سِفْر التثنية
الدَرس الرابع عشر – الإصحاح الثاني عشر
سنَمضي هذا الأسبوع بحَذَر وتأنٍّ لأنّ هُناك بَعض المبادئ الروحية الحَيَوية التي يجِب استخلاصُها حتّى من أوَّل آيات من سِفْر التَثنية الثاني عَشر. كانت الإصحاحات واحِد إلى أحَد عشَر من سِفْر التثنية في جوهَرِها مُقدِّمة لما يَبدأ في هذا الإصحاح الذي نحنُ على وشَك دراستِه، الإصحاح الثاني عشر. وقد أثبَتَ العُلماء أهميَّة هذا القِسم من الكتاب المقدَّس بإعطائه اسمًا خاصًا به: قانون سِفْر التثنية.
أعتقِد أنّه إذا كان بإمكانِنا أن نَخرُج بموضوع واحِد أسمى ومَبدأ إلهي واحِد مُهيمِن من درسِنا في الأسبوع الماضي فهوَ أنّه عندما يَعرُض علينا الرَب فُرصة للانضمام إلى عَرْض عهدِه فإنّ لنا الخَيار؛ إنه عَرْض يمكننا رفضُه. سأل الرَب بَني إسرائيل "هل تُريدون أن تكونوا شَعبي وأن أكون إلهَكُم؟ إن كنتُم تريدون ذلك، فادخُلوا في عهدي الذي وضعتُه أمامَكُم. وإن كنتُم لا تُريدون عَهدي فارفُضوه وانصرِفوا“. هذا هو الخَيار المَوضوع أمام كل إنسان يقترِب منه يَهوَه.
وبالمُناسبة، لم تكُن هناك عقوبة كارثيّة في حدِّ ذاتِها لو اختار شَعب إسرائيل أن يقول ”لا“ لعَرْض عَهْد الله. ببساطة كان سيُحرَم من المَكانة المقدَّسة الخاصّة، وبدلاً من ذلك كان سيُعاد ضَمّ بني إسرائيل إلى مَجموعة الأمَم العالَمية التي اقتُطِفوا منها. من وجهة النَظَر السَماوية والأبدية، أن يرفُضوا عَرْض الرَب الكريم، كان ذلك سيَكون خطأً فادحًا ؛ ولكن من وجهة نَظَر دُنيوية محدودة لم يَكونوا ليُحقِّقوا شيء أفضل أو أسوأ من أي أمَّة أو شَعب آخر. الأمْر نفسُه بالنسبة للناس اليوم عندما تُتاح لنا الفُرصة للانضمام إلى عَهد إسرائيل ومَسيح ذلك العَهد، يشوع، يسوع المسيح. بإرادتنا الحرَّة يمكننا أن نقول نَعم أو لا؛ نعم ستُغيِّر مُستقبلَنا الأبدي إلى الأبد، وفي بعض النواحي ستُغيِّر تَجارُبَنا الأرضيَّة. أمّا كَلِمة ”لا“ لن تَلعَننا عمومًا بالفَقر أو المرَض أو التعاسة خلال حياتِنا، لكن ستَحرِمُنا من العلاقة مع الرَب والبرَكات الروحية في المَقام الأول التي تأتي منها خلال حياتنا الطبيعية وأبديَّتنا الروحية.
ولكن هناك جزء ثانٍ لنمَط العَهد هذا وهو أنّ قبول عهود الرَب يَجلِب معه أحكامَه، ولهذه العُهود شروط وأحكام. إذا قرَّر الإنسان عدَم الدخول في عَلاقة عَهد مع الله، فإنّ شروط العَهد الذي قدَّمه الله لا تؤثِّر على ذلك الإنسان لأنه ليس جزءًا من شَعب العَهد.
ولكن إذا قرَّر المَرء بالفِعل أن يقبَل عَرْض علاقة العهد مع الله، فإنّ من يَفعَل ذلك يكون مُلزَمًا بالفِعل بإطاعة جميع شروط ذلك العَهد. وكما كان هذا هو الحال في عَهد موسى، فإنه سيَبقى كذلك اليوم وإلى أن تزول السماء والأرْض.
سيَكون من المُفيد أن نأخُذ بعض الوقت هذا الأسبوع لتَهيئة الطريق لما نحن على وشَك دراستِه خلال الأسابيع القليلة القادِمة لأنّ بعضَ الأفكار والمَفاهيم التي تبدو لنا عاديَّة وبَديهِيَّة (لأنها كل ما عَرفْناه من قَبْل) هي في الواقع ثوريَّة تمامًا في طبيعتِها لذلك يَضيع تأثير تلك الأفكار والمَفاهيم. قَبل أسبوعين استخدمتُ دستورنَا الأمريكي كمِثال تَوضيحي لبَعض المبادئ والمشاكل التي يواجِهُها الإنسان عندما يُحاول أن يَحكُم مُجتمعاتنا الأرضية، لذا سأستخدِم الدستور مرَّة أخرى لتَوضيح نِقطة ما لأننا على الأقَلّ على دِراية إلى حدٍ ما بهيكلِه ومَقصَدِه.
لقد استنَد دستورُنا على فِكرة (أو الأفضَل، على فِكرة مِثالية) للحُكم الذاتي والمَسؤولية الذاتية. في حين أنّ فِكرة الديمقراطية كانت ثَوريّة إلى حدٍ ما، إلا أنّ عَناصر مُختلفة منها كانت قد جُرِّبت من قَبل في روما القديمة (بوجود هيئة حكومية تُسمَّى مَجلس الشيوخ تُمثِّل الشعب نَظَريًا). وقد تمّ تَصميم عناصر أُخرى من دستورِنا على غِرار الماغنا كارتا الشهيرة في القَرْن الثالث عشر، والتي حَدَّت من سُلطة المَلِك بحيث كان من المُفترَض أن يُطيع القوانين المَعمول بها في المَمْلكة تماماً كما كان على عامَّة المُواطِنين أن يُطيعوها. لذا لم يكُن دستورُنا في الحقيقة سوى خُطوة أخرى (رُغم أهميَّتِها) نحو المَثَل الأعلى للحُكم الذاتي الديمقراطي، ولم يكُن خروجًا كاملًا عن كلّ ما تمّ التَفكير فيه أو مُحاولة تَطبيقه.
ومع ذلك، بِقَدَرِ ما كان دستورُنا جَذريًا في نَظَر الكثيرين في عام تأسيسِه، فإنّه لا يُمكِن أن يَبدأ في وَصْف الانعِطاف غَير المَسبوق الذي اتَّخَذه عَهد جَبَل سيناء عن كل ما كان مَعروفًا حتّى تلك النُقطة من التاريخ خاصةً فيما يتعلَّق بالعَدالة الاجتماعية. لأنه حتّى تلك اللحْظة لم يكُن هناك سوى مَصدر واحِد للقانون والعدالة لأي مُجتمَع من مُجتمعات الأرض: القانون والعدالة كما أعلنَهما المَلِك. إنّ المَفهوم الذي تمّ تَقديمُه لِبَني إسرائيل لأوَّل مَرَّة في البرّية بأن إلهًا (بدلاً من مَلِك بشَري) سيُصدِر هذا النظام المُذهِلْ من القوانين والفرائض والطقوس التي كان على الحاكِم الأعلى للحكومة أن يُطيعَها قد حَيَّرَ العَقل القديم. وكما يَحدُث في مِثل هذه الحالات من الخروج الجَذْري عن المألوف، غالِبًا ما لا يبدو الأمْر حقيقيًا لمُعظم الناس. يبدو وكأنه خَيال أو شيء بَعيد عن إدراكِهم (مِثل الحُلُم أو الرؤيا)، وبالتالي من الصَعب تَطبيقه على أرض الواقِع. ومن السَهل أيضًا أن يُسيء الإسرائيليون تَفسير ما كان مَقصودًا لأنه لم يكُن هناك الكثير من هذه المَفاهيم الجديدة التي يمكن أن يَرتبِط بها الإسرائيليون؛ وغالبًا ما كان من الأسهَل ببساطة أن يَخلُطوا بعض عناصر شريعة موسى مع الطُرُق والعادات التي كانوا يُمارسونَها دائمًا؛ أو ربما النَظَر إلى ما فعَلَتْه الثقافات الأخرى التي كانت تُحيط بهم وتَعديل الأمور قليلاً.
حتّى عَصر موسى (ولا يزال الأمْر كذلك إلى حدٍ كبير في مُعظَم ديانات العالَم باستثناء اليهودية والمَسيحية) كان الناس في بَحْثٍ دائم عما تَطلُبه منهم الآلهة المُختلفة. وبما أنَّهم كانوا يَعتقدون أنّ مُعظم الأشياء التي حدَثَت لهم كانت نتيجةً لقرارات إلهٍ أو آخر، فقد أراد الناس بِشِدَّة مَعرفة أي إله تدخَّل في حياتِهم، ولماذا اختار هذا الإله أن يَفعل ما فعلَه، وهل هناك أي طريقة لاسترْضاء هذا الإله أو التلاعُب به. ولكن بشكلٍ عام تقريبًا، كان كل ذلك بلا جَدوى لأنه كان من المَفهوم أنّ الآلهة ورغباتِها غير معروفَة بشكلٍ عام. كانت الصُدْفة هي الحاكِمة، وكانت أهواء الآلهة تتحكَّم في الجميع وفي كل شيء، ولم يكُن هناك مَنطِق لما تُقرِّره هذه الآلهة سوى أن دوافعَها كانت ذاتيَّة مِثلُها مِثْل أي مَلِك دنيوي نَموذجي.
أقول لكُم بصراحة أنه ليس لدينا على الإطلاق أي طريقة للتعرُّف على هذه العَقلية القديمة ما لم نكُن ربما قد انخرَطْنا بعُمْق في مُجتمع غير يهودي مسيحي. ولكن بما أنّ مُعظمَنا لم ينشأ في هذا النوع من البيئات، دعوني أخبرُكُم باختصار أنّ الحياة كانت دائمًا مُضطرِبة لأن ما كان ليراوِد أفكارَك هو معرفة أنّ إلهًا أو آخر يمكِن أن يُعطِّل وجودَك في أي لحظة وقد لا تعرِف أبدًا سبب غضَب ذلك الإله. لقد كان مأزِقًا رهيبًا حقًا.
لقد عَثرتُ مؤخرًا على قصيدة قديمة تَعود إلى عصْر إبراهيم تقريبًا، منذ حوالى ألفي سنة قَبل الميلاد، وقد أُدْرِجَت مَقاطع من هذه القصيدة في سِجلاّت العَديد من المُجتمعات القديمة المُختلفة على مدى قرون عديدة لدرَجَة أنها كانت تَحظى بتَقدير كبير لأنها عبَّرت بشكل مؤثِّر عن المِحْنة المُشتركَة للجِنْس البشري عَبر جميع الحدود والعصور الثقافية. سأستغرِق وقتًا أكثر مما يَنبغي وأقرأ لكم جِزءًا كبيرًا مِنها لأنها تُجسِّد بشكلٍ رَصين المُعْضلِة التي عاش فيها العالَم المَعروف كلُّه (ولا يزال مُعظمُه كذلك) الذي لم يَعرِف الإله الواحد الحقيقي. أمَلي هو أن يَتحقَّق أمْران من خلال نظَرِنا في هذا المُجلَّد الذي يبلُغ عمرُه أربعة آلاف سنة. أولاً: أن يُساعد من يَدرسون التوراة على فَهْم عقليَّة ونفسيَّة العالَم القديم الذي عاش فيه موسى وعبرانيّو الخُروج؛ العقليَّة التي أصابَت تفكيرَهم بمِثل هذه المُعتقدات الخاطئة. وبالتالي كم كان من الصَعْب على هؤلاء العبرانيين اللاجئين من مصر أن يَستوعبوا ما كان يَهوَهْ يُقدِّمُه لإسرائيل. وثانيًا حتّى تَستطيع أن ترى كم نحنُ مُبارَكون ومَحظوظون بشكلٍ لا يُصدَّق أنّ الله بهذه الشخصية والصِفات، وأنه قد تَكَرَّم علينا بإعطائنا شرائعه وأوامره. يَمتلك الله شخصية ذات صِفات بديهية جدًا لنا ونَعتبرُها أمْرًا مفروغًا منه، لكن هذه الصِفات كانت غير متصوَّرَة بَل ومُربِكة للناس في وقت تَدوين التوراة لأنها كانت خروجًا جَذريًا عمّا كانوا يمارسونَه هُم وبقية العالم.
تُسمّى هذه القصيدة المَجهولة التي تَعود إلى أربعة آلاف عام ”الصلاة إلى كلّ إله“.
الصلاة إلى كلّ إله
ليَهدأ غضَب قلْب إلهي عليَّ. عَسى الإله الذي لا أعرفه أن يهدأ، عسى الإله الذي لا أعرِفه أن يُطيل بالَه عَلَي.
لِيَسْكُنَ إِلَهِي الَّذِي أَعْرِفُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ إِلَيَّ؛ لِتَسْكُنَ إِلَهِي الَّذِي أَعْرِفُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ إِلَيَّ.
ليهدأ الإله [الذي غضِب عليّ] (أربعين) بما يَخصُّني؛ لِتَهدأ الآلهة [التي غضبت عليّ].
(عشرة) (لا يمكن فَهْم السَطر الحادي عشر إلى الثامن عشر بشكلٍ أكيد)
في الجَهْل أكلتُ ذلك المحرَّم من إلهي;
في الجهْل وضَعتُ قدمي على ما حرَّمَته إلهتي. (عشرون) يا إلهي، ذنوبي كثيرة،
عظيمة هي خطاياي.
يا إلهي، (ذنوبي) كثيرة، خطاياي كثيرة وخطاياي عَظيمة.
يَا إِلَهِي، (ذُنُوبِي) كَثِيرَةٌ؛ عَظِيمَةٌ هِيَ خَطَايَايَ.
يَا إِلَهِي الَّذِي أَعْرِفُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ، ذُنُوبِي كَثِيرَةٌ، وَذُنُوبِي عَظِيمَةٌ؛
يَا إِلَهِي، الَّذِي أَعْرِفُهُ أَوْ لاَ أَعْرِفُهُ، ذُنُوبِي كَثِيرَةٌ، عَظِيمَةٌ هِيَ خَطَايَايَ.
الْمُحَرَّمُ الَّذِي ارْتَكَبْتُهُ، وَالْمُحَرَّمُ (الْمَكَانُ) الَّذِي وَطِئْتُهُ، إِنَّمَا لَا أَعْلَمُ.
الرَب في غضَب قلبِه نَظَر إليَّ، (ثلاثون) والإله في غضب قلبِه واجهَني؛
حين غضِبَت الآلهة عليَّ، جعلتْني أمرَض. الإله الذي أعرِفُه أو لا أعرفُه ظَلَمَني؛
الآلهة التي أعرِفُها أو لا أعرِفُها قد سَلَّطت عليَّ المُعاناة. رُغم أنني أبحَث عن المُساعدة باستمرار، لا أحد يأخُذ بِيَدي؛ عندما أبكي لا يأتون (الآلهة والإلهات) إلى جانبي.
أنوح ولكن لا أحد يَسمعُني؛ أنا مُضطرِب؛
أنا مغلوب على أمري؛
لا أستطيع أن أرى.
يا إلهي، يا رحيمي، أتوجَّه إليك بالصلاة: ”أمِلْ إليَّ أبدًا؛“
أُقَبِّل قدميّ إلهي؛ أزحَف أمامَك (أربعون(
(الأسطر واحد وأربعين إلى تسعة وأربعين معظمها تالفة ولا يمكن ترميمها بيقين) إلى متى يا إلهي الذي أعرِفُه أو لا أعرفُه، قَبْلَ أن يهدأ قلبُك المُعادي؟ (خمسون) الإنسان أخرَس، لا يعرِف شيئًا؛
البشر، كل ما هو موجود، ماذا يَعرِف؟
لا يعرِفُ حتّى إن كان يرتكِب الخطيئة أو يفعَل الخَير. يا سيدي، لا تطرَح عبدَك أرْضاً؛
هُوَ غَارِقٌ فِي مَاءِ مُسْتَنْقَعٍ، خُذْ بِيَدِهِ. الْخَطِيئَةُ الَّتِي عَمِلْتُهَا، حَوِّلْهَا إِلَى خَيْرٍ؛
الذَّنْبَ الَّذِي ارْتَكَبْتُهُ دَعِ الرِّيحَ تَحْمِلُهُ؛
ذُنُوبِي الْكَثِيرَةَ انْزِعْهَا كَثَوْبٍ.
يَا إِلَهِي، (ذُنُوبِي) سَبْعَ مَرَّاتٍ سَبْعًا، امْحِ ذُنُوبِي؛
يَا إِلَهِي ذُنُوبِي سَبْعٌ فِي سَبْعٍ فَأَزِلْ ذُنُوبِي (سِتّون)
يا إلهي الذي أعرفه أو لا أعرفه،
ذُنُوبِي سَبْعَ مَرَّاتٍ ضرب سَبْعَ مَرَّاتٍ؛ أَزِلْ ذُنُوبِي؛
يَا إِلَهِي الَّذِي أَعْرِفُهُ أَوْ لَا أَعْرِفُهُ، (وَ) ذُنُوبِي سَبْعٌ فِي سَبْعٍ، امْحُ ذُنُوبِي
امْحُ ذنوبي (و) سأنشِد تَسبيحَك.
ليَهدأ قلبُك ِمثل قلْب الأم الحقيقية نحوي؛ مِثل الأم الحقيقية (و) الأب الحقيقي ليَهدأ تِجاهي.
هذا أمرٌ مُحزِن ومُحبِط، أليس كذلك؟ إنه يُعبِّر عن الحالة اليائسة تمامًا للبَشرية والحالة البائسة للأنظِمة الدينية في العالَم في الماضي والحاضِر. لكن هذه الحالة هي الحالة التي وُلِد فيها العبرانيون وكذلك كل شَخصٍ آخر على كوكَب الأرْض. إنها تُعبِّر عن نَظْرة البشرية كلِّها إلى الروحانية بشكلٍ عام وكيف أنّ حياتَهُم لم تكُن سوى بَيادق لا قيمة لها لهذه الآلهة. والآن يأتي هذا الإله، يَهوَه ويَقلُب المَقاييس من خلال موسى وإسرائيل. إنه يُخبِرُهُم بالضَبط من هو، وما يَعتبرُه بالضبط خَيرًا وشرًا وما يتوقَّعُه من كل رَجُل يُحبُّه وامرأة تُحبُّه، بل ويُلزِم نفسَه بالعَمَل في حدود نظام عدلِه الثابِت الذي أقامَه مع إسرائيل.
إنه يقول إنه لا يوجَد إله آخر يُمكِن حتى التَفكير فيه، وبالتالي لا يَنبغي السُجود له أو الخوف مما لا وجودَ له؛ وأنه يتوقَّع أن تَكون طاعته بدافِع المَحَبَّة والامتنان لا الخَوف والارتياب. لماذا؟ لأنه أحَبَّ البشَر أولاً لأنه خلَقنا. إنه يهتَمّ بأدَقّ تفاصيل حياتِهم ويريد عَلاقة شَخصية مع كل واحد منهُم. بل إنّ الرَب يقول إنّ هذه المَبادئ التي أعطاها لإسرائيل تُشكِّل الأساس للكَون كلِّه؛ لقد كانت دائمًا وستَظَلّ كذلك، ويمكنهُم التأكُّد أنّه سيبقى كما هو من الماضي وإلى المُستقبَل الأبدي.
عَبَّرت تلك القصيدة القديمة عن يأس البَشرية جَمْعاء وفي المُقابل عمّا قدَّمه الرَب الإله لإسرائيل.
كيف يُمكِن لمُجتمَعٍ أو حتّى لفَرْدٍ واحد أن ينتقِل من هذا النوع من التَفكير اليائس المعبر عنه في هذه القَصيدة (والمَفهوم عالَميًا) إلى فَهْم نواميسِ الله ومَحَبَّتِه، بين عَشيّةٍ وضُحاها عَمَليًا؟ الجواب: لا يمكنُك ولا تَستطيع. إذًا لم يَفهمْها بنو إسرائيل حقًا؛ كان بإمكانِهم سَماع الكَلِمات لكنَّهم لم يَفهموها. لذلك أخطأوا، وتَراجعوا، وتابوا، وتراجَعوا أكثر، وتَبنّوا طرُقًا بدَت لهُم صحيحة، وارتكبوا الردَّة، وأصْلحوا ما أفسَدوه، ثم تراجَعوا مرَّة أخرى في هذه الدورة المُستمرَّة التي كانت في لحظةٍ ما تَنحرِف نحو الله وفي اللحظة التالية تَبتعِد عنهُ.
شَهِد موسى على إسرائيل في أفضَل حالاتِها وفي أسوأ حالاتِها على مَدى أربعة عقود. لا بد أنّ الأمْر كان شاقًا ومُحبِطًا لهذا القائد المَمسوح ولكن أنا متأكِّد أنّه قَبْل أن يموت قضى عِدَّة أيام، إن لم يكُن أسابيع، في شَرْح العهد المُذهل (وحتّى غير قابل للتَصديق) في العِظَة على جبال موآب والعلاقة التي قَطعَها خالِق كل شيء، المَلِك على كل الملوك والرَب على كل الأرباب، مع هذه المجموعة الرَثَّة من الناس الذين لم يَفعلوا شيئًا لاستحقاقِها. هذا هو ما نَقرأه في سِفْر التثنية، وهذه هي حالة التَفكير والمُعتقدات العِبْرانية التي نُحاول التَغلُّب عليها.
نحن المؤمنون المُعاصرين بحاجة إلى أن نَتعاطف مع العبِرانيين ونتفهَّمهم (بدلاً من الازدِراء الذي هو أكثر شيوعًا) على إخفاقاتهِم المُستمرَّة وعودتِهم إلى الشرور التي نَقرأ عنها في الكتاب المقدَّس. نَحتاج أيضًا أن نفهمَ لماذا لم يَنظُر شَعب إسرائيل (ولا ينظُر اليهود الأرثوذكس اليوم) إلى شرائع الله هذه على أنَّها عِبء كما يفعَل مُعظم المسيحيين. على العَكس، لقد كان الناموس ولا يزال أعظَم بَهجَة لهُم لأنه (وأخيرًا!) كَشَف هذا الإله عن نفسِه، وأوضَح شخصيتَه ومَطالبَه ومقاصِدَه، وقواعِدَه وشرائعَه.
لا مزيد من التساؤل عن إلهٍ مَجهول قد يظهَر فجأة ليتدخَّل في حياتِك. لا مزيد من اليأس بشأن ما قد يفعلُه بِك عالَم الآلهة من أجْل المُتْعة فقط. هل تُريد عَلاقة مع الإله الحقيقي؟ حسنًا، يقول موسى، إليك مَن هو الله وهذه هي طَريق العَلاقة مَعَه. لن يَتغيَّر غدًا، أو في اليوم التالي، أو إلى الأبَد. واليوم، نحن المُستفيدون من كلّ ما تَحمَّلتْهُ إسرائيل عندما حاوَلَت استيعاب طُرُق الرَب الرائعة التي تَبدو غريبة. فهَلْ من عَجَبٍ أنْ يقول القديس بولُس للأُمَم ألا تَفتخِر بسبب علاقَتِها الجديدة مع الله؟ علاقة جاءت نَتيجةً لمسيحِنا اليَهودي الذي جاء مَجيؤه في سِياق التاريخ العِبري؟ وهل مِن عَجَبٍ أن يُخبرَنا بولُس أيضًا أنه من واجبِنا ودينِنا كمؤمنين أن نَرُدّ الجَميل للشعب اليهودي بطُرق مَلموسة على تَسليمه لنا الكَلِمة كما نُقِلت إلينا حَجَرًا وجسَدًا؟
دعونا نَضَع هذا كلَّه في اعتبارِنا ونحن نَعيش حياتَنا اليومية وبينما نقرأ معًا الإصحاح الثاني عشر من سِفْر التثنية.
اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح الثاني عشر كلَّه
هناك تَغيير كَبير على وشَك أن يحدُث؛ لن تَكون إسرائيل بَعد الآن مَجموعة مُتماسِكة (وإن كانت كبيرة) من الناس الذين يَعيشون مُرتابين بعِناية حول مكان مقدَّس مَركَزي يُعرَف باسم خيمة البريَّة؛ وهو مكان مقدَّس يَذهَب معهُم أثناء انتقالِهم. وبدلاً من ذلك عندما يَعبُرون نَهْر الأردن ويَستَوْلون على أرض الميعاد، سوف يَتفرَّقون حَسب السِبط والعشيرة على عدَّة آلاف من الأميال المُربَّعة من كنعان (في مناطق مُحدَّدة ومُنْفَصِلة). مع هذا التَغيير الجَذري في ظروف مَعيشتهِم اليومية، فإنّ السؤال المَنطقي والعمَلي الذي يجِب أن يُجيب عليه مواطنو إسرائيل هو: إذن أين نتعبَّد ونذبَح؟ على كلِّ حال، إذا كان الشرْط لا يزال قائمًا بأنّ مَكانًا واحدًا فقط مَسموحًا به للعبادة والتَضحية، فإنّ هذا المَكان سيَكون بحُكْم التَعريف قَريبًا بالنسبة لبعض أسباط بني إسرائيل وبَعيدًا ومَسافةً طويلة بالنسبة لمُعظَم الآخرين.
إنّ مَوضوع المَكان المُقدَّس المَركزي والوَحيد هو القوة الدافِعة وراء الشرائع والسوابق التي ستُوضَع في الإصحاحات القليلة القادِمة. والقلَق من كَثْرة الآلهة الكاذبة وأماكن ذبائحِها المُنتشِرة في أنحاء كنعان كان له علاقة بالقَرارات التي أدَّت إلى تَغيير في القوانين والشرائع.
اسمَحوا لي أن أُشير أيضًا إلى أنّ هناك تَغييرًا كبيرًا آخر في طَوْر التَنفيذ: لن تَكون إسرائيل بعد الآن مُجتَمَعًا بَدَويًا من النوع البَدَوي الذي يَتَنَقَّل من واحة إلى واحة في الصَحراء، بل سيُصبِح مُجتمعًا زِراعيًا مُستقِرًّا تمامًا كما توقَّعت الشرائع التي أُعْطيت على لِسان موسى على جَبل سيناء. في النهِاية، الأعياد الكتابية السَبعة هي في المَقام الأول (على الأقل من وجهةِ نَظَرٍ ماديّةٍ أرضيَّة) أعياد زِراعية، وهي بالتأكيد ليسَت مَركزيَّة (أو حتّى مُمكِن الاحتفال بها) في مُجتمعَ من الرُعاة المُتجوِّلين.
علينا أن نَنْتَبِه إلى هذه العمليَّة لأنّ المُجتمعات تتغيَّر وتَتطوَّر مع الزَمن؛ ولذلك نحن بحاجة إلى فَهْم المبادئ العميقة الكامِنة وراء نظام الله في العدالة حتّى نَكون أوفياء لتِلك المبادئ الثابِتة في ظِلّ الظُروف التي يُواجِهُها كلّ جيل جديد.
توضِح الآية الأولى من الإصحاح الثاني عَشَر الأحكام التي تنطبِق على استيلائهم على أرْض كنعان. والقاعِدة الأولى هي أنّ جميع الأضْرِحة والمذابِح والمعابِد وأماكِن عبادة آلهة الكنعانيين يجب أن تُدَمَّر. على الرُّغم من ورود وَصْف الأماكِن في آيتَين فقط، إلا أنّ هناك وَصْفاً جيداً للخَصائص المُشترَكة للأماكِن التي كان الكنعانيون يَتعبَّدون فيها. تتحدَّث الآية اثنان عن الجبال العالية والتِلال وأسفَل الأشجار. ثمَّ تتحدَّث الآية ثلاثة عن أنواع الأشياء التي كانت تُميِّز أماكن العبادة تلك: مَذابح وحِجارة قائمة وأعْمِدة مقدَّسة وصُوَر مَنحوتة (لآلهتِهم).
لقد تحدَّثنا عن مُمارسات العِبادة الوثنية القديمة من قَبِل، ولكن بما أنّ الأمْر مَعروض أمامَنا مَرَّة أخرى دَعوني أتوقَّف لحظة فقط لأُلَخِّص وأستَعرِض.
كان مذبَح القرابين يَقَع على أعلى مَكان مَحلّي (حتّى لو كان مُجرَّد تَلَّة) لأنه كان يُعتقَد أنّ الآلهة كانت تُفضِّل عُمومًا الإقامة على قِمَم الجبال. في الواقِع، لم يَتُمَّ حَلّ لُغز معنى أحَد أقَدم الألقاب التوراتية للإله (إل شداي) إلا مُؤخَّرًا. وبفَضْل بعض الاكتِشافات في فَكِّ رموز اللُغَتَين الأكادية والأوغاريتية، تمّ الآن تَحديد العديد من المُصطلحات العِبرية القديمة بوضوح، لأنّه من المَعروف منذُ فترة طويلة أنّ الأكادية والأوغاريتية كانتا اللغتَين اللتين وُلِدت مِنهُما اللغة العِبرية. شداي تَعني ”الجبل“؛ لذا فإن إل شداي تَعني إله الجبَل. وهذا بطبيعة الحال يَتناسب مع عقليَّة جميع سُكاّن العالَم في أقدَم العصور التَوراتية، ويَتناسَب أيضًا مع الحادِثة التي عَرّف الله عن نَفْسِه من خِلالَها ليَعقوب باسم ”الشداي“ بينما كان يعقوب يَسير في بعض الجبال في طريقِه إلى بلاد ما بين النَهرين.
الآن، ”المَكان المُرتفِع“ يُشير ببساطة إلى موقِعٍ ”أعلى“ (في الارتفاع) مما يُحيط به (بالإضافة بالطبْع إلى أنه يعني مَكان عبادة إله). إذا كانت قَبيلة ما تُقيم في سَهْل صحَراوي مُنبسِط، فقد يكون المَكان المُرتفِع بالنسبة لها مُجرَّد كَومة من التُراب والحِجارة لا يَزيد ارتفاعُها عن ثلاثة أو أربعة أقدام عن سَطْح الصحراء.
أمّا إذا كانت القَبيلة في مِنطقةٍ ذات تِلال مُنخفِضة مُتدحرِجة، فإنّ ”المَكان المُرتفِع“ هو أعلى التِلال القريبة التي يُمكِن الوصول إليها بشكلٍ مَعقول. أمّا إذا كان المَرء في مِنطقةٍ جبَليَّة أكثر ارتفاعًا، فعادةً ما كان المَكان المُرتفِع على أعلى القِمَم القريبَة.
نَجِد العبرانيين يُمارِسون نفْس المُمارَسة بالضَبط، ففي مِنطقة أورَشليم على سَبيل المِثال، كان جَبل موريا عُموماً هو أعلى نُقطة في المدينة (عمَلياً جَبَل الزيتون خارِج أورَشليم)، ولذلك أقيم هَيكل الله هناك.
ولكننا نُلاحِظ أيضًا ما ذُكِر في الآية اثنان عن إقامة المذابِح تحتَ الأشجار. لقد كانت إقامة مَذبَح للذبيحة في بُستان من الأشجار دائمة الخُضْرة أو تُحيطُ بها، شائعًا بين الديانات الوثنيَّة. كان السبب بَسيطًا للغاية: كانت الأشجار دائمة الخُضْرة تُمثِّل الخُصوبة، وكانت التَضحيات من أجْل الخُصوبة من بين أكثر القرابين الوثنية شيوعًا. من المُصطلحات التي نُصادِفُها أحيانًا في الكتاب المقدَّس مُصطلَح ”أشيرة“، وتَعني أشيرة حَرْفيًا ”بُستان“، كما هو الحال في بُستان الزيتون. وأحيانًا تُترجَم أشيرة أحيانًا إلى عَمود ولكن هذا أمرٌ مَشكوك فيه وربَّما كان هناك بُستان من الأعمِدة (جذوع الأشجار الخَشَبية، المَيتة بالطبع) التي تُمثِّل الأشجار. مُصطلح آخر سنُصادِفُه هو عشتروت، وهو الاسم الرَسمي لإلهَة الخُصوبة (كما ترَون بسهولة أنّ المُصطلحَين أشيرة وعشتروت مُرتبطان).
حول هذه الأشيرة (بساتين الأشجار)، بالإضافَة إلى مذابِح القَرابين، وكانوا يَضَعون أحيانًا عَمودًا مَنحوتًا. تَخيَّل ببساطة عَمود الطوطم؛ أعمِدة الطوطم المألوفة لدينا هي أكثر تَفصيلاً مما كان مَنحوتًا في الشَرْق الأوسط القديم، لكنَّ الغَرَض مِنها كان في الأساس هو نفسُه؛ فقدْ كانت تُميِّز ذلك المَكان المُحدَّد (والمَذبح الذي بُنيَ هناك) كمَكان للتَضحية للآلهة المُحدَّدة المُمثَّلة في ذلك العَمود المَنحوت. كما أنّ الأحجار القائمة التي نتحدَّث عنها تُسمَّى أحيانًا بالأعمِدة؛ ولكن في طريقة تَفكيرِنا الحديثة تُعطينا كَلِمة عَمود انطباعًا خاطئًا. فنَحن نَميل إلى التَفكير في تِلك الأعمِدة الحَجَرية الأسطوانيّة المُزخرَفة والطويلة الرائعة التي كانت في مَبنى روماني؛ ولكن هذا ليسَ ما كان عليهِ الأمْر.
كان الحَجَر القائم حَرْفياً حَجَراً كبيراً مُسطَّحاً ومُنتصِباً في وَضْع مُستقيم، وفي بعض الأحيان كانت الكِتابة مَحفورة عليه؛ ولكنّ في كثيرٍ من الأحيان لم يكُن الحَجَر يَحمِل أيّ علامات. كان الحَجَر عموماً يُستخدَم في حالتِه الطبيعية؛ لم يَقُم قاطِع الحِجارة بتشكيلِه. وغالباً ما كان النُصْب التَذكاري يُشير ببساطة إلى أنّ شيئاً مُهِمّاً حَدَث في هذه البُقْعة. كانت الدِيانات الوَثَنية الأخرى تَرى رَمْز إلهَها في هذا الحَجَر وكان مَوضوعًا للعبادة.
الآن مِفتاح كلّ هذا هو إدراك أنّ أي شَخص يمكنُه أن يَبني مَذبَحًا أو مَزارًا لإلهه في أي مَكان دون إذِن إلهي. كانت أرْض كنعان مَليئة تمامًا بالمَذابِح والأعمِدة والبَساتين المقدَّسة المُكرَّسة للآلِهة المُختلِفة. كانت العائلات الفَرْدية تَبني مذابح خاصَّة بها، وكانت المُدُن تَبني مذابِح جَماعية؛ وكان الملوك يُقيمون مَذابحَهم الخاصَّة بهِم. كان من الطَبيعي أن تُبنى هذه المَذابح في مَكان قريب من أجْلِ راحة العابِد. كان بنو إسرائيل على دِراية تامَّة بكلِّ هذا لأنه لم يكُن سوى مُمارَسة مُعتادة في ذلك الوقت. والسَبب في أنّ الله، من خِلال موسى، يَخوض في كل هذه التَفاصيل عن المَذابِح والمَزارات هو أنّ العِبرانيين كانوا سيَفترِضون بشكلٍ طَبيعي (دون أن يُفكِّروا في الأمْر) أنَّهم سيَفعلون نَفْس الشيء كالآخرين؛ كانوا سيَبنون مَذابح وبَساتين ليَهوَهْ في مواقِع مُتعدِّدة قريبة من مُستوطناتهِم العديدة.
لذلك في الآية أربعَة، يُطلَب من إسرائيل ألا تَعبُد يَهوَهْ بهذه الطريقة (البَساتين والأشجار وأعمِدة الطوطم، إلخ). بَل يقول الرَب، سيَكون هناك مكان مُعيَّن يجِب أن تكون فيه عِبادة الرَب (أي المَكان الذي ستُقام فيه خَيمة الاجتِماع والذبائح) وليس في أي مَكانٍ آخر. وفقَط في هذا المَكان المَركَزي الوَحيد ستَرحَل أسباط إسرائيل الإثنا عشر لتأتي بتقديماتِها وعشورِها وذبائحِها.
إحدى الأشياء التي تمّ تَشريعُها في هذه التَعليمات كان أيضًا إجراءً مُتعارَفًا عليه في ذلك العصر: تزامُن مكان العبادة والتَضحية لإله واحد مع مَكان العبادة والتَضحية لإله آخر. لم يكُن المَذْبَح مَكانًا يمكن للمَرء أن يُقدِّم فيه ذبيحةً وقُربانًا لأي إله، فكُلّ مَذبح وثَني وكلّ مَكان مُرتفِع كان مُكرَّسًا خِصّيصًا لإله أو آلهة مُعيَّنة. لكن بِناء المَذبح كان عمَلاً شاقًا ويَستغرِق وقتًا طويلاً، لذلك مع انتِقال الناس من مِنطقة إلى أخرى، ومَجيء الغُزاة وذهابِهم وجَلْبِهِم معهُم مَجموعةْ آلهتهم الخاصَّة، ومع ارتِفاع شعبية إله مَحلّي وانخفاضِها، عادةً ما كان المذبَح المَوجود أو المكان المرتفِع يُعاد تكريسُه ببساطة من إله إلى الإله التالي. يقول يَهوَهْ أنّ إسرائيل لن تفعَل ذلك من أجلِه.
اسمَحوا لي أن أَطرَح نُقطتَين للتأمُّل ثم أَختُم الأمور بِرَبْط كل هذا بمُخطَّط الله للبشرية: تمامًا كما في البرّيَة حيث لم يكُن هناك سوى مكان واحد لتَذبَح فيه كل إسرائيل ذبيحة، هكذا سيَكون في كنعان. ولكن السَبب في ذلك لم يُذكَر. قد يكون السَبب بسيطًا مِثل أنّ الله أراد أن تَسير الأمور على عَكْس ما فَعلتْه كل الديانات الوثَنية. ما نَعرفُه على وَجْه اليَقين هو أنّ المكان المقدَّس المَركزي (خيمة البريَّة) قد نُقِل في عِدّةِ مُناسباتٍ إلى أماكن مُختلفة في إسرائيل، ولا يبدو أنّ هناك أي اعتِراض مُباشَر من الله على هذه التنقُّلات لمَكان الخيمة المقدَّسة.
هناك نُقطة أخرى تتعلَّق بهذا الأمْر بإسقاط وتَدمير جميع الأماكِن المُرتفعة لآلهة الكنعانيين. هذا الأمْر (على الرُّغم من أنه حَقيقي تمامًا ومقصودٌ تَنفيذُه) يجب أن يندرِج في نفْس فئة كوْنِه ”مَثَلًا أعلى“ سَماويًا تمامًا كما كانت الحدود الإقليمية التي وَضَعَها الرَب لتشْمَل كلّ أرضِه المقدَّسة مَثَلًا أعلى سماويًا. لم تَمتلِك إسرائيل، حتّى يومِنا هذا، كل تلك الأراضي ”المِثالية“ بالكامِل.
ما هو المَثَل الأعلى؟ إنه التَعبير عن الكمال. إنّه مَفهوم الحالة القُصوى التي يمكن أن يبلُغَها شيءٌ ما. من الناحية البشَرية، نادِرًا ما تتحقَّق المُثُل العُليا، إنْ تَحقَّقت على الإطلاق. أمّا مُثُل الله فتتحقَّق كلُّها.
في الواقِع لم تَقدِر إسرائيل أبدًا السيطرة على كنعان لتَدمير كلِّ الأضرِحة الوثَنيّة والمذابِح والأشيرة. حتّى في عهدَيّ داود القَوي ثمّ ابنِه سليمان (الذي يُعتبَر ذروة القوَّة الوطنية الإسرائيلية) لم يتحقَّق ذلك أبدًا. ومع ذلك لا يُمكِن أن نَستنتِج أنّ أيًا من هذه المُثُل لم تتحقَّق لأن الرَب لم يكُن قادِرًا ولا لأنّ الهَدَف لم يكُن قابلًا للتحقيق بجَدِّية، ولكن لأن يَهوَهْ جَعَل نَجاح إسرائيل في تحقيق هذه الأهداف مَرهونًا بطاعتِها له (لقد قرأنا عن ذلك، أليس كذلك؟). وكما سنَرى في الإصحاحات والأسفار القادِمة من العَهد القديم، فقد تعثَّرت إسرائيل كثيرًا في هذا الصَدد، ولذلك فإنّ تَحقيق المُثل العُلْيا التي عَرَضَها الله عليها قد تأجَّلت ولن تتحقَّق حتّى يأتي المسيح مرَّة أخرى ويَحكُم على كلِّ الأرض.
أُشيرُ إلى هذا لأنه هناك سَبب رئيسي لحاجتِنا إلى المَسيح لتَنفيذ خِطَّة الله، وهو أنّ تَحقيق مُثُل الله لا يُمكِن أن يتمّ بينما لا يَزال البشَر الفاسِدون يَحكمُون العالَم. قد يبدو هذا مُجرَّد ابتذال مَسيحي لطيف، لكنّ الحقيقة هي أنه لَو كان بإمكان الإنسان، من النَاحية الواقِعيّة، أن يَتْبَع كلّ وَصايا الله، لما كان هناك حاجَة إلى مَسيح. ولكن مع سُقوط آدم من حالة خَلْقِه كإنسان مِثالي، أصبَح المسيح هو الطريق الوَحيد لتَحقيق هذه المُثُل العليا السماوية لأن الإنسان عَرَف الشَرّ…..وقد أحَبَّ ذلك.
لكن افهَموا أنّ أوامِر الله لم تَفشَل، وكَلِمة الله لم تُقصَّر، بل مَخلوقات الله فَشِلَت. والمَخلوقات التي أتحدَّث عنها هي كلُّ البَشر (وليس فقط بَني إسرائيل)؛ المَخلوقات الوَحيدة التي لديها إرادة حرَّة. وعَلاوةً على ذلك، لم يكُن عَهد موسى مُعيبًا، بل كانت تَشوب البشر عُيوب. لذلك مع مَجيء المَسيح قَبْل ألفين سنة، تَجَدَّد ذلك العَهد (كما قال إرميا واحد وثلاثين)، ولكن الذي كان يُدير العَهد نَقَلَه من موسى إلى يَسوع. كان موسى إنسانًا له عُيوبِه وبالتالي كان وَسيطًا بِعُيوب؛ كان يَسوع إنسانًا بلا عَيب (الإنسان المِثالي) وبالتالي كان وَسيطًا بلا عَيب. وإلى أن يَعود الإنسان المِثالي (المسيح يسوع) الذي هو الله أيضًا، وإلى أن يُخَلِّص العالَم من كل إنسان يُعارِض الله، وإلى أن يُحبَس الشِرّير الذي يُغوي البَشر ويَتَّهِمُهم، وإلى أن يَحكمُ مَلِكُنا في مَجْد وكمال وبدون تَسامُح مع الخطيَّة، لن تَتحقَّق مُثُل الله على الأرض بشكلٍ كامِل.
ولكن كما أنّ الرَب، عندما وَضَع التوراة لِبَني إسرائيل، أخبرَهُم أنها ليست صَعبة جدًا عليهِم، كذلك هي ليست صَعبة جدًا علينا نحنُ المؤمنين بهِ (على الأقَلّ بالمعنى المِثالي). لقد خُلِقْنا مع القُدرة على تَحقيق كل أوامِر الرَب وشرائعِه جسَديًا. ولكن مع سقوط أبينا البَشري آدم في الخطيئة، خَتَم ذلك مَصيرَنا كجِنْس من المَخلوقات الفاشِلة التي لا تَستطيع تَحقيق مُثُل الله. لكنّ المَسيح يسوع يَستطيع وسيَفعَل.
سنُكمِل سِفْر التثنية الثاني عَشَر الأسبوع القادِم.