سِفْر التثنية
الدَرس السابع عشر – الإصحاحان الثالث عشر والرابع عشر
نتناوَل اليوم الإصحاح الثالث عَشر من سِفْر التثنية. تناوَل الإصحاح الثاني عشر أمْرَ الرَب لإسرائيل باقتِلاع وتَدمير كلّ بقايا الديانات الكنعانية السِريَّة التي كانت مَوجودة في أرْض الميعاد. لم يكُن على إسرائيل أن تُقدِّم أيّة تَنازلات أو تَقبَل أي مُعاهدات تَسمَح للكنعانيين المُقيمين بالاستِمرار في عبادة آلهتهم الكاذبة. لماذا؟
أولاً، لأن هذه المُمارسات (حتّى وإن كانت مَسموحًا بها للوثنييّن إلى حدٍ ما) كانت بَغيضة بالنِسبة ليَهوَه، وثانيًا، لأنّ مِثل هذه الاحتِفالات المُنحرِفة كانت خَطيرة على إسرائيل لأن ّبني إسرائيل يمكِن أن يَقعوا بسهولة في شَرَك الاحتفالات الوثنية المُغرِية والجَذّابة. كان الخَطَر كبيرًا جدًا لدرَجة أنّ قِيام إسرائيل بمِثْل هذا الأمْر كان يؤدّي إلى عِقاب شديد من الله، حتّى أنه كان يَصِل أحيانًا إلى حَدِّ الانفِصال الدائم عنه بالنِسبة لبَعض الأفراد.
لذلِك فإن الإصحاح الثالِث عشَر هو الامتِداد الطَبيعي للإصحاح الثاني عشر، لأنّ الإصْحاح الثالث عشر يُعلِن ما سَيَحدُث لكلِّ من يُحاوِل إعادة تأسيس عبادة الآلهة المُتعدِّدة التي كان يَهوَه بِصَدَد القضاء عليها.
لنَقرأ الإصحاح الثالث بأكملِه.
اقرأ الإصحاح الثالث عشر من سِفْر التثنية بأكملِه
الآية واحد هي عَلامة تَحذير إلهية لا يَجِب إزالتُها أبدًا. والتَحذير واضِح وبَسيط: ما أقول لكُم أن تَفعلوه، افعَلوه ولا تُلغوا أبدًا أيًا من هذه المَبادئ ولا تُضيفوا أبدًا أيَّة مَبادئ أخرى. لقد أعَلَن الرَب الإله عن طُرُق عبادتِه المَقبولة. إذا اختار بنو إسرائيل أن يُضيفوا بعض مُمارسات العبادة الكنعانية الوثنية إلى عبادتِهم ليَهوَه، فإنّ هذا يرقى إلى العصيان والخطيئة على أعلى مستوى؛ إنه يرقى إلى عبادة الأصنام وعدم الإخلاص.
تبدو هذه الآية القصيرة المقتضبة مكررة ومبسطة للغاية، لكنها في الواقع في صميم ما سيصيب إسرائيل وفي النهاية الكنيسة حتى يومنا هذا. بينما نقرأ بعناية الأسفار اللاحقة من العهد القديم ونتعلم عن الممارسات الوثنية لكثير من العبرانيين وخلط عبادة آلهة أخرى، كان من النادر أن تُترك عبادة يَهوَه وتُستبدل بهذه الآلهة الجديدة. أضاف بنو إسرائيل ببساطة بعض التقاليد الوثنية إلى عبادتهم للرب، وأضافوا (كالعادة) عبادة بعض الآلهة الوثنية إلى جانب عبادةِ يَهوَه. لقد كانوا ببساطة يَخلُطون ويُطابِقون لإرضاء أنفسِهم، ولإظهار التَسامُح مع جيرانِهم الوثنيّين، ثم أعلَنوا أنّه بما أنّ ذلك كان باسم الله تَعالى فلا بأس بذلك.
كان هناك عدَد من الطُرُق التي يُمكِن أن يحدُث بها هذا الرَجَس، وفي الإصحاح الثالث عشر نواجِه ثلاثةً من تلك الطرُق، ويتعلَّق الأمْر بأفراد بَني إسرائيل الذين يُغرون إخوتَهم بالابتعاد عن العِبادة النقيَّة والاتجاه نحو الرَدَّة. لقد أُعْطِيَت لنا ثلاثة أمثِلة على الطُرُق الشائعة التي قد يُضِلّ بها العبراني الآخرين؛ الأولى هي أن يَدَّعي رَجُل الولاء لله، ويَقول علانية أنه تلقَّى كَلِمة أو رؤى من الرَب، بل ويَستطيع أن يُعطي علامة مرئية (تتحقَّق) ليُثبِت أنّ ما يَتنبّأ به هو مِن يَهوَهْ بشكلٍ حقيقي. والثانية هي حالة قَريب أو صَديق مُقرَّب (أي أحَد أفراد العائلة) يُحاول، في الخفاء والسِّر، أن يَحمِل أفراد العائلة الآخرين على قبول الآلهة المُحرَّمة والثالثة هي حالة رَجُل تنبّأ بشيء ما على أنه من الرَب ونَجَح في حَمِل سكّان قريَة أو مدينة بأكملِها على تَبنّي شَكْل من أشكال التقاليد الوثنية و/أو بعض الآلهة الوثنية.
الآن ليس المَقصود من هذا استِنفاد كلّ الطرُق المُمكنة التي يمكن أن يُضِلَّ بها الأنبياء الكَذَبة الناس؛ بل الطرُق اليَومية الأكثر شيوعًا التي لا بدَّ أن تحدُث بتواتِر مُنتظِم في شَعب كبير مِثل إسرائيل سيَعيش بين العَديد من الأُمم الكَنعانية التي ليس لديها نيَّة للتَخلّي عن آلهتِها من أجْل إله إسرائيل. ما يجب أن نَفهَمَه هو أنّ كل حالة من هذه الحالات تنطبِق على هَيكَل المسيح الحديث بِقَدْر ما تنطبِق على إسرائيل القديمة.
تَبدأ الحالة الأولى في الآية اثنان وتَنتهي في الآية ستة أو سَبعة بحسَب نُسخة الكتاب المقدَّس لديك. إنها تَحكي عن شخص يُنظَر إليه على أنَّه نَبيّ أو صاحِب رؤى (أحلام)، ويصعُب دَحضُه لأنه يدَّعي أنّه نَبيُّ يَهوَه وما يُقدِّمه كدليل (علامة) على قدرتِه على رؤية المستقبَل، كما كَشفَه الرَب، يبدو أنه يتحقَّق. المُشكلة هي أنّ هذا الشَخص الذي يدَّعي الوَلاء لله يقول إنّ الله نفسَهُ قد أخبَرَه أنّ على إسرائيل أن تَسجُدَ لآلهة أخرى أيضًا. الآن قد يَبدو هذا غَريبًا جدًا بالنسبة لنا، ولكن بالنسبة لأي شَخص يَعيش في ذلك العَصْر كان هذا هو المُعتاد. تَذكَّروا أنّ إحدى الألقاب التي سنَجِدُها في العهد القديم ليَهوَه هي ”إيل“ وإيل هو لَقَب نشأ من الديانات الكنعانية الغامِضة التي تُشير إلى الإله الأكبر، الإله الأعلى، الذي يَحكُم على مَجموعة الآلهة والآلهة الأقل مِنه.
كان من الشائع أن يُعلِن أحَد أنبياء إيل (في أي ثقافة كانَت) أنّ إيل قد قَرَّر أن يُضيف إلى شعبِه إلهًا أو إلهة لعبادتِها. وبما أنّ جَميع الآلهة والإلهات الأصَغَر كانت تحت سُلطة إيل، فإنّ هذا لم يكُن بأي حال من الأحوال تَخَلِّيًا عن عبادة إيل، الإله الأعلى؛ بل كان ببساطة يُشير إلى أنّ واحدًا من عَدَد لا يُحصى من الآلهة الأصغَر الذين كانوا يَتْبَعَون إيل هو الذي سيَلعَب الآن دورًا في مُمارسات عبادتِه. إذًا الفكرة هي اتِّباع آلهة أخرى بالإضافة إلى إيل؛ وكان العِبرانيون مُرتاحين جدًا لهذه الفِكرة.
لِنَكُن واضِحين: لقد تواصَل الله بالفِعل مع شعبِه في العصور القديمة عن طريق أنبيائه ومن خِلال أصحاب الرؤى. بشكلٍ عام كانت هاتان فئتان مُختلفتان؛ كان الأنبياء هُم المُحترفون. غالبًا ما كان الأنبياء يُعيَّنون أنبياء، وحتّى لو لم يَكونوا كذلك، فقد كان مُعترَفًا بهِم بِحُكم الواقِع كأنبياء الله حتّى أنهم كانوا مَدعومين من المُجتمع. لذلك لم يكُن الأمر كما لو أنّ شخصًا ما كان يَظهَر فجأة ويُعلِن أنه نَبي، بل كان مَنصِبًا مُعترَفًا به. لم يكُن الشخص الذي كانت لديه رؤى بشكلٍ عام شَخصًا مُحترِفًا، بل كان شخصًا عادِيًا؛ قد يَكون شَخصًا وَجَد حَظوة لدى الرَب، ولذلك كانت لديه هذه الأحْلام الإلهية، أو قد يَكون مرْجعًا دينيًا يَتلقّى الوَحي من وقتٍ لآخر في حُلُم. في بعض الأحيان قد يَتلقّى النَبي كَلِمَتَه من الرَب عن طريق حُلْم أو رؤيا. إذًا هذا الكَلام ببساطة يَجمَع الاحتمالَين معًا ويقول لا تَستمِعوا إلى أحَدَ مَهما كانت نبوءاته دقَيقة إذا كان يَدعو أيضًا إلى عبادة آلهة أخرى.
وفي الآية أربعة يَقول الرَب أنّ سبَب سماحِه لأحد هؤلاء الأنبياء الكَذَبة بمعرِفة المستقبَل في الوقت الذي يُحاول فيه ذلك النَبي أن يُضلِّل الناس، هو اختِبار العبرانيين ليَرى من سيُطيع الله ومن لن يُطيعَه. المِفتاح هو عدم الاستِماع إلى أي نَبي أو مُفسِّر أحلام يَقترح اتِّباع آلهة أخرى، أو تَبنّي بعض عَناصر العِبادة الوثنية، لأنّ نَفْس الاقتراحات التي يُقدِّمها ذلك النَبي هي مؤشِّرات على أنه شِرّير بل يجِب على الشَعب أن يرفُض ذلك النَبي أو عَرّاف الأحلام ويَقتُلَه.
لاحِظوا شيئًا مهمًا؛ إنّ اختِبار ما إذا كان النبي كاذِبًا غير مُتعلِّق بصِحَّة الكِذبة أو الادِّعاء بأنه تابِع لله تعالى أم لا بل التَحقُّق ممّا إذا كانت أقوالُه تتوافَق مع شرائع الله المَكتوبة وأوامِرِه. لنَعُد بالذاكِرة إلى الوراء عندما درَسْنا مواجَهة موسى لفَرعون، فقد أعْطى الله لموسى سِلسلة من الآيات والعَجائب ليُثبِت أنه المُتحدِّث باسم الرَب. لكن في العَديد من تلك الحالات، كان سَحَرة فرعون قادرين على القيام بآيات مُماثلة. فمَن كان يجِب تَصديقُه؟ بالتأكيد في مَعرَكة وَجْهاً لوَجْه تغلَّبت آية الرَب على آية السَحَرة المَصريين (مِثل عندما تحوَّلت عصا موسى إلى حَيّة، رَدَّ السَحَرة بتَحويل عِصيهم إلى ثَعابين، لكن حيَّة موسى التَهَمت الثعابين الأخرى) لكن مع ذلك كانت آيات السَحَرة حقيقيَّة. يُمكِن للنبي الكاذِب أن يُظهِر قُدرة خارقة للطَبيعة، لذلك يجب أن نَكون فَطِنين جدًا. كيف نُميِّز؟ بدون مَعرِفة كَلِمة الله المَكتوبة هذا مُستحيل. هذه الكَلِمة تُعطينا الحقيقة حتّى نَستطيع أن نُقارِن ما نَختبرُه بها لنَعرِف ما هو من الروح القُدُس وما ليس من الروح القُدُس.
تَبدو هذه المُشكلة قديمة وبِدائية من بعض النواحي، لكنَّها في الواقِع أفسدَت المَسيحية اليهودية. وقد بدأ الأمْر بالعَقيدة الخاطئة بأنّ العَهد القديم قد مات وانتهى ولا يَنبغي أن ننظُر إليه لمَعرفة مبادئ الله وأنماطِه وحقيقتِه. أفضَل طريقة يَستخدِمُها العَدو لخِداع الكنيسة هو أن يُقنعنا بأن نتجاهَل الوثيقة ذاتَها التي أُعْطيت لنا من خالِقنا كخارِطة طريق لحياة مُتناغِمة ومُنتصِرة، وبدلاً من ذلك يَجعلُنا نتَّجِه إلى عقائد تَبدو وَرِعة ولكنَّها مليئة بالخطأ، ابتدعَتْها عُقول القيادات الطائفية واللاهوتيين والفلاسفة الدينيين؟ لقد فَعلَت الكنيسة الشيء نفسَه الذي حُذِّرنا ألا نَفعلَه! لا تُنَقِّصوا من كَلِمة الله ولا تُضيفوا إليها. يا إلهي لقد ألغَتْ الكنيسة رَسْميًا ثلثَيّ كَلِمة الله! لقد حذَّرَنا مُخلِّصنا يَسوع مرَّة أخرى خلال موعظتِه على الجبَل كما هو مُسجَّل في إنجيل متّى خَمسة من الآية سبعة عشرة إلى تسعة عَشَرة، ولكن عن طريق المَجاز ومُعاداة السامية هذا ما فَعلناه نحنُ، وقد سَبَّب لنا ذلك أكبر قدْر من الارتباك وألحَق بنا أسوأ الأذى تمامًا كما فعَل بالعبرانيين القُدماء.
عاقِبة كونِه نَبيًا كاذبًا مُعلَنة في الآية ستّة؛ يجِب أن يُعَدم. هل هذا الإعدام عِقاب في حدِّ ذاتِه؟ في الواقع الأمْر ليس مسألة عِقاب بقدْر ما هو مسألة ما يُقال في نِهاية الآية نفسِها: ”هكذا تُخلِّصون مُجتمعكم من الشَر“. يا للهول لقد تمكَّنت المُجتمعات التي يُفترَض أنها مُتطوِّرة ومُتحضِّرة ومُثقَّفة في العالَم من قَلْب هذا المَبدأ رأساً على عَقَب. إنّ التَخلُّص من الشَخص الذي يرتكِب أفعالاً شريرة شَنيعة مرَّة واحدة وإلى الأبَد (الشَر كما عرَّفه الله) هو فائدة وحِماية للمُجتمع ككُلّ لأنه يُخلِّص هذا المُجتمَع من الشَر. الآن انقلَب الأمْر بِرُمَّتِه رأسًا على عقَب وتم تَطبيق ما يُسمّى بعقيدة ”قانون المَحبَّة“ بشكل خاطئ، وتمّ سَماح القَتلة ومُرتكبي أعمال العُنف بالرَحمة والتسامُح مع السماح للشر بالبقاء وإصابَة الآخرين.
التالي هو حالة أحَد أفراد الأسْرة الذي يُحاول سِرًّا أن يُغري فَرْدًا آخر لخِدمة آلهة أخرى ”التي لم تعرِفوها“. هذا يُشير إلى أحَد أفراد العائلة المُقرَّبين جدًا والذي يقوم بالإغراء لأننا أمام عَلاقات مُحدَّدة بترتيبٍ تنازُلي من حيث الأهَمية (في ذلك العَصْر على الأقل). الأوَّل هو الأخ؛ ولكن بما أنه كان من المُعتاد جدًا أن يكون للرَجُل أكثر من زَوجة واحدة (ومَحظيّة أو اثنتين أيضًا)، وبالتالي أن يَكون للابن عِدَّة إخوة غير أشِقّاء، فهذا يوضِح أن هذا يُشير إلى الأخ الشَقيق (من نفْس الأم والأب)، أي أقرَب علاقة أُخُوَّة مُمكِنة.
ويأتي في المَرتبة الثانية من حيثُ الأهمية الابن وبَعدَه الابنة، وبعد ذلك الزَوجة، ثم الصَديق المُقرَّب جدًا والموثوق به. إذًا الفِكرة هي أنّه عندما يقترِب أحَد أفراد العائلة المُقرَّبين من فَرْد آخر من العائلة باقتراح إضافة عِبادة آلهة أخرى، فإنّ فَرْد العائلة الذي اقتُرِب منه هذا الاقتراح غير القانوني قد يَميل إلى تجاهُلِه أو التَستُّر عليه ولا يَفعَل ما أمَرَ الله أن يُفعَل: إعدام المُحرِّض.
لذلك يُقال لنا في الآية تِسعة أنه بالإضافة إلى عَدم الموافَقة على مِثل هذا الأمْر (حتىّ لو كان ذلك الفَرْد من العائلة هو أمُّك أو شَخص ذو سُلطة عليك) لا تُشفِق عليهِم، ولا تُطِعْهم، ولا تَتبعهُم، ولا تُسَتِّر عليهِم (أي تحميهِم مما يجب أن يكون عليه الأمر) بل يجِب على الأُسْرة أن تَقتُل ذلك الفَرْد من الأُسرة الذي يُحاول إغراء الآخرين بعِبادة الأصنام. والسَبب في هذا الإجراء الصارِم مَذكور في الآية الثانية عشرة: ”فيَسمَع جميع بني إسرائيل بذلك فيَخافون فيَكُفّون عن فِعل مِثل هذا الشَر فيما بينَهم“.
كما تمّ تَحديد وسيلة إعدام ذلك الشَخص: الرَجْم. إليكم الأمر هنا؛ إنّ فكرة رَجْم الشخص حتّى الموت تتم بمُشاركة الجميع في المُجتمع. هذا يدُلّ على اتِّفاق المُجتمَع بالتَراضي على رَفْض الَشر والخطيئة التي ارتكَبها ذلك الشخص. لذلك فإنّ ما وَرَد في هذه الآيات لا يَعني أنّ الأب (بدون مُحاكمة) يأخُذ ابْنَهُ أو زوجتَه خارج المُخيَّم ثم يرجمْهُما بالحِجارة حتّى الموت إذا اقترَح ذلك الابن أو الزَوجة أن تَعبُد الأسْرة آلهة أخرى؛ بل عليهم أن يُسَلِّموه إلى السُلطات المُختصَّة ويُقدِّموه للمُحاكمة ويَعملوا كشُهود، ثم إذا أُدين ذلك الشَخِص فعليهِم أن يتْبَعوا شريعة الله بأن يَكون الشاهِد أوَّل من يَرمي بحَجر الإعدام ثم ينضَمّ إليه بقيَّة الجَماعة لإتمام المَهمَّة. شديد للغاية.
إنّ المَبدأ الإلهي واضِح: إن التزامَنا بطاعة الله وأوامِره قَبل أي وَلاء لأقرَب فَرْد من أفراد عائلتنا (حتّى لو كان والدَينا أو أولادنا أو زوجِنا). عندما نواجِه الاختيار الرَهيب بين ارتكاب الشَر الصارِخ في نظَر الله أو الحِفاظ على العَلاقة مع هذا الفَرْد الساقِط من العائلة، على المَرء أن يُدير ظهره (إذا لزِم الأمر) لفَرْد العائلة لكي يبقى أمينًا للرَب. هذا، مِثل جمَيع مبادئ التوراة الأخرى، لم يُلْغِها يَسوع. يقول يسوع هذا في إنجيل لوقا أربعة عشة الآية ستّة وعشرين عن ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة، "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، بَلْ نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا.
نأمَل الآن أن تَكتشفوا أنَّه كما هو الحال في أيامِنا هذه، سيَستخدِم المُعلِّمون والواعِظون بالله درَجة ما من الغَلو في الكلام لإيصال وِجهة نظرِهم، وهذا ما كان المَسيح يفعلُه هنا. لم يكُن يقترِح أنّه عند قبولِنا له أن نُنَمّي كراهِيَة نَشِطة لعائلاتنا. إنه بالطَبع لا يُشير إلى أنّ مَحبَّته تعني الرَفْض التلقائي لعائلاتنا. بلْ بالأحرى أنه إذا دعانا لنَختار بين اتِّباع يسوع والبَقاء في وَضْع جيّد مع العائلة، فعلينا أن نَختار اتِّباع يسوع ونترُك الأمور تَسقُط حيثما شاءت. أنا، لحُسْن الحَظّ، لم أكُن مُضْطَرًّا لاتخاذ مِثل هذا الخَيار المُفجِع؛ ولكن اضطَرَّ الكثيرون لاتِّخاذ هذا القرار المُفجِع الذي غَيَّر حياتهَم، بما في ذلك مُعظم اليهود الذين قَبِلوا مَسيحهم اليَهودي، يسوع.
المِثال الأخير المُعطى هو عندما يُحاول شَخص ما تَخريب مَركز سكّاني بأكملِه من خلال تَشجيعهم (كجَماعة أو سُكّان) على الابتِعاد عن الرَب من خلال عبادة آلهة كاذِبة أو إضافة الوثنيَّة إلى شعائرهِم. في الواقِع إنّ الحالة هنا في سِفْر التثنية ثلاثة عَشرة هي في الواقِع عن بَلدة إسرائيلية حيث حدَث ذلك بالفِعل. من المُثير للاهتمام أنّ النُقطة التي أشرتُ إليها للتَوّ حول وُجود مُحاكمة لتحديد ذَنْب أو براءة المُتَّهَم بعبادة الأوثان قد أُثيرَت هنا. والنَتيجة هي أنّ كلّ الجَماعة التي استَسْلَمت لهذه الرَدَّة (وليس فقط المحرضين) يجب أن تُعدَم.
الرِفاق الذين بدأوا المُشكِلة (يُسَمَّون الأوغاد في الكتاب المقدَّس اليهودي)، وفي نُسَخ أخرى يُسَمّون الرِفاق الدنيئين) يوصَفون حَرْفياً في العبرية بأنهم” بَني بليعال“، أي أبناء بليعال. بليعال تَعني أناس لا قيمة لهُم أو عديمي الفائدة مِثل القتَلة والمُغتصبين الذين لا يَفعلون شيئًا سوى الأذى والتَحريض على المَشاكل؛ لذلك فإن هذا حَرْفيًا يُسمّي المُحرِّضين على هذه الوثنية الجَماعية أبناءً عديمي القيمة (لذا فإنّ الوَغْد هو تَرجمة جيِّدة). هناك بِضعة مواضِع في الكتاب المقدَّس حيث سنُصادِف مرَّة أخرى هذه الكَلِمة، بليعال، وأحيانًا تُستخدَم كاسم عَلَم (اسم رَسمي). على سبيل المِثال، غالبًا ما يُستخدَم الشيطان كاسم عَلَم على الرغم من أنه يَعني ببساطة ”الخَصْم“. عندما يُستخدَم ”بليعال“ كاسم عَلَم، يكون ذلك بنفْس الطريقة التي قد نُسمّي بها الشيطان ”الشِرّير“. الشرّير ليس في الحقيقة اسمًا رَسميًا آخر للشَيطان؛ إنه مُجرَّد وسيلة أدبيَّة نأخُذ بها لَقبًا عامًا ونُعطيه لشَخص مُعيَّن يُقال إنه يَحمِل هذا اللقب. يُصبِح (بطريقة شِعرية) اسم عَلَم بديل.
نَجِد مُصطلح بليعال في العَهد الجديد كما في القديم. عن ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة، اثنان، كورنثوس الإصحاح ستّة الآية خمسة عشرة، أو ما هو الانسجام بين المسيح وبليعال، أو ما هو الانسِجام بين المؤمِن وغير المؤمِن؟ إذَن من العَهد القديم نتعلَّم الآن مَعنى هذا المَقطع من العَهد الجديد: إنّه يَعني ”ما طبيعة انسجام المَسيح مع أبناء لا قيمة لهُم (الأوغاد أو المُجرمين المُعادين للمجتمَع) .
كدينونَةْ نهائية على جَريمة عِبادة الأوثان التي اشترَكت فيها الجَماعة كلَّها، فإنّ المدينة نفسَها (المَباني) تُدمَّر. لن يتُمّ البِناء على أطلال المدينة مرَّة أخرى. الكَلِمة العبرية المُستخْدَمَة هنا للتعبير عن رُكام أو أنقاض البَلدة هي "تَل".
أولئك الذين زَاروا إسرائيل قد زاروا العَديد من التل، لأنّ التل هو المَكان الذي أُعيد فيه بناء سِلسلة من المُدن كلٌّ مِنها على أنقاض المدينة السابقة…. في كثيرٍ من الأحيان خَمسة عشرة أو عشرين مرَّة. في الواقِع إن كَلِمة هَرَم أو تَلَّة تَصِفُها بشكل جيّد؛ لأنه على الرُغم من أنّ المدينة الأصليَّة كانت مَبنيّة بشكلٍ عام على نفْس مستوى المدينة المُحيطة بها، إلا أنّ دورة التَدمير وإعادة البِناء على مَرِّ القرون تخلُق حَرفياً تَلَّة تَنمو مع كل جولة بناء مُتتالية لدرَجة أنّ بعض هذه التلال يبلُغ ارتفاعها مئة قَدَم وأكثر، وتبدو لغَير المُستطلِعين كما لو كانت تلَّة صغيرة بارِزة من العَدَم.
وبالإضافة إلى إحراق المَباني، تُكدَّس غنائم المدينة (وهي الأغراض الشَخصية التي عادةً ما تُصادَر وتُعطى للقائد العسكري أو المَلِك) وتُحرَق بالنار. وهذا ما يُطلَق عليه اسم” هَرَم“؛ والفِكرة هي أنه نَظَرًا لأن الرَب أمَرَ بتَدمير المدينة بسبب غَضَبِه الإلهي الذي يُصَبّ عليها كان هذا عَملًا مُقدَّسا. لذلك فكما أنّ الذبيحة يجِب أن تُحرَق بالكامِل على المذبَح وتُعطى كلُّها لله، كذلك غنائم المدينة يجب أن تُحرَق بشكلٍ رَمزي وبالتالي تُعطى كلُّها لله.
الآيتان الأخيرتان توضِحان أنّ سَبب تَدمير البلدة هو غَضَب الله على كلِّ إسرائيل بسبب فِعل هذه البلدة المُتمرِّدة التي تَحوَّلت إلى الرَدّة؛ ولن يُشفى غَضَبُه حتّى يتمّ تنفيذ أمرِه بتَدمير البلدة وأهلِها وكلّ ما فيها. عندها فقط سيُعيد رِضاه على أمَّة إسرائيل.
هذه هي خطورة ارتكاب الزِنا في حَق الرَب. لا توجد جريمة أكبَر ضِدَّ قداستِه من أنْ يأتي شخص يدَّعي أنه في اتِّحاد معَه، ويَذهَب إلى الاتحاد طواعِيَة مع الشَر….. في هذه الحالة، الآلهة الكاذبِة.
لننتقِل إلى الإصحاح الرابع عشَر.
اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح الرابع عشر من الآية واحد إلى ثمانية
يبدأ هذا الإصحاح بتَعليق شَخصي من الرَب. لقد ذكرتُ في عِدَّة مُناسبات أنّ الكتاب المقدَّس يوضِح أنَّك في نَظَر الله – كلّ من تتعرَّف عليه. وقد تمَّ التَعبير عن هذا في الإصحاح السابِق باستخدام مُصطلح” بني بليعال“ (أبناء بلا قيمة)، الأوغاد الذين يُحدِّدهم الرَب بأنّهم أشرار يعارِضونَه. في الطرَف الآخر من الطَيف نَجِد الكَلِمات التي تَبدأ سِفْر التثنية الرابع عشَر؛ وهناك يقول الله أنّ بني إسرائيل هُم ”بنو يهوفي“، أبناء يَهوَه. يُعرِّف الرَب العبرانيين بأنَّهم شعْبٌ مُقدَّس مُرتبِط به ويقول أنّه لا يَنبغي أن يكون لكمُ طقوس حِداد مِثل الوثنيين الكنعانيين بني بليعال.
سنَجِد أنّ هناك العديد من الطقوس والمُمارسات الخاصَّة بالكنعانيين مَحظورة على إسرائيل لأنّ الكنعانيين يَفعلونها ببساطة؛ وهذا السبب في مَنْع حَلْق رؤوس بني إسرائيل (الذكور بالطبع) وشَقِّ أنفسِهم حتّى ينزِفوا دَماً كعادة للحِداد على الموتى. هذه الأنواع من الأفعال كانت مَعروفة في جميع أنحاء الشَرق الأوسط ومعظم العالَم المَعروف، ولكن الرَب يقول إّن شعبَه لا يَنبغي أن يفعَل مِثل هذه الأشياء لأنّه شَعْب مقدَّس مُخصَّص له. إحدى المبادئ الكامِنة وراء قداسة الله هي أنّ الأشياء المقدَّسة يجِب أن تكون بلا عَيْب. لذلك يَجِب ألا يَكون في الحيوانات التي ستُقدَّم له على مَذبح النحاس عيوب أو نُدوب أو أن تَكون مريضة أو ضَعيفة؛ بل يجب أن تكون الأفضَل، كامِلة، لا عَيب فيها. وينطبِق هذا أيضًا على الكهَنة الذين يَخدُمون الرَب؛ فلا يُمكِن للكهنة أن يخْدُموا إذا كان لديهم عَيب جسدي مِثل إصبَع مَفقود أو نَدبة كبيرة أو علامة حِرْق أو وُلِدوا بنَوع من العَيب الخُلُقي. وهكذا يترتَّب على عامَّة بني إسرائيل أن يَخْضعوا أيضًا لنمَط القداسة المِثالي هذا الذي لا تَشوُّه أو عَيْب فيه؛ ولذلك بينما لا يُعاقب الرَب العبراني الذي لديه نَدبة أو حِرْق أو عَيب خُلُقي ولا يَكون أقل قداسة من أي إسرائيلي عادي بسبب ذلك، فمِن المؤكد أنه لا يجِب أن يَخلُق عيبًا عن قَصْد عن طريق إحداث ندوب أو تشويه النَفْس بأي شكلٍ من الأشكال.
مع الانتِهاء من هذه الفَقَرة القصيرة المُتعلِّقة بالقداسة في الحِداد، يَرِد في الآية ثلاثة قسمًا أطوَل يَتناوَل النِظام الغذائي (أو بالأحرى القداسة المَطلوبة من النظام الغذائي الإسرائيلي). والأمْر المِحوَري في هذا هو تَعريف الأطعِمة المَقبولة مُقابل الأطعمة المَحظورة، الطاهِرة مُقابل النَجِسة. في الواقِع من وِجهة نَظَر العبرانيين، فإنّ ما هو مَحظور لا يُعتبَر طعامًا. وبعبارة أخرى، هناك طعام من جِهة وهناك أشياء صالِحة للأكْل من جهة أخرى لا تُعتبَر بالنسبة لإسرائيل طعامًا.
من المُهم لنا أن نَفهَم هذا النَوع من التَفكير عند قراءة الكتاب المقدَّس (أسفار التوراة أو العهد الجديد) لأنه يتعلَّق بما يُمكِن للعبراني أن يأكلَه وما لا يمكن أن يأكُلَه.
يُشير الحكماء العِبرانيون إلى أنّ مَفهوم وَضْع الرَب حدودًا حول ما يمكن للعبراني أن يأكلَه كطعام يبدأ في سِفْر التكوين اثنان عندما قيل لآدم وحوّاء أنّ بإمكانِهما أن يأكُلا ثِمار كل شيء في جَنّة عدَن دون قيود باستثناء ثِمار شجرةِ مَعرِفة الخير والشَر. أوَدّ أن أشير هنا إلى مَبدأ لم نتحدَّث عنه منذ بعض الوقت ولكنّه يَستحِقّ المُراجعة؛ وهو أنّ الله لم يَضَع قواعِد لآدم وحواء قَبل قاعدة عدَم الأكْل من تِلك الشجرة المُعيَّنة. اسمَحوا لي أن أقول ذلك مرَّة أخرى: عندما خُلِق آدم وحواء في البداية لم تكُن هناك قَوانين أخلاقية أو قوانين مَدَنيّة أو قواعِد من أي نوع. من المُفيد لنا أن نعرِف أنّ القانون الأول الذي وَضَعه الله لهُما، وللعالم، كان يتعلَّق بالطعام. ما يَعنيه هذا في مفرداتِنا الحديثة هو أنّه حتّى اللحظة التي قال فيها يَهوَه لا تأكُلا تلك الثَمرة بالذات من تِلك الشجرة بالذات، كانت الخطيئة مُستحيلة تمامًا بالنسبة للزَوْجَين الأوَّلين. بدون ناموس من الله ليُخالفاه…. وخَرْق ناموس الله هو تَعريف الخطيئة…… كيفَ أمكنَهُما ارتكاب خطيئة؟ الجَواب: لم يَستطيعا. ولكن بمُجرَّد أن أعطى الرَب الأمْر لآدم وحواء بتَقييد أكْل الثمار من شَجَرة مَعرِفة الخَير والشَر، أصبَح من المُمكِن أن تحدُث الخطيئة الآن. لماذا؟ لأنه كان هناك أخيرًا قاعِدة يمكن كَسرُها. كان لآدم وحواء أساسًا توراة تَحتوي على شريعة واحِدة. وخَمِّن ماذا، لم يَستطيعا الانتظار حتّى يَنتهكاها.
أنا مُقتنِعٌ أنه قَبل وَضْع هذا القانون لم يكُن لدى آدم وحواء أي فِكرة عن وجود شيء مِثل الصواب والخطأ، الخَير والشَر، طاعة الله والخطيئة. إنّ مَفاهيم الشَر والخطأ والخطيئة لم يكُن لها مَعنى قَبْل رَسْم الخَطّ الفاصِل بين ما هو مَقبول لدى يَهوَه وما هو غير مَقبول.
على الرُّغم من أنّ هذا التَغيير طَفيف، إلا أنني أوَدّ أن أُدْلي ببعض المُلاحظات التي ستَكون مُفيدة في فَهْم سبب كَوْن الأمور على ما هي عليه فيما يتعلَّق بالبشرية والخَطيَّة. أحتاج منكُم أن تضعوا كتبكم المقدَّسة، من فضلكم، وتنظروا إليّ وتَتْبعوني لأن هذا الأمر ليس سهل الفهم.
لقد وُلِدنا جميعًا بمَيلَين في نفوسِنا: المَيل إلى الخير والمَيل إلى الشر؛ المَيل إلى فِعْل الخير، والمَيل إلى فِعل الشر. هذان المَيلان هما اللذان يُشكِّلان إرادتَنا. لقد خُلِق آدم وحواء بمَيل الخَير ومَيل الشَر مثلَنا تمامًا. لو لم يُخلَقا بهذَين المَيلين لما كانت لهُما إرادة. لكانا كالإنسان الآلي. ما هو الغرَض من الإرادَة؟ الإرادَة هي ذلك المُكوِّن في الإنسان الذي يَقوم بالاختيارات الأخْلاقية. ما هو الاختِيار الأخلاقي؟ يُعرَّف "الأخلاقي" في الكتاب المقدَّس على أنه الشيء الذي يَتماشى مع شَخصية الله ومَشيئتِه؛ لذا فالاختيار الأخلاقي هو الذي نَختار فيه أن تَكون قراراتُنا مُتَّفِقة مع أو ضِدّ مشيئة الله. عندما نتَّخِذ خَيارًا أخلاقيًا يَتماشى مع مَشيئة الله فهذا يُسمّى طاعة. عندما نتَّخِذ خَيارًا أخلاقيًا يتعارَض مع مشيئة الله يُسمّى خطيئة.
لذلك، على الرغم من أنّ آدم وحواء خُلِقا بدون خطيئة، إلا أنهما خُلِقا مع القُدرة على الاختيار الأخلاقي. ولكن إلى أن أعَلَن الله أنّهُما لن يَأكلا من تلك الشجرة، لم يكُن لديهِما أي خَيارات أخلاقية ليَقوما بها. لذلك كانت الخَطيئة استِحالة عَمَلية بالنسبة لهُما. هل يُمكنُك أن ترى ذلك؟ الإرادة غير قابِلة للتَشغيل بدون أي خَيارات أخلاقية. تُوَفِّر قوانين الله تلك الخيارات الأخلاقية.
ولكن بالإضافَة إلى الخَيارات الأخلاقية، لدى البَشَر فئة ثانية ومُختلِفة تمامًا من الخَيارات المُتاحة: التَفضيلات. التَفضيلات هي أشياء مِثل تَفضيل اللون الأحمَر على الأصفَر، والتُفاح على المَوز، والشوكولاتة على الفَانيليا. أو اختيار قيادة سَيارة بويك بدَلاً من هونْدا، أو ارتداء قَميص بأكمام طَويلة بدلاً من قَميص بأكمام قَصيرة. التَفضيلات هي الأشياء التي تُتيحُ لنا حرَّيةَ الاختيار حيثُ لا علاقة لها بالخَير والشَر، وبالتالي لا علاقة لها بالطاعَة والمَعْصية. إنّ وَظيفة الإرادة الإنسانية ليست تَحديد التَفضيلات، فالإرادة الإنسانية هي ذلك الجُزء منّا الذي يَقوم بالاختيارات الأخلاقية.
إليكَ الأمْر الذي أريدُك أن تُحاوِل أن تتصوَّره: هناك عالَمان (فئتان) للاختيار بالنسبة للبشر: الاختيار الأخلاقي والتَفضيل. لقد قَسَّم الله هذَين المَجالَين وفَصلَهُما عن بعضِهما البعض بِقَدر بُعْد المَشرِق عن المغرِب. في عالَم الاختيار الأخلاقي (العالَم الذي يتعامَل مع إرادتِنا) وَضَع الرَب مَعايير وحدود مُفصَّلة في التوراة. داخِل التوراة توجد قوانين وأوامِر (الأشياء التي تَفصُل تلك المَعايير والحدود). عادةً ما تَكون في شَكْل أوامِر الله ونواهيه، حيثُ يتم تَحديد الخَير والشَر، والصواب والخطأ، ووَضْعُها لنا حتّى لا نَضطَرَّ إلى التَخمين. هذا هو المَكان الذي تَسود فيه سيِادة الله ولا يُمكن المَساس به ولا يمكن تَغييره.
لا يَتعامَل الكتاب المقدَّس عمومًا مع التَفضيلات إلاّ ليوضِح أنّ تِلك الخيَارات خارِج نِطاق الخيارات الأخلاقية تَقَع في نِطاق التفضيلات. إنّ الحُرِّيَات التي تحدَّث عنها الكتاب المقدَّس كثيرًا في العَهد الجديد تقَع في هذا المَجال (أو فئة) التَفضيلات، وليسَ في مَجال الخَيارات الأخلاقية. يجب ألا نَعتقِد أبدًا أنه (أ) لا توجَد قواعِد وقوانين للمؤمِن، ب) وبالتالي فإنّ كل شيء بالنِسبة لنا هو مُجرَّد تَفضيلات. لأننا إذا اعتقَدْنا ذلك، فإننا نقول إنّ الأخلاق لم تَعُد موجودة بالنِسبة لتلميذ المَسيح وأنّ المَسيحيين يَعيشون حاليًا في نفْس الحالة التي عاشَها آدم وحواء قَبْل أن يأمُرهُما الله بعدَم الأكل من شَجَرة مَعرِفة الخير والشر. أن نَعتقِد مُجرَّد خطأ كتابي واضِح.
هُنا تَكمُن المُشكِلة: ما فَعَله البَشَر منذ الأزَل، ويفعلونَه اليوم بمُعَدَّل غير مَسبوق، هو مُحاوَلة إخراج الأشياء من عالَم الاختيار الأخلاقي ووَضْعِها بدلاً من ذلك في عالَم التَفضيل. تذكَّروا أنّ عالَم الاختيار الأخلاقي مَحكوم بإرادة الله وقوانينِه وأوامِره، أمّا عالَم التفضيل فقَد أُعطي للإنسان ليَختار من بَينِها، وهي أمور لم تُوضَع لها قوانين إلهيَّة وبالتالي لا دَخْل للصَواب والخطأ فيها.
على سبيل المِثال يَتِمّ نَقْل أمْرِ الله الصريح ضِدَّ المِثلية الجِنسية في المُجتمع الغَربي من عالَم الاختيار الأخلاقي إلى عالَم التَفضيل. نحن ننقُلُها من عالَم الأخلاق، من عالَم الحَقّ والباطِل، من الخَير والشَرّ، إلى عالَم التفضيل البَشري حيث لا مَجال للصواب والخطأ. هذا الاستِخفاف ليس خطيرًا فحسب، بل هو تَمرُّدًا على الرَب على أعلى مستوى. ما السُلطة التي يَملِكها الإنسان ليقول لله إنّ ما يُعلِنُه هو كخيار أخلاقي، يمكِن أن نُخفِّضَه إلى تَفضيل بشري؟ كيف نَجرؤ على القَوْل بأنّ تعريفه للخَير والشَر لم يعُدْ ينطبِق على الكثير من الأشياء في حياتِنا؟ هذا الانتِقال بالاختيارات من عالَم الله الأخلاقي إلى عالَم التفضيل المَسموح به للإنسان هو في صَميم تَمرُّد الإنسان عليه.
أخشى أنّنا نحنُ الكنيسة مَسؤولون عن إحداث هذه الرَدَّة ويجب أن نتراجَع عنها. إنّ اليَوم الذي أعلنَتْ فيه الكنيسة أنه لا يوجَد قانون هو اليوم الذي ألغَينا فيه قَبل الأوان عالَم الاختيار الأخلاقي ونقَلْنا كل الاختيار إلى عالَم التفضيل (تفضيلِنا). اليوم الذي صَدَّقَت فيه المَسيحية أكذوبة كل العُصور وقالَت إنّ يسوع جاء لإلغاء الناموس (أي إلغاء أساس الاختِيار الأخلاقي) هو اليَوم الذي أعلَنَت فيه الكنيسة الحُرِّية الكامِلة من الاختيار الأخلاقي. وقد قادَنا ذلك إلى مكان من النِسبية الأخلاقية والانحِطاط والتسامُح مع الخطيئة والارتِباك. في كثيرٍ من الأحيان أعلَنَت المذاهِب المَذهبية الحَديثة أنّ ما يُخلِّصُنا منه الخلاص في الواقِعِ هو الناموس الإلهي نفسه. وهذا خطأ فادِح، بل إنّ الخلاص يُخلِّصُنا من عواقِب انتهاك الناموس الإلهي وأي تعَريف آخر للخَطيّة غير أنّ الخَطيَّة هي انتِهاك ناموس الله وأوامِره؟ علاوةً على ذلك إذا كان يسوع قَد جاء لإلغاء الناموس، فلماذا نَحتاج إلى الخلاص من خطايانا؟ مع الناموس تُوجَد خَطيَّة، وبدون الناموس لا يمكِن أن تكون هناك خطيَّة لأنّه لا يوجَد شيء يمكن مُخالفتُه، أليس كذلك؟ لو كان مَجيء يسوع قد ألغى الناموس لما كانت هناك حاجة مُطلقًا لأن يُعلَّق على الصَليب لأنه لن يكون هناك أي خَطايا ضَرورية ليُكفِّر عنها.
هذا المَبدأ الذي أقولُه لكم لا يُصدِّق عليه تمامًا سوى القديس بولُس، وقد كانت (بالنسبة لمعظم الناس) إحدى أكثر العِبارات غُموضًا وصعوبة من بين العَديد من أقوالِه الصَعبَة. عن ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة إنجيل رومية أربعة الإصحاح ثلاثة عشر لأنَّ الوَعْد لإبراهيم أو لنسلِه بأن يكون وارِثاً للعالَم لم يكُن بالناموس بل بِبِرِّ الإيمان. أربعة عشرة لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ النَّامُوسِ وَارِثِينَ، فَقَدْ بَطَلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ. خمسة عشرة لأَنَّ النَّامُوسَ يُوجِبُ الْغَضَبَ، وَأَمَّا حَيْثُ لاَ نَامُوسَ فَلاَ نَامُوسَ وَلاَ نَقْضَ.
الشَطْر الأول من هذه العِبارة مَفهوم جيدًا، وأنا أوافِق على المَعنى المُتَّفَق عليه بالإجماع، وهو أنّه لا أحَد يُخلَّص بالناموس، بل يأتي الخَلاص بالإيمان بالمَسيح. لم يكُن الناموس أبدًا وثيقة تهدُف إلى خلاص أحَد. لم يكُن هذا هو الغَرَض منها.
لقد سمعتُ، على مَرِّ السنين، بَعضاً من أكثر العِظات إبداعاً (إنْ صَحَّ التعبير بأدَب) حول النِصف الثاني من عِبارة بولُس التي تقول: ”لأَنَّ النَّامُوسَ يَجْلِبُ الْغَضَبَ وَلَكِنْ حَيْثُ لاَ نَامُوسَ لاَ نِقْمَةَ“. إلى جانِب بعض الآيات الأخرى في رَسائل بولُس الأخرى، هذه إحدى المَقاطع الرئيسية التي استخدَمها العديد من القَساوسة المَسيحيين ليُجادلوا بأنّ (أ) الناموس سَيء بطبيعتِه، و (ب) لذلك مَع مجيء يسَوع المسيح أُلغِيَ الناموس ولم يَعُد هناك ناموس على المسيحي أن يَتبعَهُ. هذا ليس ما يَقوله لنا بولُس بأي حال من الأحوال، بل إنَّ المَبدأ الذي تناولتُه معكُم للتوّ هو أنّ الطريقة الوَحيدة التي تَزول بها الخَطيئة (انتِهاك الناموس) هي عندما تَزول نَواميس الله. حتّى لو لمْ يَبقَ سوى ناموسٌ واحِد فقط، فسَيكون هناك انتِهاك (تمامًا كما آدم وحواء بانتِهاك ناموسِهما الوحيد….. لا تأكُلا تلك الثَمرة!) يا إلهي، المؤمِن الجَديد يفهَم غريزيًّا أنه بِغَضِّ النَظَر عن موقِف المَرء من الشريعة الموسَوية نحن المَسيحيوّن لدينا قواعِد وحدود وَضَعها الله. هل نحن الآن أحرار في القَتْل؟ هل نَحن الآن أحرار في الكَذِب والسرِقة والغِشّ والزِنا؟ حتّى أكثر المؤمنين غير الناضِجين يَعرفون أنّنا عندما نَتخطّى تلك الحُدود ونَنتهِك قواعِد الله تلك، فإننا نَكون قد أخطأنا في حَقّ الرَب. لذا ربما يَكون السؤال الأفضل لنا هو: متَى سيتوقَّف هذا الأمْر؟
حسنًا، لديّ أخبار سارَّة لكُم، فالكِتاب المقدَّس يُجيب على هذا السؤال عن الوقْت الذي تتوَقَّف الخطية فيه عن أن تَكون مشكلة. والإجابة على هذا السؤال مَوجودة أيضًا في ذلك البَيان الحاسِم ليَسوع المسيح في إنجيل متّى الإصحاح خمسة الآية الثامنة عشرة من ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة ”فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ حَدٌّ وَاحِدٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ “ .
هذه العِبارة عن زوال السماء والأرْض هي عبارة حَرْفية وهي المِفتاح. عندما تَزول السماء والأرض المَوجودَتان (كما قيل لنا أنَّهما ستزولان)، وعندما يُخلَق العالَم من جديد تَماماً في نهاية عَهد المسيح الذي يَمتَدّ لألف سنة، ستَكون الأحوال مشابِهة لحالة الخَليقة بعد خَلْق آدم وحوّاء، ولكن قَبل أن يُعطى آدم وحواء حُكْمَهُما الأول…… لا تأكلا ثَمراً من شَجرة معرِفة الخَير والشَر. إذًا نحن نعلَم الآن؛ أنّه فقط عندما تُخلَق السَماء الجديدة والأرض الجَديدة ستَختفي التوراة وقوانينِها من الوجود….. تمامًا كما قال يسوع. عندها فقَط لن تَكون هناك قَوانين، وبالتَالي لن تَكون هناك خيارات أخْلاقيَّة، وبالتالي لن تَكون هناكَ إمكانية للخطيئة.
دعونا نتوقَّف هنا اليوم وسنَنظُر عن كثَب في قائمة الطَعام الكوشَر في سِفْر التثنية الرابع عشَر الأسبوع القادِم.