سِفْر التثنية
الدَرس ثلاثة وعشرون – الإصحاحان السابع عشَر والثامن عشَر
كنا نُناقِش القِسم من سِفْر التثنية السابع عشَر الذي يَتناول حدود الله وقيودَه على السُلطات المَدَنية والدينية في إسرائيل. تَقتضي إحدى المبادئ الرئيسية في اقتِصاد الله غياب الفَصْل بين الكنيسة والدولة (إذا جاز التَعبير). لن أُناقِش قرار الولايات المتحدة بالسَير في هذا الطريق باستثناء القول بأنّ هذا هو أساس ما يُزعجنا كأمَّة. لقد قرَّرتْ حكومتُنا بشكل أساسي أنّ طرُق الله لا بأس بها داخِل جدران الكنيس أو الكنيسة، لكن لا يجِب أن يَكون لها أي تأثير على الإطلاق في أي مَكان آخر في حياتِنا، أو مُجتمعاتِنا أو مَدارسِنا أو حكومتِنا. أتساءل: هل وَصَلنا بالفِعل إلى نقطة نرتاحُ فيها لهذه الفلسفة ونَقبَلُها؟ هل نَعيش حياتَنا فعليًّا كما لو أنّ الله يُفرِّق بين ما نُفَكِّر فيه ونفعلُه أثناء الخدمة الدينية وبين ما نُفَكِّر فيه ونفعلُه في كل جانِب آخر من جوانِب وجودِنا، حتى وإنْ وُوجِهْنا به نَنْكُرُه؟ يوضِح الرَب هنا في سِفْر التثنية أنّ على قادة إسرائيل (من كل نَوع، دون استثناء) أن يُطيعوه أولاً وقَبل كل شيء. على القادة أن يَلتزموا (قَبل كل شيء) بشرائع الرَب وأوامِرِه حتّى تَسير الأمور على ما يُرام معهُم، ومع الشعب الذي يَحكمونه، ومع المُجتمع الإسرائيلي بشكلٍ عام.
دعونا نُعيد قراءة جزء من سِفْر التثنية السابع عشَر.
أَعِد قراءة سِفْر التثنية السابع عشر من الآية ثمانية إلى – النِهاية
المَجموعة الأولى من القادة الحُكوميين الذين تَحدَّثنا عنهم يُطلَق عليهِم الشوفيتيم، القُضاة. كانوا عادةً من شيوخ الأسباط، وكان الهَدَف من اختيارِهم هو التَصرُّف كمَحكمة دنيا تُعالج الأمور ضِمن أراضي سِبطهِم. كما تم إنشاء مَحكمَة عليا أيضًا، وكان من المُقرَّر أن تتألَّف في المَقام الأول من اللاويين.
لذلك كان مكان اجتِماع هذه المَحاكم العليا في المُدُن اللاوية الثمانية وأربعين المُنتشِرة في جميع أنحاء الأرض.
لم تكُن هذه المَحاكم العُليا مَحاكم استئناف، بل كانت مَحاكم مُصمَّمة للتعامُل مع القضايا التي كانت صَعبة للغاية أو مُعقَّدة للغاية أو خارج نِطاق المَحاكم الدنيا. نظرًا لأنّ اللاويين (وذلك الجُزء من اللاويين الذين كانوا كَهَنَة) كانوا خُبراء إسرائيل في شريعة موسى، فمِن المَنطقي أنه إذا لم يتمكَّن العِلمانيون (الشيوخ) من التوصُّل إلى اتِّفاق بشأن قضيةٍ ما فإنّها تُحال إلى أولئك الخُبراء القانونييّن المُعترَفْ بهم. ينُصّ مرسوم الله الذي يؤسِّس هذا الهيكل القانوني أيضًا على أنه بما أنّ هذه المَحكمة العُليا (التي تتألَّف أساسًا من اللاويِّين) هي مَحكمة اتِّحادية (إذا جازَ التعبير)، فإنها تُعالج الأمور من أو بين أفراد الأسباط المُختلفة؛ وبالتالي لا يَجوز التشكيك بأحكامِها. أي شخص يرفُض تنفيذ أحكامها كان يجب إعدامه.
وهنا مِفتاحٌ لفَهْم دور القضاة: فالقُضاة النمَوذجيون (الذين كانوا يُشكِّلون المَحاكم الدنيا) كانوا يَتعاملون فقط مع الأمور المُتعلِّقة بسبطِهم. وبينما نَحصُل على هذه الصورة الذِهنية لقاضٍ يَجلِس خلْفَ مِنصَّة القضاء، ويحكُم في القضايا القانونية، في الواقِع جاء العديد من قُضاة إسرائيل ليَقوموا بأدوار مُختلفة تمامًا عن تلك الأدوار المَنسوبة إليهِم (أو ربما حتى المُتصوَّرة) هنا. فشَمشون على سبيل المِثال، صاحِب القوة الخارِقة، كان يعمَل كحامي لشعبِه وأداة لغَضَب الله على الفِلسطينيين. ومن المؤكَّد أنه لم يجلِس كحَكَم في الأمور القانونية بين سبطِه دان.
كانت الفئة التالية من القادة الحكوميين الذين تحدَّث عنهم موسى هم الملوك. سيَمضي ما يُقارِب من ثلاثمئة سنة بعد زَمَن موسى قَبْل أن يكون لإسرائيل مَلِكها الأول، شاول. لذا فإنّ التَعليمات المُتعلِّقة بالحدود والقيود حول مُواصفات مَلِك إسرائيل وما يمكنُه وما لا يمكنُه فعلُه، كانت تبدو بَعيدة المدى في المُستقبل. ويجِب أن نُدرِك أنّ هذا معرِفة للمستقبَل وتنازُل من جانب الله، أي أنه كان يَعلم مُسبقًا أنّ إسرائيل سترغَب في النهاية في أن تَكون مِثل جيرانِها بدلاً من أن يُنظَر إليها على أنها مُتَمَيِّزة وفَريدة، لذلك جَعَل لإسرائيل مَلِكًا أرْضيًا لأنّ العِبرانيين كانوا (في الوقت المُناسِب) سيَطلبون ذلك. الأمر لا يَختلِف على الإطلاق عن الظروف التي كان بولس يَتعامل مَعها في أفكارهِ المُتعلِّقة بالطلاق، فليس الأمر أنّ الله يأمُر بالطَلاق، بل أنّه في معرفتِه المُسبقَة ونعمتِه يعلَم أنّ الإنسان الساقط سيَسلُك هذا الطريق، لذلك يَضَع إجراءات وحدودًا للتعامُل معه. إنّ الله لا يَضَع بأي حال من الأحوال حدودًا للمَلَكية لأنه يَقبل فلسفة الحُكم في أن يَحكُم الإنسان شَعبَهُ كمَلِك؛ إنه يفْعَل ذلك لأنه في الوقت المناسِب ستُصِرّ إسرائيل بحماقتِها على تَعيين مَلِك (وهذا ما حدَثَ بالضبط في النهاية).
تتحدَّث الآيتان السادسة عشرة والسابعة عشرة من سِفْر التثنية عن القيود التي يَضَعُها الله على ملوك إسرائيل المُستقبلييّن في ثلاثة سياقات مُختلِفة. أي، يتمّ تَغطية ثلاثة مَجالات مُختلفة من النفوذ لكلّ مَلِك: العَسكرية والسِياسية والاقتصادية. والأمْر الأول يقول إنّه لا يَنبغي للمَلِك أن يَجمَع الكثير من الخَيْل. وبما أن أجوَد الخيول وأكثرُها تدريبًا جاءت من مصر، فإنّ إسرائيل ستَميل إلى إعادة بناء العِلاقات مع سيِّدِها السابق من أجْل الحصول على هذه الحَيوانات.
هناك أيضًا معنى أعمَق من التَعليمات الوارِدة في هذا التَحذير؛ وهو أنّه بالنِسبة لقيادة إسرائيل أنْ تنشئ علاقَةَ مَصلحة أو مَنفعة شَخصية مع عَدو لله ليس أمْرًا يجب أن يَسعى إليه مفدِّي الله. اليوم تتجاهَل إسرائيل والكَنيسة هذا التَحذير من الله فحَسب، ويُعتبَر من الخطأ عَدم السَعي وَراء مِثل هذه العِلاقات. هناك العَديد من الأسباب المَنطقية التي تَجعل هذه المُمارسة التي يَقوم بها عباد يَهوَه بالاختلاط المُشترَك، بل وحتّى التحالُف مع أعداء الله خَطيرة، ولكن السَبب الوحيد الذي يجِب أن يدفَعَنا حقًا إلى الطاعة هو أنّ الله قد نَهى عن ذلك. عندما تتحالَف الكنيسة مع الإسلام فيما يُسمّى بالمَحبَّةِ والسَلام، فهذا انتِهاك مُباشَر لهذه الوصيَّة. عندما تُتاجِر إسرائيل مع أعدائها اللدودين بلْ وتُقَدِّم لهم تَنازُلات سياسية فهذا انتِهاك مُباشَر لهذه الوَصيَّة.
ليس الأمْر أنه يجِب على الكَنيسة أن تتجوَّل لقَتْل المُسلمين أو حتّى أن تنبذهُم بالضَرورة، بل أنّ أي علاقة تُقام يجب أن تَكون كلُّها من أجل التَبشير بأناس يَعبدون إلهًا زائفًا وليس أبدًا من أجل التسامُح أو الاستِرضاء أو تَحقيق مكاسِب شَخصية أو إضفاء الشَرعية على ما هو بَغيض ليَهوَه. لا يَعني هذا أنّ على إسرائيل أن تَجِد أسبابًا لإثارة غضَب جيرانِها أو محاربتهِم؛ بل أنَّ أيًا كانت علاقات إسرائيل مع جيرانِها لا يَجِب أن تكون من أجْل أن تُحاوِل إسرائيل أن تكون مثلَهُم، أو أن تتخَلّى عن أي جُزء من علاقتِها الفريدة مع الله وأرْض الله من أجْل السَلام الجيوسياسي، أو أن تَتخلّى بشكل أساسي عن وضعِها المُتميِّز للانضمام إلى عِصْبة الأُمَم في العالم والمُشارَكة في ثرواتِها.
وعلاوةً على ذلك، هناك تَعليق جانبي مُثير للاهتمام بأنّ شعبَ إسرائيل لا يجِب أن يلتفِت إلى مصر من أجْل المزيد من الخَيل لأنه ”لا يجِب أن يَعود إلى ذلك الطريق مرَّة أخرى“. ما اسْم تلك الأغنية القديمة ”لا يُمكنُكم العودة إلى ذلك الطريق مرَّة أخرى“؟ لقد جاءت الكَثير من التَفسيرات المُثيرة للاهتمام من هذا المقطَع، والمَقصَد منه غير مُتَّفَق عليه تمامًا. ولكن ضَعوا في اعتبارِكم أنّ هذا تَحذير لأي مَلِك إسرائيلي في المُستقبَل؛ وأقَلّ ما في الأمْر هو أنّ شعبَ إسرائيل لا يَنبغي أن يَلجأ إلى أسيادِه السابقين طَلبًا للعَون أو القوت. ليس بالضَرورة أن تَكون إسرائيل في حالة حَرْب مع مصر، ولكن ليس بالضرورة أن تَتحالف مع مِصر، أو أن تَعتمِد على مصر في الأشياء التي يراها المَلِك مُهِمَّة بالنسبة له. أعتقد أنّ الحِكمة من ذلك والمَقصَد منه هو أنه اختِلاط غير متكافئ أو خَليط غير مَشروع. ما عِلاقة شَعب الله بِمصر؟ جواب الله: لا شيء.
من المُثير للسخرية أنه في القَرْن الحادي والعشرين، الشَعب (الإسلام) الذي يَخوض العالَم الغربي حرْبًا معه هو نفسُه الذي جَعلْنا أنفسَنا نعتمِد عليه في عُنْصُر أساسي من عناصر اقتصادِنا وجيشِنا. لقد عَقَدْنا اتفاقاً مع الشيطان إذا جاز التَعبير، وعلى الرَغم من أنّ الأَمْرَ استغرَق وقتاً طويلاً إلا أنّه حان موعِد استِحقاق الدَين. ما بدأ كنِقاش غرْبي حول النَفِط فيما يتعلَّق بالحَرْب ضِدّ الإسلام، تَحوَّل الآن إلى نِقاش حول ما إذا كان من الأفضَل استرضاءهم أم لا بدلاً من الاستِمرار في التمسُّك بقِيَمِنا اليَهودية المسيحية التقليدية. وفي الآونة الأخيرة أصبَح النَهْج الجديد لهذه المُشكلة التي تَبدو مُستعصية هو إزالة الدِّين كمُشكلة من الأساس من خِلال إعادة تَشكيل العالَم كمُجتمَع إنساني عِلماني عالَمي يطالب بالتسامح مع كل الآلهة ولا يؤيد أيًا منها. أخشى أنّ كل ما أراه، وما يتنبأ به الكتاب المقدس، هو أن الاسترضاء والاستسلام جارٍ على قَدَم وساق. وهذا هو الذي يؤدّي إلى هَرمجدون؛ على الرُغم من أنّ العالَم يفعَل كل ما في وسعِه بَشَرِيًا لمَنعِه.
هذا ما تَعنيه في المَقام الأول تلك الآية التي تَقول ”لا ترجِعوا إلى ذلك الطَريق“. لأنّه إذا بدأ ملوك إسرائيل في التَطَلُّع إلى نفسِ الأشخاص الذين يَنظرون إليهِم على أنَّهم عَبيد هارِبين لأهداف الصَداقة وكمَصدَر للعِتاد العَسكري الاستراتيجي أو المَنافِع الاقتصادية، فإنّ الثَمَن سيكون التنازُل أو حتّى التَخلّي عن مبادئ الله لتَحقيق ذلك. وبالطبع، هذا بالضَبط ما يقوم به الغَرْب وحتّى جُزء كبير من الكنيسة الآن.
في أيّام موسى كانت الخُيول لِغَرَض أساسي واحِد: لجَرِّ المَركبات. والمَركبات كانت تُستخدَم لأمرَين: كمَركبات للمَلِك وبِلاطه ولكنّ الأهم من ذلك أنها كانت أسلِحة رئيسية للحَرْب القديمة. فكلَّما كان لدى المَلِك مَرْكبات أكثر في تَرسانَتِهِ كلَّما كان أكثر قوَّة في المَعرَكة. لقد أُمِر ملوك إسرائيل أن يَضعوا ثقتهُم في يَهوَه، وليس في الأسلِحة العَسكرية. كانت قوَّتُهم هي إيمانهم بإله إسرائيل، وليس بالأسلحة المُتطوِّرة. ومع ذلك فإن الله لا يتحدَّث عن تَسلُّح بني إسرائيل وامتلاكِهم جيشًا كبيرًا بل أنْ يكون أملُهم في النَصْر هو الرَب، وبالتالي فإنّ طاعتَه هي مِفتاح نجاتِهم. ومن المؤكَّد أنّ مصدَر قوَّتِهم وقدرتِهم على البقاء لا يَنبغي أن يأتي من شَعب (مصر) وعلاوةً على ذلك، وكما هو الحال دائمًا، فإنّ الملوك الذين يَتذوَّقون طَعْم القوة العظيمة يسْعَون للاحتِفاظ بها، ولذلك غالبًا ما يؤلِبون جيشَهم ضِدَّ شعبِهم من أجل الحِفاظ على تلك القوَّة. لا يُريد يَهوَهْ أن يَكون ملوك إسرائيل أقوياء ومُتغطرِسين لدرَجَة أنهم لا يَخضَعون لإرادة الشَعب المَدَني.
يتمَحوَر الأمْر بألا يكون لملوك إسرائيل العديد من الزَوجات وِفْق الوِحدة المُجتمعية شرق الأوسَطية الفريدة من نوعِها التي تُسمَّى الحَريم. يَميل الغربيّون إلى التَفكير في الحَريم على أنّهُ مُجرَّد قَصْر مُتعَةٍ مليء بالنِساء الجَميلات ليَستخدِمَه المَلِك وبِلاطَه. وهذا أبعَد ما يَكون عن الواقعِ. كانت السُلطة السياسية في عَصر الكتاب المقدَّس تأتي من تَشكيل تحالُفات قويَّةٍ بقَدْر ما كانت تأتي من مُمارَسة القوَّة العَسكرية. وكانت تلك التَحالُفات تَنطوي دائمًا تقريبًا على التزاوُج بين عائلات الملوك المُشاركين فيها. لقد فاتَنا المَغزى من قِصَّة سليمان المَشهورة والعَدد الهائل من الزَوجات والمَحظيّات في حريمِه لأنّ الفِكرة التي يبدو أنها سائدة في الكَنيسة هي أنّ سُليمان كان على مُستوى ما مَهووسًا بالجِنس مُنغمِسًا في المَلَذّات؛ بل إنّ القِصَّة التوراتية كانت تَهدِف إلى التَباهي بالعدَد الهائل من التَحالُفات التي أقامَها في جميع أنحاء المنطقة…..وكَمْ كان ذلك خطأ في التفكير.
لم تكُن الحريم قُصورًا كبيرة مليئة بالنساء فَقط؛ بل كان يُقيم فيها أبناء هؤلاء النساء أيضًا. إنّ إهانَة ملكٍ ما لإحدى الزَوجات في حريمِه أو عدم احترامِها كان بمثابة حادِثٍ دُوَلي وقد يؤدي إلى نُشوب حَرْبٍ مع العائلة التي تُمثِّلُها تلك الزَوجة. لذلك فإنّ التَحذير الذي يأتي من أن ”قد يَضَلّ قَلْب المَلِك“ إذا كان لديه حريم كَبير يعني أنّ هذا المَلِك سيَميل إلى التَركيز على الحِفاظ على زوجاتِه والتحالفات التي يُمثِّلْنها أكثر من الاهتمام بشَعب الله وأوامِر الله. دعوني أذكِّرُكم أيضًا أنّ استِخدام كَلِمة ”القلب“ كان يُشير إلى عَقْل المَلِك…..عقلِه وفكرِه وما يَهُمُّه وما يشعُر أنه مُهِمّ…..وليس أنّ عواطفَه أو حبَّه تجاه حَريمه ستَطغى على عقلِه السَليم.
وأخيرًا هو تَحذير للمَلِك من أن يَجمَع ثروة شَخصية على ظهور شعبِه. وكيف يُمكن للمَلِك أن يَفعل ذلك؟ عن طريق فَرْض ضرائب باهِظة على شعبِه ومُصادرة ثروات تلك الأُمَم والمُدُن الصغيرة التي غزاها والتي تَخضَع لسيطرتِه. في حين أنّ كل ذلك كان إجراءً اعتياديًا لدى ملوك كنعان، إلا أنّ المَلِك الإسرائيلي كان يَجمَع الثروة لخَير أمَّتِه من أجل تمويل جيشٍ مُناسِب، ورعاية أكثر المُحتاجين في المُجتمع، ومَشاريع بناء وطَنية مِثل الطرُق التي تَعود بالنَفْع على الشعب على مُستوى الشَرِكات. الواقع التوراتي هو أنّ قصة ابن داود، المَلِك سليمان، تُروى بطريقة تَهدُف إلى تَسليط الضوء على أنه انتَهَك كل هذه الأحكام من الشريعة: الامتِناع عن الجَيش الكبير جدًا، وتَجنُّب تَعدُّد الزوجات وما يمثِّلنَه من تَحالُفات، وعَدَم جَمْع الثروة لنفسِه. حتّى مع وجود مَلِك لإسرائيل، فإنّ الناموس الذي نقرأه في سِفْر التثنية كان مُصمَّمًا للاحتفاظ بالله كمَلِك إسرائيل النهائي، والمَلِك البَشَري مُجرَّد مُمثِّل لله على الأرض الذي يُحقِّق إرادة الآب (حتّى وإن كان ذلك ناقِصًا لأنّ إسرائيل أصرَّت على وجود مَلِكٍ بَشَري).
من الصَعب في فترة قصيرة من الزَمَن أن أشرَح لماذا تَعريف الله للمَلِك الأرضي كما هو مَرسوم في سِفْر التثنية هو عَكْس تَعريف البشر للمَلِك. ولكن يَكفي أن نقول إنّ الملوك الأَرْضِييّن عادةً ما كانوا يَضَعون القوانين لشعوبِهم، وبِنَفْسِ القَدْر من الاعتيادية كانوا يعفون أنفسَهُم من شرائعِهم الخاصّة. وبما أنّ شرائع إسرائيل جاءت من الله عَزَّ وجَلّ، فإنّ ملوك إسرائيل كانوا خاضِعين لشرائع يَهوَه، مِثلَهم مِثْل أي مواطِن عبراني آخر.
الآية ثمانية عشرة إلى النِهاية تشْمَل أكثر التَعليمات المثيرة للاهتمام التي تَجلِب غَصَّة في حَلقي كلَّما قرأتُها. فأوَّل واجِبات المَلِك الجديد عِند اختياره هو أن يَستعير من كَهَنة بني إسرائيل نُسخَة من التوراة الأصليَّة ثم يَكتُب لنفسِه نُسخة من تلك الوثيقة. ليس على الملك أن يَستعين بكاتِب ليَكتُب له نسخة، بل عليه أن يَستغرِق الوقت اللازم لكتابتِها كَلِمةٍ كَلِمة ثم يَحتفِظ بها إلى جانبِه باعتبارِها الصَك الذي يَحكُم حياتَه وقانون الأرض لحُكمْ الشعب الذي يتطلَّع إليه للقيادة.
هناك رواية واحدة فقط مُفصَّلة عن تَتويج مَلِك من بَني إسرائيل في الكتاب المقدس، وهي عن الصَبي الصغير جدًا، يوآش، في سِفْر الملوك الثاني الإصحاح الحادي عشر. كان يوآش يبلُغ من العمر سَبع سنوات فقط عندما أصبَح مَلِكًا على مَملكة يهوذا الجنوبية.
يستحِقّ هذا الأمْر أن نأخُذ بضع دقائق لقراءته لعِدَّة أسباب. اقلِبوا أناجيلَكم إلى اثنان ملوك الإصحاح الحادي عشر وسَنَقرأ من الآية واحد حتّى الآية ستّة عشرة.
اقرأ اثنان ملوك الإصحاح الحادي عشر من الآية واحد إلى ستّة عشرة
أولاً نرى أنّ العبرانيين قد أصبَحوا مِثل جيرانِهم الوثنيّين عندما يتعلَّق الأمر بصِفات الملك وكيفية وصولِه إلى السُلطة. نرى السِريَّة، نرى صِراعًا على السُلطة، نرى أجَنْدة شَخصية، ونرى مَوت المُنافسين.
ونرى ثانيًا أنه كما يحدُث دائمًا عندما يَصِل ملك إلى الُسلطة، فبدلاً من أن يَكون الملك في خِدمة الشعب سُرعان ما تَحوَّل الملك إلى جَعْل الشعب عَبيدًا له. ما الحِكمة والقوَّة والقيادة التي يمكِن أن يُقدِّمها طِفل في السابعة من عمرِه؟ لا شيء. لقد كان والِداه وأولئك الذين أرادوا التلاعُب بهذا الصَبي من أجْل سُلطتِهم ومكاسبهِم الشخصيَّة، هم الذين كانوا المُسيطرين بالفِعل.
ثالثًا، لاحِظوا أنّ الجَيش كان تحت سَيطرةِ الأسْرة الحاكِمة وكانت وظيفة الجيش الأولى هي الحِفاظ على المَلِك وأسرتِه في مَأمن من الشَعب!
رابعًا، لاحِظ أيضًا الإشارة العابِرة في الآية الثانية عشرة إلى إعطاء المَلِك نُسخة من الشَهادة (أي الشريعة، التوراة). لم يكُن من المفترَض أن يحدُث هذا الأمْر كمُجرَّد رَمزية لمراسِم التتويج، بل كان من المُفترَض أن يَفعل المَلِك ذلك بشكل جَدّي بعد أن يتسلِم السُلطة. ماذا كان سيَفعل طِفل في السَابعة من عمرِه بِصُحُف التوراة؟ لم يكُن لديه القدرة على نَسخِها ناهيك عن تَنفيذ العدالة التي تَحتويها. لقد كان هذا مُجرّد أُبَّهَة واحتفالية فَجَّة وبادرة جَوفاء ليس لها مَعنى حقيقي؛ في هذا الوقت كان هذا شيئًا يفعلونَه كتقليد وربما لم يتذكَّروا حتّى السَبب.
ومع ذلك، سَنقرأ لاحقًا أنه مع تقدُّم هذا المَلِك في السِن، يبدو أنه أخَذَ التوراة على مَحمَل الجَدّ والتَفَتَ إليها من أجل الحِكمة. ومن ناحية أخرى كان لا يزال يَحكُم مِثل مَلِك شرْق أوسطي تقليدي؛ حتّى أنه تنازَل عن بعض كنوز الهيكل المقدَّسة ليَعقِد صُلحًا مع ملك آشوري، ثم قُتِل لاحقًا على يَد عبيده.
يمكنني أن أخبِركُم كشخص قام بتدوين كل درْس قام بتدريسِه من قَبل، أنّ فِعْل الكتابة الكامِلة لشيء ما له عُنصر غامِض يَسمَح للمَرء بتذكُّرِه بشكلٍ أفضل والتأمُّل فيه بشكلٍ أعمَق. في الماضي قَبْل طُرُق التدريس التقدُّمية الجديدة التي جعلَت القراءة والكتابة والرِياضيات ثانوية لتَعلُّم أجَندات اجتماعية إنسانية عِلمانية مِثل التسامُح والتنوُّع والجِنس، كانت الكتابة المُتكرِّرة تُستخدَم لتَسهيل التذكُّر والاحتِفاظ. وهنا في سِفْر التثنية يَأْمُر الرَب ملِك إسرائيل بتَوظيف الذاكِرة العَضَلية، إنْ صَحَّ التَعبير، لغَرَض التَشرُّب بعُمق وعدَم نسيان أوامِر الرَب للمَلِك والقوانين التي عليه أن يُطبِّقَها على من يَخدُمُهم. قليلون من ملوك إسرائيل هم الذين اهتمّوا بهذه القوانين.
لننتقِل إلى الإصحاح الثامن عشر.
اقرأ الإصحاح الثامن عشر من سِفْر التثنية كله
سَطَّرَ الإصحاح السابق الحدود والقيود العامّة لفئتَين من الفئات الأربع لقادَة الحُكم في إسرائيل: القُضاة والملوك. هذا الإصحاح يَفعَل الشيء نفسَه بالنسبة للفئتَين المتبقيتَين، الكهنة والأنبياء.
تَبدأ الآية واحد بمَسألة الكهنة وتُكرِّر أنّ مجموعة الكهنة الرَسميّة في إسرائيل تأتي فقط من سِبط لاوي. من الجَدير بالمُلاحظة أنّه مُنذ سِفْر الخروج وتأسيس الكَهْنوت، غالبًا ما تَرِد عبارة ”الكهنة اللاويين“ عندما تُطرَح المسائل المُتعلِّقة بإكليروس إسرائيل. السَبب بَسيط من ناحية ومُعقَّد من ناحية أخرى. إنه بَسيط لأنه في حين أنّ الله قد أعلَن أنّ سِبطًا واحدًا فقط (لاوي) هو الذي سيُقدِّم خدام الله المأذون لهُم، وعشيرة واحدة فقط داخِل هذا السِبط (عشيرة هارون) هي التي ستُقدِّم الكهنة، فإنّ هذا لم يكُن أمرًا يُسهِّل على أسباط إسرائيل الأخرى أن تقبَلَه. كان من المُعتاد في مُعظم ثقافات الشرق الأوسط الأخرى في تلك الحَقبة أن يَختار المَلِك الكاهِن الأعلى، ثمّ يَختار الكاهن الأعلى عادةً الكهنة الأدنى مَرْتَبَة. كان المَلِك الجديد يعني عادةً مَجموعة جديدة من الكهَنة. صحيحٌ أنّ العائلات التي ينحدِرُ منها هؤلاء الكهنة لعِبَت دورًا ما في اختيارِهم، لكنّ الأمْر كان يتعلَّق بالنُفوذ السياسي (وبالتالي الاقتصادي) أكثر من كونِه حقًا وراثيًا راسِخًا في مناصبهِم.
تَذكَّر؛ قَبْل أن يُعطى الناموس على جَبل سيناء، لم يكُن هناك كهنوت رَسْمي للعبرانيين، وبالتأكيد لم يتم تَعيين أي سِبط كهنوتية. بل كان الأبْكار من كل عائلة، من كل سِبط، يَميلون إلى التصرُّف كنوع من الكَهنوت العائلي. كان هذا وضْعًا خاصًا يستمتعِ به بِكر كل عائلة من كل عائلة. لذلك عندما أخبَر موسى الأسباط الاثني عشر أنّ الله قد أمَرَ أن ينتهي نِظام ”البِكر“ هذا، ليَحُلّ مَحلَّه أعضاء من سِبط لاوي، كان من الطبيعي أن يقابَل ذلك بمُقاومة شديدة. وكما تحدَّثْنا عن مَيل الإنسان إلى البَحْث الدائم عن الثَغَرات مهَما كانت عقيدتُه أو ديانتُه التي يعتنقُها، فقد بَذَلت أسباط إسرائيل قُصارى جُهدِها لإحداث ثَغرات في الشرائع المُتعلِّقة بمن يمكن أن يكون كاهنًا. لذلك سنَجِد عبارة ”الكهنة اللاويين“ مُستخدَمة مِرارًا وتكرارًا لتَوضيح أنّ اللاويين وحدَهم هُم الذين كانوا يُشكِّلون الإكليروس في إسرائيل.
هناك تَذكير آخر مَوجود في الآية الأولى: وهو أنه بينما كان اللاويون يَنعمون بمَكانة قداسة أعلى من الجَميع (اللازمة ليَكونوا خُدّام الله وكَهَنَتِه) فقد دفَعوا أيضًا ثمنًا باهِظًا لهذا الانتِخاب. لم يُعطَوا حيازات الأراضي القَبَلية الوِراثية في إسرائيل مِثل الأسباط الاثني عشر الأخرى. إذا نظرْنا إلى خَريطة من أيّام يسوع ولعِدَّة مئات من السِنين بعد ذلك، سنَجِد مَناطق مُحدَّدة إلى حدٍ ما تمّ تَخصيصها كَمُمْتَلَكات أرْض ”إلى الأبد“ لكل سِبط؛ ولكن لا يوجَد في أي مَكان مِنطقة لاوي. وبدلاً من ذلك، خُصِّصَت للاويّين ثمانية وأربعين مدينة مُتناثِرة بين المُقاطعات الإثني عشرة للأسباط إلى جانِب بضعة فدادين من المَراعي خارج أسوار تلك المُدُن.
هذا هو الفَهْم لمَكانة اللاويّين وافتقارِهم للأرض على حدٍ سواء، وهذا هو الفَهْم الذي يجب أن تَرُدَّ عليه إسرائيل من خِلال واجبِها المُشترَك لدَعْم سِبط لاوي اقتصاديًا مُقابِل واجبات اللاويين تِجاه الحَرَم المركزي، والمَحاكم المَحليَّة، وكمُعلِّمين للشريعة.
إنّ مِحور الآيات ثلاثة إلى خمسة هو مُعالَجة معيشة الكهنة واللاويين، وقد قيل لنا أنّ هذه المَعيشة ستأتي في المَقام الأول من ذبائح الأبكار التي يُقدِّمُها أفراد الأسباط الاثني عشر الأخرى (أي أبْكار ذبائح الحيوانات وبواكير ثِمار الحَقل ومَحاصيل الأشجار). كما تناولْنا منذ وقتٍ طويل في سِفْر اللاويين كان هناك العديد من التَصنيفات المحدّدة للذبائح، ولكلٍّ منها نِظام وغَرَض مُختلِف. لذلك بالعودة إلى الآية واحد قيل لنا أنّ مَجموعة من الذبائح (عادةً ما تُترجَم إلى ”قرابين النار“ أو ما شابَه ذلك) هي مَصدَر الذبائح القُربانية التي يجِب أن يَحتفِظ الكهنة واللاويون بجزءٍ منها لأنفسِهمِ. إنّ المصطلح العِبري لـ ”ذبيحة النار“ هو ” إيشيس“؛ ليس نفْس المُصطلَح الشائع ”ذبيحة المِحرَقَة“، والذي هو بالعبرية ”عُلى“.
تُشير كَلِمة إيشيش إلى سِلسلة من الذبائح التي تُصنَّف على أنّها تلك التي بينما يُحرَق جزء منها على المَذبح يمكن استخدام جزء آخر وأكبر منه كطَعام لرِجال الدين؛ بينما تُشير كَلِمة ”عُلى“ إلى فئة من الذبائح التي يُحرَق فيها الحيوان بأكملِه ولا يُمكِن لأي شخص أن يَستخدِم أيّ جزء من اللحم كطَعام. دعني أوضِح لك أمْرًا لأن أحدَهُم سألني عنه الأسبوع الماضي وكان سؤالًا جيدًا؛ هل كان كلّ لَحم الذبيحة يوضَع على نار المذبَح ثم يؤخَذ بعضُه للطعام عند طَبْخِه؟ الجواب هو لا؛ فما كان يُحتفَظ به لرِجال الدين والمُصلّي، لم يكُن يوضَع على نار المَذبح. لم يكُن الأمر أشبَه بحَفلة شواء في الفِناء الخلْفي حيث كان اللحم يُطبَخ على شوّاية مُشتركَة ثمّ يَتناوَل الجميع ضِلعًا أو شطيرةَ لَحِم.
لم يكُن ذلك المَذبح مكانًا يُطبَخ فيه اللحم؛ بل كان من المُفترَض أن يتم إتلاف اللحم، وحَرْقُه بالكامِل حتّى يُصبِح رمادًا فقط.
كانت هناك ثلاثة أجزاء مُحدَّدة من الذبائح المُختلِفة (عندما كانت تُستخدَم كقرابين بالنار) كانت تُوضَع جانبًا كطعام للكهنة واللاويين: الكَتِف (أي الجزء العُلوي من الساق اليُمنى من الكتِف إلى الرِكْبة)، وذلك الجزء من المِعْدة الذي يُطلَق عليه غالبًا ”المِعْدة الرابعة“. وكذلك الكهنة واللاويون هو استقبال الفَكّ واللسان. الآن بالنسبة لمُعظم المُعاصرين يُعتبَر الجزءان الأخيران من اللحم فَضَلات لَحْم، ولكن لم يكُن هذا الحال في هذا العصر. كانت هذه أجزاء جيّدة ومَرغوبة من اللحم وليس فقط في الثقافة العِبرانية.
في الآية أربعة، قيل لنا أنّه بالإضافة إلى حِصَص اللحوم هذه، كان يجِب أن تَذهَب بعض المُنتجات الزراعية إلى الكَهنة. لقد تحدَّثْنا في عِدَّة مناسبات عن عطايا البواكير؛ حسناً، كان من المَفهوم أنّ كل البواكير كانت تَذهَب إلى رِجال الدين اللاويين كنَصيب لهُم. وبالإضافة إلى الحُبوب والفاكهة كان هذا يَشمَل زيت الزيتون والخَمْر، وحتّى الصوف من خِراف الغنَم من بين قائمة طويلة من الأشياء الأخرى.
ابتداءً من الآية ستّة، نحصُل على هذا البيان الغامِض بأنّ اللاوي يمكنُه أن يذهَب من أي مستوطَنة داخل أرْض إسرائيل ”إلى المَكان الذي اختارَه الرَب“، وإذا رغِبَ اللاوي في ذلك فيمكنُه أن يخْدُم هناك. هذا هو كل ما يُشير إليه هذا الأمر: كان مُعظم اللاويين يَعيشون في بلدات ومدُن صغيرة في المَناطق النائية من مُختلف أراضي أسباط إسرائيل. وكان اللاويون يَعيشون ويَخدُمون في إحدى هذه المدُن اللاويّة الثمانية وأربعين. ومع ذلك، كان كَثير من اللاويين يَرغبون في الخِدمة في المقدَّس المركَزي الرائع، مَقَرّ السُلطة الدينية، وليس فقط في بعض القُرى المحليَّة والتعامُل مع الأمور اليوميَّة الدُنيويَّة. لذلك يوضِح الرَب أنّ جميع اللاويين سيُعطَون فُرصَة للمُشارَكة في خيمة الاجتماع إذا رغِبوا في ذلك. وسنَرى لاحقًا نظامًا مُثيرًا للاهتمام من ”الدورات“ التي تمّ وَضعُها حيثُ يتمّ تنظيم اللاويين في مَجموعات من مُختلَف المناطِق، ويُعطَون دورَهُم (كوِحْدة) في الخدمة في الهيكل في تناوُبٍ مُحدَّد. وكما وَرَد في الآية ثمانية، يجب أن يَتقاسموا القرابين والذبائح، فلا يُستثنى أحَدْ أو يَحصُل على أكثَر من الآخر.
بعدَ ذلك، يُناقِش الإصحاح الثامن عشر مَنصِب النَبي البالِغ الأهمية. ومن المُثير للاهتمام أنّ ما قد تَمّ وَضْعُه كقيود وتَحذيرات للقُضاة والملوك بعَدَم إساءة استخدام سُلطتِهم، ثمّ التعليمات لإسرائيل بأن يَضعوا أحكامًا للكهنة واللاويين، يتحوَّل الآن إلى واجِب الشعب في أن يولي اهتمامًا وثيقًا للأنبياء. وفي هذه الحالة على كل إسرائيل أن تَستمِع إلى هؤلاء الأنبياء: القُضاة، والملوك، والكهنة، والمواطنين بشكلٍ عام. كان الأنبياء يُمثِّلون مَكْتَبًا رسميًا داخِل إسرائيل. هؤلاء لم يَكونوا مُعيَّنين ذاتيًا في حَدِّ ذاتِهم. بينما كان على الكهنة أن يُراعوا ويُعلِّموا وفي بعض الحالات أن يَحْكُموا كَلِمة الله المَكتوبة (الناموس، التوراة)، كان الأنبياء أشْبَه بموسى (أو ربما أشبه بصموئيل). كان الأنبياء هم أولئك الذين كان لديهم خَطّ اتصال شَرْعي مُباشَر مع الله.
بما أنّ الأنبياء هم رُسُل الله إلى إسرائيل وإلى قادة إسرائيل، فمِنَ الطَبيعي أن تُطيع إسرائيل كلام الأنبياء لأنه كَلام الله.
ابتداءً من الآية تِسعة، هناك سيناريوهان مَطروحان على إسرائيل :الأوَّل هو ما يَجِب أن يكون عليه موقِف إسرائيل تِجاه ”مُمارسات الأُمَم البغيضة“؛ أي المُمارسات الوثنيَّة فيما يتعلَّق بالتواصُل مع الآلهة. ما كان الوثنيّون يَفعلونه عادةً في محاولة التواصُل مع عالَم الأرواح هو مَعرِفة المُستقبَل. لست مُتأكِّدًا من أنّ هناك إغراءً أكبَر بين البشر من إيجاد طَريقة ما، أي طريقة، لمعرِفَة ما يُخبِّئه المُستقبل الذي قد يؤثِّر عليهِم بشكلٍ مُباشَر. يَحظى نوستراداموس وإدغار كيسي والعديد من الوسَطاء والعرّافين الآخرين بتَقدير كبير في كلِّ مكان في العالم لأنه يبدو أنّ الجميع لديهِم سَبب لمَعرِفة ما يُخَبِّئْهُ المستقبَل. لقد أذَنَ الله لنا بطريقة واحدة فقط لمعرِفَة المستقبَل: وهو هو. إذا لم يكُن من عِنده، فلا يجب أن نَطلُبَه. وعلاوةً على ذلك تكون الطريقة التي يُطلِعُنا بها على جزء من المستقبل الذي يَودّ أن نعرِفَه هي عن طريق أنبيائه و/أو كَلِمتِه.
تَسرُدُ الآيتان عشرة واْحدا عشرة سِلسلة كامِلة من الوسائل غير المُصرَّح بها لمُحاولة الوصول إلى المُستقبل وتتراوَح بين تقديم ذبيحة طِفل لإله مُقابل الحصول على مَعلومة ما، إلى العرَّافة والشَعوذة وحتّى محاولَة التحدُّث مع أرواح الموتى. وعلى الرُغم من أنَّ هذه القائمة ليست قائمة شاملة لكل الوسائل المُمكِنة لمُحاولة استِشراف المُستقبَل، إلا أنها تُغطّي الطرُق الأكثر شيوعًا وشُهرَة. وما تمّ سردُه يَشمَل أشياء مِثل قراءة أحشاء الحيوانات، والتحدُّث مع الأشباح، والنَظَر إلى أنماط الزَيت أو الدَم المُقطَّر في أوعية الماء، والسِحر، وما إلى ذلك.
والرَب يقول إنّ كل من يفعَل هذه الأشياء مَبغوض مِن الرَب. دعونا نكون واضِحين: هل تَعرفون تلك الخطوط الساخِنة اللطيفة التي يُعلَن عنها في التلفاز؟ بِطاقات التارو التي يمكننا شراؤها من بارنز ونوبل؟ قارئات الكَفّ بجِوار صالات الوَشْم؟ قد نَمزَح بشأنِهم، لكن هؤلاء الناس جادّون فيما يفعلونَه. والله جادّ في ذلك أيضاً. كل ما يُمكنُني أن أخبركُم به هو أنّ اقتراب شَعب الله حتّى من الناس الذين يَفعلون مِثل هذه الأشياء (حتّى على سبيل المُزاح) يَضعُنا في مواجَهة مُباشَرة مع يَهوَه. ليست فِكرة جيدة. ويقول الرَب أنّ هذا هو السَبب في طَرْد الكنعانيين من أرضِهم وإعطائها لإسرائيل.
لذلك لا يجِب على إسرائيل أن تقلِّد الكنعانيين في مُحاولة للتكهُّن بالمستقبل.
يقول الرَب في الآية خمسة عشرة، إنه سيُقيم نَبيًّا لإسرائيل لهذا الهَدَف؛ أي أنه عندما تَكون مشيئة الله أن تَعرِف إسرائيل أمورًا عن المُستقبَل سيَمْسَح الله نَبيًا ليخبرَهُم. وفي هذا الاقتباس يوضِح تمامًا أنه عندما يتكلَّم نَبي، على إسرائيل أن تُطيع.
لكنَّه يقول أيضًا في الآية عشرين أنه إذا تَكلَّم نَبي بشيء لم يقُلْه الله له، أو تكلَّم باسم آلهة كاذبة، فيجِب إعدام هذا النَبي. هذا هو النَبي العبراني الذي يَجري الحديث عنه هنا.
إذًا القَضيَّة الأولى تتعلَّق بالأنبياء الوثنييّن، لكنّ القضية الآن هي أنبياء بَني إسرائيل. والسؤال أصبَح سؤالاً إشكاليًا أرَقَ اليهودية والمسيحية إلى الأبَد: كيف يُمكنُنا أن نُميِّز النَبي الكاذِب عن النَبي الحقيقي ليَهوَه، عندما يدَّعي كلاهُما أنهما مؤمِنان مُخلِصان لإله إسرائيل، وكلاهُما يدَّعي أنّ كلامَهُما من الله مُباشرةً وبالتالي هما جديران بالثقة؟ تكمُن الإجابة المُبسَّطة في الآية اثنان وعشرين: عندما يقول نَبي ما أنه يتكلَّم بكَلِمة من الرَب ولا يَحدُث ذلك، فهذا الشخص هو نَبيٌّ كاذِب ولا ينبغي الاستِماع إليه. ولكن في بعض الأحيان تَكون النبوءة التي قيلت ستَحدُث في المستقبل البَعيد، فكيف سيعرِف الناس الذين يسمعونَها أي شخص يُصدِّقون؟
هذا يَفتحَ باب يُزعجني ويتعلَّق بأولئك الذين اعتَادوا أن يقولوا للآخرين: ”لديّ كَلِمة من الرَب لكُم“. بعِبارة أخرى، لقد أعلَنوا أنَّهم أنبياء. إذا كنتَ تَميل إلى أن تضَع نفْسَك في هذا الموقِف (أو كنت مُقتنِعًا بأن الرَب قد مَسَحَك بالفعل كنَبي)، فأطلُب مِنْكَ أن تُفكِّر طويلاً ومَليًّا فيما نقرأه هنا في سِفْر التثنية الإصحاح الثامن عشر. لا يترُك الله أي مَجال للمُناورة على الإطلاق؛ إذا كان لديك حقًا رسالة مِنه فهي مَعصومة من الخطأ ويجب أن تحدُث بالضبط كما أُعْطيت. إذا لم تحدُث، فهي لم تكُن منه، بل كانت من مَصدر آخر، والنَبي الذي تكلَّم بها كاذِب. يقول الحق عشر مرات ويكون مصيبًا، ولكن إذا انجرف وقال شيئًا مرة واحدة ليس من عند الله، فإن عواقب تَبليغ رسالة كاذبة يمكِن أن تكون عواقبُها وخيمة جدًا، بالإضافة إلى فِقدان مِصداقيته بين أقرانِه.
حتّى أعظَم أنبياء الله (الذين سُمِيَت أسفار الكتاب المقدس باسمِهم) كانوا قلقين باستِمرار بشأن ما إذا كانوا سيُخبِرون الناس بما يَعتقدون أنّ الله أخبرهُم به. غالبًا ما كانت تراودهُم الشكوك حول ما إذا كانوا على صَواب أم لا؛ كانوا يتساءلون عمّا إذا كان ما دَخَل عقولِهم بالفِعل إلهي في الأصْل أم لا، أم أنّ الأمْر كان مجرَّد خيالِهمِ يَعمَل وقتًا إضافيًا، أو حتّى أسوأ من ذلك؟ كان أنبياء الله العُظماء يعلَمون أنّ اختيارَهُم كأنبياء لله لا يَعني أنهم غير قادِرين على الخطأ، بل يَعني فقط أنّ الله غير قادِر على الخطأ. لذلك فإنّ جميع أنبياء الله كانوا أنبياء ”مُتردِّدين“ بكلِّ معنى الكَلِمة، لأنهم لم يَكونوا يَسعون لأن يَكونوا أنبياء عندما دَعاهم الله ولم يَكونوا مُتأكِّدين حتّى من رغبتِهم في هذه الوظيفة عندما أعطاهم الرَب الرِسالة. لقد كانوا عادةً مليئين بالشُكوك حَول ما إذا كانوا سيوصِلون رسالة الرَب إلى الشَعب بالفِعل. كان جزء من سَبَب عدَم الأمان هذا هو أنّ الأنبياء غالبًا ما كانوا يتعرَّضون للضَرْب والسَجن والاستِشهاد، وعلى الأقل كانت حياتَهُم صعبة للغاية وغالبًا ما كانت مُنعزِلة، هذا لأن رسائل الله لم تكُن عادةً تلك التي أراد الناس سماعَها على وَجْه الخصوص؛ أنت تعرِف القَول المأثور عن كيف أنّ الناس يُريدون دائمًا قَتْل رسول الأخبار غير المَرغوب فيها.
كان هناك وَجْه آخر لهذا المَأزق أيضًا: لقد فَهِمَ الأنبياء سيادة الله إلى درَجة لا نفهمُها نحنُ عمومًا. كانوا يَعلَمون جيدًا أنّ الله قد يُرسِلهُم برسالة مفادُها أنه إذا لم يَتوقَّف الشعب عن فِعل كذا وكذا ويَتوب، فإن الله سيُهلِكُه. لقد فَهِم الأنبياء أيضًا أنّ الله هو الذي سيُحدِّد ما إذا كان الشعب سيَمْتثِل؛ لم يأخُذ الرَب في الاعتبار آراء البشر الذين اكتَفوا بالوقوف في الخَلْف والمُراقبة. لذا، وكما في قصة يونان في نينوى، كان يونان مُهتمًّا بأنّ أهْل نينوى قد يَستمعون بالفِعل إلى إنذار الله، ويَتوبون في قلوبِهم (بشكلٍ خَفي للبشر ولكن هذا بالضَبط ما كان الله يبحَث عنه) ويَتجنَّبون نبوءة الهَلاك التي أعلَنَها لهُم يونان. ستَكون النتيجة أنّ الله سيتراجَع عن قرارِه بإبادة المدينة ويحْجُب غَضَبَه. من وِجهة نَظَر يونان قد لا تَحْدُث نبوءة الدَمار التي بَشَّر بها آنذاك، وكان ذلك سيَجعلُه نبيًا كاذبًا في نَظَر الشَعب؛ ولن يسمَع له شعبَه بعد ذلك، وفي أسوأ الأحوال قد يُعدَم لكونِه نبيًا كاذبًا. لقد كان قلِقًا للغايَة من هذا الاحتِمال لدرجَة أنّه هَرَب وحاوَل الاختباء من يَهوَه، فاضطَرّ الله أن يَسترِدَّه ويُهدِّده بتَوصيل الرِسالة إلى شعب نينوى. كلّ هذا القَلَق والاضطراب الذي واجَهَه يونان كان إجراءً اعتياديًا تمامًا لأنبياء الله في الكتاب المقدَّس، وأزْعَم أنّ هذا النَمط لا يَتغيَّر أبدًا.
لذلك دعونا نَفهم: في حين أنّ كونِك نبيًا هو أمرٌ عَظيم ومُشرِّف، إلا أنه مَحفوف بالمَخاطر والصُعوبات. إنه ليس شيئًا يجِب السَعي وراءه. إنّ إخبار شخص ما بما تَعتقِد أنه كَلِمة من الرَب ليس بالأمر التافِه، وأنبياء الكتاب المقدَّس هُم أعظم مِثال على ذلك.
سنَبدأ الأسبوع القادم بسِفْر التثنية التاسِع عشَر.