سِفْر التثنية
الدرس تسعة وثلاثون – تكملة الإصحاح ثمانية وعشرون
بدأنا الأسبوع المَاضي الإصحاح ثمانية وعشرين الطَويل جِدّاً من سِفْر التثنية وسنُنهيه هذا الأسْبوع. اجْلِس واسترِح، لأنّ لدينا الكَثير لننجِزَه الليلة. يَتضمَّن القُسْم الأوَّل الذي تألَّف من الآيات واحِد إلى أربَعة عشَرة تَلاوَة البَرَكات التي ستَحصُل عليها إسرائيل من الرَب إذا سمِعَت له وأطاعَتْه. الطَريقة المُعتادَة التي كانَت إسرائيل ”تَستمِع“ بها إلى الله كانت بِتَعلُّم الوَصايا والشَرائع التي عَلَّمَها إياها موسى ثمَّ بالعَمَل بها! في كَثير من الأحيان نَحنُ المَسيحيين المُعاصرين نَعتقِد أنّه لكَي نَعرِف على وَجْه اليَقين ما يُريدُه يَهوَه منّا، نَحتاج إلى نَوع من الوَحي الروحي الشَخصي حولَ كلّ ظَرْف من الظروف الّتي لا حَصْر لها التي نواجِهُها في حياتِنا (وهو أمرٌ غالبًا ما يُشار إليه في العِظات على أنّه طَلَبْ مشيئة الله المُحدَّدة). يُعلِّمنا الكتاب المقدَّس أنّ كلَّ شيء تَقريبًا فيما يتعلَّق بمشيئة الله لنا قد تَمّ تَحديدُه بالفِعل في كَلِمة الله، ولذلك علَينا أن نتَّجِه إلى هناك للحُصول على مُعظَم إجاباتِنا. ولكنْ عادةً ما يَكون أملُنا هو العُثور على ثَغَرة جيِّدة لتَجنُّب ما نَعرِف أنه يجب علينا فِعْلُه (أو عَدَم فِعلِه).
يَتناوَل الجُزء المُتبقّي من هذا الفَصْل ما هو عَكْس البَرَكات، أي ”اللعنات“.
الطَريقة الجيدة للتَفكير في هذه اللَعَنات هي أنَّها تَهديدات إلهيَّة. في الواقِعِ، أعطى الحكماء القُدَمَاء، ولاحِقًا الحَاخامات، عُنوانًا لقائمة اللَعَنات هذِه في سِفْر التثنية ثمانية وعِشرين "التَوخيّة"، والتي تَعني ”التَحذير“ فكَما أنّ الطاعَة تَجلِب سِلسِلة مُحدَّدة المَعالِم من البَرَكات المُحتمَلة على إسرائيل، كذلك العِصيان يَجلِب سِلسِلة مُحدَّدة المعالِم من اللعنات المُحتمَلة…..العواقِب…..على إسرائيل.
لقد قرأنا عن هذه اللَعَنات في الأسبوع المَاضي ولن نَفعَل ذلك مرَّة أخرى، ولكن يُمكنُك الرُجوع إلى الآيات التي تَبدأ من الآية خمسة عشرة للاطِّلاع على قائمة اللَعنات هذه. أوصيكمُ بشدَّة أن تَفتحوا الكتاب المقدَّس على سِفْر التثنية ثمانية وعشرين حتّى لا تَضِيعوا.
سأحذِّرُكم مُسبَقًا بأننا سنَصطدِم مُباشَرَةً ببَعضِ المَبادئ الإلهية الثابِتة التي تَمّ تَعليمُها عَمَليًّا في عَصرِنا، ولذلك قد يتحدَّى هذا بَعض الأشياء التي لطالَما اعتبرتُموها من المُسلَّمات التي لا تَنطبِق عليكُم.
تَذكَّروا أنّ ما يَحدُث هنا هو أنّ موسى يُعيد تَعليم شرائع عَهْد جَبَل سيناء لجيل الخروج الثاني ويَشرَح تلك الشرائع بأسلوبِ المَوعِظة. لقد مات الجيل الأول من الخُروج الأول الآن ودُفِن نتيجةَ لَعْنة من الله عليهِ لأنّه رَفَض المَضيّ قُدُمًا وأخْذِ أرض الميعاد في بداية رحلتِه البريَّة. الجيل الأول هو الذي ارتَجَف عندما رأى الدُخان مُتصاعدًا من قِمَّة جَبَل سيناء، وسَمِع صوت الله المُدوّي الذي جَعَلَه يَجثو على رُكَبِه غَريزيًا ويَصرُخ خَوفًا، وشَهِدَ إعطاء العَهد لموسى، وأعَلَن بالإجْماع أنّ كلّ ما قالَه الله سيَفعلُه. وبعدَ ثمانية وثلاثين عامًا قَدَّم موسى شُروط ذلك العَهد نفسِه للجيل الثاني (أبناء وبنات أولئك الذين خَرَجوا من مصر) وأخْبرَهُم أنّ عليهِم أن يَنذُروا بقُبول شروطِه كما فَعَل آباؤهم.
هناك مَبدأ عَظيم هنا: كل واحِدٍ منا يُفتَدى ليسَ بما وافَقَ عليِه آباؤنا وأمّهاتُنا وفَعَلوه، بل بما نوافِق عليه نحن ونفعَلُه. يمكنُنا أن نَتَرَعرَع في أروَع بَيت مَسيحي مؤمِن، ونَذهَب إلى الكَنيسة مع آبائنا، ونُشارِك في صلوات الجَماعة والشِركات، ونتكلَّم كل اللغات المَسيحية؛ وهذا لا يَعني شيئًا عندما يَتعلَّق الأمر بخلاصِنا الشَخصي. يجِب على كلِّ واحِد مِنّا أن يُعلِن ولاءه للعَهد الذي أتاحَه الله لنا. إذا لم نَفعَل ذلك، فنحن لسْنا عُضوًا في العَهد ونَعيش خارِجَ شروطِه. كان الأمْرُ كذلك بالنسبة لإسرائيل، ولا يَزال كذلك بالنِسبة لنا اليوم.
اللَعَنات السِتّ الأولى هي عامَّة بطبيعتِها، وهي عَكْس البَرَكات السِتّ المَذكورة في الآيات واحد إلى ستّة. تَتوافَق الآية ثلاثة مع ستّة: في حين أنّ الطاعَة لشُروط العَهد التي وافَقَتْ عليها إسرائيل (العَهد الموسوي) تَجلِب لكُم البَرَكات سواء كنتُم في المدينة أو الرِيف، فإنّ العِصيان يَجلِب عليكُم اللعنات في المَدينة أو الريف. الآية أربعة، تتوافَق مع الآية الثامنة عشرة، بَرَكة الوَفْرة مُقابِل عَدَمِها. الآية خمسة تُقابِل الآية سبعة عشرة، وهكذا دوالَيك. ما هي العِبْرة الواضِحة؟
الطاعة والعِصْيان يَجلِبان نتائج مُتعاكِسة.
بدءاً من الآية عشرين، يَتمّ التَوسُّع في اللعنات وتَحديدُها. اعتِمادًا على تَرجمتِك للكِتاب المقدَّس، تُستخدَم ثلاثة كَلِمات وَصْفيَّة لما سيفعَلُه الله لهَزيمة الإسرائيليين المُتمرِّدين (أو أمَّة إسرائيل المُتمرِّدة) في كلّ ما يُحاولون تَحقيقه: التَرجمة التي أُحِبّ أن أستَخدِمَها هي أن يَهوَه سيَجلِب اللعنة والهَمّ والالتباس؛ والسَبب الذي يَجعلني أُحِبّ هذه المُصطلحات الثلاثة أكثَر من غيرِها هو أنها تَبدأ كلًّها بنَفْس الحرف (”ال“). وهذا يَعكِس بالضَبط كيف تُقرأ العِبرية، لأنّ قائمة الكَلِمات الوَصْفية الثلاث بالعِبرية تبدأ جَميعُها أيضًا بنفس الحَرْف العِبري الميم؛ وكما هو الحال في اللغة العَرَبية فإنّ الغَرَض من ذلك هو جَعلُها أكثر تَمَيُّزًا.
النَتيجة الأولى هي (بالعِبرية) مئيراه والتي تَعني ”لَعنة“ ومَعناها المُصيبة. الثانية هي ميهوماه وتَعني الهَمّ، وهي تُشير إلى الذُعر والفَوضى التي تُسبِّبُها عادةً الحَرْب والاضطرابات الاجتِماعية الشَديدة والثالثة هي ميجريت وتَعني العِبء الثقيل وهي تَحمِل في طيّاتِها فِكرة الإحباط وعَدَم القُدرة على إحراز تَقدُّم. وما يَجلِب هذه الظروف ارتِكاب إسرائيل شَرًا كبيرًا بِتَرْكِها للرَب.
ماذا يَعني ذلك، تَرْك الرَب؟ يَقول الكتاب المقدَّس اليَهودي أنه يَعني التَخلّي عن الله. لكن ما نَجِدُه عندما نَنظُر إلى مَنْفِيي إسرائيل وعُقوباتِهم في الماضي هو أنَّهم بشكلٍ عام لم يَتوقَّفوا (في أذهانِهم) عن عِبادة الله أو الاعتِراف بيَهوَهْ كإله إسرائيل. لا نَجِد أبناء إسرائيل يَقولون: ”لا يوجَد إله اسمُه يَهوَه“ أو ”لنَذْهَب ونَعصيه“ بل أضافوا مع مرور الوقت بَعضَ الآلهة الأخرى بينما كانوا مُتمسِّكين بيَهوَه.
لقد وَجدَوا أسبابًا لتَحريف الشرائع والأوامِر الموسويَّة لتَتناسَبَ مع ملذّاتِهِم ورغباتِهم الخاصّة؛ أو لإطاعة الشرائع التي يُحبّونَها وتَجاهُل تلك التي لم تكُن ملائمة لهُم. النُقطة المُهمَّة هي أنّ تَرْك الله أو التَخَلّي عَنه لا يَعني أنّ الشَخص الذي كان يَعبِدُه في وقتٍ من الأوقات تَخلّى عَنه الآن تمامًا بل يَعني بالأحرى أنّ الشَخص الذي وافَق على شُروط العهد يَنقُضُها الآن. من الناحية الكِتابية أن نترُكَ الله أو نَهْجُرَه يَعني فقط أن نُدير ظَهرَنا له؛ أن نَترُك طاعَتَه واتِّباع طُرُقِه. يَعني أن نَبتعِد ونَفعَل ما يَحلو لنا، أن نَضَع الرَب على الرَفّ، وأن نُبدِّد حياتَنا بأشياء من العالَم لا مكان لها في حياة المَفدي. هذا ما كان يَعنيه قَبْل ثلاثة آلاف سنة، وهذا ما يَعنيه حتّى الآن للمؤمِن.
بدءًا من الآية واحد وعِشرين نَرى ثلاث فِئات من اللعنات تَظهَر: تِلك التي تَنطوي على المَرَض، والجَفاف، والحَرْب. الفئة الأولى التي يُخبِر موسى إسرائيل عنها هي الوَباء، المَرَض الخَبيث. تُستخدَم ثلاث كَلِمات عِبرية شاهفت، قدحات، دالكات لوَصْف الأمراض البَشَرية، ولكن الحقيقة أنّه لا أحَد يَعرِف حقًا ما هي المُعادَلات الحديثة لهذه الأمْراض؛ ولذلك سنَرى عَمَليًا أنّ كلّ نَسخَة من الكِتاب المقدَّس تَشمَل قائمتَها الخاصَّة. مَهما كانت هذه الأمراض فَهي مؤلمة ومُميتة. المُصطلحان التاليان يُمكِن أن يُشيرا إلى البَشَر أو المَحاصيل، فالمَعنى إمّا هو إلى أنّ البَشَر ”يَحترِقون“، للإشارة إلى الحُمّى، أو يُمكِن أن تكون الحرارة الحارِقة التي تُدمِّر المحاصيل.
بَعد ذلك تَقول الآية ثلاثة وعشرون، أنّ السَماء (أو السماوات) ستَكون كالنُحاس والأرض كالحَديد؛ وهذا يُشير إلى قِلَّة المَطَر وما يَنتُج عنه من جَفاف شَديد للأرض. بدلاً من مَطَر الرُطوبة، سيَكون هناك مَطَر من الغُبار الناجِم عن الأرض الجافَّة تماماً كما رأت أمَّتُنا في أزْمَة الوِعاء التُرابي في أوائل القَرْن العشرين والتي تمّ تَخليدُها في رواية همنغواي العظيمة، عَناقيد الغَضب.
يُضاف أيضًا جانِب الحَرْب؛ الرَب، الذي وَعَد بأن يَهزِم أعداء إسرائيل إذا كانت إسرائيل مُطيعة، سيَترُك إسرائيل تُهزَم على يَد أعدائها بسَبب عصيانِها. إنّ عبارة ”يَزحَفون في طريق واحِد ويَهرُبون في سَبْع طُرق“ هي عِبارة اصطلاحية؛ إنّها تَعني ببساطة أنه بينما سيَأتون إلى المَعركة في خَطّ قِتال مُنظَّم بشكل صحيح، إلاّ أنّهُم سيَتَفَرَّقون ويَهرُبون للنَجاة بحياتِهم في كلِّ اتِّجاه عندما يَغلِبُهم عدوُّهُم. في الواقِع ستَكون الهزيمة شامِلة لدَرَجَة أنّ أولئك الذين سيَسمَعون بها سيَنظرون إلى إسرائيل على أنَّها رُعب بدلاً من أن يَنظروا إليها بِخَوْف مُحترَم كما وَعَد الله بالبَرَكة في الآية عشرة. هذا يُذكِّرنا بالهُجوم الجَبان الذي قام به أبناء يَعقوب على رِجال شَكيم المُنهكين كَرَدّ فِعل انتِقامي غَير مُبرَّر على اغتِصاب ابن المَلِك لدينا ابنة يعقوب. قال يعقوب لأبنائه أنّه نَتيجةً لأفعالِهم أصبَح نَتِنًا في خياشيم القَبائل والأمَم المُحيطة به؛ إنهّا طريقة أخرى للتَعبير عن الرُعْب. ولكِن بكلِّ صراحة تُذكِّرنا أيضاً بالحَرْب الأخيرة بين لُبنان وإسرائيل التي هُزِمَت فيها إسرائيل وأُذِلَّت وتَحوَّل الاحترام والخَوف الكبير في العالَم العَرَبي من قُدرة إسرائيل العَسكرية إلى قَلَق حقيقي في العالَم الغَرْبي حول ما إذا كانَت إسرائيل قادِرة فِعلاً على الدِفاع عن نفسِها بَعْد الآن وأن تَكون حَليفاً مُفيداً في الحَرْب ضدَّ الإرهاب. ستُصبِح إسرائيل مرَّة أخرى ”رُعْباً“ للعالَم، وهذا سوف يَلعَب دورًا في هُجوم نهاية الزَمان على إسرائيل.
لكن يَهوَهْ يَقول إنّ اللعنات ضِدّ إسرائيل ستَزداد سوءًا. سيَكون عدد القَتلى من الجُنود العبرانيين كبيرًا جدًا لدرَجَة أنّ الناجين لن يَتمكَّنوا حتّى من دفنِهِم قَبْل أن تُصبِح جُثَثُهم عِرْضة للطيور الكاسِرة والحيوانات البريَّة. في حين أنّ هذه صورَة فَظيعة بالنِسبة لنا، إلاّ أنّها تَتضاءل بالمُقارنة مع المُشكِلة الحَقيقية في أذهان العِبرانيين: إذا لمْ يُدفَنوا بشكلٍ صَحيح لن تَتمتَّع أرواحُهم بأي نَوع من الآخِرة، بل سيَنتَهي وجودُهم الروحي.
ثُمّ تَبدأ الآية سبعة وعشرون مَوضوعًا سَيتوسَّع خلال ما تَبقّى من هذا الفَصْل: مصر. على عَكس آبائهِم، هذا الجيل الثاني من الخروج لم يَشهَد الضَرَبات الرَهيبة التي أنزَلَها الله على مَصر. لقد سَمِعوا بالتأكيد عن رِوايات شُهود العَيان عن هذه المَصائب وَهُم جالِسون حول نيران المُخيَّمات؛ ولكِن هنا يَبدأ موسى في رَسْم صورَةٍ لهُم عن تِلك الأهوال التي مَرَّت بها مصر، وأنّه بينَما فَصَل الله إسرائيل عن مصر وسَمَح لمصر وَحدَها أن تُعاني من هذه الأهوال، فإنّ إسرائيل ستُعاني من نفسِ الأهوال إذا تمرَّدَت على يَهوَه. لذلك يَقول الرَب أن بإمكانِهم أن يتوقَّعوا المُعاناة من تِلك الآلام الجِلديَّة (في المَقام الأول) الّتي تَتمنّى أن تَموت بسببِها، ولكنَّها تَتشبَّث بك دون راحة أو أمَل طوال أيّامِك. إحدى تلك الآلام الجِلديَّة تُترجَم حَرْفيًا إلى ”دَمامل شريرة“؛ وتَجدُر الإشارة إلى أنّ هذه هي نَفسُ الكَلِمات المُستخدَمة لوَصْف ذلك المَرَض الجِلدي المُدمِّر الذي سَمَح الله أن يُصيب أيوب.
لكن الآلام الجَسَدية البَحتَة والظاهريَّة البَحتة لن تَكون نهاية الأمْر. سوف يَلعَن الله عُقول الناس فَيُعانون من الخَرَف. المُصطلحات المُستخدمَة هي الجُنون والعَمى والارتِباك التامّ. يتمّ وَصْف العَذاب النَفْسي، المَرَض العَقْلي هنا وحيثُما نرى كَلِمة ”العَمى“ فهي لا تَعني فِقدان البَصَر. بل تَعني بالأحرى أنّ المَرء لن يَكون قادِرًا على التَمييز أو الفَهْم أو ” رؤية “ الحَقيقة بعد الآن. هذا يَعني تَذكير بني إسرائيل بمِصر عندما جَلَب الله عليها ظَلامًا كثيفًا لدَرَجة أنّ الناس فَقَدوا عقولَهم حَرْفيًا وليس فقط طَريقَهُم. نَزَل ظلام روحي شرّير على مِصر بحيثُ لم يُشرِق عليهم نور الشَمس ولا استِنارة الله. لقد كان في الأساس غِياب حُضور الله الذي كان مُهَدَّدًا. إنها حالة مُشابِهة جدًا للحالة التي سُيواجهُها غَير المؤمنين إلى الأبَد.
هل سَبَق لك أن كنتَ في مَوقِفٍ أو في مكانٍ شَعَرْت فيه بِشَرٍّ مُدْقِع؟ هل اختَبَرتَ يومًا القَشعريرة، ومع ذلك لم تَستطِع رؤية أي شيء أو وَضْع إصْبَعِك على سَببهِا؟ هل سَبَق لك أن كُنتَ في مكان شَعَرْت فيه أنّ نور الله غائب، وبدَلاً من ذلك لم يكُن هناكَ سِوى الظلام والمَوت؟ وكلُّ ما أرَدْتَ فعلَهُ هو الهَرَب منه؟ هذا هو العَمى العَقلي الذي يَتِمُّ وَصفُه هنا؛ لكنّ الرَب يقول إنّ الهروب لن يُجدي نَفعًا لأنّه سيَتْبَعُك أينما ذَهبتَ.
اسمَحوا لي أن أُعيد صِياغة الآيات ثلاثين إلى خَمسة وثلاثين: لن يَكون لأي شيء مَعنى بعد الآن. كلّ الأشْياء التي اعْتَدْتُم أن تَفعلوها والّتي كانت تَسير على ما يُرام لم تَعُد كذلك. ستَتَحقَّق أسوأ مخاوفِكُم عندما يَحدُث المُستحيل. سيَقضي عَدوّ مَجهول على مَصادر طعامكُم ورزقكُم؛ وسيَنتهي الأمر بأبنائكُم وبناتكُم في أماكِن غريبة حيثُ سيُصبِح بَعضهُم عَبيدًا والبعضُ الآخر سيَموت. يَقول المَنطِق أنّ هذا سيَنتهي في نِهاية المطاف (كما يَحدُث عادةً في كل شيء) لكنَّه لن يَحدُث. سيَكرهكُم الناس ولَكِنَكُّم لا تَفهموا السبب. كلّ شيء عَملتُم من أجلِه وحصلتُم عليه بِصُدْق يُصبِح فجأة مُلكًا لغيرِكُم؛ وفي النهاية ستُصابون بانهيار عَصَبي نَتيجة الضَغط النَفْسي لعَدَم قُدرتِكم على التعامُل مع فوضى وجُنون الوَضْع.
ما تمَّ تَهديد إسرائيل به كان سيَحدُث داخِل أرض إسرائيل. إنّ شَبَح هذه الأشياء الرَهيبة الّتي قد يَصُبُّها غَضَب الله على بَني إسرائيل سيَحدُث وَهُم في أرضِهم. ولكن بَعد ذلك، يَزداد الأمر سوءًا، يَحدُث ما لا يُمكِن تَصوُّرُه: النَفي.
الآية ستّة وثلاثون هي واحِدة من تلك الآيات الغامِضة التي تَحدَّثتُ عنها في بداية هذا القُسم المُكوَّن من أربعة فُصول، لأنّ النَبرَة بأكملِها تتحوَّل فَجأة من كونِها افتِراضية (”إنْ فَعَلْتَ هذا، فهذا ما سيحدُث“) إلى نَبَوية وحَتْميَّة (”هذا ما سيحدُث“). سيُزال بنو إسرائيل من أرض الميعاد لأنَّهم سوف يَتمرَّدون على يَهوَه يُنزِلون هذه اللعنات على أنفُسِهم. لاحِظ أيضًا أنّه قَبْلَ ثلاثة آلاف سنة قَبْل أن تُفكِّر إسرائيل حتّى في تَنصيب مَلِك يَحكُمها، يَقول الرَب أنّه سيُخرِج بني إسرائيل ومَلِكَهُم إلى أمَّةٍ لم تكُن مَعروفة لآبائهم؛ أمَّة لم تكُن مَوجودة أساسًا في أيام الآباء.
نَعلَم أن نَفي بني إسرائيل إلى أرْض أخرى قد حَدَث بالفِعل. سَنَجِد إشعياء وإرميا على وَجْه الخُصوص يَستشهِدان بهذه اللعنات الوارِدة في سِفْر التَثنية ثمانية وعشرين أولاً لتَحذير إسرائيل لتَغيير طُرقِها ثمّ لاحِقًا لتَذكيرها بسبب حُدوث هذه المَصائب لها. من المُفاجئ للبَعض أن يَعلَموا أنّه بسَبَب عِصيان إسرائيل وعَدَم إخلاصِها ليَهوَه كانَت أمَّة ذات سيادة لمُدَّة ثمانين عامًا تقريبًا. هذا صَحيح، إنّ دولَة إسرائيل الحَديثة الّتي بالكاد تَجاوَز عُمْرُها ستّين سنة عامًا ليسَت بعيدة عن مَجموع الوَقْت الذي كانَت فيه إسرائيل أمَّةً مُوحَّدة في كلِّ تاريخِها. فقد ازْدهَرَت إسرائيل في عَهد المَلِكَين داود وسليمان وعاشَت الأسباط الاثنا عشر تحَت راية واحِدة. ولكن في غُضون ثلاث أو أربَع سَنوات بَعدَ موت سليمان سَقطَت إسرائيل في حَرْبٍ أهليَّة وانقسَمَت إلى مَملكتَين يُشار إليهما بعدَّة طُرُق في الكتاب المقدَّس؛ ومن بين هذه التَسميات المَملكة الشمالية والمَملكة الجنوبية. كانَت المَملكة الشمالية تُسمّى أيضًا إفرايم-إسرائيل، وكانت المَملكة الجنوبية تُسمّى يَهوذا. كانت المَملكة الشمالية تتألَّف من عشرة أسباط من أسباط إسرائيل الاثني عشر، وكانت مَملكة إفرايم-إسرائيل الشمالية هي التي سُبِيَت أولاً. حوالى عام سبعمئة وخمسة وعشرون قَبْل الميلاد. استُخدِمت الإمبراطورية الآشورية القويَّة (التي كانت تَقضُم أراضي إفرايم-إسرائيل لمدَّة عَقْد من الزمن تقريبًا) كأداة للدينونة على العِبرانيين من قِبَل يَهوَه، وأكمَلَ الآشوريون غَزوَهُم للمملكة الشمالية. أُزيلَت قبائل إفرايم-إسرائيل العَشرة من الأرْض وتشتَّتَت في جَميع أنحاء الإمبراطورية الآشورية الشاسِعة، وتمَّ استيعاب مُعْظَم هؤلاء الناس في عشرات الثَقافات التي شَكَّلت آشور. هنا بَدأت أسطورة الأسباط العشرة المَفقودة.
بعد حوالى مئة وخَمسة وثلاثون سنة جاء مُتنمِّر جَديد إلى الساحة: بابِل. كانت المَملكة الجنوبية هي كلّ ما تَبقّى من إسرائيل حتّى حوالى عام خَمسة مئة وستة وتسعون قَبْل الميلاد عندما غَزا المَلِك نبوخَذ نَصَّر مَلِك بابِل يهوذا، ودَمَّر أورَشليم وأخَذَ جزءًا كبيرًا من السُكّان (بدءًا من الأكثر عِلْمًا ونَفعًا) إلى بابل. كان هذا هو السَبي الثاني.
أمّا السَبي الثالث والأخير لشَعبْ الله فكان عام سَبعين ميلادي، عندما استَولى الرومان على أورشَليم وأحْرَقوا الهيكل. ما نراه اليوم في عَودَة ظُهور دولة إسرائيل الحَديثة هو عَودة شَعب يَهوذا، مَملكة الجنوب، من المَنفى الروماني. يَجِب أن تَعود المملكة الشمالية أيضًا، وِفقًا للنبوءات، وهذا ما يحدث بدرجة متزايدة.
بالعَودة إلى سِفْر التثنية، سيتحوَّل بنو إسرائيل في مَكان نَفيِهم من كونِهم شَعباً مُتفوِّقاً إلى شَعب غَريب أدنى مُستوى. سيَخدُمون احتياجات آلهة أخرى وليس يَهوَه. وفي مَكان المَنفى هذا سيَذهَبون لغَرْس الكُروم وزَرْع المحاصيل، ولكنّ الجَراد سيُدمِّر كل ذلك. حتّى الفَرَح الصَغير الذي قد يَكونون قد اكتَسبوه بِصُنع الخَمْر وشُرْبِها يؤخذ مِنهُم. لاحِظوا مرَّة أخرى أنّ المكان الذي تَحدُث فيه كلّ لَعنات الله هذه على العبرانيين قد تَبدَّل، فقد كانوا يَختبِرون كل هذه المَصائب في إسرائيل، لكنَّهُم الآن لا يَزالون يختبرونَها في أرْض أخرى بعدَ نَفيِهِم. لم يكُن طردُهُم من أرض الميعاد نهاية اللعنات؛ فاللعنات لاحَقتْهُم أينما ذَهَبوا.
لعَلَّ هذا يوضِح إحدى أعظَم الدُروس التي يُمكِن أن نتعلَّمَها جميعًا: لا يوجَد هروب من الله، هناك فَقط هروب إليه. يونان هو مِثال رائع على هذا الدَرْس الذي تمّ تَطبيقه في الحياة.
اقلِبوا أناجيلَكمُ إلى سِفْر يونان، الإصحاح واحد.
اقرأوا يونان الإصحاحين واحد واثنان
لن أقْضي الكثير من الوَقت في مُناقشَة أنظِمة المُعتقدات القديمة في الشَرق الأوسط لأنّني قدَّمت لكُم الكثير من المَعلومات عن هذا المَوضوع خِلال سنوات دِراسَتنا معًا. اسمَحوا لي ببساطة أنْ أُنْعِش ذاكرتكُم بأنّ إلهًا أو آلهة كانت تَحتَلّ الأرض (أو غالبًا السَماء فوقَها) تمامًا كما يَفعَل الإنسان. وبعِبارة أخرى، كان لكلِّ شَعب من الشعوب آلهة خاصَّة به تَعمَل داخِل حدود تلك الأمَّة وتَحُدّ من سُلطاتِها. وعندما يتجوَّل أحدُهم عَبر الحدود ويَدخُل إلى أمَّة أخرى تَحكُم مجموعة مُختلفة من الآلهة. وبِقَدْر ما قد يَكون من الصَعب قُبول ذلك، فقَد استَمَرّ العبرانيون التوراتيون في الكتاب المقدَّس في الاعتِقاد بذلك (وهذا ما يَشهَد عليه الكتاب المقدَّس) على الرُغم من أنّه كانَت لديهِم التوراة وكان لديهِم يَهوَه. كان على يونان أن يتعلَّم بالطَريقة الصَعبة أنّ ما يَدَّعيه العالَم على أنّه صَحيح سِياسيًا ومَعروف للجميع ليس بالضَرورة الحقيقة.
أعْطى يَهوَه يونان تَكليفًا بأن يَذهَب إلى نِينوى ويُخبِر الشعب عن إله إسرائيل؛ لم يَرغَب في الذَهاب فقَرَّر أن يَهرُب. غادَرَ أرض إسرائيل، حيثُ كان ليَهوَه سُلطة، وذَهَب إلى ترشيش حيثُ لم يكُن ليَهوَهْ وجود أو على الأقَلّ لم يكُن له سُلطة روحيَّة. افهَموا: لم يكُن يونان يَتخلّى عن إله إسرائيل، بل كان فقط يهرُب من سُلطَة يَهوَهْ الوطنيَّة (أو هكذا كان يَعتقِد).
يُخبِرُنا سِفْر يونان الإصحاح الثاني عن إدراك يونان العَظيم أنّه لا يُمكنُكَ الهروب من الله لأنّه مَوجود في كلّ مَكان وسُلطانُه شامِل. أعتقِد أنّ يونان لم يَقرأ أبدًا سِفْر التثنية ثَمانية وعشرين لأنّه يوضِح هذه النُقطة بشكلٍ قاطِع. في سِفْر التثنية ثمانية وعشرين كان يَهوَهْ يوضِح أنّه أينما ذَهَب العبرانيون، فإنّ اللعنات ستَكون مَعهُم لأن يَهوَه لا يَزال مَعهُم. لا مَفَرّ من الله.
في سِفْر التثنية ثمانية وعشرين الآية ثلاثة وأربعين، يتدخَّل الله في جانِب آخر من اللعنات على حيَاة بَني إسرائيل: أموالِهِم. يحدُث انعِكاس كامِل للأدوار؛ فالأجانِب (الذين جاءوا إلى إسرائيل وَهُم متواضِعون ومُحتاجون) أصبَحوا الآن أعلى وأغْنى من بَني إسرائيل. كان الله قد أمَرَ إسرائيل بأن يُقرِضوا الأجانِب بسبَب مَخاوف إنسانية؛ والآن في حالَتِهم المَلعونة، سيُصبح بَنو إسرائيل المُقترِضين من هؤلاء الأجانِب أنفسهِم. لا حُدود لهذا الإذلال.
بالإضافَة إلى الأمراض، والصَدَمات النَفسيَّة والحِرمان، فإنّ السِلسِلة التالية من التَهديدات الإلهية تَنطوي على غَزو الأُمَم الأخرى والنَتيجة ستَكون المَجاعة والفقر والعُبودية لهذه الأُمَم وآلهتِها.
سَبَب هذه المَجموعة التالية من اللعنات مُماثِل لجَميع فئات اللعنات الأخرى: عِصيان إسرائيل لله. أو بشكلٍ أكثرَ حَرْفية، إسرائيل لم تُطِع الله؛ إسرائيل لمْ "شماع". إذا كان بإمكاني التَلويح بعَصا سِحريَّة على الكَنيسة الحَديثة وتَغيير شيء ما أعتقِد أنّه سيَكون إعادة إدخال كَلِمة ”أَطِع“ إلى إيمانِنا. بطريقةٍ ما يُنظَر إلى الطاعة الآن على أنَّها غَير مُهِمَّة؛ لقد اشتَرينا تأمينَنا ضِدّ الحريق، فمَن يَهتَمّ إذا لعِبنا بأعواد الثِقاب وأحرَقْنا المَنزل؟ لقد شَرَح لي عدَد من الناس أنَّهم يَرَون الطاعة ناموسية لأنَّهم يَعتقدون أنّ كلّ ما نحنُ مُطالبون به مُنذ مجيء المسيح هو أن نُحِبّ. لقد حَلَّت المَحبَّة مَحَلّ الطاعَة، تمامًا كما حَلّ العَهد الجديد مَحَلّ القديم. ومع ذلك يقول الكتاب المقدَّس أنّ مَحبَّة الله هي الطاعة له.
تَجلِب لنا الآية ستة وأربعون إشارة أخْرى إلى مَوضوع ”مصر“ (كما أخبرتُكُم أن تَنتبهوا إلى هذا المَوضوع ونَحن نُتابِع هذه اللعنات). يقول موسى أنّ هذه المَصائب الوَطنية التي لا تَنتهي وانعِكاسات الحَظّ التي لا تَنتهي ستَكون بمَثابة ”آية وعَجيبة“ ضِدّ إسرائيل إلى الأبد إذا لم يَعبُد بَنوها الله. هذه هي نَفْس العبارة التي استُخدِمت لشَرْح الغَرَض من الضَرَبات العَشَر على مصر.
دعوني أتوقَّف هنا لأرى ما إذا كانَت هذه الإشارة إلى مَصر قد أصبَحَت أكثَر وضوحًا؛ ما يَحدُث في الأساس هو التراجُع عن خلاص إسرائيل من مِصر. يَعكِس الله وَضْع وحالة إسرائيل، ويُعيدها إلى مصر والعُبودية لأنّ بَني إسرائيل رَفَضوا شروط العهد بِخَرقِهِم لها.
أن يَنالوا بَرَكة الرَب ولا َيفرحوا بها؛ أن يَنالوا الخلاص ولا يَكونون شاكِرين بإظهار الطّاعة، هو دَعوَة للعنات الله. فأيُّ دَرْس أعْظَم من هذا الدَرْس؟
أُكرِّر أنّ اللعنات على إسرائيل الّتي نَقرأ عَنها في سِفْر التثنية ثمانية وعشرين هي تَهديد الله بِعَكْس تاريخ بَني إسرائيل الخَلاصي. لقد أخرجَهُم من مِصر حيث خَدَموا العَدو العظيم، ثمّ خَلَّصَهم وأعطاهُم كَلِمتَه، التوراة. ولكن لأنَّهم بمُرور الوقت رَفَضوا مَحبَّتَه وَوَصاياه فقَد نَبذوا يَهوَهْ أساسًا؛ ولذلك سيُكلَّفون مرَّة أخرى بخِدمة العَدُو كعَبيد، وسيَفقِدون مَكانة القداسة المُميَّزة التي مَنحهُم الله إيّاها، وكذلك البَرَكات التي كانت مَوجودة كما هو مُعبَّر عنها في العهد الموسوي. يا لها من مأساة كبيرة.
هذا يُثير أيضًا مُشكلة صَعبة للغاية تصارَعَت الكنيسة معها لقرون وتوصَّلَت قِطاعات مختلفة من الكنيسة إلى حُلول مُختلفة بخصوصِها. المُشكلة هي أنّه بمُجرَّد أن تَمّ افتداؤنا هل يُمكننا، اليوم، أن نَعود إلى مصر إذا جازَ التَعبير. هل يُمكِن للشخص الذي يَقبَل المسيح يَسوع رَبًّا ومُخلِّصًا أن يتخَلّى عن هذا الولاء ويَنعكِس تاريخُ خلاصِه الشَخصي؟ من المؤكَّد أنّنا لن نَكتشِف جانبًا جديدًا من هذه المَسألة الصَعبة للغاية التي سبَّبَت انقِسامًا كبيرًا داخل هَيْكل المسيح، ولكن من ناحية أخرى لا يُمكنني أيضًا أن أغُضَّ الطَرف ببساطة عن نَمَط محدَّد في التوراة.
لا يمكن الإنكار أنّ العَهد الجَديد مَليء بالتَحذيرات والأمثِلة لأناس أعْلَنوا في وَقْت من الأوقات ولاءهُم ليسوع، ثم تَخَلّوا عَنه أو ابتَعَدوا عَنه إلى حَدّ أنَّهم وَجَدوا أنفُسَهُم في مصر مرَّة أخرى؛ فوَضَعَهُم الرَب مرَّة أخرى في ظِلّ عُبودية سَيِّد شرير.
هل تَتذكَّرون مَثَل يَسوع عن البُذور الذي كان كِناية عن تَعليم الإنجيل للناس وكانت النتائج مُتفاوتة؟
إنجيل لوقا الفَصْل ثمانية الآية ثلاثة عشرة ”وَتِلْكَ (البذور التي سَقَطت) عَلَى الأَرْضِ الصَّخْرِيَّةِ هُمُ الَّذِينَ إِذَا سَمِعُوا قَبِلُوا الْكَلِمة بِفَرَحٍ، وَهَؤُلاَءِ لَيْسَ لَهُمْ جَذْرٌ ثَابِتٌ، يُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَسْقُطُونَ.
هناك عُنصران مُهِمّان في هذا المَقطَع. الأوَّل هو أن نَفهَم ما تَعنيه عِبارة ”يَسْقُطُونَ“؛ إنّها تَعني أنّ الشَخص أصبَح مُرْتَدًّا. تَعني أنّ الشَخص لَم يَعُد لديه ثِقة كافية ليُحسَب من بين أتباع الله. إنها لا تُشير إلى سوء السُلوك أو ارتِكاب خطيئة. ثانيًا، هناك الكَثير من المَذاهب الكَنَسيّة الحديثة التي تَتغاضى عن هذا الكِتاب المقدَّس وتَقول إنّ ”الذين آمَنوا لفَترة“ لم يؤمِنوا في الواقِع أبدًا، بل كانوا مُتظاهِرين. ليسَ هذا فقط ما يَقوله الكِتاب المقدَّس، ولكنَّك لن تَجِد في أيّ مَكان في العَهد الجديد أي إشارَة إلى أولَئِك الذين ابتَعَدوا عن الإيمان على أنَّهم لم يُؤمِنوا في الواقِع. بِحُكْم التَعريف، لا يُمْكِنُك ”الارتداد“ عن شَيء لم يكُن لديك أبدًا. السُقوط يَعني في الأساس تَرْك الإيمان بطَريقة أو بأخرى.
تَرجمة الكتاب المقدَّس النموذجية الأميركية الجديدة، رومية الإصحاح الحادي عشر الآية اثنان وعشرون، فَهَذَا لُطْفُ اللهِ وَشِدَّتُهُ، لِلَّذِينَ سَقَطُوا شِدَّة، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلُطْفُ اللهِ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي لُطْفِهِ، وَإِلاَّ فَبِتَقْطِيعِكُمْ أَيْضًا.
لاحِظ هنا الطَبيعة الموسَويَّة القديمة الشَرطيَّة للعَهد ”إنْ، ثمَّ“. إنْ استمرَّيتُم في لُطفِه فإنَّكم ستَبقون مُتعلِّقين كغُصْن على شجرة الزيتون. عَهدُنا الجديد هو عَهد مَشروط. الشرط ليس أن نَسلُك سلوكًا مِثاليًا؛ بل الشَرط هو أن نَثِق ونَستمِرّ في الإيمان أو (إن تَخلَّيْنا عمّا نَعرِف أنّه الحَقّ) سنَنفَصِل عن مَصدَر إيماننا، الله.
الكتاب المقدَّس اليهودي، غلاطية الإصحاح خمسة الآية أربعة أنتُم الذين تُحاولون أن تَكونوا أبرارًا عند الله بالناموسية، قد قطعتُم أنفسكُم عن المسيح! لقد ابتعدتُم عن نِعمة الله!
كان هُناك أولئك الذين كانوا في أيّام بولُس (وهناك من هُم اليوم) الذين يَعتقدون أنّ طاعَة الناموس بالإضافة إلى الثِقة بالمَسيح تُساوي الخَلاص. هذا ليس غَير صَحيح، وأحدُهما يُلغي الآخر. إذا حاوَلنا أن نَخلُط التَبرير الذاتي لطاعَة الناموس مع تَبرير المَسيح نيابةً عنّا، فحينئذٍ يَنتهي بنا الأْمرُ بعَدَم وجود تَبرير على الإطلاق. لا تَخلُط بين هذا الأمْر وبينَ تَبريرنا بيَسوع ثم طاعتنا لكُلّ كَلِمة الله في الاستِجابة المُناسِبة من كلّ مؤمِن لهذه النِعمة الغامِرة.
الكتاب المقدَّس اليهودي رؤيا الإصحاح اثنان الآية أربعة ولكن لي عليكم هذا: لقد فقدتُم المَحبَّة التي كانت لكُم في البداية. خمسة فاذكُروا أين كنتُم قبل أن تَسقطوا، وارجِعوا عن هذه الخطيئة، واعْملوا ما كنتُم تَعملونه من قَبل. وإلا فسوفَ آتي إليكُم وأنزِع شمعدانِكم من مكانِه – إن لم تَرجِعوا عن خَطيَّتكم!
إنّ إزالَة شمعدانِك (حامِل المِصباح) يَعني أن تَفقِد استنارتَك. يسوع هو استنارتُنا؛ وهو هُنا يُهدِّد بإزالة نفسِه من وَسَطِنا. والآن استَمِعوا إليّ بعِناية شديدة لأنني لا أريد أن يُساء فَهمي أو أن يُساء اقتِباسي: في الواقِع لا يُمكِن لأيّ إنسان أو أي كائن روحي مِن أيّ نَوع أن يُزيلَ خَلاصَكُم بيَسوع المسيح بالقوَّة ورُغْماً عَنكُم. لكن يَسوع نفسُه (هنا في سِفْر الرؤيا) يَنزَعُه من أولئك الذين أحَبّوا وآمَنوا في البِداية، لكنَّهم تَوقَّفوا بِمَحْض إرادتِهم، وعادوا إلى الخَطيَّة؛ لقد فَقَدوا مَحبَّتَهُم له.
تَرجمة الكتاب المقدَّس النموذجية الأميركية واحد تيموثاوس الإصحاح أربعة الآية واحد، لكنَّ الروح يَقول صراحةً أنَّه في الأزمِنة اللاحِقة سَيسقُط البعض عن الإيمان، مُلتفتين إلى الأرواح الخادِعة وتَعاليم الشياطين.
وهُنا لدَينا بولس يَقول بصَراحة أنّه في عَصرِنا (الأزمِنة الأخيرة) سيَسقُط بَعض المؤمنين عن الإيمان. ليسَ من المُمِكن فقط، بل من المُحَتَّم أن يَسقُط بعض المَسيحيين عما كانوا يؤمنون به ويَضَعون إيمانَهم بدلاً من ذلك في تَعاليم خادِعة ابتدَعَها البَشر. إنّ فِكرة أنّه بمُجرَّد أن نَثِق بالمسيح يَستحيل علينا أن نَتخلّى عن إيمانِنا، أو أنْ نَنقُل هذا الإيمان بِبطء إلى مَجموعة من التَعاليم التي صَنَعها البَشر، هي فِكرة يَدْحَضُها الكتاب المقدَّس. صَحيح بالتأكيد أنه لا يُمكِن لأي كائن، بَشَريًا كان أو روحيًا، أن يُبعِدَك عن يسوع ضِدَّ إرادتِك….. إلّا إذا كان هذا الكائن هو أنْت. ما دام كلُّ واحِدٍ منّا يؤمِن عن طريق الثِقة بالله فنَحنُ في أمان وحِماية. إنّ سوء السلوك (ارتِكاب المَعاصي) ليس تَخلِّياً عن إيمانِنا، إنه ليس ”ارتِدادًا“، وهذا ليسَ ما يَتمّ التَعبير عنه في هذه الآيات الإنجيلية التي عَرَضتُها لكُم. لذلك لا تَخرُج من هنا اليوم وأنتَ قَلِق من أنَّك إذا خالفتَ وَصيَّة من وصايا الله فأنتَ في خَطَر أن يُنتزَع مِنك خلاصُك؛ أنتَ لستَ كذلك. بل إنّ التَخلّي عن إيماننا يَعني أن نَتَنَصَّل صَراحةً من إيماننا السابِق بأنّ يسوع هو الرَب.
تُشير هذه المَقاطع الإنجيلية التي قرأناها للتوّ إلى أنّنا على ما يَبدو أحرار تَمامًا في التَخلّي عن إيمانِنا كما كنّا أحرارًا في قبولِه. إنّ هذه التَحذيرات في العَهد الجديد تَتْبَع ببساطة النَمَط الذي جاء في سِفْر التثنية؛ وِسْط كلّْ ما فَعَله الله لها ابتعَدَتْ إسرائيل عن الله ولذلك أعادَها إلى مصر.
الآن الخَبَر السَارّ هو أنّ الذي تمّ فِداؤه (في سِفْر التثنية هذا هو إسرائيل) والذي ارتَدَّ عن إيمانِه يُمكِن أن يَعود إلى رُشدِه؛ يُمكِن أن يُعاد إلى الله. وعندما يَفعل ذلك يُمكنُه أن يَستعيد فداءه. سنَرى بالطَبع هذا الأمْر نفسُه فيما يَتعلَّق بإسرائيل بَعدَ قليل في العَهد القديم، ولكنّ في العَهد الجديد يَشرَح لنا الرسول يَعقوب ما يلي:
الكتاب المقدَّس اليهودي يعقوب الإصحاح خمسة الآية تسعة عشرة، يا إخوتي، إذا ضَلّ أحدُكُم عن الحَقِّ، ورَجَّعَه أحدٌ عن ضَلاله، عشرون، فاعلَموا أنّ من رَدَّ خاطئًا عن ضَلاله خَلَّصه من الموت وسَتَر عليه خطايا كثيرة.
يَقول يعقوب، تِلميذ يسوع، أنّ المؤمِن إذا ضَلَّ عن الحَقّ فهو في خَطَر الموت. أي نَوع من الموت؟ من الواضِح أنّه المَوت الأبدي؛ ولأنّ كلّ إنسان، مُخلَّصًا كان أو غَير مُخلَّص، يَموت جَسَديًا مرَّةً واحدة. ويَعقوب يقول إنّه إنْ ساعَد أحدٌ مؤمِنًا سابِقًا على العودَة إلى الإيمان، فإنَّه يُنقذُه من المَوت الأبدي.
لستُ هنا اليَوم لأؤكِّد أو أَنْفي أي عَقيدة قد تؤمِنون بها في هذا المَوضوع الصَعب؛ ولكنَّني سأشير إلى أنّ الجَواب يَكمُن في الأنماط.
تَستمِرُّ الآية تسعة وأربعين من سِفْر التثنية بنُبوءة اللعنات القادِمة على إسرائيل عند سقوطِها المَحتوم. ستَنقَضّ أُمَّة أجْنبّيَة على إسرائيل بسُرعة، وبقوَّة ولن تُظهِر أي رَحمة. كلّ ما عَمِل َبنو إسرائيل قرونًا لتَحقيقه سيَزول بين عشيَّة وضُحاها تَقريبًا. سيُحبَس الناس في مُدُنِهِم ويواجِهون المَجاعة والموت؛ هذا يتحدَّث عن حَرْب الحِصار، وهذا بالطبع هو بالضبط ما واجَهتهُ إسرائيل ضِدَّ البابلييّن والرومان.
لا أرْغَب في أن تكوين الصُوَر ولكن هذه الآيات الأخيرة بَشِعة للغاية، لذلك دَعوني أشْرَح ما يُقال. تتحدَّث الآية ثلاثة وخَمْسون عن أكْل لحوم البَشَر. سيُصبِح بعض الناس جائعين لدَرَجة أنَّهم سيَأكلون أولادَهُم. في الواقِع، الآية أربعة وخمسون تَتلاعب بالكَلِمات وتوضِح أنّ أكثَر الآكلين شَراهة في الأكْل، والأكثَر أرستقراطيَّة بين نُخبَة إسرائيل لن يَنحدِروا إلى درجة أن يَأكلوا أولادَهُم (ويكونون سُعداء بالوَجبَة) فَحَسب، بل إنهم لن يَرغَبوا أيضاً في مُشاركة زوجتِهِم الجائعة في أكلِهِم!
ولتَوضيح هذه النقطة بشكلٍ أكثرَ عُمقًا، فإنّ الزَوجة الّتي هي أكثر الآكلين شَراهة ومن النُخبة الأَرِستقراطية ستَأكُل في الواقِع بقايا الوِلادة. بالمُناسبة، تُسجِّل لنا الآيات الحِصارَيْن على أورَشَليم وأنّ هذه الأمور الفَظيعة قد حَدَثَت بالفِعل.
الآيات الأخيرة من هذا التَصوير المُقزِّز هي عن المَرَض والهزال الذي يَأتي نتيجةً لآلاف الجُثَث المُكدَّسة كالحَطَب في المَدينة المُحاصرة. في الآية ثمانية وستّين، يَكتمِل انقِلاب خَلاص إسرائيل. سيُعيد الرَب النّاجين (مَجازاً) إلى مصر. في الماضي كان الأسياد المصريون يَقبَلون بإسرائيل كعَبيد ويوفِّرون لهُم على الأقل مَعيشة الكَفاف؛ ولكنَّ الرَب الإله يَقول إنّ مصر هذه المرَّة لن تَقبلَهُم حتّى كَعَبيد (صاروا مُحتقرين).
وحتّى لا يَكون هناك أي سوء فَهم، فإنّ الكَلِمات الأخيرة من الإصحاح ثمانية وعشرين تؤكِّد أنّ العَهد الذي أُعْطي في حوريب (اسم آخر لسيناء) وفي موآب هو عَهْد واحِد في نَفْس العَهد، لذا يَجِب ألا يَختلِط الأمر على بَني إسرائيل ويَظُنّوا أنّ الأمور قد تغيَّرت.
سأختُم هذا اليَوم بهذه الفِكرة: كما أنّ شروط العَهد الموسَوي لم تَتغيَّر بين سيناء وموآب، كذلك لم تَتغيَّر بين موآب والجُلجلَة. لم يُعطِ الله عَهدًا ”أبديًا“ في سيناء، ثم ألغاه، وأعْطى عَهدًا جديدًا ”أبَديًا“ في موآب. كما أنَّه لمْ يُعطِنا ما يُسمّى عادةً بالعَهد الجديد وألغى العهد السابِق. كيف يُمكنني أن أعْرِف هذا؟ المَسيح يقول ذلك.
الكتاب المقدَّس اليهَودي مَتّى الفَصْل خمسة الآية سبعة عشرة "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ التَّوْرَاةَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأُبْطِلَ بَلْ لِأُكَمِّلَ. ثمانية عشرة بَلَى! أَنَا أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ مِنَ التَّوْرَاةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ، لاَ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ كُلُّ مَا يَجِبُ أَنْ يَحْصُلَ. تسعة عشرة فَمَنْ عَصَى أَصْغَرَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ وَعَلَّمَ آخَرِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ يُدْعَى الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ يُطِيعُهَا وَيُعَلِّمُ هَكَذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.