سِفْر التثنية
الدرس التاسع عشر – الإصْحاح الخامس عشر
يَستكمل سِفْر التثنية الخامس عشر شَرائع الرَّب المُتَعَلِّقة بِمُساعَدَةِ الفُقَراء والمَحْرومين. إن شَخْصيّة الله هي أنه يَضَع احْتِياجات الفُقَراء كأوْلَوِيّة قُصْوى؛ ولكنه يَضَع أيضًا مَسؤوليّة رِعاية الفُقَراء على عاتِق كل فَرْد في مُجْتَمَع أولئك الّذين خَصَّصهم الله (مع توقُّع أن يُعطي أولئك المَيْسورين أكثر من غَيْرِهم).
بينما نَسْتَعِدّ لقراءة الإصْحاح الخامِس عشر، لاحِظوا أن مَبْدأ الله – مَبْدأ "التَحَرُّر" أو " المَغْفِرة" هو في مُقدَّمة الإهْتمام؛ وبِشَكلٍ أكثر تَحْديدًا هنا في هذا الإصْحاح هو التَحَرُّر من الدَّين أو العُبودِيَّة. سوف نَدْرُس هذا المَفْهوم بِعِناية فائقة لأن "التَحَرُّر أو المَغْفِرة" هو أحد المَبادئ التي يَرْتَكِز عليها خلاص البَشَرِيّة. التَحَرُّر، شميتاه بالعبرية، يُشير إلى إلغاء مَدْيونِيَّة المَرْء التي غالبًا ما كانت تَنْطَوي على العُبودِيَّة بِطَريقةٍ حَرْفِيَّة جدًا في العُصور القديمة. ويُشَدِّد العهد الجديد على أنّنا بالإيمان بالمسيح ننال التَحَرُّر من مَدْيونِيّتنا لله بِسَبَب خَطايانا ضِدّه ومن عُبوديَّتنا للخطيئة نَفْسها. وبالطَّبْع، نَجِدُ في التَّوراة أن مَبْدأ التَحَرُّر قد نوقِش بِشَكلٍ كامِل؛ ويُتَوقَّع أن يكون القارئ قد فَهم العهد الجديد بالفِعل.
أرْجو أن نَتَذكَّر أيضًا أن سِفْر التثنية هو في الواقع: مَوْعِظة موسى على الجبل؛ إن موسى يَشْرَح الشَّريعة…… يَعِظ إن صحَّ التَّعْبير. لذلك سيأخُذ سِفْر التثنية مَبْدأً أو قانونًا مَذْكورًا (وقد صادَفْنا الكثير منها في أسْفار التَّوراة السّابِقة) ثم يَنْتَقِل إلى شرْح مَعْناه ومَقْصَده وكيف يَنْبَغي تنفيذ المَبْدأ. في بعض الأحيان يتم تعديل الأمور قليلًا لأن وَضْع العَيْش في الخِيام في البَرِّية كان مُخْتَلفا بِشَكلٍ كبير عن العَيْش في حياة مُسْتَقِرَّة في القُرى والمُدُن في كنعان.
دَعونا نَقرأ سِفْر التثنية الخامس عشر بالكامل.
اقرأ سِفْر التثنية الإصْحاح الخامس عشر بأكْمله
نَجِد في الآيات الثمانية عشرة الأولى مَجْموعة من ثلاثة أحْكام من الشَّريعة مُصَمَّمةْ لرِعاية وحِماية أكثر الفئات ضُعْفًا واحْتِياجًا في المُجْتَمَع الإسرائيلي؛ الفُقَراء.
تَتَناول هذه القوانين الأمور التي تُزعج أكثر احْتِياجًا في كل مُجْتَمَع: عَدَم قِدْرَتِهم على الحصول على قُروض، وإذا حَصَلوا على قَرض كيف يُسَدِّدون هذا القَرض، ثم كيف يُمْكِن أن يَنْتهي بهم الأمْر في كثير من الأحيان إلى السُّخْرة، والتي غالِبًا ما تكون الطَّريقة الوحيدة التي كان الفقير يَمْلكها لسَداد الأموال المُقْتَرَضة أو حتى لِكَسْب العَيْش.
ليست هذه هي المَرَّة الأولى في التَّوراة التي نُصادِف فيها هذه الأحْكام المُتَعَلِّقة بالعُبودِيَّة والدّين والتَّحْرير، إذ نَجِد أحْكامًا حول هذا الموضوع في الإصْحاحات من واحد وعشرين الى ثلاثة وعشرين من سِفْر الخُروج، وفي الإصْحاح الخامس والعشرين من سِفْر اللّاويِّين. إن العَودة إلى تلك المَقاطِع ومُقارَنَتها مع هذه المَقاطع المُماثِلة هنا في سِفْر التثنية ستَجْعَل دِراسة اليوم طويلة جداً، لذا دَعوني فقط أُدْلي بِبَعض المُلاحظات العامّة حَولها. أولاً، إن قوانين سِفْر الخُروج وقوانين سِفْر التثنية مُتَشابِهة جداً مع بَعضِها البعض؛ ولكن قوانين سِفْر اللّاويِّين في هذا المَوضوع مُخْتَلفة قليلاً. تَتعلَّق أبْرَز الاخْتِلافات بِمَن يَخْضَعون لهذه القوانين، وفي أي حالات يَجِب تَطْبيق هذه القوانين.
ثانيًا، يَهْتمّ سِفْر التثنية وسِفْر الخُروج بِرَفاهيَّة الأفراد، بينما يَهْتمّ سِفْر اللّاويِّين أكثر بِرَفاهيَّة العائلات في الشركات والأمّة ككلّ. كان بنو إسرائيل مُجْتَمَعًا قَبَليًّا يَتألَّف هَيْكَلُه من وِحْدات عائليّة تُسَمَّى الأُسَر والعَشائر والقَبائل. كانت الأسْرَة هي الوِحْدة الأصْغَر، وتُعادِل ما نُسَمِّيه نحن في المُجْتَمَع الغَرْبي الحديث الأُسْرَة المُمْتَدَّة. وكانت تتألّف عادةً من ثلاث إلى أربع أجيال من عائلة واحدة تعيش في علاقة إقْتِصاديِّة واجْتِماعيَّة مُتَماسِكة بِشِدَّة. أمّا المُسْتوى التالي فهو العَشيرة التي تتألف من عِدَّة فُروع من العائلات المُمْتَدَّة التي تُشير إلى سَلَف مُشترَك يعود إلى عِدَّة أجيال. وكان المُستوى الأعلى من العَشيرة هو القبيلة التي تتكوَّن من مَجْموعة من العشائر التي يُمْكِن أن تُشير إلى مؤسِّس واحد للقبيلة. كانت الأُسَر هي الأقْرب من حيث عِلاقات الدّم بين الأفراد، والعَشائر أقلّ من ذلك بقليل، والقبائل هي الأبْعَد.
لذلك بَيْنما يَهْتمّ سِفْر اللّاويِّين أكثر بِرَفاهيَّة وحقوق العَشائر والقبائل بأكْمَلها، فإن سِفْر التثنية وسِفْر الخُروج يَهْتمّانِ أكثر بالأفراد الّذين شَكَّلوا الأُسَر. ففي سِفْر اللّاويِّين نَجِد قوانين اليوبيل التي تنصّ على أن العبيد العبرانيّين يتُحَرِّرون تمامًا كل خمسين سنة من خِدْمة أسْيادِهم، وأن الأرض التي بِيعَت تُعاد (تُردّ) إلى مالِكها التّاريخي الأصْلي، وأن جميع الدُّيون النَّقْدِيّة تُلغى. ومع ذلك، نَجِد هنا في سِفْر التثنية قوانين تُلغي الدُّيون وتُحَرِّر العبيد من عُبوديَّتهم في دَوْرَةٍ زَمَنِيَّة أقْصَر بكثير: كل سبع سنوات. تُسَمَّى دَوْرَة التَّحرير التي مُدَّتها خمسين سنة دَوْرَة اليوبيل، ودَوْرَة التَّحرير التي مُدَّتها سبع سنوات تُسَمَّى دَوْرَة السَّنة السَّبْتيّة.
إسْمَحوا لي أن أرسُم صورة لنَوع تأثير هذه القوانين. إذا كان بإمْكانك أن تَتَخَيَّل السّيناريو الذي بموجَبِه تُقرِض المال لشخص فقير مُحتاج، ولكن القانون ينصّ على أنه في وقت مُحَدَّد مُسبقًا يَجِب أن يتم الإعْفاء من القَرض بالكامل وإلغاء الدّين، بِغَضّ النظر عن مِقْدار الدّين (إن وجد) الذي تمّ سَداده، فيُمْكِنك أن تَتَخَيَّل أيضًا أنك كمُقْرِض تُفَضِّل بالتأكيد أن دَوْرَة الإعْفاء هذه تَحدُث فقط كل خمسين سنة وليس كا سبع سنوات. ومن ناحية أخرى، إذا كنت أنت المُقْتَرِض، فإنك تُفَضِّل بالتأكيد أن يتمّ الإعفاء من ديونك كل سبع سنوات بدلاً من كل خمسين سنة. لذلك كما يُمْكِنك أن تَتَخَيَّل أيضًا أن الحُكَماء والحاخامات قد قَضوا يومًا حافِلًا منذ كتابة التَّوراة، مُحاولين تحديد كَيفيَّة التَّوفيق بين قوانين الإبْراء كما وَرَدَت في سِفْر التثنية وسِفْر الخُروج (التي كانت مَبْنِيّة على دَوْرَة من سبع سنوات)، مقابل قوانين سِفْر اللّاويِّين التي كانت مَبْنِيَّة على دَوْرَة من خمسين سنة، وأي قانون يَسُود في ظِلّ أي ظروف من المَدْيونِيَّة والعُبودِيَّة.
من النّاحية اللّاهوتيّة فإن التَّناقُض الظّاهِر بين قوانين التّحرير في سِفْر اللّاويِّين مقابل قوانين سِفْر التثنية وسِفْر الخُروج يَضَعنا أمام تَحَدٍّ للتَّوْفيق بينهما. إن الطَّريقة القياسيَّة لِجَعل كل هذه القوانين مُتَناغِمة (بَدَلاً من أن تكون مُتَعارِضة) في ظاهِرها هي القَول عُموماً أن المُقْصود بِدَوْرَة التَّحرير التي مُدَّتها سبع سنوات ليس الإلِغاء الكامِل للدَّيْن، بل فقط أن المَدْفوعات لِسَداد هذا الدّين لا يُمْكِن تَحْصيلُها خلال السَّنة السابعة من كل دَوْرَة من السَّنوات السّبع؛ بِمَعْنى آخر فإن مَدفوعات الدَّين تؤجَّل فقط لمدَّة سنة واحدة، ولكن بعد تلك السَّنة تعود المَدْفوعات مَرَّة أخرى إلى الاسْتِحْقاق. ولكن بعد سِلْسِلة من سبْع سنوات من الدَّوْرات السُّباعيّة (تسعة وأربعين سنة)، في سنة اليوبيل التالية (وهي السَّنة الخمسين)، في الواقع يتمّ إلغاء الدُّيون بالكامِل وليس مُجَرَّد تأجيل المَدْفوعات. المَنْطِق الكامِن وراء هذا المَنْطِق هو أن أحد قوانين دَوْرَة السَّنة السَّبْتيّة (سبْع سنوات) هو أن الأرض يَجِب أن تَعمل لمُدَّة سِتّ سنوات مُتَتالية ثم في السَّنة السابعة يَجِب أن تبقى من دون استِغْلال من أجل الرّاحة والتَّجْديد. وبما أن بني إسرائيل، خاصةً عندما دَخَلوا كنعان لأوّل مَرَّة، كانوا مُجْتَمَعا زراعيًا في المقام الأول، فإنه يترتَّب على ذلك أن الفلّاح العبراني الذي كان مَدينًا بمال، لا يُمْكِنه أن يُسَدِّدَه خلال السَّنة التي كان مَمْنوعًا عليه بموجَبِ القانون أن يَزرع مَحصولاً. سيكون الأمْر أشْبَه بِسَنّ قانون في الولايات المتحدة الأمريكية يَنصّ على أن كل عامِل كان يَجِب أن يَحْصَل على إجازة بدون أجْر لمدَّة سنة واحدة من كل سبْع سنوات، ولكن مع ذلك يُتوقَّع منه أن يبقى على سداد دُيونه. يُمْكِن للشخص المَيْسور بِشَكلٍ معقول أن يُخَطِّط لمِثِل هذا الحَدَث المُنْتَظِم عن طريق وَضْع سِدْس من دَخْل كل سنة بحيث يكون لَدَيْه ما يَكْفيه في السَّنة السابِعة، لكن الشَّخص ذو الدَّخْل المُنْخَفِض الذي يَحتاج إلى كل قِرِش للبقاء على قَيْد الحياة ليس لَدَيْه فِرْصة لادِّخار القَدَر المطلوب.
إن أفْقَرَ الفُقَراء الّذين لم يكونوا عادةً يَمْلكون أرضًا، والّذين اضْطَرّوا إلى جَمْع طعامِهم من زوايا الحُقول المَمْلوكة من الآخرين، كانوا في وَضْع أسْوأ؛ لم يَكُن لَدَيْهم أي شَيْء تقريبًا ليَبْدأوا به، وبالتالي لم يَكُن لَدَيْهم أي وسيلة لتَخْزين الحُبوب والمُؤَن (أو ادِّخار المال) خلال السنوات السِّت التي أذَن بها الله في الحَقل حتى يتمكَّنوا من السَّحْب من ذلك المَخزون (حِساب التَّوفير الخاص بهم) خلال السَّنة السابعة عندما كانت الزِراعة مَحْظورة. ولكن حتى أولئك الفُقَراء المُدْقَعين قد يَقْتَرِضون المال من وقت لآخر للبقاء على قَيْد الحياة؛ في ذلك الوقت كما هو الحال الآن كان الأكثر فِقْرًا هم الأكثر حَساسِيَّة لأي نوع من الاضْطِراب الاقْتِصادي. وأرجو أن تَفْهَموا: التَّوقُّف القَسْري عن زراعة المحاصيل لمُدَّة سنة كاملة كل خمسين سنة كان سَيِّئًا بما فيه الكِفاية؛ لكن التوقُّف كل سبع سنوات كان عِبْئًا هائلاً على بني إسرائيل. ولذلك لا يوجد سِجِلٌّ يُثْبِت أن بني إسرائيل لم يَحتَفِلوا أبدًا بسنة اليوبيل وفقًا لشريعة الله. هل يُمْكِنكم أن تتصوَّروا زَمَنًا كانت فيه كل الحُقول في أمْريكا تُعطى راحة سنة وتُعْفى كل الدُّيون … وكانت نفس السَّنة من الشَّرق الى الغَرب؟ أو أن يتمّ إلغاء كل أنواع القُروض المُقَدَّمة للنّاس؟ ستكون العواقِب الإقْتِصاديِّة كارِثِية، أليس كذلك؟ لكن الأمور لم تَكُن آنذاك في نِظامهم الاقْتِصادي كما هي اليوم في نِظامنا.
إحْدى القضايا التي يَجِب أن نَفْهمها هي كيف (ولأي غرض) كان يتمّ إقْراض الأموال في تلك الأيام. في البِداية، خاصةً في زمن موسى وحتى زمن المَلِك داوود تقريبًا، كان إقْراض المال بين العبرانيّين مُوَجَّهًا عادةً إلى الفُقَراء والمُحتاجين. نادراً ما كان ذلك عَمَلاً تِجارياً، بل كان عادةً عَمَلاً من أعمال الخَيْر التي أمَر بها الله. كان إقْراض المال….. في كثير من الأحيان في شكل طعام أو بُذور حُبوب ….. كان يَهْدِف إلى ضمان بقاء الفلّاحين والأرامِل والأيْتام والمَرضى على قَيْد الحياة. في وقت لاحِق فقط أصْبَح الأمْر تِجارة. عند إقْراض المال للفُقَراء بِشَكلٍ عام، كان القانون ينصّ على أنه لا يُمْكِن فَرْض أي فائدة بين بني إسرائيل. بالطَّبْع من أجل تحقيق الرَّبح كان تَقاضي الفائدة أمْرًا مَفْروغًا منه، لذلك تم تَطوير أساليب للقيام بذلك في نهاية المَطاف، ولكن لم يَكُن المَقْصود أبدًا أن يَنْطَبِق على ما كان دائمًا مسألةْ صَدَقة على الفُقَراء.
لذا إسْمَحوا لي أن أضَع هذا في شَكْل مَبْدأ إلَهي: لم يَكُن إقْراض المال (من مَنْظور الكِتاب المُقَدَّس) يَتعلَّق بِجَني المال أو اسْتِثْماره، بل كان يَتعلَّق بالأحْرى بِمُساعَدَة أولئك الأشخاص المُعالين في المُجْتَمَع العبراني (الّذين عادة ما يُطلق عليهم إسم الإخوة أو ذوي القُرْبى) والّذين لم يَكُن لَدَيْهم في بعض الأحيان أي وسيلة أخرى للبقاء على قَيْد الحياة. كان الإقْراض حَجَر الزّاوية في نِظام الرِّعاية الاجْتِماعيَّة الإسرائيلي. عندما نَتَقدَّم سريعًا بِضْعةَ قرون إلى الأمام في الكِتاب المُقَدَّس سنَجِد أن الإقْراض أصْبَح بالفِعل في نِهاية المطاف عَمَلًا تِجاريًّا. ولكن بِشَكلٍ عام لم يَكُن العِبرانيّون هم أصْحاب البنوك، بل كان العِبرانيّون هم المُقْتَرِضون من المُقْرِضين الأجانِب. كان بنو إسرائيل يَنظرون عمومًا إلى المُقْرِضين بِهَدَف الرِّبح على أنهم لُصوص غير شُرَفاء، ولذلك كان من النّادِر أن يُصْبِح العبراني مَصرفيًا (مهما كانت الفِرَص مُرْبِحة) لأنه كان سيُصْبِح مَنْبوذًا في مُجْتَمَعه.
ظَلَّ الأمْر بِشَكلٍ عام على هذا النَّحو بين بني إسرائيل حتى سُقوط أورَشليم في يَد المَلِك البابِلي نَبوخَذْ َنَّصر في أوائل القرن السادِس قبل الميلاد، وفي بابل تَغَيَّرَت الثقافة اليَهوديّة بِشَكلٍ كبير؛ وكانت إحْدى النَّتائج أن (عند إطْلاق سراحِهم وعَودتهم إلى الأرض المُقَدَّسة بعد سبْعين عامًا) العديد من المِهَن التي كان يُنظَر إليها بازْدِراء في العُصور السّابِقة ….. بما في ذلك مِهْنة الصَّيْرَفي …..، أصْبَح اليهود الآن يُمارسونها، ومع الوقت أصْبَحت هذه المِهَن من الدَّعائم الأساسِيَّة الشّائعة في المُجْتَمَع اليهودي الجديد. لذلك كان من المُعتاد في زمن العهد الجديد أن يكون العِبرانيّون مَصْرِفيِّين، ولذلك سنَحْصل على قِصَص عن الإقْتِراض والإقْراض كمَشْروع لِكَسْب المال في عهد المسيح. فقط افْهَم أن الغَرَض من الإقْتِراض والإقْراض في التَّوراة أصْبَحَ مُنْحَرِفًا في زمن يسوع. وكما يُمْكِنك أن تَتَخَيَّل أن الفُقَراء كانوا الضَّحِيّة في الأمْر. بعد كل شيء، إذا كنت مُقْرِضًا تَسْعى إلى تَحقيق الرِّبح، هل كنتَ تُفَضِّل أن تُقْرِض المال بفائدة لِرَجُل أعمال، أم تُقْرِضه بفائدة قليلة أو بدون فائدة لشخص مُحْتاج لَدَيْه قِدْرة ضئيلة على السَّداد؟ ليس من الصَّعب تَخْمين الطَّريق الذي اخْتار أن يَسْلكه من لَدَيْهم المال لإقْراضِه.
لاحِظ ما هي نَكْهة إقْراض المال في العالَم اليَوم. إن الأَمْر كلَّه يَتَعلَّق بِسَيْطرة الأثْرِياء على كَمِّية النُقود المُتَداولة، ويَتعلَّق بزيادة الأغْنِياء ثَراءً عن طريق حاجة المُسْتَهْلِكين إلى شراء السِّلَع التي يُنْتِجها رِجال الأعمال الأثْرِياء أَنْفُسهم. هنا في أمريكا، حيث كان الحُصول على المال عن طريق قُروض على أساس قيمة العِقار وقروض السَّيارات والقُروض الشَّخصيّة واستِخدام بطاقات الائتِمان في وقت من الأوقات أمْرًا سَهلاً إلى حدٍّ ما بالنسبة للطَّبَقة المُتَوَسِّطة، فإنه بالتأكيد لم يَكُن بهذه السُّهولة بالنسبة للأكثر فِقْرًا بَيْنَنا. فالنِظام والغَرَض الذي وَضَعَه الرَّب للإقْراض والإقْتِراض قد انْقَلَب رأسًا على عَقَب تقريبًا على مَرّ القرون؛ فأولئك الّذين هم في أمَسّ الحاجة إلى المال لا يَسْتطيعون الحُصول عليه، وأولئك الّذين يَسْتَخْدمون القروض لِكَسب المزيد من المال لأنْفُسهم أو لشِراء أشياء هي رَغَبات أكثر من كونِها حاجات، تتوافَر لهم بِسُهولة وغالبًا ما يَدْفَعون فائدة أقَلّ.
بما أنني أعْتَقِد أن فَهْم الثَّقافات القديمة أمْرٌ أساسي لِفَهِم الكِتاب المُقَدَّس ومَقْصَده بِشَكلٍ صَحيح، دَعوني أُضيف أن الإقْتِراض والإقْراض كان (بالطَّبْع) أمْرًا شائعًا منذ زَمن سحيق. لدينا الألواح المِسْماريّة التي يعود تاريخها إلى ما قبل إبراهيم والتي تَضع قوانين من مُخْتَلَف المُلوك فيما يَتعلَّق بالإقْتِراض والإقْراض والتّحرير. مُعْظم الألواح الطّينِيَّة الآشوريَّة القديمة التي تمّ اكْتِشافُها بِعَشرات الآلاف، هي سِجِلّات مُحاسبيّة ومُعاملات تجاريّة. لذا، كما تعلَّمْنا، فإن مُعظم الأمور التي كان الله يُشَرِّعها كقانون لبني إسرائيل (بما في ذلك مسألة العدالة الاجْتِماعيَّة والتّحرير) تَتعلَّق بأمور يَوميّة عاديَّة كانت أيضًا أعْرافًا راسِخة منذ زمن طويل بين أُمَم العالَم. كان من الشّائع بين ثقافات بلاد ما بين النَّهْرَين أن يُحَرِّر الملوك بعض رَعاياهم من الدُّيون ومن العُبودِيَّة ومن أحْكام السِّجن كجِزء من احْتِفالهم بالتَّتْويج، وبالطَّبْع بينما كان ذلك يَجْعل المَلِك يبدو شَهْمًا، إلا أن تَكْلِفة ذلك كانت تَقع على عاتق أولئك الّذين دَفَعوا مبالغ كبيرة مقابل العَبيد أو أقْرَضوا المال، ولم يُكّلِّف ذلك المَلِك شَيئًا. سنَجِد فيما بعد أن الإغْريق والأثينِيّين قد حَرَّروا العبيد من دُيون الأراضي، بل وأَخَذوا الأرض من الأغْنِياء والأقْوِياء الّذين أخَذوها منهم وأَعادوها إلى من هُم أحَقّ بها، كوَسيلة لتَصْحيح عُقود من الأخْطاء الاجْتِماعيَّة.
من المُثير للاهْتِمام أن نُلاحظ أن شَرائع موسى هذه المُتَعَلِّقة بالتَّحرير وسداد الدُّيون وإلْغاء الدُّيون وما إلى ذلك شَمَلت الإسرائيليّين فقط؛ أما الأجانِب فلم يَكُن عليهم أي الْتِزامات ولم يَحْصَلوا على أي فوائد من هذه القوانين. ويَتَّضِح هذا الأمر أكثر في الآية الثالثة لأنها تَفْصُل بين مُعاملة الأجانب والقريب، أي أحد أفراد بني إسرائيل.
في الآية الرابعة يوجد لِبُّ المَوضوع؛ فالنموذَج المِثالي للرَّب هو أن لا يكون في بني إسرائيل فقير. المَفْهوم هو أنّ الرَّب يُعطي بني إسرائيل أرْضًا لم يَدْفَعوا ثَمَنها وكُرومًا لم يَغْرِسوها وحُقولاً لم يُهَيِّئوها، بل ومُدُنًا لم يَبْنوها. لذلك لا يوجد سبب على الإطلاق لأن يَسْتَغْني أحد عنها ويَنْبَغي أن تُعطى الجميع (بالمناسبة، هذا لا يَشْمُل الكَسالى والحَمْقى والمُجْرِمين والمُتَمَرِّدين كما سنَكْتَشِف لاحِقًا). وإذا كان العِبرانيّون وَحْدَهُم سيُطيعون نواميس الله حول رِعاية الفُقَراء وتَحرير الناس من الدُّيون والعُبودِيَّة كما يأمُر الرَّب، فإنه في المُقابل سيُبارِك بني إسرائيل بِوَفْرَةٍ لِدَرجة أن المال والطَّعام لن يكونا مُشْكلة أبدًا. في الواقع، كما جاء في الآيات التالية، ستكون النَّتيجة أن بني إسرائيل لن يَقْتَرِضوا مالاً من الأجانب، بل سَيَسْعى الأجانِب إلى اقْتِراض المال من بني إسرائيل.
لاحِظ الكَلِمات الأخيرة من الآية السادِسة: أنتم (بنو إسرائيل) ستُسَيْطِرون على الأُمَم، ولن يُسَيْطِروا عليكم. هذا مُرْتَبِط تمامًا بالكَلِمات القليلة التي سَبَقَتْها، والتي تتحدَّث عن إقْراض المال. الفِكْرة هي أن أي شخص أو مُجْتَمَع يُقْرِض المال للآخر لَدَيْه قَدَر من الَهَيْمَنة على المُقْتَرِض. دَعوني أُخْبِركم بِسِرٍّ صغير قَذِر: السَّبَب في أن أمريكا مَكْروهة جداً في العديد من المناطق حول العالم ليس بِسَبَب مُعْتَقداتنا الرّوحيّة كما نَوَدّ أن نَعْتَقِد…..إنه بِسَبَب أننا نُقْرِض الكثير من المال لِدُوَل العالم الثالث الفقيرة ونُطالِب بالسَّداد. هم فُقَراء ونحن أغْنِياء، وهم يَعْلَمون أننا نَمْلُك الكثير من المال وأنهم مَدينون لنا. إنهم يَعْرِفون أنه لَوْلا قُروضِنا لهم لما اسْتَطاعوا البقاء على قَيْد الحياة على الأرْجَح. إنهم يَعْلَمون أن هذا يَجْعلنا مُهَيْمِنين عليهم، حتى لو لم نَقُم بأي مُحاولات عَلَنِيَّة للَهَيْمَنة وهم يَعْلَمون أيضًا أننا إذا ما أظْهَرْنا لهم الرَّحْمة وحَرَّرْناهم من دُيونهم لنا، فإن ذلك سيُحَرِّرُهم ويَرْفَع عبئًا مُسْتَحيلًا عن ظُهورهم وبالكاد سيُؤَثِّر سَلبًا على اقْتِصادنا.
الدَّيْن يَجْعَلُك عَبْدًا. الدَّيْن يَخْلق طَبَقات إقْتِصاديِّة اجْتِماعيَّة. الدَّيْن يَخْلق القَلَق والمَرارة والدَّيْن يُسَيْطِر على المَدين. إن مَبْدأ سَيْطَرة المُقْرِض على المُقْتَرِض هو في صَميم الكثير من الأمْثال ووَصايا العهد الجديد لِمَن يَثِق بالرَّب بأن يَتَجَنَّب الإقْتِراض إلا لمُجَرَّد البقاء على قَيْد الحياة. يُحَذِّرنا العهد الجديد من أن الدَّين يُعادِل العُبودِيَّة لمن اقْتَرَض المال. هذا لا يَجْعَل من الإقْتِراض أو الإقْراض خَطيئة في حدِّ ذاته، بل هي مسألة حِكْمة مقابل حَماقة.
إسْمَحوا لي أن أشْرَح أكثر قليلاً في الآية الرابعة: "لن يكون بَيْنَكُم مُحْتاج". هذه واحدة من تلك الدّيناميكيَّات الكْلاسّيكيّة "إذا، بالتالي" التي هي في قَلْب العهد الموسَوي؛ إذا فعل بنو إسرائيل كذا وكذا، فإن الله سيُبارِكَهُم. أحد المجالات التي أعْتَقِد أنها الأكثر إهْمالاً في كنيسة المسيح وربّما في الكنيسة، هو فهم ما يَعْنيه الكِتاب المُقَدَّس عندما يتحدَّث عن بَرَكات ولَعْنات النّاموس. يُحِبّ المسيحيون الإنْجيليّون على وَجْه الخُصوص أن يُشيروا إلى رَسائل بولُس حيث يَسْتَخْدِم عبارة "لعنة النّاموس" في عِدَّة مُناسبات ويقولون إنها تعني أن النّاموس سَيِّء بِطَبيعته. هذا أمْرٌ يَسْهُل شَرْحه حقًا، لذلك دَعونا نَتَناوله هنا والآن: لكل ناموسمن الله وَجْهان……لَعْنة إذا عُصِيَ وبَرَكَة إذا أُطيعَ. تَنْطَوي اللّعنة على عِدَّة عناصر: أوّلاً، اللّعنة هي نَتيجة الخطيئة لأن عِصْيان ناموس الله هو تَعْريف الخطيئة. اللّعنة الرّوحية النِّهائية لِمُخالَفَة النّاموس (الخطيئة) هي المَوت الأبَدي. أما النَّتيجة الدُّنْيَوية والجَسَدِيَّة الوسيطة للخَطيئة فَتَتَراوَح بين عُقوبَة بَسيطة وُصولاً إلى الإعْدام. لَعْنة النّاموس ليست النّاموس نَفْسَه. لا يُطلَق على النّاموس لَعْنة يَجِب أن تَنْتَهي. بل اللّعنة هي العواقِب الإلَهِيّة المُتَرَتِّبة على مُخالفة النّاموس، بينما البَرَكَة هي المُكافأة التي تأتي من يَدْ اللهِ على الطّاعة لأوامِره.
ما يُخَلَّص منه تلاميذ يسوع هو العاقِبة الرّوحيّة الأبَدِيَّة (اللّعنة الرّوحيّة) لمُخالفة النّاموس. وهذه النَّتيجة هي الانْفِصال الأبَدي عن الله. نحن لا نَنْجو من التأديب الإلَهي أو المَدَني هنا على الأرض، ولا نَنْجو من شَرْط الطّاعة لأوامِر الله. إن ما قرأناه للتَّو هنا في الآيات القليلة الأولى من سِفْر التثنية الخامس عشر يُفَسِّر لنا بِوُضوحٍ تام كيف تَعْمَل الشَّريعة: أَطِعْها وتنال البَرَكات، وكُنْ عاصِيًا وسَتَنال اللَّعنات (أي العواقِب العِقابية). إذا نَفَّذ بنو إسرائيل ذلك الجِزء من نِظام عدالة الله المُصَمَّم للتَّخْفيف من مُعاناة الأفْقَر في المُجْتَمَع….. ذلك الجِّزء المُسَمّى "التَّحرير"، شميتاه…… عندها سَيُبارَك بني إسرائيل بِشَكلٍ كبير. إذا لم يَفْعَلوا ذلك، فإن الجَزاء المادّي الدُّنْيَوي سيَكون أنَّهم سَيَجِدون أنْفُسهم يُقاتِلون من أجل حَياتهم وسَيْطَرتهم على الأُمَم الأخرى بكل طريقةٍ يُمْكِن تَخَيُّلها. كما قُلْت سابِقًا، لا يوجَد أي سِجِلّ عن أن بني إسرائيل لم يَكونوا مُطيعين فيه حتى لِيوبيل واحد. وقد أدى هذا العِصْيان تلقائيًا إلى النَّتيجة المَذْكورة، اللّعنة، التي تَدخُل حَيِّز التَّنْفيذ: لقد كانوا تحت هُجومٍ مُسْتَمِرّ من أعْدائهم، وطُرِدوا إلى المَنْفى، واضْطَرّوا إلى الإقْتِراض والاسْتِدانة من الأجانِب، وحتى الآن مع عَوْدَتهم إلى الأرض فإنهم يَتَمَسَّكون بأظافِرهم ويَتَساءلون لِماذا. وهذا يَجِب أن يُفْهَم على أنه نَتيجة مَقْدِرَة إلَهية.
تتناوَل الآية التّاسِعة الفِّكْرة التي من المُرَجَّح أن تَخْطُر في ذِهْن الشَّخص الذي لَدَيْه القِدْرَة على أن يَكون مُقْرِضًا للفُقَراء بِموجَب القواعِد التي وَضَعَها يَهْوَهْ للتَّوْ. بما أنَّه كان يَجِب إلْغاء أي جِزْء من الدَّيْن الذي لم يَتِمّ سَدادُه في كل سَبْع سنوات، وبما أن العَبْد العِبْراني الذي اسْتَعْبَد نَفْسَه لِسَيِّد من أجْل سَداد دَيْن لذلك السَّيِّد أو لمُجَرَّد الحُصول على طعام وسَقْف فَوق رأسه، كان يَجِب أن يَتَحَرّر من عُبودِيَّته، فكُلَّما اقْتَرَبَت كل دَوْرَة مُدَّتها سبع سنوات من نِهايَتها كان المُقْرِض يَخْسَر المَزيد من المال. كما تَرون كانت دَوْرَة السَّبْع سنوات هذه مُحَدَّدة في التَّقْويم العِبْري؛ لم يَكُن الأمْر مِثْل شِراء سيّارة بِقَرْض لِمُدَّة سَبِع سنوات يَبْدأ في اليوم الذي انْطَلَقْت فيه بالسَّيّارة ويَنْتَهي بعد سَبْع سنوات بالضَّبْط، بَل كانَت كل دَوْرَة مُدَّتها سبْع سنوات مُجَرَّد دَوْرَة مُتَكَرِّرة في التَّقويم الدِّيني اليَهودي، ولم تَكُن مُخَصَّصة لِكُلّ مُقْتَرِض أو عَبْد مَشروط بِالْعَمَل لِسَداد دَيْن. لِذلك إذا اقْتَرَض شَخْص ما مالاً قبل خَمْس سنوات من حُلول سنة التَّحرير التّالية، كان المُقْرِض يَجْمَع المال من ذلك الشَّخص لِمُدَّة خَمْس سنوات قبل أن يَتِمّ إلْغاء أي دَيْن مُتَبَقّ. وإذا كان هذا المُقْتَرِض نَفْسَه قد اقْتَرَض ذلك المال قبل ثلاث سنوات من حُلول سنة التَّحرير، فإن المُقْرِض سَيَحْصَل على سَداد ثلاث سنوات فقط ثم يَتَعَيَّن عليه بعد ذلك إلْغاء الباقي. ماذا لو جاءَك شَخْص قبل سنة واحدة من حُلول سنة التَّحْرير وكان يُريد الإقْتِراض، ولَكِنَّك تَعْلَم أن هذا الشَّخص سَيَتعَيَّن عليه سَدادَه كُلَّه في سنة واحِدة وإلا سَتَخْسَر الباقي؟ وأنَّه لا يُمْكِن لفَلّاح عادي أن يُسَدِّد مَبْلَغًا من المال في سنة واحِدة فقط؟ حَسَنًا، سَيَكون التَّفْكير أنَّه في مَرْحَلة ما قبل أن تأتي سنة السَّداد تِلْك (سِواءً في دَوْرَة السَّبْع سنوات أو الخَمْسين سنة) سَيَتَوَقَّف المُقْرِضون بِبساطة عن إقْراض المال للفُقَراء لأنَّهم لا يُريدون المُخاطَرة بِخِسارة مُعْظَم تِلك الأمْوال لأن مَوْعد إلْغاء الدَّيْن المَطْلوب كان قريبًا جدًا.
حَسَنًا، لهذا يَقول الرَّب أنه إذا حَدَث ذلك فإن ذلك الفَقير (الذي يَهْتمّ به الرَّب كثيرًا) سَيَسْتغيث به وسَيَتَحَمَّل الشَّخص الذي رَفَض إقْراض المال ذَنْبًا.
وعلاوة على ذلك، يقول الرَّب، اعْتادوا على ذلك، هكذا سيَكون الأمْر دائمًا لأنّ (الآية الحادية عشرة)، ”… لن يَنْقَطِع المُحْتاجون في أرْضِكم"...
إليكُم الأمْر: لقد تَحَدَّثْنا كثيرًا عن أن التَّوراة والشَّريعة ما هي إلا مُثُل الله السَّماوِيَّة التي وُضِعَت في الكِتاب المُقَدَّس. هذه القوانين تُمَثِّل نِظام الله المِثالي للعَدالة. أؤَكِّد على كَلِمَة مِثاليّة لأنه على الرَّغْم من أن هذه هي الطَّريقة التي يُريد الله أن تَكون عَلَيْها الأُمور، ويَوْماً ما بَعْدَ عَوْدَة يسوع سَتَكون الأُمور على هذا النَّحو، فإن سُقوط البَشَرِيّة وحالَتِنا الفاسِدة الحالِيَّة تَجْعَل التَّنْفيذ الفِعْلي لهذه المُثُل العُلْيا إلى أقْصى حَدّ مُسْتَحيل عَمَلِيّاً، فالخَطيئة مُتَفَشِّيَة للغاية. يَنْعَكِس هذا في التَّعْليق الذي يَقول أنه على الرَّغْم من نِيَّة يَهْوَهْ أن لا يكون هناك فُقَراء في بني إسرائيل (الآية الرابِعة)، إلا أنه في الواقِع الأرْضي سيكون هناك دائمًا فُقَراء بَيْنَهُم يَحْتاجون إلى الرَّحْمة والمُساعَدَة (الآية الحادية عشرة).
بِطَبيعة الحال هذا هو نَفْس المَفْهوم الذي يُعيد يَسوع بِبَساطة اقْتِباسِه في الإنْجيل الجديد عندما يقول لِجُمْهوره في الكِتاب المُقَدَّس الأمْريكي القِياسي الجديد إنْجيل يوحَنّا إثني عشر على ثمانية: "لأن الفُقَراء معكم في كل حين، وأما أنا فلَسْت معكم في كل حين".
في الآية السادِسة عشرة يتمّ تَغْطِية الوَضْع الذي بِمُوجَبِه يُفَضِّل العَبْد المُسَخَّر (تَذَكَّروا أنّ هَؤلاء هُمْ عَبيد عِبْرانِيّون في خِدْمة العِبْرانيّين الآخَرين) ألاّ يُطلَق سَراحَه في نِهاية الدَوْرَة السَّبْتيّة أو دَوْرَة اليوبيل للتحرير، بل أن يَبْقى في خِدْمة سَيِّدِه. هذا الخادِم مَحْبوب وسَعيد ويُريد أن يَبْقى مع العائلة. هذا الخادِم لا يَجِب أن يُطلَق سَراحُه، بل يَجوز له أن يَبْقى باخْتِيارِه، وإذا بَقِيَ، يَجِب أن تُوضَع عليه عَلامَة خاصَّة تُشير إلى أن وَضْعَه لم يَعُد عَبْدًا مُجْبَرًا بل عَبْدًا مُخْتارًا في خِدْمة سَيِّدِه. آمَلُ أن يكون هذا الفَرْق الدَّقيق مُؤَثِّرًا عليكم، فَهُناك فَرْق شاسِع بين العَيْش في العُبودِيَّة القَسْرِيّة وبين الالْتِزام بِتَقديم الخِدْمة طَواعِيّة. الأَوَّل هو الحالة التي قيلَ لنا أنَّنا نَمْلِكْها بالنِّسْبة للشَّيْطان قَبْل أن نُخَلَّص؛ والثاني هو الحالة التي يُخْبِرنا الكِتاب المُقَدَّس أننا نَمْلِكها بالنِّسْبة ليَهْوَهْ بعد أن نُخَلَّص.
هذه العَلامة التي تَدلّ على أنّنا اخْتَرْنا بِحُرِّيّة أن نَكون في خِدْمة السَّيِد هي الأُذُن المَثْقوبة. الأُذُن هي الرَّمْز القديم للطّاعَة؛ الأُذُن هي صورة كَلِمَة "السَّمَع" والطّاعة لِصَوْت سَيِّدكَ. تَذَكَّروا كما ناقَشْنا من قَبْل، عندما يَقول الكِتاب المُقَدَّس "اسْمَعوا" أو ”اصْغوا" فهو يُتَرْجِم الكَلِمَة العِبْريَّة شيما. وكَلِمَة" شيما" لا تَعْني نَوْعًا من السَّماع السَّلْبي، مثل الاسْتِمتاع بِزَقْزَقَة طائر أو إيقاع دَفْقَة شَلاّل؛ بل تَعْني أن تَنْتَبِهوا لِما يَقولُه سَيِّدُكم وتُطيعوه!
تأخُذ مَوضوعات الإصْحاح الخامِس عشر الآن مُنْعَطَفًا صَحيحًا بِدْءًا من الآية التّاسِعة عشرة وتَتَناوَل الذَّبيحة المَطْلوبة والمُتَوَقَّعة من البَقَر البِكْر. وهذا يَتَماشى مع الطَّلَب المُتَكَرِّر بانْتِظام بأن جميع الأبْكار مِلْك للرَّب. الأبْكار تَشْمُل كل شيء من حيوانات المَزْرَعة إلى مَحاصيل الحَقْل إلى مَحْصول الشَّجَر إلى الأبْناء المَوْلودين للإنْسان. فقط بعد تَقديم هذه الأبكار للرَّبْ وبالتالي الاعْتِراف به كَمَصْدَر ومالِك لِكُلَ حياة، يَجوز للمُتَعَبِّد أن يُشارِك في ذلك. لم يَكُن هذا إلاّ فَريضة أكثر تَفْصيلاً لِفَريضَةً كانت مَوْجودة منذ عَهْد آدم وحواء؛ لأنَّنا نَجِد في سِفْر التكوين الرابع قِصَّة قايين وهابيل اللَّذَيْن كانا يُقَدِّمان القَرابين للرَّب، حَيْث كان هابيل يأتي بأبْكار غَنَمِه.
والأساس هو أن الأبكار كان يَجِب أن يُؤتى بها مَرَّة واحِدة في السَّنة إلى المَذْبَح المَرْكَزي (خَيْمَة الاجْتِماع ثم الهَيْكَل فيما بعد)، حيث يُقَدِّمها الكَهَنَة ذَبيحَة. هناك، وهُناك فقط، يُمْكِن للمُتَعبّد أن يأكُل من لَحْم تلك الذَّبيحة. وبِعبارة أخرى، لا يُمْكِن للمُتَعَبِّد أن "يَذْبَح" حَيوانًا لله في بَلْدَته ويأكُله، فالذَّبيحة مُتاحة فقط في المَكان الذي يَخْتارُه الرَّب. هذه الفُرْصَة للتَّضْحِيَة أمام الرَّب كانت مُتاحة ثلاث مَرّات في السَّنة، حيث كانت هناك ثلاث أعْياد للحَجّ قد فُرِضَت من قَبْل.
بعد ذلك، يَجِب أن تكون الذَّبيحة بِلا عَيْب أو تشَوُّه جَسَدي. هذا لا يُشير إلى أن الحيوان كان يَجِب أن يكون كامِلًا بِنِسْبَة مِئة في المِئة، بل بالأحْرى أنه لا يُمْكِن للمَرْء أن يُقَدِّم حَيَوانًا أقلّ قيمة. كان يجب أن يكون أفْضَل حيوان يَمْتَلِكه المُتَعبِّد؛ لقد كان الحيوان الأكْثَر قيمَة الذي كان يَجِب أن يُقَدِّمه. علاوة على ذلك، وإكْرامًا للرِّسالَة التي مَنَحَها الرَّب مُؤَخَّرًا بالسَّماح لبني إسرائيل بِذَبح اللّحم في أي وَقْت أرادوا أن يَذْبَحوه للطَّعام، إذا كان البِكْر مُعيبًا ولا يُمْكِن بالتّالي تَقْديمه لله، فقد كان مَسْموحًا باسْتِخْدامه كَحَيوان للطَّعام.
كما تَعْلَمون، الناس هم الناس بِغَضّ النَّظَر عن أي عَصْر. القُدَماء كانوا مِثْلي ومِثْلك…..كانوا دائمًا يَبْحَثون عن ثَغْرةٍ جَيِّدة. نَحن نَقول، حَسَناً أنا أعْلَم أن الله يَقول كَذا وكَذا، ولكن هَل هو يَعْني حَقًّا ما يقول؟ ماذا لَو ….. ثم نَضَع حالة من الظُّروف الاسْتِثْنائيَّة المَليئة بالتَّقَلُّبات والظُّروف الفَريدة من نَوْعِها مُعْتَقِدين أننا رُبَّما نكون مُؤَهَّلين للحُصول على تَصْريحٍ مَجّاني على ثَغْرة تِقَنِيَّة. هذا هو السَّبَب في أنه بعد تَشْريع ناموس جديد، أو تَوْضيح ناموس قائم وتَفْسيره، فإن الرَّب سيُلْقي تَذْكيرًا بِمَبادِئه لأن مَبادِئه لا تَتَغَيَّر أبدًا. لذلك في الآية الثانية والعشرين يُذَكِّر الرَّب بني إسرائيل بأن شَريعة الأبْكار وشَريعة الذَّبْح العِلْماني للطَّعام التي تَحَدَّث عنها للتَّو لم تُلْغِ جوانِب أُخْرى من تلك الشَّرائع لمُجَرَّد أنه لم يُكَرِّرها. لذلك يَقول، تَذَكَّروا: الحيوانات المُعيبَة التي كان من المُمْكِن اسْتِخْدامها للذَّبْح لَو لم تَكُن مُعيبَة، لا بأس من اسْتِخدامِها كطعام عادي. و الأنْجاس الطَّقْسِيَّة بَيْنَكم مُؤَهَّلون لأكْل هذه الحيوانات غير المؤهلة تمامًا مثل الناس الطاهرين طقسيًا. ولكن تذكَّر أيضًا أنه في كل ظرف من الظروف يَجِب التخلص من دم الحيوان المُسْتَخْدَم في الطَّعام، حتى لو كان حيوان بِكر غير مُؤَهَّل، يَجِب التَّخَلُّص مِنه عن طريق إهراقه على الأرض.
كثيرًا ما سَمِعت أنه إذا لم يُكَرِّر يسوع أمْرًا من أوامِر العهد القديم على وَجْه التَّحْديد، فإننا لَسْنا مُلْزَمين به. هذا مُجَرَّد تَفْكير بالتَّمَنّي. لا يوجَد مثل هذا المَبْدأ في الكِتاب المُقَدَّس. في الواقِع أن يسوع (كونَه الله) وهو يَعْرِف كيف نُفَكِّر نحن أبْناء وبَنات البَشَرِ، يَتَوقَّف في مُنْتَصَف عِظَته على الجبل حيث كان يَشْرَح النّاموس (كما كان موسى في سِفْر التثنية) ويقول: "لا تَظِنّوا أنّي جِئْتُ لأنْقُض النّاموس والأنْبِياء، بل جِئت لأُتَمِّمهما. لن يَزول حرف واحد او نقطة واحدة من النّاموس حتى تَزول السماء والأرض".
سنَتَناوَل في الأسبوع القادِم مَسألَة أعياد الحَجّ في سِفْر التثنية، الإصْحاح السادِس عشر.