سِفْر التثنية
الدَرس سبعة وثلاثون – الإصحاح سبعة وعشرون
في المرَّة الأخيرة التي التقَينا فيها كنّا في جُزء من قُسْمٍ جديد من سِفْر التثنية يُغطّي الإصحاحات ستَّة وعشرون إلى ثلاثين. ما يَجعَل هذا القُسم مُختلفًا اختِلافًا جوهَريًا عن الإصحاحات الأربَعة عشر السابقة هو اختِلاف طبيعة الخُطْبة الّتي يُلقيها موسى فقَد كانت الإصحاحات من الثانية عَشَرة إلى سِتّة وعشرين تَتلو الجُزء الأكبَر من الشَريعة التي أُعْطِيت لإسرائيل قَبْل أربعين سنة تقريبًا في جَبَل سيناء. علاوةً على ذلك فقد تمَّ من خلال عِظَةٍ شَرَحَ موسى خلالَها المَعنى والتَطبيق الحياتي للعَديد من تِلك الشرائع والأوامِر التي أُعْطِيت قُرْب بداية رحلتِهِم.
في هذا القسم نَنتقِل إلى بعض الجوانب الغامِضة في توراة الله حيثُ يتمّ الإعلان عن البَرَكات واللَعْنات، ويتّم تَقديم نبوءات عن الأحْداث المُستقبليَّة المُتعلِّقة بإسرائيل (على الرُغمِ من أنّ شَعب إسرائيل لم يَفهمْ الطبيعة النَبَوية لما قيل)، ويتمّ التَلميح إلى حقائق روحيّة عَميقة وغامِضة، ويتمّ وَضْع تَحذيرات وإنذارات مُباشرة. نَتيجةً للطبيعَة الاستثنائيَّة لهذا القُسم، سنَستريح هنا لبَعض الوقْت وسأتعمَّق في بعض جوانِب الأمور الأكثرْ تَعقيدًا وغموضًا التي لا يُسمَح الانتقال السَريع لها.
كثيراً ما يُقال إنّ الإصحاح السابع والعِشرين ليس في مكانِه الصَحيح، ويبدو كما لو أنّ كاتِباً ما أراد أن يوضِح نِقطَة مُعيَّنة، أو أن يوضِح بعضَ المَعلومات السابِقة. يَعتقِد بعض العُلَماء أنّ أحَدَ المُحرِّرين القُدَماء اكتَشَف تقليدَيْن (أو أكثر) مُختلِفَين قليلاً حول هذه الأحداث، وببساطة أدْرَج كلاهُما من دون أن يَهتَمّ بالصُعوبات التي يُمثِّلُها القيام بمِثْل هذا الأمْر. يُفضِّل عُلَماء الكتاب المُقَدَّس المُختصّون الآخرون ببساطة تَخَطّي الإصحاح سبعة وعشرين تَمامًا، والانتِقال مُباشرةً من الإصحاح السادس والعشرين إلى الإصحاح الثامن والعِشرين، وعِندها سيَكون تطوُّر الأحداث أكثَر مَنطقيّة في أذهانِهم. لا يمكنني أن أقول على وَجْه اليَقين إنْ كان ذلك الحال؛ ولكن يُمكنني القَوْل أنه يجِب على المَرْء أن ينظُر بِعِناية فائقة في الإصحاح سَبعة وعشرين وإلا فإنّنا نَحصُل على فِكرة خاطئة عمّا يَحدُث بالفِعل، بل ويُمكِن أن يكون الأمر مُربِكًا للغاية.
لِنَقرأ الإصحاح سبعة وعشرين من سِفْر التثنية بأكمَلهِ.
اقرأ الإصحاح السبعة والعشرين من سِفْر التثنية كلِّه
الشيء الذي يَجِب أن نفهمَهُ هو ما يلي: ما نشْهَدُه هو احتفالات تَجديد العَهد. على الرُغم من أنّ العَهْد الموسوي قد تَم الاتِّفاق عليه وتَسليمُه قَبل أربعة عُقود تقريبًا في البريَّة، إلا أنّ الله الآن (من خلال موسى) يَدعو شَعب إسرائيل إلى تَجديد عهودِه فيما يتعلَّق بالتزامِه بهذا العَهْد، وأن يتذكَّر كيف ولماذا أُقيم في المَقام الأول.
لقد قُلتُ إننا نَشْهَد احتفالات تَجديد العهد…بالجَمْع…. رغم أنّ الأَمْرَ قد لا يَبدو كذلك في قراءة عادية. كيف توصَّلتُ إلى هذا الاستنتاج؟ دعونا ننظُر إلى الحقائق.
كان موسى يَتكلَّم (على الأقَلّ في جُزء من الوقت)؛ ومع ذلك كان هناك نِداء للإحتفال بعد عُبور إسرائيل نَهر الأردن واستيلائها على كَنعان. كذلك تَقول الآية تسعة أنّ موسى مع الكَهنة اللاوييّن تَكلَّم بالكَلِمات التي قيلَت للشعَب؛ وهذان الظرْفان لا يُمكن أن يَكونا قد حدَثا في نفْس الوَقت لأنّ موسى مات قَبل عُبور إسرائيل للأردن. إنّ عدَم السَماح لموسى بالدُخول إلى أرض الميعاد كان عِقابًا فَرَضَه عليه يَهوَه رَدًا على حادثة ضَرْب موسى الصَخرة لتَخرُج الماء بدلاً من أن يتكلَّم إليها كما أمَرَه ُالله.
نعلَمُ كذلك أنّ إسرائيل عَبَرت إلى كنعان فوق الطَرَف الشمالي للبَحْر المَيْت في مَكان يُسمّى جِلجَل، على مَرمى حَجَر من مدينة أريحا القديمة. ومع ذلك، في الآيات التي تَسبِق الآيات التي نقرأها اليَوْم، يَبدو كما لو أنّ احتفالَ تَجديد العَهد هذا يجِب أن يَتِمَّ ”فوراً“ عند عُبور الأردن (الذي كان في جِلجَل)، ولكن من نَاحية أخرى يجب أن يَتِمَّ على قِمَتَيّ جَبَليّ عيبال وجريزيم التوأم. تكمُن المُشكِلة في أنّ هذَين الجبلَين يَبعُدان ثَلاثين ميلاً إلى الشَمال من جَبل الجِلجَال وأريحا، وبِسَبَب موقِعِهِما وعدَد الأشخاص الذين سيَحضرون، كانت الرِحلة رُبَّما ستَستغْرِق حوالى أسبوع.
إذًا هذا يَعني ظاهريًا تَواجُد موسى في كِنعان، في جَبَل عيبال، وفَوْر عبورِه الأردن قاد الكَهَنة في احتِفال تَجديد العهد (وهذا لا يَتوافَق مع أي كتاب مقدَّس آخر). دعونا نَرى ما إذا كان بإمكانِنا فَكّ هذا التَشابُك. ما نتعامَلُ مَعه هو على الأقل اثنَين وعلى الأرجَح ثلاثة احتفالات مُختلِفة لتجَديد العَهد. عندما يتُمّ تَحديد موسى على أنَّه الشَخص الذي يتكلَّم، يُمكننا أن نَعرِف على وَجْه اليقين أنّ هذا الجُزء من الوَحِي حَدَث على جِبال موآب قَبل أيام قليلة من مَوتِه (بَعد حوالى شهر من عبور إسرائيل إلى كنعان). لذلك يُذكِّر موسى وهو يَقول لِبَني إسرائيل بينما كانوا يَستمِعون إلى هذه الخُطبة المُطوَّلة (أي الجزء الأكبر من سِفْر التثنية) بالكَلِمات الوارِدة في الآيتين تِسْعة وعشَرة. بعد ذلك لدَينا في الآيات الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة تَعليمات من موسى بشأن ما يَجِب أن يَفعَلَه الشَعب فيما بَعد، بعد موتِه وبعد أن يَصِل إلى كَنعان. وبَعد ذلك تقول الآية الرابعة عشَرة” اللاويون يُنادون بصَوتٍ عالٍ لكلِّ رَجُل من بَني إسرائيل……“؛ ولا تَقول شيئاً عن انضِمام موسى إليهِم. يبدو هذا مُتناقِضاً مع الآيات السابِقة الّتي تَقول إنّ موسى يتكلَّم مع اللاويين.
إذَن ما لدينا هو تَغيير في المَوقِع بين الآيتين الثالثةَ عَشَرة والرابعةَ عشرة. في الآية الثالثةَ عَشَرة، يتكلَّم موسى من موقِع موآب وفي الآية الرابعة عَشَرة، المَوقِع هو داخِل كنعان مع الكَهَنة اللاويين الذين يَنطُقون بالبَرَكات واللعْنات.
إذًا بَحسَب قراءتِنا اليَوْم، كان الوَضْع الحاضر اجتِماع الشَعب العِبرانيّ في موآب للاستِماع إلى خُطبَة موسى الكُبرى وهو يُذكِّرُه بأنه ابتداءً من اليَوْم صار شَعب يَهوَه. انتظِر: ظننتَ أنّه صار شَعب الله على جَبَل سيناء؟ فما الفَرْق؟ الفَرْق هو أنّ الأرض كانت في سيناء مُجرَّد وُعود وليسَت حَقيقة.
أمّا الاجتِماع الجَماعي في موآب، بينما كان بَنو إسرائيل يَتطلَّعون من الأُردُن إلى أرضِ الميعاد، هو في الأساس حَفْل تخرُّج بَني إسرائيل. انتهى الوقت في البريَّة رَسميًّا وبدأ الوَقت في أرضِهِم الخاصَّة (تَحقيقًا للعَهد الإبراهيمي). جَوْهَر الأمْر هو أنّ العَديد من لوائح العَهْد الموسَوي تَعتَمِد على إقامة إسرائيل واستقرارِها في أرْضِها الخاصَّة؛ لم يكُن بإمكانِها القِيام بهذه الأشياء قَبْل أن تَكون الأرض في حَوْزَتِها. لم تتمكَّن من استِخدام الخَمْر المَطلوبة في الشعائر الطَقسية لأنه لم يكُن لديها كُروم. لم تتمكَّن من أداء طقوس أولى الثِمار لأنها لم تَزرَع أيّة مَحاصيل ولم يكُن لديها مَحصول. لم تَستطِع أن تأكُل كما طَلَبَت التوراة لأن طعامَها الأساسي كان لا يزال المَنّ. عندما ينفصِل شَعب إسرائيل عن أرْض إسرائيل، يكون غير مُكتمِل. عندما كان شَعب إسرائيل تائهًا في البريَّة لم يكُن بإمكانِه أن يَعمَل ببعض أجزاء الناموس فقط، وليس كلَّه، لغِياب توافُر وَسيلة للقِيام ببعض الأشياء المُحدَّدة التي تَدور حول الزِراعة، كما فَعَل (على سبيل المِثال) في ثلاثة (ويمكِن القَول خَمسة) من الأعياد التوراتية السَبعة.
وعلاوةً على ذلك، في الوَقْت الذي كان بَنو إسرائيل يتَلَقَّون فيه هذه الكَلِمة من موسى، كان جيل الخُروج الأوَّل قد مات. أولئك الذين كانوا في سِنَ التَكليف عند الخُروج من مصر (الذين عرَّفَتهُم التوراة بأنَّهم من بَلَغوا سِن التَكليف عند الخُروج من مصر (الذين عرَّفَتهم التوراة بأنهم من بَلغوا سِن التَكليف للِخدمة العَسكَرية) هُم الذين شَهِدوا شخصيًا العَطاء الأصْلي للشَريعة على جَبَل سيناء. هُم الذين صَرَخوا في تأكيدٍ مُوحَّد بأنَّهم سيُطيعون جميع شُروط التوراة. لكن تِلك المجموعة ماتت (نتيجةَ أمْرٍ إلهي لعِصيانِها للرَب برفضِها دُخول أرض الميعاد قَبل عقود).
وهكذا كان هناك جِيل جديد من العِبرانيين الذين دَخَلوا كنعان إمّا أطفالًا صِغارًا أو لم يَكونوا قد وُلِدوا بعدَ وَقْت إعطاء الشريعة في جَبَل سيناء. وخلال هذا الوَقْت في البريَّة، من الواضِح أنّ أجزاءً من الناموس فقَط هي التي اتُّبِعَت؛ فلم يكُن بالإمكان اتِّباع بعضُها والبعض الآخر اختارَ عدَم اتِّباعِها. في الواقِع يبدو أنّ خِتان الذُكور لم يكُن يحدُث في البريَّة (أو ربما لم يَقُم به إلا القليلون)، لذلك كان سيحدُث خِتان جَماعي بعد دخول الأرض مُباشرةً. لقد أراد الرَب من الجيل الجديد الذي سيَدخُل إلى الأرْض التي وُعِد بها منذ زَمن بَعيد أن يَسمَع الناموس بآذانِه وأن يَقبَل شخصيًّا شروط العَهد. لذا قال موسى في الآيتين تِسعة وعشرة أنَّه اليَوْم شَعْب الله (يَقبَل عَهْدَه). هذا الموقِف لا يزال مَوجودًا عَبر التاريخ فكُلّْ عِبراني يجِب أن يوافِق على الناموس كما لو كان قد أُعْطِيَ له شَخصيًا، وأن تَكون عقليَّتُه كما لو كان قد خَرَج شَخصيًا من مَصر وَوَقَف عند سَفحْ جَبَل سيناء، هذا الموقِف الذي لا يزال مَوجودًا هو ما يَظهَر هنا في سِفْر التثنية تِسعة وعشرين.
من الأسباب التي جَعَلت موسى يَعتبِر أنّ مُناسبَة خُطبَتِه في موآب هي اليَوْم الذي أصبَحت فيه إسرائيل شَعب الله، هو استِلامُها الأرض رسميًّا، باعتِبار العِبرانيين ناقِصين بدون الأرْض. ومن المُثير للسُخرية أنّ العِبرانيين اليَوْم قد حَصَلوا أخيرًا على تلك الأرْض مرَّة أخرى؛ ومع ذلك فَهُم لا يزالون ناقِصين من بعض النَواحي…… على الأقَلّ هذه هي عقليَّة المُتديِّنين لأنّ ليسَ لديهم هَيكَل.
يَحلو لصَديقي الحاخام باروخ أنْ يَقول أنّ التوراة في عَصْرِنا هذا مُعطَّلة؛ وهو مُحِقّ في ذلك. وهو لا يَعني بذلك أنّ التوراة قد ماتت ولكن كان العِبرانيون في البريَّة، وكان هناك الكثير من الشرائع التي لم يَستطيعوا العَمَل بها ومع ذلك فقد اختَبَر العبرانيون في الخروج وجود خَيمة الاجتماع وتابوت العَهْد.
يَهود اليَوْم ليس لديهم مَسكِنْ الله بَينهُم على الرُغم من عودتِهم إلى الأرض. الهَيكَل هو جزء حَيَوي من الطاعة للتوراة، وبالتالي فإنّ حِزقيال لا يَتنبّأ فقط بإعادة بناء الهَيكَل، بل أنّ الذبائح والشَعائر الأخرى التي تَعتمِد على الهَيكَل ستَبدأ من جديد.
لن أقْضي وَقتًا طَويلاً في الحَديث عن هذا الأمْر، ولكن يجِب أن تَفهَم شيئًا ما؛ مُعظم شرائع الطهارة الطَقسية والتَكفير عن الخَطيئة تَعتمِد على وجود الهَيكل فبِدون الهيكل والكَهنة الذين يُؤدوّن الطقوس، هناك حَلَقَة مَفقودة حاسِمة في سِلسِلة الالتِزام بالتوراة. حتّى يَوم السبت لا يمكِن أن يَفي بمعايير التَوراة بشكلٍ كامِل لأنّ التوراة تَتَطَلَّب ذبائح مُعيَّنة للسبت، ومن الواضِح أنّها لا يُمكِن أن تتُمّ بدون هَيكل ومَذبَح وكهنوت لأداء الذبائح. لا يمكِن القِيام باحتِفالات البَواكير المُهمَّة للغاية لأنه لا يوجد هَيكل أو كَهنوت يمكن تَقديم البواكير فيه. لا يمكِن الاحتِفال بِيَوم الغُفران بشكلٍ صَحيح وِفْقًا لمَعايير التوراة لأنّه لا يوجَد رئيسُ كهنةٍ يَدخُل إلى قُدْس الأقداس ويَرُشّ الدَم على تابوت مَفقود منذ ألفين وخمسمئة سنة. يُمكنُني أن أستَمرَّ في إعطائك أمْثِلة على قوانين التوراة وأنظِمَتِها التي تتطلَّب مُشارَكة الهيكل والكهنوت وبقَليل من التَحضير يُمكنُني أن أقضي وقتًا طويلاً في تَوضيح تأثير تلك الطقوس التَوراتية المَطلوبة التي لا يُمكِن أداؤها على جوانِب أخرى من أوامِر التوراة التي لا َتبدو ظاهريًا مُرتبِطة بالهَيكل، ولكنَّها في الواقِع مُرتبِطَة به (ولو بطريقة غير مُباشَرة). التوراة والهيكل كانا وسيَظلاّن دائمًا مُتشابكَين.
هذا لا يَعني أنه من الخَطأ مُراعاة بعض هذه المَراسِم، كما أنه ليس من الخَطأ اتِّباع أوامر التوراة بقَدْر ما يَستطيع المَرء أن يتْبَعَها كدَليل على ثِقَتِنا الشَخصية في يَهوَه، ورغبتِنا في أن نَكون في وئام معَه ومع كَونِه، ونيَّتُنا في أن نَكون مُطيعين بدافِع الامْتِنان. يُمكِن مُراعاة بعض الشرائع بالروح فَقط. ولكن أن نَستخدِم شرائع التوراة كنَوع من التَبرير الذاتي أو مُحاولة البِرّ الذاتي هو أمْرٌ عَقيم اليَوْم أكثَر مما كان عليه الحال عندما كان هناك هَيكَل. إنّ الادِّعاء بأننا نَحْفَظَ التوراة بطريقة نقيَّة هو حَماقة، أو الادِّعاء بأننا ”مُلتزِمون بالتوراة“ هو نِفاق. بِدون هَيكل وبِدون كهنوت، يَستَحيل ماديًا تَنفيذ التوراة بشكلٍ كامِل أو صَحيح لأنّ الكثير من العَناصر الإجرائية غير مُتوفِّرة لنا.
يجب أن تَكون جميع العنَاصر مُتوفِّرة لكي تتُمَّ مُراعاة التوراة بشكلٍ كامِل: الشَعب، والأرض، والهيكل بكَهْنوتِه. يبدو كما لو أنّ إسرائيل كانت بدونِ إحدى هذه العَناصر على الأقَلّ مُعظَم فترة وجودِها. لذلك ستَفهَم لماذا لدى اليَهود الأكثر تَديُّنًا وحَماسًا رَغبة شديدة في إعادة بِناء هيكلِهمِ وإعادة تأسيس الكهنوت. إنَّهم يَفهمون جيدًا مأزِقَهمُ. من المُدهِش أيضًا أن نفهَم أنّه في المستقبل القَريب ستَعود العَناصر الثلاثة إلى الوجود مرَّة أخرى وسيَكون الالتِزام الصَحيح بالتوراة مُمكِنًا مرَّة أخرى….. إلى حدٍ ما فقط.
ما كنتُ أصِفُه هو مجرد جانِب واحد من الجوانِب الغامِضة لهذا القُسْم من سِفْر التثنية. إنّ فِكرَة أنّه اعتبارًا من لَحْظة العَطاء الفِعلي والرسَمي لأرض الميعاد لإسرائيل، يُمكِن لإسرائيل أن تؤدِّي أخيرًا بشكلٍ كامِل الجزء الخاص بها من مُعاهدة الالتِزام المُتبادَل التي أبْرَمَتْها مع الله (التي تُسمّى عهد موسى) لها جوانِب كثيرة جدًا وقد تمّ التطرُّق إليها بشكلٍ طفيف.
في الآية الحادية عشرَة، يَرِد جانِب رائع من مراسِم التَجديد التي ستَجري: تنقسِم إسرائيل إلى مجموعتَين تضُمّ كلٌّ مِنهما ستّة أسباط، وَتذهب إحدى المجموعَتَيْن إلى جَبَل عيبال والأخرى تَصْعَد إلى جَبل جرزيم. تَمّ وَضْع قائمَة مُحدَّدة للغاية بتَكوين كلِّ مَجموعة من ستّة مجموعات، وفي حين أنّه من الصَعب العُثور على أي شيء خاص بكلِّ مَجموعة على وَجْه التَحديد، إلا أنه يُمكِن قَوْل ما يلي: المَجموعة التي ستُكلَّف بمَهمَّة النُطْق بالبَركات تتكوَّن من ابْنَي راحيل (زوجة يعقوب المُفضَّلة)، وأربعة من أبناء ليا (زوجة يعقوب الأولى عَمَلياً). أمّا المجموعة التي سَتنطُق باللعنات فتتألَّف في الغالِب من أبناء مَحظياّت يعقوب، بالإضافَة إلى رأوبين الذي (على الرُغم من كونِه الابن البِكر الحَقيقي ليعقوب) إلا أنه أُزيحَ من هذا المَنصِب بسبب مُعاشرتِه لإحدى مَحظيّات يعقوب، وأخيرًا الابن الأصغَر لليا. لذلك رُبَّما يَكون لهذا الأمْر علاقة بالاختِيار.
لكن ما أجِدُه أكثر إثارة للاهتِمام هو أنّ التَكوين العام لأسباط بني إسرائيل قد تغيَّر بِحَسَب تركيبتِه الأصلية التي كانت قَبل الخُروج. تذكَّر أنَّه كان لدينا أبناء يعقوب الأصليّين الإثنَي عشر ثم تَبنّى يعقوب بشكل صادِم اثنَين من أبناء يوسف المَصرييّن (أفرايم ومناسي) وأدخلَهُما ضِمن أسباط يعقوب (فأصبَح لدينا أربعة عشرة ابنًا، وأربعة عشرة سِبطًا). ثم حُذِف يوسف كاسم سِبط ليُصبِح المجموع ثلاث عشرة سِبط، ثم حُذِف لاوي كسِبط عادي من بَني إسرائيل (لكي يُصبِحوا كهنة الله) فصارَ المَجموع اثني عشرة، ولكن ليس الإثني عشر الأصليّين. هذه التَركيبة القَبَلية الجَديدة هي التي استُخدِمت لتَقسيم الأرض وتَخصيص مناطِقها. حُذِف ابْنا يوسف من قائمة الأسباط، وأُضيفَ يوسف مرَّةً أخرى؛ بالإضافة إلى أنّ لاوي مَحسوب أيضًا ضِمن الأسْباط الاثني عشر العاديّة. لستُ متأكِّداً من سَبب حدوث ذلك إلاّ أنّني أعتقِد أنّه على الأرجَحْ أمْرٌ نَبَوي؛ نحن نَعلَم بالنَظَر إلى المُستقبَل في الأسفار النَبَويَّة مِثل حزقيال أنّ التَكوين القبَلي الأصلي سيَعود بعد عَودة المَسيح.
ولكن لاحِظوا هذا أيضًا: نقرأ في سِفْر الخروج تِسعة وثلاثين أنّ إفود رئيس الكهنة يَشمَل حَجَران كَبيران مُثبَّتان على حِزامَي الكَتِف؛ حَجَر واحد على كل حِزام كَتِف. وعلى هذين الحَجَرين مَكتوبَة أسماء أسباط بني إسرائيل، ستَّة أسماء على كل حَجَر. هل يُمكنُك أن تتخيَّل صورة قِمَّتَي عيبال وجريزيم كما يُمثِّلُهما الحَجران على كَتِفَيّ رئيس الكهنة، مع ستّة أسباط مَنقوشة لكلِّ جَبل لتَمثيل السِتّ أسباط؟ لقد كان هناك قَدْر كبير من التَخمينات حول الأسباط التي كانت مُدرَجة معًا على كل من حَجَري الكَتِفَين. أشُكّ أنّ المَنطِق وراء اختِيار الأسباط التي اختيرت لتَظهَر مَعاً على كل تَلّ مَأخوذ من الطَريقة التي نُقِشت بها حِجارة كَتِف رئيس الكهنة؛ ولكن هذا مجرَّد تَخمين.
في الآية الخامِسة عشرة تَبدأ سلسلة من اثني عشرة لَعْنة يَنطُق بها الكهنة. الكَلِمة العِبرية التي تَعني اللعنة هي أرور ومَعناها مُصيبة مَفروضَة من الله. فالكارِثة التي تُصيبُكَ قد تَكون لأن الرَب غَضِب عليكَ فأرْسَل الكارِثة أو أنَّه سَحَب بركَتَه وحمايتَه وتَرَك الشَر من مَصدر ما يُصيبُك، أو أنه كان بإمكانِه أن يتدخَّل ولكنَّه قرَّر ألا يَفعَل. يقول الحكماء العبرانيون العُظماء أنّ كَهنة الخروج ذَهَبوا إلى قِمَّتَي جَبَلَي عيبال وجريزيم مع أمير السِبط (وربما رؤساء شيوخ كلّ سِبط) (مُقسَّمان إلى مَجموعتَين من ستّة أفراد كما رأينا). أمّا باقي أفراد الأسباط المُرتبِطة بها فقد تَجمَّعوا في الوادي الكبير بين جَبلَي عيبال وجرزيم حيثُ كانت إحدى المَجموعتَين المُكوَّنة من ستّة أسباط مُتَّجِهة نحو الجَبل المُقابِل لَها والمَجموعة الأخرى المُكوَّنة من ستّة أسباط تَفعَل الشيء نفسَه، ولكن في اتِّجاهٍ مُعاكِس. ومن جَبل عيبال تُعلَن اللعنات.
تمّ تَفصيل إحدى عشرة خَطيئة مُحدَّدة، والتي سيؤدّي ارتِكابُها إلى إنزال اللعنة على بَني إسرائيل؛ ثم يَتمّ استِدعاء الخطيئة الثانية عشَرة العامّة إلى حدٍ ما. كلّ خَطيئة من هذه الخطايا الإحدى عشرة المُحدَّدة قد تمّ التَعامُل معها بالفِعل في الناموس، والكَثير مِنها يَرتبِط بِلَعنَة عُقوبة الموت، فلماذا اختيرت هذه الخَطايا الإحدى عشرة بالذات؟ ما هو المُختلِف أو المُميَّز فيها؟ افهَم أولاً أنّ قائمَة الخطايا هذه تَمثيليَّة وليست شامِلة. أي أنّ التوراة لم تُختَزَل الآن في احدى عَشَرة (أو اثنَي عشرة) خطيئة تَجلِب عِقابًا إلهيًا. بل إنّ هذه الـخَطايا الاثني عشرة تُمثِّل نوعًا أو فئة من الخَطايا: النَوع الذي يُمكِن أن يُرتكَب في الخَفاء أو يَصعُب على ضَحاياه أن يُعلِنوا أو يُثبِتوا قَضيّتَهُم. بمَعنى آخر هي خطايا لا يَعرِفُها في أغلَب الأحيان إلا الله والمُجرِم والضَحيَّة.
فالعدالة الدُنيويَّة عن طريق القانون لا يُمكِن أن تَحدُث على الأرجح بسبب سِرِّيَة الفِعل.
ثانيًا، اللعنَتان الأوليَّتان (الناجمَتان عن خَطايا مُحدَّدة) تَتعلَّقان باثنتَين من الوَصايا العَشْر: صُنْع صورة إله وعدم إكرام الوالدَين. على الرُغم من أننا تناولْنا هذا الأمْر بإسهاب في سِفْر الخُروج، إلا أنّه من الجَيِّد أن نتذكَّر أنّ العبرانيين كانوا يؤمِنون في كلِّ العُصور أنّ التَحذير من صُوَر الآلهة يُشير إلى الآلهة الوثَنيّة (الكاذِبة) وإلى يَهوَه. لا يَنبغي لِبَني إسرائيل أن يَصنعوا صوَر آلهة من أي نَوع لأي إله. وغَنِيّ عن القَول إنّ هذه الوَصيَّة ربما كانت أكثَر الوصايا انتِهاكًا على الإطلاق عَبر تاريخ بَني إسرائيل. وأنا أُصِرُّ على أنّ الأيقونات والصوَر الطائفية المَسيحية الحديثة التي نَميل إلى استخْدامِها اليَوْم بحُريَّة كبيرة (مع القليل من التَفكير والكثير من التَبرير) إمّا تَسير بشكلٍ غير مُستقِر بشأن صور الإله، أو تَقَع مُباشرةً على جانِب عِبادة الأصنام. لذا أريدُ أن أتحدَّث عن هذا التَحذير الصغير هنا.
بينما نَنتقِل إلى أسفَل قائمة هذه الخطايا السِرِّيَة، نَجِد بعد ذلك في الآية السابعة عشرة نَقْل حدود مُلكيَّة الجار بشكلٍ غير قانوني. سوف أشير من وقتٍ لآخر (كما فَعلْت في الماضي) إلى أنّ العَديد من هذه القوانين والخَطايا شائعة جداً بالنِسبة لثَقافات ذلك العَصْر. لقد عُثِر على أحْجار حدود بابِل مَكتوبٌ عليها لَعنات مُماثلة لأي شخص يقوم بتَحريك الحُدود، وعادةً ما تَصِف العقوبة الشديدة التي تَنطوي على ذلك والتي هي مَزيج ممّا سيَفعلُه بِك المَلِك ولَعْنةً إلهية تَحُلّ عليك من قِبَل الإله المَحَلّي.
ولكن بالنِسبة للعبرانيين، كانت هذه جَريمةً ضِدَّ الله أكثر من كونها جريمة ضِدّ مالِك الأرض الشَرعي. لقد قَسَّم الله الأرض عَمْدًا بين أسباط بَني إسرائيل بطريقة مُعيَّنة، ولذلك فإنّ مُحاولة الإنسان تَغيير هذا التَقسيم كان إهانة كبيرة ليَهوَه. علاوةً على ذلك، كان الرَب يَملِك أرْض إسرائيل، لذلك كانت (ولا تَزال) مُلْكًا مُقدَّسًا له. العَبَث بمُمْتلَكات الله المُقَدَّسة عادةً ما يَجلِب عقوبة المَوت. يجِب علينا أن نَتذكَّر دائمًا هذا المَبدأ الإلهي المُهِمّ: بَنو إسرائيل لا يَملكون أرض الميعاد؛ إنهم مُجرَّد مُستأجرين للأرض (وهم المُستأجرون الوَحيدون المُصرَّح لهُم باستئجار الأرْض). لقد سُمِح لهُم في الماضي بالبَقاء في الأرض فقَط طالَما أطاعوا الله؛ ولكن عندما تجَاوزوا الحدود بحيثُ أصبَحَ تَمرُّدُهم أكبر من رَحْمة الله، تمّ طردُهم لفَترة من الوَقْت. ومع ذلك، دعوني أوضِح أنه لا يَحُقّ لأي شخص آخر غير العبرانيين أن يَكون هناك. لم يأذَن الله للأجانِب أن يَكونوا هناك إلا كجُزء من إسرائيل.
تَقول الآية الثامنة عشرة أنه لا يَجوز لأحَد أن يَضَلَّ طريق الأعمى. الفِكرة هي أنه لا يَجوز لأحَد أن يَستغِلَّ جَهلْ شخص آخر أو إعاقتَه لتَضليلِه لمصلحتِك أو على حسابِه. هذا أمرٌ أساسي في عقيدة الإنصاف المَنسوجة في كل وَصايا الرَب، وبالتأكيد يَنتهِك ما يَنُصُّ عليه كلٌ مِن العَهد القديم والعهد الجديد كأساس أساسي وَراء كل الشرائع والوَصايا: أحِبَّ الرَب الإله وأحِبَّ قريبَك كنَفسِك.
الأمْر التالي هو أنَّه لا يَجوز لأحَد أن يتدخَّل في نِظام العدالة الخاص بأجنَبي أو أرمَلة أو يَتيم. من الواضِح أن هذا يَهدُف إلى حِماية الفئات الأكثر ضُعفًا في المُجتمَع؛ والانتِهاك هو في الحقيقة يَتعلَّق بالقاضي الذي يَحكُم بشكل غير عادِل وليس وِفق الوَضْع الاجتماعي أو الاقتصادي للشَخص.
لدَينا الآن سِلسلَة من أربعَة قوانين تتعلَّق بالسلوك الجِنْسي. مرَّةً أخرى هذه القوانين ليست شامِلة ولا تُغطّي كل مُمارسة جنسيَّة غير مَقبولة؛ إنّها فقط تُمثِّلُها. تتحدَّث الآية عشرين عن الرَجُل الذي يُقيم علاقة جِنسية مع زَوجة أبيه على الرُغم من أنّه من الناحية الفَنِّيَة يمكن أن يَشمَل أمَّه البيولوجية. وبقَدْر ما يبدو لنا هذا الأمْر مُقزِّزًا، إلا أننا نَعلَم أنه يَحْدُث بالفِعل، لذا فإنّ هذا ليس بالأمْر الغَريب. ومن المُثير للاهتمام أنّ الحِجَّة ضِدَّ فِعلٍ مِثل هذا الأمْر ليست الفِسْق المُتأصِّل في كل هذا، بل لأنّ الابن الذي يَفعَل ذلك (كما يقول حَرْفياً) يَكون ”قد نَزَع ثوب أبيه“. إنه إهانَة لشَرَف أبيه.
إليكُم هذا الاستِدلال الذي علّمتُكُم عنه منذُ بضعة أسابيع، والذي سنَراه مِرارًا في الكتاب المُقَدَّس؛ ففي الكتاب المُقَدَّس غالبًا ما يُنظَر إلى الزَوجة بشكل مَجازي على أنها لِباس زوجِها. دعوني أذكِّرُكم أنّ هذا ليس بأي حال من الأحوال إهانة للزَوجة؛ بل هو نَوع من الغَطاء لزوجِها. وهو يَلبَسُها كغِطاء كما يَلبَسُ المَرء ثوبًا؛ لذلك فإنّ ممارسة الابن للجِنس مع أمِّه أو زوجة أبيه هو انتِهاك الحقوق الجِنسيَّة الحَصرية للأب.
تتحدَّث الآية واحد وعشرين عن البَهيمية. بِقَدْر ما تَبدو هذه المُمارسة غَريبة بالنسبة لنا، وبِقَدْر ما اختُرِعَت نِكات كثيرة تَدور عن هذا الموَضوع، إلا أنّها كانت شائعَة إلى حَدٍ ما في العُصور القديمة (خاصةً في المَناطق الرِيفيَّة). في الواقِع كانت القوانين الحَيثية القَديمة تُحظِّر مُمارسة الجِنس مع بعض الحيوانات وتَسمَح به مع البعْض الآخر. لاحِظوا أنّ نِصف آلهة الشرق الأوسط والشرْق الأدنى بَشَري ونِصفهُا الآخر حَيواني؛ ونَقرأ في الأساطير الإغريقية عن مَخلوقات مُشابِهة وهي نتيجة نَشاط جِنْسي بين الإنسان والحيوان، أو بَين الإله والحيوان. كان هذا النَشاط مَقبولًا إلى حَدٍ كبير في مُعظم المُجتمعات بدرَجَة أو بأخرى، لكنَّه كان مَحظورًا تمامًا في كلِّ الظروف في إسرائيل.
ليسَ على المَرء أن ينظُر بعيدًا جدًا في الكتاب المُقَدَّس ليَجِد النَمَط الإلهي الذي يَجْعَل البَهيمية غير وارِدة، فآدم وحواء هُما ”النوع“ التَمثيلي للجِنس البَشَري والزَواج بين البَشر. لقد أُتيحَت لآدم فُرصَةَ أن يكون لهُ حيوانات كشُرَكاء مَنزلييّن (وليس شُركاء جِنسييّن) ولكنَّه قرَّر أنّه لم يكُن أيًا منها مُناسبًا. لذلك خَلَق الرَب مِنْهُ أنثى باعتبارِها الشريك المَنزِلي والجِنسي الوَحيد المناسِب له. دعوني أكون واضِحًا؛ لم يكُن الله يَدعو آدم لمُمارسة الجِنس مع الحيوانات ولكن آدم رَفَض بل إنّ قصة سِفْر التكوين هي (ولو جُزئيًا على الأقَلّ) لتَوضيح أنّ الإنسان لا يجِب أن يتناسَل أو يتزاوَج مع كائنات أقَلّ مِنه من غَير جِنسِه، وأنّ الرَفيق المنزلي الوَحيد المَقبول للرَجُل هو المرأة البَشرية والعكْس صَحيح. من المُدهِش أنّ هذا الدَرِس يجِب أن يُعاد تَعليمُه مِرارًا وتَكرارًا، وأنّ أمَّة بعد أمَّة تَكتشِف في النهِاية أنّ شريعة الله هذه لم تعُدْ سارية.
ويَلي ذلك في الآية ثلاثة وعشرين شَريعة أخرى تُحدِّد بشكلٍ أساسي سِفاح الأخوة؛ لا يَجوز للرَجُل أن يُقيم عَلاقة مع أختِه أو أختِه غَير الشَقيقة.
تَليها لَعنة على من يَرتكِب عَمَلاً عَنيفًا ضِدَّ إسرائيلي آخر؛ وهي لا تَحصُر بالضرورة أعمال العُنف في القَتْل، إذ تُشير أيضًا إلى الاعتِداء.
وتتحدَّث الآية خمسة وعشرون عن عَدم قُبول رَشوة لمُساعدة القاتِل على الإفلات من العِقاب؛ وهذا مُتعلِّق بالقاضي، أو الشاهِد، أو حتّى استئجار شَخص ليرتكِب عَنكَ جريمة قَتْل. النَتيجة غير المَقصودة لمِثْل هذا العَمَل هي أنّ إثم الدَم الناجِم عن القَتْل غير المُبرَّر سيَبقى على الأرض حتّى يؤخَذ من القاتِل نفسُه.
واللعنَة الثانية عَشَرَة هي تِلك اللعنة العامَّة التي أخبرتُكَ عنْها. وهي تُشير إلى جميع تَعاليم التوراة الأخرى وتُطالِب باتِّباع التوراة كلِّها وإلاّ لُعِن من يُخالِفُها. يقول راشي إنها في الأساس قَسَمٌ يَقْسِم به كل إسرائيلي على التَمسُّك بالتوراة كلِّها.
لاحِظ أنّه بعدَ كل قراءة لِلَعنَة تَتبعُها كَلِمة ”آمين“ من الشَعب.
الشخصُ الذي يَستجيب للصَلاة أو النِذْر أو في هذه الحالة العَهد يَقول ”فليَكُن ذلك معي“. إنها موافَقَة على شُروط العَهد وتُستخدَم كنَوع من الاختِصار ليَقبَل الشَخص عَلَنًا شُروط العَهد. في وقتٍ سابِق في سِفْر الخروج وسِفْر اللاويين مرَرْنا بهذه العَملية المُمِلَّة حيث كان الله يقول لموسى ما يَجِب أن يقولَه، ثمّ نقرأ عن موسى وهو يَقولُه للشَعب، ثم نقرأ عن الشَعب الذي كان يَفعَل ذلك. كانت الصَفحة تِلْوَ الأخرى من التوراة تُكرِّر نفْسَ التَعليمات مرَّتَين على الأقَلّ وغالِبًا ثلاث مرَّات لأنَّها ببساطة الطَريقة التي كانت تَتِمّ في الشرْق الأوسَط القَديم. هنا في سِفْر التثنية انحِراف عن هذه العَمليَّة؛ نرى إعلانًا أو تَعليمات وبَدَلاً من أنْ يُكرِّر الشَعب كلَّ شيء كان ببساطة يَرُدّ ”آمين“ على ما قيل.
دعوني أختُم بهذه الفِكرة: لقد قُلْت في البداية أنّ هذا الإصحاح يَتحدَّث في الواقِع عن احتفالات مُتعدِّدة لتَجديد العَهد، ولا شَكّ أنه كانت تُقام احتفالات أخرى لتَجديد العهد في أوقات مُناسبة. لماذا؟ هل كان الله بِحاجَة إلى أن تَستمِرَّ إسرائيل في تَجديد عهدِها مَعه من أجلِه؟
الحقيقة أنّ هذا كان عُرْفًا وتقَليدًا عاديًا في تلك الحَقَبة. لدينا وثائق شرائع آشورية وبِلاد ما بين النَهرَين والحثِيَّة والكَنعانية وغيرِها من الشرائع التي تُشبِه إلى حَدٍ كبير ما قرأناه هنا في سِفْر التثنية. وما نَجِدُه هو أنّ التَكرار، أو قَوْل الشيء نفسِه بشكلٍ أساسي بصيغَة الإيجاب، ثمّ في النَفي لاحِقًا، أو استِخدام أمثِلة مُتعدِّدة كان القاعِدة من أجْل التأكيد. كانت اللعنات المَذكورة فيما يتعلَّق بأي تَشريع دائمًا أكثر عَددًا من البَرَكات المُرتبِطة به. التَكرار يُساعِدُنا على التَذكُّر. لم يكُن لدى الشَعب لفائف أو كُتُب مَكْتوبٌ فيها هذه التَعليمات حتّى يَتمكَّن من الرُجوع إليها بسهولة، لذلك كان تَرديدُها مِرارًا وتَكرارًا يَطبَع هذه الشرائع في ذِهنِه. لا تَنسوا أبدًا أنه بينَما إسرائيل هو شَعب الله المُختار، إلا أنّها أولاً وقَبْل كل شيء ”شَعب“. بِوَعي أو بدون وَعي، نحنُ جميعًا نتَّخِذ قراراتِنا ونتواصَل في سياق عَصْرنا وثقافتِنا ولُغَتِنا. نَكتشِف مدى صِحَّة ذلك عندما نَزور بَلَدًا أجنبيًّا ونكتشِف أنّ الأشياء التي نَعتبرُها بَديهية في أمَّتِنا غير مَعروفة لديهِم، فشَيء بَسيط مِثل جِهَة المِقوَد يختلِف في جميع أنحاء العالَم. لم يكُن الأمر مُختلِفًا بالنِسبة لإسرائيل. كان من الطَبيعي بالنِسبة لها أن تتواصَل مع الله، وأن يتواصَل الله مَعها، في سياق ثقافتِها الخاصَّة (أو بالأحرى في إطار مَجموعة واسِعة من العادات والتَقاليد التي كانت شائعة في جميع أنْحاء العالَم المَعروف في ذلك الوَقت). لذلك على الرُغم من أنّ الكِتاب المُقَدَّس مُوحى بِه، ربما تَكون المُعجِزة الأكبَر هي التَعبير عن كَمال الله وحقيقتِه الإلهية من خِلال عادات وتقاليد ناقِصة وتَعَسُّفيّة إلى حدٍ ما لِبَشَر مُجرَّدين وهي ليسَت دائمًا الأكثَر إفادة في طبيعتِها. إنَّ شَكلَ العَهد الموسَوي ليس سَماويًا، بل أرْضيًّا، مُخصَّص للبَشر ليَتبعوه؛ والطريقة التي نُظِّمَ بها كانت مَألوفة جدًا لأي شخَص من الشرْق الأوسَط والأدنى في ذلك العَصْر. إنّ المَبادئ الإلهية المُعبَّر عنها فيه هي المُهمَّة، وليس شَكلُه.
في الأسبوع القادِم سنَنتقِل إلى سِفْر التثنية الإصحاح ثمانية وعشرين ونَدْرُس البَرَكات التي أعْلنَها الكَهنَة.