سِفْر التثنية
الدرس السابع والعشرون – تَكْمِلة الإصْحاح واحد وعشرين
سنُواصِل هذا الأُسْبوع مع سِفْر التثنية واحد وعشرين. ناقَشْنا في المَرَّة السّابِقة الإصْحاح واحد وعشرين، الآيات من واحد الى تِسعة، وكان المَوضوع هو القَتْل غير المَحْلول أمْره. ولكن، كما رأينا، كان هذا في سياقٍ أوْسع بكثيرٍ من الإثْم الدَّموي. يَحْدُث إثْم الدَّم عندما تُنتهَك شَريعة أو أكثر من شرائع الله المُتَعَلِّقة بالدّم.
نَبْدأ هذا الأُسْبوع قِسْمًا مُحَدَّدًا جَيِّدًا من التَّوْراة (يَبْدأ في واحد وعشرين على عشرة ويَسْتَمِرّ حتى الإصْحاح خمسة وعشرين) يُسَمّيه العديد من العُلَماء والمُعَلِّمين قائمة شرائع مُتَنَوِّعة. مُشْكِلَتي الوحيدة مع هذا الوَصْف هو أنه يُعطي انْطِباعًا بأن هذه الشَّرائع ليست مَوضوعة بِطريقةٍ هَيْكَلِيّةٍ مَلْموسة ولا يوجَد مَوضوع مُشْتَرَك بينها؛ بينما في الواقع ليس هذا هو الحال. بل إن هذا القِسْم المُكَوَّن من أربع إصْحاحات يَتَناوَل أربعة قضايا رئيسيّة: الحَرْب المُقَدَّسة والجنس والأسرة ورِعاية الأشَدّ فِقْرًا والأكثر ضُعْفًا والاهْتِمامات الإنْسانيّة.
لقد ذَكَرْتُ في بِداية دِراستنا لسِفْر التثنية أن ما يَفْعَله موسى هو شَرْح للشَّرائع التي وُضِعَت قبل أربعين عامًا تقريبًا في جبل سيناء. يُلْقي موسى عِظةً لها مُوازٍ مُثير للاهْتِمام في العهد الجديد في عِظة يسوع الشَّهيرة على الجبل كما وَرَدَت في سِفْر إنجيل متّى. في كِلَتا الحالتَيْن، إن الغَرَض والتَّرْكيز هو أخْذ هذه الشَّرائع القديمة وتَنْشيطها بِمَعنى روحي أعْمَق في بعض الحالات، وتَطْبيق حياتي أكثر تحديدًا في حالات أخرى. إذَن، ما نَجِده عندما نَرْجِع إلى الوراء ونَنْظُر إلى هذا القِسْم بنَظْرة أسْمى هو أن هذه الشَّرائع ما هي إلا امْتِداد للوصايا السّادسة والسّابعة والثامنة والتاسِعة والعاشرة. بالتالي فإن المَوضوعات تَدور حول القَتْل والزِّنا (بما في ذلك جَوْهَر الزِّنا الذي هو مَزيج من الخِيانة الزَّوْجيّة والإخْتِلاط غير المَشروع) والسَّرِقة وشهادة الزُّوروالحَسَد.
يَنْصَبّ تركيز درس اليَوم بِشَكل أساسي على الزواج وقانون الأُسْرة. أوَّل ما سنَتَناوَله سيكون له علاقة بِزَواج المرأة التي تمّ أسْرُها في الحَرْب.
سيَكون هذا هو الوقت المُناسِب لي أن أُذَكِّرَكم بأن مَوضوع الإصْحاح عشرين، وهو الحَرْب المُقَدَّسة، يَسْتَمِرّ في الإصْحاح واحد وعشرين؛ وأن أي نَوع من الحُروب بِحِكْم تَعريفِها يَتَعَلَّق بِقَتْل البَشَر. وإليكُم الأمْر الذي يَجِب أن تَفْهَموه خاصَّة فيما يَتَعَلَّق بالحَرْب التي أمَر بها الله ويَقودُها والتي تُدعى الحَرْب المُقَدَّسة: القَتْل الذي يتمّ بِموجب القواعِد التي وَضَعَها هو مُبَرَّر ومَقْبول لَدَيْه، بينما كل ما عدا ذلك ليس كذلك. إنه ليس قَتْلًا إذا قَتَل شخص ما وفقًا لتلك القواعِد، وبالتالي يَبقى القاتِل (الجِندي) في سلام مع الله. أما القَتْل خارج قواعِد الحَرْب التي رَسَمَها الله، فهو غير مُبَرَّر وبالتالي يوقِع الشَّخْص والجَماعة والأرض التي وَقَع فيها القَتْل تحت إثْم الدَّم.
لنقرأ سِفْر التثنية الإصْحاح واحد وعشرين على عشرة حتى النهاية.
بَيْنما تَناوَل دَرْسانا السّابِقان مَسؤوليات المُوَظَّفين العُمومِيِّين الإسرائيليّين، فإن هذا الدَّرس يُغَيِّر المَسار ويَتَناوَل الأفراد والعائلات الخاصَّة وجيرانهم. وتَتَناول القَضِيَّة الأولى الغَنائم البّشّريّة للحَرْب. كان شائعًا في العُصور القديمة بين مُعْظَم المُجْتَمعات أخْذ النِّساء والأطفال كأسْرى وجَعْلهم عَبيدًا كجِزْء من غنائم الحَرْب. عندما نَقرأ الأدَب الكْلاسّيكي اليوناني نَجِد نَفْس الأمْر يَحْدُث. لذلك فإن العديد من القوانين التي سَنَراها هنا تُشْبِه إلى حَدٍّ كبير القوانين الموجودة في شَريعة حَمورابي، وفي وثائق شَريعة ماري. ولكن هناك اخْتِلاف واحِد مُلْفِت للنَّظَر: فالقوانين العِبْرانية تُعْطي أسيرات الحَرْب مكانة البَشَر ذَوي القيمة وليس مُجَرَّد مِتاع يتساوى مع الحيوانات أو الأثاث.
لذلك فإن القَضِيَّة التي يتمّ تَناوُلها هنا تَتعَلَّق بامْرأة أسيرة يَجِدُها الجُنْدي جَذّابة فَيُريد أن يَجْعَلها زَوْجَة له. دَعونا لا نَغْفَل عن السِّياق المُهِمّ جِدًا لهذا العَرْض: نحن نَتَحدَّث فقط عن جُنود عِبْرانيّين يَتَّخِذون نِساءً أجْنَبِيّات (أسيرات أجْنَبِيّات) كَزَوْجات. لقد أشَرْتُ منذ زمن بعيد في دراستنا لسِفْر التكوين إلى أن الحديث عن طَهارة الأنْساب فيما يَتَعَلَّق بالعِبْرانيين، هو في الحقيقة تَناقُض في المَعْنى. منذ الوقت الذي مَيَّز الله إبراهيم كأوَّل عِبراني (وهذا يعني أن كل الآخرين على هذا الكَوْكَب كانوا غوييم، أُمَمِيِّين، وبالتالي كانوا أيضًا غُرَباء عن عشيرة إبراهيم) حَدَّدَ يَهْوَهْ طريقًا لأي غَريب، أي أجْنَبي، أراد الانْضِمام إلى عشيرة إبراهيم ليَكون قادِرًا على ذلك. وبانْضِمامه إلى عشيرة إبراهيم وقَبائل نَسْلِه العِبْرانية، يُعْتَبَر هذا الأجْنَبي الأُمَمي السّابق عبرانيًّا.
دَعوني أُعْطيكم مِثالاً تَوْراتيًا عن انْضِمام الأجانب إلى بني إسرائيل. عندما عاد حَفيد إبراهيم يعقوب إلى كنعان من إقامته التي اسْتَمَرّت عَقْدَين من الزمن في بلاد ما بين النَّهْرَين، واسْتَقَرَّ خارج شكيم، وَقَعَت حادِثة مأساويَّة أدت في الواقع إلى تكاثر عَدَد أفراد عائلته بين عَشِيَّةٍ وَضُحاها. لقد كان ذلك عندما اغْتَصَبَ ابن مَلِك شكيم ابنة يعقوب، دينا، فهاجَم إخْوَتُها مدينة شكيم وقَتلوا كل ذَكَر بالِغ. يُخْبِرنا سِفْر التَّكوين أن أبناء يعقوب، زُعَماء قبيلة بني إسرائيل المُسْتَقْبَلِيّين، أَخَذوا أيضًا جميع نِساء وأطفال شكيم ليكونوا عَبيدًا لهم. وبِمرور الوقت أصْبَحَ جميع سُكّان شكيم الكنعانيّين تقريبًا جِزْءًا من عشيرةٍ إسْرائيلِيَّة أو أخرى. كان من المُعتاد أن تَأخُذ قبيلة أو أُمَّةً أَسْرى من قبيلة أخرى كَوَسيلة لِزِيادة حَجْم مُجْتَمعها مع تقليل حَجْم مُجْتَمع العَدوّ. كانت الثَّرْوة تُقاس جِزْئيًا بِحَجْم العائلة والعَشيرة والقبيلة والأُمَّة.
النِّقْطة المُهِمَّة هي أنه نتيجة لتلك الغارة على شكيم، أصْبَحَ بنو إسرائيل على الفَور تقريبًا عائلةً مُخْتَلَطة عِرْقيًّا مُؤَلَّفة من العِبْرانيين المُنْحَدِرين من إبراهيم، ومن الكَنْعانيّين الّذين سيُصْبِحون مع الوقت أعْضاءً مُجَنَّسين في إسرائيل. لذلك قبل أن يأخُذ يعقوب عائلته إلى مصر (ليبقى هناك لمُدَّة أربعمئة سنة) كان بنو إسرائيل تقريبًا خمسين في المئة من العِبْرانيين المُتَحَدِّرين من نَسْل إبراهيم وخمسين في المئة من الأُمَمِيّين. خلال الفترة التي قَضوها في مصر، قيل لنا أنه كان هناك قَدَر هائل من التَّزاوُج بين عائلة يعقوب والمصريّين وكذلك مع أجانِب آخرين (لأن مصر كان بها عدد كبير من السُّكان الأجانِب الّذين يَعيشون هناك). حتى موسى (وهو عبراني) تَزَوَّج من امْرأة مِدْيانيّة. ونرى هذا الاتِّجاه نَفْسه مُسْتَمِرًّا هنا في سِفْر التثنية مع مَجْموعة من القوانين المُصَمَّمَة لِجَعل أخْذ جُنْدي إسرائيلي أسيرةً أجْنَبِيّة وجَعْلها زَوْجَة له أمْرًا شرعِيًّا. وبِحِكْم التَّعْريف، عند عقد الزواج، أصْبَحَت عبرانيّة، وبالتالي أصْبَحَت مَجموعة الجينات التي تبدأ بإبراهيم أكثر تلاشِيًا. لم يَكُن هَمّ الله أبدًا النَّقاء العِرْقي لشَعْبِه المُخْتار، بل كان هَمّه فقط النَّقاء الرّوحي والإخْلاص له.
قبْل أن نَذْهَب إلى أبْعَد من ذلك فيما يَتَعَلَّق بما سيَحْدُث لهذه الأسيرة الأَجْنَبِيَّة، وما هي الحُقوق المَمْنوحة لها، أُريد أن أُشير إلى شَيْء تُخْفيه تَرْجمات الكِتاب المُقَدَّس الإنجليزيّة؛ وهو ما وَرَدَ في أوَّل آية من دِراستنا اليَوم، الآية العاشِرة. تقول نسخة الكِتاب المُقَدَّس اليَهودي الكامِل (فيما يَتَعَلَّق بأسْر تلك النِّساء الأجْنَبِيّات) ….. "وإذا أخَذْتُم أسْرى". تقول النِّسَخ الأخرى شيئًا مثل، "….. وإذا أخَذْتُم بَعْضَهُنَّ أسْرى". حَسَنًا، إنها تقول حَرْفِيًّا شيئًا قد يكون مألوفًا لِأُذُنَيْك، إنها تقول ”…..عندما تأسُرون الأسْرى … "إن كُنْتُم تتساءلون أيْن سَمِعْتم ذلك من قَبْل، اسْتَمِعوا إلى أفَسُس أربعة على ثمانية.
الكِتاب المُقَدَّس اليَهودي الكامِل أفَسُس أربعة على ثمانية " يَقول: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاس عَطَايَا". تسعة: "وَأَمَّا أَنَّهُ «صَعِدَ»، فَمَا هو إِلاَّ إِنَّه نَزَل أَيْضًا أَوَّلًا إِلَى أَقْسام الأَرْض السُّفْلى".
لقد شَرحْتُ لكم في الأُسْبوع الماضي أنه بِحَسَب كل من العهد القديم والعهد الجديد كان هناك أناس نُسَمّيهم "قِدّيسين" حتى قَبْل أن يولَد يسوع. هؤلاء القِدّيسون العِبْرانيون في أسْفار التَّوْراة كانوا أولئك الّذين ماتوا مُتَّقين الله وعاشوا في التَّوْراة، والّذين اتَّبَعوا نِظام الذَّبائح بإخْلاص، ولذلك ماتوا في حالة برّ في نَظَر الله. لم يَذهب هؤلاء القِدِّيسون في العهد القديم إلى السَّماء، بل ذَهَبوا إلى حُضْن إبراهيم، وهو إسْم إحدى غُرْفَتَي الأرواح المُتوفاة المَوجودة تحت الأرض (الأخرى تُسَمّى الجَحيم، وهي مكان العذاب). أشار يسوع أيضًا إلى حُضْن إبراهيم بإسم "الجَنَّة".
هؤلاء القِدّيسون العِبْرانيون القُدَماء ظلّوا أسْرى في حُضْن إبراهيم (مكان الفرَح والسَّلام) إلى أن أكْمَل المسيحُ خِدْمَته على الأرض ثم صَعِد، وعندها أخذ السُّكّان معه إلى السَّماء. إن العبارة الواردة في أفَسُس أربعة التي تتحدَّث عن كيف أن يسوع ”قاد السَبّي“ هي عبارة غريبة عانَيْنا جميعًا لِنَفهمها. حَسَنًا، ها هي حالة أخرى حيث دِراسة التَّوْراة تجعل السُؤال سَهْل الحَلّ. في سِفْر التثنية واحد وعشرين على عشرة لدينا نَفْس العِبارة بِشَكل أساسي وهي تعني نَفْس الشَّيْء كما هي في التَّوْراة. هذه العِبارة الغَريبة هي بِبَساطة نتيجة لتَرْكيب الكَلِمات العبرية. نعم، إن وثائق العهد الجديد (بما في ذلك أفَسُس) كُتِبَت باليونانيّة؛ ولكن الفِكْر العِبْراني والثَّقافة العِبْرانيَّة والعِبارات العِبْرانيّة هي التي يتمّ نَقْلُها. لقد تم تَدوينها بِبَساطة (وأوَدُّ أن أُضيف أنها كُتِبَت (بِدِقّة) باللّغة اليونانيّة.
لذلك فإن المَقْصود في أفَسُس أربعة على ثمانية هو أن أولئك القدّيسين القُدَماء (الّذين دُعوا أَسْرى) الّذين كانوا مُحْتَجَزين بأمان (أَسْرى) داخِل حُضْن إبراهيم، أخَذَهُم يسوع الآن مَعه إلى السَّماء. إذًا ما نَراه في كل من سِفْر التثنية واحد وعشرين على عشرة وأفَسُس أربعة على ثمانية هو تَغيير في حالة أولئك الّذين يَتأثَّرون. في سِفْر التثنية يَتَغَيَّرر وضع تلك النِّساء الوثنيّات من كنعانيّاتٍ حرّات إلى أسيرات لدى بني إسرائيل (بعض النِّساء ستَتَزَوَّجْن في النهاية من رجال عِبْرانيّين وتَفْقَدْن كل الهَوِيّة الكِنعانيّة).
في أفَسُس أربعة على ثمانية، يتغَيَّر وضع أَسْرى حُضْن إبراهيم على يد المسيح. إنهم يَنْتَقِلون من كَوْنِهم مُواطنين في منطقة احْتِجاز ليست في السَّماء ولكنَّها مَكان إلَهي، إلى كَوْنِهم مُواطنين في السَّماء في حَضرة الله ذاتِه. بالمُناسبة، منذ اللَّحْظة التي أَخَذ فيها يسوع هؤلاء الأسْرى معه إلى السَّماء، أصْبَحَ حُضْن إبراهيم شاغِرًا بِشَكلٍ دائم لأن كل الّذين يَثِقون بالله (عن طريق الإيمان بيسوع المسيح) يَذْهَبون الآن مُباشَرَةً إلى السَّماء وليس إلى مَكان انْتِظار وَسيط.
إذا سُبِيْت امرأةٌ أجنبية نتيجةً للحَرب، فأُعْجِب بها جندي إسرائيلي وأراد أن يتزوجها، يكون الإجراء هو أن يأخُذها إلى بَيْته لمُدَّة شهر قَمَري، أي ثلاثين يومًا: وعلى المرأة الأَجْنَبِيَّة أن تَحْلق شَعْرها وتَقُصّ أظافِرَها وتتخلَّص من الملابس التي سُبِيْت بها، وخلال هذه المّدَّة تقول هذه الآيات إنها تَحِدّ على والِدَيْها أيضًا.
ماذا يعني كل ذلك؟ ما الذي يَحْدُث هنا بالفِعْل؟ حَسَنًا، في حين أنه لا يوجَد إجْماع كامِل على المَعْنى، إلا أن المَعْنى أصْبَحَ مُتَّفَقًا عليه بِشَكلٍ عام بين عُلَماء الكِتاب المُقَدَّس. بِحَلْق شَعْرها (وهذا لا يعني حَلْق رأسها، بل يعني فقط تَقْصير شَعْرها)، وتَقليم أظافِرها وتغيير ملابِسها إلى مَلابِس عِبْرانِيَّة (من ملابِسها الكنعانيّة) بدأت عَمَلِيَّة تغيير هَوْيَّتها من وَثَنِيّة إلى إسْرائيلِيَّة. كان لِكُلّ ثقافةٍ تَسْريحةَ شَعْر فريدة من نوعِها بِشَكلٍ أو بآخر، وأسْلوب ملابِس فريد من نَوْعِه، وكما هو الحال اليَوم كانت المَرأة تُزَيِّن أظافرها. بِتَخَلُّصها من كل هذه الأشياء، تتخلَّى رَمْزِيًّا عن كل هذه الأمور التي تَرْبِطُها بحياتها القديمة. وهذا يَمْتَدّ أيضًا إلى فِكْرة حِدادِها على والِدَتِها ووالِدِها. ليس بالضَّرورة أن يكون السَّبَب هو مَقْتَل والِدَيْها (على الرَّغم من أن ذلك يَحْدُث بلا شكّ بِشَكلٍ مُنْتَظِم نَتيجةً للحرب)، بل إنها تُمنح فِرْصة "لِنِسيان" والِدَيْها إذا جاز التَّعْبير. أن تَتخلّى عن ارْتِباطاتها العائليّة الطَّبيعيَّة التي وُلِدَت فيها، نَظَريًّا لِصالِح ارْتِباطات جديدة عن طريق زَوْجِها العِبْري وهَوِيَّتها العِبْريّة الجديدة.
نَحْصل على نَفْس الصّورة بالضَّبْط في العهد الجديد للمؤمِنين الجُدُد:
الكِتاب المُقَدَّس اليَهودي الكامِل مرقس عشرة على تسعة وعشرين: قال يسوع: "فَأَجَابَ يَسوع وَقَالَ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَيْس أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتا أَو إِخْوَة أَوْ أَخَوَات أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرأة أَوْ أَوْلادًا أَوْ حُقولًا، لأَجْلي وَلأَجْل الإِنْجِيل،" ثلاثين: "إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هذَا الزَّمان، بُيُوتًا وَإِخْوَة وَأَخَوَات وَأُمَّهَات وَأَوْلادًا وَحُقُولًا، مَعَ اضْطِهاداتٍ، وَفِي الدَّهْر الآتي الْحَياة الأَبَديَّةَ."
نَحْصل أيضًا على نَفْس التَّعْليمات فيما يَتَعَلَّق بالزواج من حيث أن على الزَّوجَيْن أن يَتْرُكا والِدَيْهِما (التَّخَلّي عن هَوِيَّتْهما الأساسِيَّة كجِزْء من بَيْت والِدَيْهِما) وبَدَلاً من ذلك على الزَّوجَيْن أن يَلْتَصِق أحَدُهُما بالآخَر (خَلْق هَوِيّة جديدة كزَوْجَيْن).
إذًا المَفْهوم في العهد القديم هو أن هذه المرأة الأسيرة تَتْرُك وَراءها هَويَّتِها الأُمَمِيَّة مع عائلتها الأصْلِيَّة (عائلةٍ كنعانِيَّة) من أجل هَوِيّة جديدة (عائلةٍ إسْرائيلِيَّة)؛ ولا يُخْفى عليكم أن هذا هو المَعْنى الرّوحي في العهد الجديد لما كان يسوع يَتَحَدَّث عنه حَول تَرْك هَوِيَّتك كَعَضو في العالَم (من الأُمَمِيّين) لِصالِح أن تكون عُضْوًا في مَلَكوت الله (العِبْرانيّين).
تُوضِح الآية الثالثة عشرة أنه بعد فترة الانْتظار هذه التي مدّتها شهر واحد فقط يُمْكِن للرجل أن يتزوّج هذه المرأة ثم يُتمِّم العلاقة الزوجية. من البَديهي أنه إذا كانت المرأة تَعيسة ومُقاومة بشكلٍ قاطِع لواقعها الجديد، فلن يَحدث الزواج؛ على الأرْجح لأنها إذا كانت بائسة لن يرغب في الزواج منها!
لذلك كما تقول الآية الرابعة عشرة، إذا غيّر الرَّجُل رأيه قبل نهاية الثلاثين يومًا وقَرَّرَ أنه لا يُريد أن تكون هذه الأَجْنَبِيَّة زَوْجَة له، فيَجِبُ أن تُحَرَّر. ليس كَعَبْدة، بل كَحُرّة. لا يُمْكِنه أن يُغَيِّر رأيه ثم يبيعها لشخص آخر؛ لا يُمْكِنه أن يُغَيِّر رأيه ويجعلها بِبَساطة جارِيَته التي لا يُريدها. هكذا نرى هنا اللَّياقة والاحْتِرام الكبير الذي يَكُنُّه النّاموس للمرأة، حتى للأسيرات الأجْنَبيّات. والآن أنا أفهم جَيِّدًا أنه حتى في المُجْتَمع الغربي الحديث حتى هذا لا يُعتبر أمْرًا مُبْهِجًا للمرأة. لكن إفْهَموا أنه في ذلك العصر كان كل مُجْتَمع يُهَيمِن عليه الذُّكور بالكامل. أن يجعل الله من شَريعة العِبْرانيين أن يعطي المرأة حقوقًا ويَجْعَل لها قيمة مثل الرَّجُل، كان تحوُّلًا كبيرًا عن الوضع الطبيعي وسيُصْبِح حَجَر الزّاوِية في طريقة حياة العِبْرانيين.
ابتداءً من الآية الخامِسة عشرة، يَنْتَقِل المَوضوع إلى ما يَحْدُث في عائلةٍ متَعَدِّدَة الزَّوْجات عندما تكون إحْدى الزَّوْجات مَحْبوبة أكثر من الأخْرى من قِبَل الزوج. تقول بعض التَّرْجَمات عن هذا الأمْر "عندما تكون إحْدى الزَّوْجات مَحْبوبة والأُخْرى مَكْروهة"؛ تقول تَرْجَمَتُنا في الكِتاب المُقَدَّس اليَهودي الكامِل أن إحْداهُما مَحْبوبَة والأخرى غير مَحْبوبَة .
إفْهَموا أن المَعْنى هنا ليس حالة "مَحْبوبَة" بشدّة مقابل "مَكْروهَة" بِشِدّة؛ أو إخْلاص كامِل لإحدى الزَّوْجَتَيْن وازْدِراء تام للأُخْرى. بل هو أن إحْدى الزَّوْجَتَيْن أكثر تَفْضيلاً من الأخْرى. والحقيقة هي أن هذا هو أَصْل السَّبَب في أن الله لا يُريد تَعَدُّد الزَّوْجات بين شَعْبِه. تَعَدُّد الزَّوْجات لا يُسَبِّب سِوى المتاعِب. من المُسْتَحيل أن يكون للرَّجُل زَوْجَتان ولا يكون لَدَيْه بعض التَّفْضيل لإحْداهما على الأُخْرى (حتى لو كانت دَرَجَة صغيرة في ذِهْنِه). وحتى لو كان مُتَساوِيًا بقدر ما يُمْكِن أن يكون إنْسانًا، فأي امْرأة ستَعْتَقِد بِصُدْق أنها تُعامَل بِعَدالة مُقارَنَةً بِمُنافِسَتها؟ وأي زَوْجَة لن تُحاوِل أن تُصْبِح زَوْجَة أكثر تَفْضيلاً؟
لقد حَدَث هذا السّيناريو بالضَّبْط قبل عِدَّة قُرونٍ من شَريعة موسى في قِصَّة حياة يعقوب. فقد تم خِداعه بالزواج من ليا، ثم اضْطَرَّ إلى المُوافقة على الاحْتِفاظ بها كزَوْجَة له لكي يَتَزَوَّج التي كان يَنْوي الزواج مِنها حقًا، وهي راشيل أُخْت ليا. تَحَدَّث عن أسْوَأ ما في الأمْر: لقد تزوَّج هذا الرَّجُل من شقيقتَين (منافِستَين طبيعيَّتَين في مُعْظَم الحالات)، وإحداهما لم يَكُن يُريد الزواج منها. من الطّبيعي أنه يُحِب راشيل أكثر من ليا، وهذا يُسَبِّب مَشاكِل كبيرة في بَيْت يعقوب. ليس الأمْر أنه لم يَكُن يُحِب ليا، ولكن عاطِفته كانت أكثر بكثير تِجاه راشيل (ولا بدّ أن ذلك كان واضحًا). حتى أن رؤوبين، ابن ليا المِسْكين، تآمَر مع والدته لإطعام يعقوب مُنَشِّطًا جنسيًا (المندراك) على أمل أن يَجعل ليا أكثر رغبة لدى يعقوب وبالتالي تَهْدئة مشاعِر ليا المَجروحة باسْتِمرار وشعورها بعدم الأمان.
ولكن مَسْألَة تَعَدُّد الزَّوْجات تُصْبِح أكثر تَعْقيدًا عندما يَحين وقت نَقْل ميراث العائلة إلى الجّيل التالي. تتصوَّر الآيتان التاليتان مُشْكِلَة نَموذجيّة جدًا في عائلة متَعَدِّدة الزَّوْجات؛ فالأب سيَرْغب غَريزيًّا في إعطاء حقوق البِكر لابْن زوجته المُفَضَّلة على ابن زوجته الأقل تفضيلًا، حتى لو كان ابن الزَوْجَة الأقل تفضيلًا قد وُلد أولًا. ومَرَّة أخرى المِثال الرَّئيسي على ما يُمْكِن أن يَحْدُث هو ما حَدثَ مع يعقوب؛ في الواقع كان ابنه البِكر هو رأوبين ابن الزَوْجَة الأقل تفضيل، ليا. لذلك على الرَّغم من أنه كان لِسَبب يبدو مَشْروعاً، فقد تم تَجاوز رأوبين وأُعْطِيَت حقوق البِكر ليوسف، ابن يعقوب الحادي عشر، ابن زوجته المُفضَّلة راشيل؛ حَسَب العِرْف والتقاليد كان ذلك أمْرًا خاطئاً. هنا في الآية السادسة عشرة نَجِد بيانًا صريحًا بأنه لا يَجِب على الأب أن يتجاوز الإبْن البِكر حتى لو كان ابن الزَوْجَة الأقل حظْوة؛ ولكن يعقوب فَعَل ذلك بالضَّبْط.
ليس علينا أن نَبْذُل جِهْدًا كبيرًا لاسْتِحْضار صورةٍ ذِهْنِيَّة لِكُلّ هذا، أليس كذلك؟ في عَصْرِنا الذي أصبح فيه الطَّلاق أمرًا شائعًا، والشمول المُعتاد لأبناء الزَّوْجات في ما يُسّميه عُلَماء الاجْتماع الآن بالعائلات المُخْتَلَطة، فإن تقسيم اهْتِمام المَرْء بين هؤلاء الإبْناء من آباء وأمهات مُخْتلفين أمْر صَعب بما فيه الكفاية، ولكن تقسيم الميراث أصْعَب. يكاد يكون من المُسْتَحيل إرضاء جميع المَعْنيِّين أو أن يَشعر الجميع بأن القِسْمة كانت عادلة.
مَوضوع آخر مُتَّصِل يتم التعامل معه الآن بِدءاً من الآية الثامنة عشرة؛ إنه ما يَجِب فِعْلُه في مَسْألَة الإبْن الضّال. بعبارة أخرى، ما الذي يَجِب فِعْلُه مع الإبْن المُتَمَرِّد والمُتَحدّي؟ تُجيب الآيات القليلة التالية على هذا السؤال. أولاً، يُعرَّف هذا الإبْن المُتَمَرِّد بأنه الإبْن الذي لا يُطيع أمّه وأباه حتى بعد أن يحاوِلا تأديبه بكل الطُّرُق المُعتادة. ثانيًا هو أن الأم والأب يَجِب أن يتَّفِقا على أنه يَجِب القيام بِأمْرٍ مهمّ جدًا. ثالثاً، أن يُسَلِّماه أساساً إلى السُّلطات المدَنية.
إذا كانت السُّلطات المَدَنيّة تَعْتَقِد أن هذا الإبْن هو ابن لا قيمة له بِشَكل خاص (التعبير العبري لهذا هو "شَرِهٌ وسَكّير")، فإنه يُرجَم حتى المَوْت. هل يبدو لك هذا قاسِيًا بعض الشَّيء؟ هل ستُفَكِّر في الإعدام كخِيار قابل للتَّطْبيق إذا كنت تُحاول رفع قَضِيّة صعبة للغاية؟ أنت لست وَحْدك؛ لقد قَرَّر الحاخامات أن العُقوبة كانت قاسِية جدًا لدَرَجَة أنهم أصْدَروا أحْكامًا تتطلَّب مجموعة من الظُّروف القاسِية وغير المُحْتَمَلة حتى يتم إعدام الإبْن المُتَمَرِّد، لدَرَجَة أن ذلك لم يَحْدُث أبدًا. في الواقع لن نَجِد حالة واحدة في كل الكِتاب المُقَدَّس لوالِدين سلَّما ابنهما المُتَمَرِّد إلى الشُّيوخ ليُعدَم. في الأساس كان هذا القانون يُسْتَخْدَم فقط كوسيلة لبَثّ الرُّعب في نَفْس الولد الفاسِد.
لقد أبدى الباحث الشهير في الكِتاب المُقَدَّس ج. س. ماكسويل هذه الملاحظة حول مَوضوع التَّمَرُّد والعِصْيان هذا، وأوَدُّ أن أُشارِكُكُم إياها.
"عندما يُواجَه الشَّخْص (المسيحي) بِعِصيانه لأوامِر الكِتاب المُقَدَّس، فمن المُرَجَّح أن "يَسْمع ويَسْخر" أكثر من أن "يَسمع ويَخاف". لماذا؟ لأن الهَيْئة الكَنَسيّة تَفْتقِر إلى الانْضِباط. إن أكبر رادِع للخطيئة في مُجْتَمع ما، هو أن يُحِبّ الناس الله ويَخافونه (يَتَّقونه) عن طريق طاعة أوامِره. المَحبَّة بدون خوف ليست سوى هراء والخوف بدون مَحَبَّة هو بِبَساطة تشَدُّدٍ قانوني. فقط الاثنان معًا في توازُن صحيح سيُحَقِّقان الطّاعة التي يَطلبها الله".
اسْمَحوا لي أن أُشير إلى أمْرَيْن حول الإجراءات مع الإبْن المُتمرِّد، وسنَنْتَقِل إلى المَوضوع التالي. أولاً، لاحِظ أنه يَجِب أن يُوافق كلا الوالِدَين. فالأم لها وزن مُتساوٍ مع الأب في هذه المَسْألَة، مِمّا يدلّ على مدى القُوّة غير العاديّة التي كانت تتمتَّع بها الأم في العائلة العِبْرانية مُقارنةً بمُعْظَم العائلات الأخرى في ذلك العصر (لا أعْتَقِد أن الأَمْر قد تغيَّرَ كثيرًا!) ثانيًا، ليس الأمْر أن الوالِدَيْن قد اتَّخذا قرارًا بأن ابنهما يَجِب أن يموت، ولذلك فقد قَدّما ابنهما إلى الشيوخ لإعْدامه. فالإعْدام ما هو إلا أقْصى عقوبة مَسموح بها يُمْكِن فَرْضَها، وعادةً ما كانت سُبُل الانْتِصاف الأخرى مُتاحة ومُفَضَّلة. النّقطة المُهِمَّة هي أن الوالِدَيْن لم يكونا قاضِيًا وهيئة مُحَلَّفين. لقد رَفعوا بِبَساطة قَضيَّة صَعْبة إلى محكمة البلدة، وقامت المحاكم بالتَّحقيق في الأمْر وأصْدَرَت حِكْمَها في مَسْألَة ماهِيَّة أفضل طريقة للتَّعامل مع الولد صاحِب المُشكلة.
لاحِظ كذلك أن رجال البلدة هم الّذين (نظريًّا) سيَرْجُمون الولد المُتَمَرِّد حتى المَوْت. بالطَّبْع لا يُطلب من الآباء والأمَّهات أن يَتدخَّلوا في الأمْر بِسَبب العديد من المبادئ الأخرى التي وَضَعها الرَّب حول ما يُمْكِن تَوَقّعه بِشَكل معقول بين الآباء والأُمَّهات وذِرِّيّتهم.
ونرى أيضًا هَدف الرَّب من وراء هذه العاقِبة القاسِية التي يأمُر بها في الآية واحد وعشرين: "هكذا تَسْتأصِلون الشَّر من وَسطكم، فيَسْمع كل بني إسرائيل ويخافوا". تَعرف المُجْتَمعات الشُّمولية جَيِّدًا كيف تَسْتخدِم الخَوف للسَّيْطرة على الناس. الخَوف هو الأداة الرَّئيسيَّة المُسْتخدَمة بدَرَجَة أو بأخرى في كل مُجْتَمع أعْرِفه تقريبًا للحِفاظ على النِّظام. من وِجْهة نظر الكِتاب المُقَدَّس، الخَوف من عواقِب ارتِكاب الخطأ ليس فقط أمْرًا جَيِّدًا وصِحِّيًّا، بل هو أمْر لا غِنى عنه. والفرق بين نوع الخَوف الذي يأمُر به الله مُقابِل ذلك الذي تَجْلبه المُجْتَمعات الشُّمولية هو أنه في الحالة الأولى تتمّ مُحارَبَة الشَّر وتطهير المُجْتَمع منه، وفي الحالة الأخرى يتم تَسْليط الشَّر على المُجْتَمع.
إن السَّبَب الكامِل الذي يَجعل الرَّب يُطالِب بِمِثل هذه العواقِب القاِسية على تَّمَرُّد الشِّرير ضدّه (بالتَّعَدّي على مبادئه الأساسيّة) هو لِمَصلحة الجميع. أخشى أن تكون مُجْتَمعاتنا التَّقَدُمِيَّة الحديثة قد نَسِيَت كيف أنه يَجِب القَضاء على الشَّر وإلا سيؤثِّر على الآخرين ويُصيبهم؛ وبالتأكيد لا يتمّ التَّعامل مع الشَّر بِشَكلٍ فعّال عن طريق تَعليم المُجْرِم.
إن المَوضوع الأخير من سِفْر التثنية واحد وعشرين له العديد من التَّشَعُّبات التي أعْتَقِد أن مُعْظَمكم سيُدركها على الفَور. وهو أنه إذا كان هناك ما يُبَرِّر إعدام رَجُل بِسَبب جريمةٍ عُقوبَتُها الإعدام، فإنه إذا كان جِزْء من الإجراء هو أن تُعلَّق جِثّته على خَشَبة فيَجِب أن تُنزَّل جِثّته قبل حُلول اللّيل.
أين سَمِعْنا هذا المَبْدأ من قَبْل؟ بالطَّبِع؛ في قِصَّة صَلْب يسوع المسيح.
لقد كان من المُعتاد في أزْمِنة الكِتاب المُقَدَّس أن جِثَّة المُجْرِم المَيِّت كانت تُعلَّق على عمود أو وَتَد للعرض للعامّة؛ وكان الهَدَف من ذلك أن يكون بِمَثابة تَذكير شَنيع لما يَحْدُث للشّخص الذي يتجاوَز النّاموس. في بعض الأحيان كان "الوتَد" عبارة عن عمود كبير مُدَبَّب يُعَلَّق عليه الرَّجُل ليَقْتُلَه، وفي أحيان أخرى بعد مَوْتِه كان مثقوبًا. إلّا أن عِبارة "عُلِّقَ على عَمود" أو "وَتَد" لا تُشير إلى أن وسيلة وَضْعه هناك كانت بالضَّرورة الخَوْزقة. هناك أمْران حول هذا الأمْر: أوَّلاً وقبل كل شيء، لم يَكُن مُصْطَلَح "الشَّنْق" في الكِتاب المُقَدَّس يعني الخَنْق من الرَّقبة على المَشْنَقة. لم يَسْتخدِم العِبْرانيون الشَّنْق من الرَّقبة كوسيلة للإعْدام. ثانيًا، في أغلب الأحيان، كان يُرْبَط ذِراعا الجثّة على عارِضةٍ خَشَبِيَّة تُعلَّق على قِمّة عمود يقع بِجانِب الطريق أو في مكان آخر مَرْئي جدًا. لم يَكُن خَوْزَقة الجِثَّة الطريقة المُعتادة أو المألوفة، على الرَّغم من أنها كانت تَحْدُث بالفعل.
كانت المُعاملة اللائقة والمُحْتَرَمة للمَوتى (حتى للمُجْرِم) هي القاعِدَة في ثقافات الشَّرق الأوسط (على الرَّغم من أن ما كان يَعنيه "اللائق والمُحترَم" لم يَكُن دائمًا هو نَفْسه). هنا لا يُحاول الرَّب هنا رَدْع مُمارسة تعليق جثة المُجْرِم في مكان عام؛ بل أنه في نِهاية اليَوم الأول من مَوته، هذا يكفي ويَجِب إنزاله ودَفْنه. كذلك لا يُمْكِن إلقاء جثة المُجْرِم من فوق مُنْحَدَر أو طَرْحها لتَتَعفَّن أو ليقوم الزَّبّالون بما يقومون به، بل يَجِب أن تُدفن الجثة في نهاية يوم الإعْدام.
والآن ما تُخْبِرنا به هذه الآية الأخيرة هو أنه بَيْنما يكون احْترام المَيِّت مُناسبًا، إلا أن هناك سَببًا روحِيًّا لهذه المُعاملة للجِثّة؛ وهو أن عدم دَفن الجِثّة هو إهانة لله. إذا لم تُدفن الجثّة فالنتيجة هي أن الأرض ستَتَنجَّس. بماذا يُذَكِّركم هذا ممّا دَرْسناه الأُسْبوع الماضي؟ صحيح؛ إثْم الدَّم.
المَبْدأ الذي ذَكَرْتُه في بداية دَرْسنا هو أن قَتْل الإنسان ليس خَطأً تِلْقائيًا. ولكن على المَرْء أن يَتْبع إجراءات الله لتَحديد ما إذا كان القَتْل مُناسبًا أم لا، وإذا كان مُناسبًا كيف يُنفَّذ القَتْل. والآن هذه التَّعْليمات كلها تَتعَلَّق بِمُعاملة جثة المُجْرِم المَقْتول. إذا اتَّبَع المرء جميع هذه التَّعْليمات فإن هذا القَتْل ليس فقط لا يَجْلب إثْم الدَّم على الناس أو الأرض فَحَسْب، بل إنه في الواقع يُزيل إثْم الدَّم الذي نَتَج عن فِعْل المُجْرِم. ولكن إذا لم يَتِمّ اتباع التَّعْليمات (حتى لو كان المُجْرِم مُذْنِبًا تمامًا) فإن هذا القَتْل المُبَرَّر يَجْلِب إثْم الدَّم على المُجْتَمع والأرض.
دَعونا نَخْتتِم دَرس اليَوم بهذا التَّشابُه بين الأقوال عن مَوت المسيح على الصَّليب وهذه الأقوال هنا عن التَّعْليق على عمود. أولاً، دَعونا نَنْظر إلى البيان هنا في سِفْر التثنية واحد وعشرين على ثلاثة وعشرين. تقول " .. لأنَّ المُعلَّق ملعونٌ من الله….." حسب التَّعريف (والعديد من المُتَرجِمين يُضيفون هذه الكَلِمات) أن يكون "مشنوقًا" يعني أن يكون مُعَلَّقًا على عمود لأنه، كما قُلت سابقًا، لم يَكُن هناك تعليق من الرَّقبة حتى المَوْت في المُجْتَمع العبري. قبل أن نَنْتقِل إلى آية العهد الجديد دَعونا نكون واضِحين جدًا بشأن ما يَقوله هذا. ما لا تَقوله هو أن نتيجة التَّعْليق على عمود هو أن الشَّخْص مَلعون من الله. بل إنها تَعني بالأحرى أن الشَّخْص مَلعون من الله ولذلك يتمّ تَعليقه على عمود. كونُهُم مُعَلَّقين على عمود هو لأنهم مَلْعونون من قبل يَهْوَهْ.
لقد فُهِمَ المَوْت بالإعْدام على أنه فَصل قانوني ورَسْمي ونِهائي للشَّخص عن جماعة الله. مع هذا الفَهم دَعونا نَنْظُر الآن إلى الآية المَعْروفة في العهد الجديد التي تتحدَّث عن حالة الشَّخْص الذي عُلِّقَ على العمود فيما يَتَعَلَّق بالمسيح:
الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد غلاطية ثلاثة على ثلاثة عشرة: المسيح افتدانا من لَعْنة النّاموس، إذ صار لعنة لأجلنا– لأنه مكتوب:"مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى شَجَرَة"—
أوّلاً وقَبْل كل شيء، عندما يقول بولس، "إنّه مكتوب"، فهو يُشير إلى الكِتاب المُقَدَّس، الذي كان بالطَّبْع ما نُسَمّيه العهد القديم لأن هذا هو كل ما كان مَوجوداً في أيامِه. وفي هذه الحالة فإن المَقْطع الذي كان يَسْتَشْهِد به هو بالضَّبْط المَوضع الذي نَدرسه اليَوم في التَّوْراة: تثنية واحد وعشرين على ثلاثة وعشرين. كان اليهود في أيام بولُس يَفْهمون تمامًا البيان الدرامي والقوي الذي كان يُدْلي به، حتى لو لم يَفْهَموا تمامًا كل الآثار الرّوحية والخَلاصي. لقد أخذ المسيح على عاتِقه لَعْنةَ النّاموس (التي هي عُقوبة المَوْت بِمَعنى المَوْت الجسدي والانْفِصال الرّوحي عن الآب) كَدَفْعةَ فداءٍ لنا حتى لا نَضْطَرّ نحن إلى مُواجهة تلك اللَّعنة.
أرجو أن تَسْتَمِعوا جَيِّدًا وتُخَزِّنوا هذا في ذاكِرَتكم: عندما يَتَحَدَّث العهد الجديد عن "لعنة النّاموس" فهو يَتَحَدَّث عن شيء واحد: المَوْت، المَوْت الكامِل، المَوْت الجَسَدي والرّوحي. لعْنة النّاموس هي المَوْت وبَرَكة النّاموس هي الحياة. مُصْطَلَح آخر مُوازٍ لهذا في العهد الجديد هو "أجرة الخطيئة هي المَوْت". أنت تنال لَعْنة النّاموس (المَوْت) لأن خَطيئتك اسْتَحَقَّتها. أنت تَسْتَحِق أو تَكْسَب المَوْت بِسَبب الخَطيئة. هذه العِبارات عن لَعْنة النّاموس وأُجْرة الخَطيئة هي بِبَساطةٍ طريقتان للتَّعامُل مع نَفْس الشيء.
لقد لَعَن الآب المسيح (والدَّليل على ذلك، كما يقول بولُس، هو أن يسوع عُلِّق بالفِعْل على خَشَبة). إن انْفِصال يسوع عن جماعة الله (مَوته الجسدي)، وانْفِصالِه عن الآب لِبُضع لَحَظات. الكتاب المقدس اليهودي الكامل" متى سبعة وسِتة وأربعين : في حوالي الساعة الثالثة تقريبًا، صَرَخ يَسوع بِصوتٍ عَظيم قَائِلًا: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَني؟» أَيْ: إِلَهِي، إِلَهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَني؟" كان هذا هو البديل القرباني لما يَجِب أن يَحْدُث لنا بِحَقّ.
لذلك من خلال دِراسة التَّوْراة يُمْكِننا أن نرى بِشَكلٍ أفضل ما حَدَثَ عند صَلْب المسيح. لقد كانت شَريعة سِفْر التثنية واحد وعشرين تَنصّ على أن أي مُجْرِم يُصلب يَجِب أن يُنَزَّل عن خَشَبة المَوْت قبل حُلول اللّيل. إن إسْراع النِّساء في إنزال يسوع عن ذلك الصَّليب ودَفْنه لأن السَّبت كان سيَحِلُّ عند غُروب الشمس هو أمْر صحيح، ولكنَّه أمْر ثانوي لأن عدم القيام بذلك كان سيُخالِف شَريعة سِفْر التثنية واحد وعشرين. حتى لو لم يَكُن اليَوم التالي سبت عيد، كان من الأهَمِّيّة بِمَكان أن يُنَزَّل جَسَد المسيح عن ذلك العمود ويُدفَن. وماذا كانت ستكون النَّتيجة لو لم يَتَمَكَّنوا من إقْناع الرّومان بِقَطع يسوع؟ كما جاء هنا في سِفْر التثنية واحد وعشرين على ثلاثة وعشرين، لكانت الأرض قد تَدَنَّسَت بإثْم الدَّم، ولَكان المُجْتَمع المَحَلّي في أورشليم (بما في ذلك هؤلاء التلاميذ من النِّساء) قد أُثْقِلوا بإثْم الدَّم.
إنَّه لَأَمْر مُدْهِش حقًا وتَعْليقٌ مُحْزِن على الحالة الفاسِدة للقيادة الدّينيَّة اليهودية في عصر يسوع أن الكَهَنة الّذين شاهَدوه يَموت لم يَهْتَمّوا على ما يبدو إطلاقًا بِشَريعة الله في هذا الشَّأن؛ لم يَهْتَمّوا بما إذا كان ذلك الرَّجُل اليَهودي قد عُلِّق على ذلك العَمود بين عَشِيَّةٍ وضُحاها، وبالتّالي غَرِق الجميع وكل شَيْء في إثْم الدَّم. بل إن عامّة اليهود كانوا يَعْرِفون ما يَجِب فِعْلُه من أجْل طاعة الله، وقد فَعَلوا ذلك.
سنَبْدأ الأُسْبوعْ القادِم الإصْحاح الثاني والعشرين.