائح عُلى ومينشا تعامَلَت مع الطبيعَة الخاطئة للإنسان إلى الحَدّ الذي سَمَحت فيه الذَبيحة للإنسان أن يَكون على اتِّصالٍ مع الله وفي سَلامٍ معه. لكنَّها لم تُطهِّر طبيعة الإنسان النَجِسة. لقد مَهَّدَت ذبيحة المَسيح الطريق لروح الإنسان الطَبيعية الخاطئة (طبيعتُه) لتُستبدَل بروح القُدُس (طبيعة جديدة مقدسة). بهذه الطبيعة المُقدَّسة الجديدة يُمكنُنا أن نَقِف أمام الله في سَمائه.
وبالطَبع كان هناك بالضَرورة لذَبيحة في ظِلّ نِظام الذبائح اللاوية فكُلّ يومٍ جديد كان يَتطلَّب ذبائح جَديدة لأمَّة إسرائيل، وكلّ خَطيّة جَديدة تتطلَّب طقوس تَكفير إضافية. ومَع ذلك لم يكُن هناك سوى ذبيحة واحِدة من يسوع (عن نفسِه) كانت تَفي بالعديد من الذبائح المُختلِفة وكانت تَعمَل بطريقة لا تَحتاج إلى ذبائح إضافيّة إذا أخطأت مرَّة أخرى.
وأخيرًا، كانَت ذبيحتُه قادِرة (بشكلٍ عام) على التَكفير عن الخَطايا المُتعمَّدة، بينما لم يكُن في نِظام الذبائح مِثْل هذا التَكفير. أُذكِّر أولئك الذين سمِعوا منّي من قَبْل كَلِمة ”غَير مقصودة“ فيما يتعلَّق بالخطايا غير المُتعمَّدة، أنّها ليسَت نفسُها كما (في المُفردات الحديثة) لمُصطلَح ”غير مَقصودة“؛ إنها مُتشابِهة ولكن هناك اختِلافات دَقيقة ولكنّها مُهِمَّة.
هذه هي الاختِلافات الرئيسية بين ما فعَلتْهُ ذبيحة يسوع على عَكْس ذبيحة الثيران والخِراف. لكنّ كَمال الغُفران من الله كان واحِدًا في كِلَتا الحالتَين.
والآن نَعود إلى جوانِب أخرى من الإثم الدَموي. آمَل أن تَكونوا قد بدأتُم تتَلقَّوْن صورة أفضَل عن مَعنى الدَم وما هو مَعنى الإثم الدَمَوي ومَدى خطورتِهِ. عندما أقوم بالمُناولة، يَعرِف الحاضِرون أنني أقرأ دائماً آية مُعيَّنة قالَها بولُس في واحِد كورنثوس؛ وهذه الآية تتناوَل بالضبط ما كنّا نناقشُهُ: إثْم الدَم.
ترجمة الكتاب المُقدَّس المنقحة، واحد كورنثوس الإصحاح الحادي عشر الآية سبعة وعشرون، مَنْ يَأْكُلُ الْخُبْزَ أَوْ يَشْرَبُ كَأْسَ الرَب بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُذْنِبًا بِتَدْنِيسِ جَسَدِ الرَب وَدَمِهِ. ثمانية وعشرون فَلْيَتَفَحَّصِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ فَيَأْكُلَ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبَ مِنَ الْكَأْسِ.
لاحِظوا أنّ الإنسان يَكون آثماً بدَم المسيح إذا اشتَرَك في ما أصبَحْنا نُسمِّيه ”المُناوَلة“ وهو غير مُستَحِقّ لذلك. بحسَب أفضَل فَهْم لي لما يَعنيه غير مُستحِقّ في هذا السِياق، أعتقِد أنّه يَعني أ) أن يَكون غير مؤمِن، و/أو ب) شخص قد يدَّعي أنّه مؤمِن ولكنَّه سَقَط بعيداً جداً عن الوِحْدة مع الله بحيثُ لا تنفعُه ذبيحة المَسيح.
لا يوجَد سوى استثناء واحِد في كلِّ الكِتاب المُقدَّس يَسمَحُ بالشُرْب الرَمزي للدَم (أو في هذا الشأن، الأَكِل الرَمزي للجسد البَشَري)؛ وهو المناوَلة. إنّ ارتِباط يسوع بِشُرْب الخَمْر في عيد الفِصح كرَمْز لدمِه ليس له مَثيل على الإطلاق في الكتاب المُقدَّس. كان الخَمْر مُرتبِطًا دائمًا بالفَرَح، وليس الدَم أبدًا. كان شُرْب الدَم الحقيقي أو الرَمزي بالنِسبة للعبراني شُرْبًا حقيقيًا أو رَمْزيًا فَظيعًا ومُثيرًا للاشمئزاز لدرجَة أنّني لا أعتقِد أنني أمْلِكُ الكَلِمات للتَعبير عنه. أمَرَ يَهوَه بهذا الاشمئزاز من تناوُل الدَم وزَرَعَه في نفوسِهم، وهو ما توضِحُه شرائعه الكثيرة عن الدَم (وقد ناقشْنا العَديد مِنها اليوم). إنّ خُطورة هذا المَوقِف فيما يتعلَّق بأكْل الدَم تَغيب عن المَسيحي العادي. هناك قصة رائعة في إنجيل يوحنّا قد تَكون أكثر مَنطقيَّة بالنسبة لك.
اقلِبوا إنجيلكُم على إنجيل يوحنّا الإصحاح ستّة الآية تسعة وأربعين إلى تسعة وستّين
اقرأ يوحَنّا الإصحاح ستّة الآية تسعة وأربعين إلى تسعة وستيّن
في الآية واحِد وستّين، بعدَ أن أعْلَنَ يسوع الضَرورة المُطلَقة لأكْلِ جَسَدِه وشُرْب دَمِهِ، يَسأل سؤالاً بلاغياً بينما كان يُشاهِد العديد من أتباعِه يَبتعدون عَنه (ربّما أُضيف عبارة ابتِعاد في اشمئزاز). سؤالُه هو: ”هل هذا يُسيء إليك؟ ما هو ”هذا“ الذي يُشير إليه؟ بالطَبع كانت هذه الرِسالة عن أكْل دَمِه هي التي سبَّبَت اشمئزازًا مُطلَقًا حتّى بين أولئك الذين كرَّسوا أنفُسَهم له! ثمّ يَمضي ليَقول إنّ هذا الكَلام ”بالرّوح“، مُشيراً إلى ما نَعرِفُه جميعاً بطبيعتِنا، وهو أنّه لم يكُن يتحدَّث بأي حال من الأحوال عن أكْلٍ جَسَديّ حَرْفّي للّحم والدَم، بل كان ذلك رَمْزاً لقَرارٍ روحي بالاتِّحاد الكامِل معَه.
بَعد مَوت المسيح بوقتٍ طويل، يُحذِّر بولُس في واحِد كورنثوس من أنّ غَير المُستحقيّن لا يَنبغي أن يَشرَبوا من دَمْ يسوع (تناوُل جَسدِه) وإلاّ سيَحمِلون إثْم الدَم. وما هي عُقوبة إثْم الدَم؟ إذا كان الجاني مَعروفًا، يجِب أن تُزهَق روحُه. والقاعِدة المَركزية للدَم في نِظام العدالة الإلهية هي أنّه عندما يُسفَك دَم بريء، فإنّ دَم المُذْنِب مَطلوب من الله كجَزاء له، لا استثناء ولا تَبديل. وهذا الدَم المَطلوب من المُذْنِب ليس دَم كفّارَة، بل دَم قصاص. إنه دَين مُستحَقّ لله.
أريدُ أن أُنهي هذا الدرْس بالإشارة إلى بَعض المبادئ الإضافية لإثم سَفْك الدَم. وسَبَب إشارتي إلى ذلك فهو تَحَدٍّ لنا جَميعًا. نحن نَعيش في أرض مُلوَّثة بالإثم الدَموي لدرَجة أنّه يُمكِن التنبّؤ بمُستقبلِنا الوَطَني تمامًا: الدَمار مع بَقيّة العالَم. كيف يُمكِن لنا، نحن الأُمَّة المَسيحية المُفترضَة، أن نَستَحِقَّ إثم الدَم وأينَ يكمُن إثم الدَم لدينا؟ في رَفْضِنا أن نأخُذ حياة القَتَلة ونَقول بدلاً من ذلك أنه من الأفضَل أن نَسجُنَهم ببساطة حتّى يَموتوا في نهاية حياتِهم الطبيعية نِسبيّاً.
الكَثيرون من الكَنيسة (والكَثيرون من اليَهودية) يُسَمُّون هذا رَحْمة إنسانية. لقد كان لدَينا مؤخَّرًا تلك الحالة المُرْوِعة لإرهابي مُسلِم غَير تائب خَطَّط وَنفَّذ تَفجير الطائرة التي انفجَرَت فوق لوكربي في اسكتلَنْدا ممّا أسْفَر عن مَقتَل ما يُقرِب من ثلاثمئة شَخص، وقَد تمّ إطلاق سراحِهِ من السِجْن ”لأسبابٍ إنسانية“. لم تؤخَذ حياتُه بسبب هذه المَجزَرة، وتَم ّإطلاق سراحِه لمُجرَّد أنّه مريض (استِنادًا إلى فَلسفَة إنسانيّة عِلمانية بَشِعَة عن الرَحمة والمَغفِرة). لكنّ الله يَقول إنّ مِثْل هذا الأمْر هو رَفْضٌ لطاعَة وصاياه. القَتْل يَجلِب إثم الدَم على الأرْض والمُجتمَع، وليس فقط المُجرِم. الطريقة الوحيدة لغُفران هذا الذَنْب الدَمويّ هي بإزهاق روح القاتِل. هذه هي شريعة الله. لقد رَفَضَتْ أمَّتُنا القيام بذلك في العَديد من الوِلايات، لعُقود من الزَمَن وحتّى الولايات التي تُطبِّق عقوبة الإعدام، وَجَدَت أسبابًا لا حَصْر لها للإبقاء على حَياة القاتِل بإصرار وتَرصُّد. نحن نَعيش جميعًا اليوم في أرْض غارِقة في إراقة الدِماء، والرَب سَيَتصرَّف.
ومرَّة أخرى، هناك طريقة واحِدة فقط مُقرَّرة للتَعامُل مع إثم الدَم، وهي إعدام الجاني وإلاّ فإنّ المُجتمَع كلُّه سيَتحمَّل الذَنْب مَعَه.
السؤال الذي يَجِب أن يكون قد طَرَحَه الآن أي مَسيحي قد خُلِّص ولَو لبِضْع سنوات هو: ”لماذا مَعرَكة هرمجدون القادِمة بقيادة مُخلِّصنا دَمَويّة جداً وبدون رَحمة؟ أنتَ ترى أنّ هرمجدون هي حَرْب مُقدَّسة للإبادة الكامِلة والمُطلَقة. إنها تُشبِه إلى حَدٍ كبير طوَفان نوح حيثُ كان الناجون الوحيدون هُم من كانوا على مَتْن السَفينة. الناجون الوحيدون من حَرْب هرمجدون في العالَم بأسرِه سيَكونون أولئك الذين اعتَنَقوا يسوع قَبْل بَدء المَعركة. أولئك الذين سيُحاولون الإيمان بيَسوع أثناء المَعركة سيَنالون نَفْس المُعاملة التي ينالُها أولئك الذين لم يؤمِنوا: الهَلاك.
يُدعى المسيح المُنتقِم بالدَم في مَعركة هرمجدون. هل تَفهَم الآن مَعنى هذا المُصطلَح؟ لقد أعْلَن الرَب أنّ العالَم بأسرِه مُذنِب بإثم الدَم. نحنُ في هذه القاعة مُذنبون بالدَم لأننا (من بين أمور أخرى) جُزء من أمَّة لا تَكتفي بعَدَم مُحاكمَة أطبّاء الإجهاض، بل وتَجعلُه قانونيًا وتُعلِنُه صالِحًا. نحنُ في هذه القاعة مُذنبون بالدَم لأنّ لدينا في أُمَّتِنا قَتَلة مُدانون لا تُزهَق أرواحُهُم لتبرئة دَمِنا، وبدلاً من ذلك يَقضون ببسَاطة أحكامًا طويلة بالسِجن؛ لذلك بما أنّنا لا نَفعَل ما هو مَطلوب لإزالة ذَنْب الدَم، فإنّ الرَب يُرسِل مُنتقِمَه الدَموي، يَسوع المَسيح ليَفعَل ما وَرَد في الناموس: دَم المُذنِب مَطلوب لسَفْكِ دَم البريء. والجَماعة أو المُجتمَع الذي يَرفُض تَطبيق عدالة الله على المُذنبين بالدَم هو مُذنِب بالانتِماء.
اسمَحوا لي أن أشير إلى أنّ هذه ليست دَعوة أو ذَريعة للاقتِصاص. لدينا نِظام عدالة، وعلينا أن نَعمَل جاهِدين على تَغييره. لكنَّه يُشير أيضًا إلى إحدى الأسباب الرئيسية التي تَجعلُنا بحاجَة إلى دِراسة كَلِمة الله بدقَّة، والإسراع في قُبول ما فَعَلَه يسوع المَسيح من أجلِنا وما قد دَفَع المَسيح ثَمَنَهُ. لكن هذا يَنطبِق فقط على أولئك الذين يَثِقون حقًا في هَويَّتِه وما فَعَلَهُ.
في الأسبوع القادِم سنُكمِل سِفْر التثنية واحد وعشرين حيثُ يتعلَّق الأمْر بالعائلات والغنائم البَشَرية للحَرْب المُقدَّسة.