9th of Tevet, 5785 | ט׳ בְּטֵבֵת תשפ״ה

QR Code
Download App
iOS & Android
Home » العربية » Old Testament » التثنية » سِفر التثنية الدرس السادس والثلاثين – الإصْحاحان ستة وعشرين وسبعة وعشرين
سِفر التثنية الدرس السادس والثلاثين – الإصْحاحان ستة وعشرين وسبعة وعشرين

سِفر التثنية الدرس السادس والثلاثين – الإصْحاحان ستة وعشرين وسبعة وعشرين

Download Transcript


سِفر التثنية

الدرس السادس والثلاثين – الإصْحاحان ستة وعشرين وسبعة وعشرين

بَدأنا الإصْحاح السادِس والعشرين من سِفر التثنية الأسبوع الماضي وسنُنْهيه هذا الأسبوع ونصِل إلى الإصْحاح السابع والعشرين.

بدأ الإصْحاح السادِس والعشرون بقسم من أربعة إصْحاحات يُمَثِّل نِهاية نوع من المُراجعة المُطَوَّلة والتَّذْكير بالشَّريعة كما أُعْطِيَت على جبل سيناء، ويبدأ الجِزْء من خِطْبة موسى الذي يَتَناول الجوانِب الصّوفيّة والروحِيَّة الأكثر ممّا هو مُتوقَّع من بني إسرائيل في علاقتهم المُتكَوِّنة حديثًا مع يَهْوَهْ. أقول صوفي وروحاني بِمَعْنَيَيْن؛ الأول هو أن روح النّاموس (ما أسْماه الرَّسولان يعقوب وبولس ”الدِّين الحقّ“) أمْرُ حَيَوي في تَنفيذ القواعِد والأحكام الفَرْديَّة التي سَبَق أن وُضِعت؛ والثاني هو أن هناك جوانِب من طبيعة الله وكَلِمَته تفوق قِدْرة الإنسان على الفَهْم الكامِل، وفي الوقت نَفْسه أعطى لبني إسرائيل تعليمات مُباشرة (شرائع وأوامِر) مَفْهومة تمامًا للبَشَر.

طبيعة كَلِمَة الله هي أنها تتكوَّن من مُسْتَوَيات مُخْتَلِفة من العِمْق. إن الفِكْرة القائلة بأن كَلِمَة الله تَمْتدّ من أكْثَرها وُضوحًا ومُباشرةً إلى أعْمَقها وأكْثَرها غُموضًا قد تمَّ تَجْسيدها في مَبْدَأ حاخامي مُثير للإهْتِمام في دِراسَة الكِتاب المُقَدَّس. يقول هذا المَبْدَاْ أن هناك أساسًا أربَع مُسْتَويات أو أبْعاد يُمْكِن تَحْديدُها للتَّعَلُّم وتَفَحُّص الكِتاب المُقَدَّس. بشات، رميز، درش وسود. بشات تَعني المعنى المَقْصود الأكثر وُضوحًا، والرميز هو ما تقرأه بين السُّطور، والدرش هو المعنى التَّفْسيري الذي يُمْكِن أن يَشْمل المعْنى المَجازي، والسود هو الأكثر صوفِيَّة وباطِنيَّة.

لنَكون واضِحين: ليس المَقْصود أن الكِتاب المُقَدَّس مُقَسَّم بحيث يكون بَعْضه بشات، وبَعْضه الآخر رميز، وهكذا دَوالَيْك، بل المَقْصود أن كل مَقاطِع الكِتاب المُقَدَّس يُمْكِن فَحْصُها على كل من هذه المُسْتَويات الأربعة. ومن المُتَفَّق عليه أيضًا بِشَكْلٍ عام أن الكِتاب المُقَدَّس ليس كلَّه مُتَشابِهًا؛ فبعض الكِتاب المُقَدَّس بِطَبيعته أكثر وُضوحًا وبَعْضه الآخر أكثر غُموضًا. بَعْضه يُفتَرَض أن يؤخَذ على ظاهِرِه وبَعْضه الآخر يُفترَض أن يُنظَر إليه بعِمق أكثر. وبالتالي فإن ما يُمْكِن اكْتِسابه من خلال فَحْص الكَلِمَة باسْتِخدام كل مُسْتَوى من هذه المُسْتَوَيات الأربعة سيَخْتَلِف إلى حدٍّ ما وِفقًا للمَقْطَع ذي الصِّلَة.

لذلك فإن قِسْم الإصْحاحات الأربعة الذي يَبْدأ بالإصْحاح سِتَّة وعشرين يَتعامَل مع مَقاطِعٍ أكثر صوفِيَّة وبالتالي أكثر قابِلِيَّة لاسْتِخْلاص مَعْناها عند دِراسَتها باسْتِخْدام مُسْتَوى سود للفَحْص.

إحْدى هذه التَّعْليمات هي أنه عند دُخول أرض الميعاد يَجِب أن تَبْدأ سِلْسِلَة من احْتِفالات البواكير التي تَترافَق مع إعلان كل إسرائيلي بأن هَوِيَّته الشَّخْصِيَّة مُرْتَبِطة بتاريخ الفِداء الخاص ببني إسرائيل. لذلك فإن الإعْلان الذي يُصَرِّح به كل إسرائيلي (عندما يُقَدِّم باكورة ثِماره كَتَقْدِمة) هو أن هذا الشَّعْب المُخَصَّص قد خُلق بِفِعْل الله، وأن المؤسِّس كان تائهًا من آرام (إبراهيم)، وفي النِّهاية من خلال إبراهيم قادَه ذلك إلى يعقوب الذي نَزل (مع عدد قليل من الناس الَّذين شَكَّلوا عَشيرته) إلى مِصر حيث أصْبَحت عائلته مُسْتَعْبَدة ومع ذلك نَمَت بِشَكْلٍ كبير. بعد ذلك أنْقَذَهم الله وخَلَّصَهم وأتى بهم إلى أرض كنعان التي أعْطاها لبني إسرائيل كَمُلْكيَّة. ونَتيجة لهذا الواقِع كان على بني إسْرائيل أن يَرِدّوا للرَّب (بدافع الامْتِنان) أوَّل كل حَصاد جديد، وأن يتقاسَموا خَيْراتَهم مع الأرامِل والأيْتام والغُرَباء الَّذين يَعيشون في أرْضِهم.

لِنَبْدأ بإعادة قِراءة جِزْء من سِفر التثنية سِتَّة وعشرين.

إعادة قراءة سِفر التثنية ستة وعشرين على إثني عشرة حتى النهاية

لقد أصْبَح من الشائع في الكنيسة أن نَعتقد أن الْتِزامَنا النقدي الكُلّي هو إعْطاء عُشر دَخْلنا للكنيسة المَحَلِّيّة. وبذلك يفي هذا الأمْر بأي واجِب منصوص في الكِتاب المُقَدَّس قد يكون علينا أن نعطيه من مُمْتَلكاتنا أو ثَرْوتنا. على الرَّغم من أن مَفْهوم العُشر بأكْمَله قد تم تقديمه وشَرحه وتَعْريفه في العهد القديم، إلّا أنه بما أننا كنيسة العهد الجديد، فليس علينا أي الْتِزامٍ آخر بإعْطاء أي شيء آخر غير تلك العَشَرة بالمئة. عقيدة أخرى بَديلة للكنيسة هي أنه إذا شَعرنا بنوع من النِّعْمة الرّوحِيَّة في داخلنا للعَطاء، فإننا نُعطي وِفقًا لِتَوْجيهات تلك النِّعْمة؛ ولكن إذا لم يَكُن لدينا أي نِعمة روحِيَّة تقودُنا للعَطاء على الإطلاق، فليس علينا واجِب إعْطاء أي شيء على الإطلاق.

يُمْكِنني أن أُخْبركم بِثِقةٍ تامَّة أنه لا يوجَد أي من هذه المذاهب الثلاثة الشّائعة المُتَعَلِّقة بالعطاء في الكِتاب المُقَدَّس. فكما رأينا في الأسفار السّابقة من التَّوْراة، كانت هناك عِدَّة أنواع من العطاء والعُشور التي كانت تَعمل جميعها في وقت واحد. بمعنى آخر، لم تَكُن تَختار نَوْعًا واحِدًا أو نَوْعَين (المُفَضَّلَيْن لديك) من قائمة من الاحْتِمالات؛ كان يَجِب أن يَحدث كل نوع في وَقْته المُحَدَّد لِغَرَضه المُحَدَّد. أَحَدُها كان تقديم الذَّبائح من الحيوانات والحُبوب إلى الله على المَذْبَح لأسباب مُخْتَلِفة، ثم كانت هناك احْتِفالات أول الثِّمار التي كانت تَحْدُث عِدَّة مرّات خلال العام. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك دَعْم لعُمّال خَيْمَة الاجْتِماع/ المَعْبَد والبِنْية التَّحْتِيّة وتقديم المال للنُّذور، وبالإضافة إلى ذلك كان هناك دَعْم للفُقَراء والمُحْتاجين. وهذه ليست قائمة شامِلة لأنواع العطاء المُتَعَدِّدة والغَرَض من التِزامات العَطاء التي كانت مَطْلوبة.

فيما بعد، عندما كان الرُّسُل يَخْرُجون لتعليم الإنْجيل والتبشير به، قال بولُس إنه كان من واجِب الجماعة المِسْيانيّة أن تدعم هؤلاء المُبَشِّرين كما كانوا يَدْعَمون الهَيْكَل. لاحِظوا أن هذا لم يَكُن يعني أن يَتَوَقَّفوا عن دَعْم الهَيْكَل من أجل دَعْم حامِلي البِشارة، ولم يَكُن عليهم فقط أن يُحَوِّلوا عطاءَهم من غَرَضٍ مُعَيَّنٍ إلى غَرَضٍ آخر، بل كان يَجِب أن يكون ذلك بالإضافة إلى جميع أشكال العَطاء الأُخرى التي تَنُصّ عليها التَّوْراة. لم يَكُن العطاء لبولُس وبُطْرُس والآخرين يُلْغي مُتَطَلِّبات التَّوْراة للعَطاء (بِطبيعة الحال، بِمُجَرَّد تَدْمير الهَيْكَل وحَلّ الكَهْنوت، أصْبَحَت بعض أنواع العَطاء مُسْتَحيلة).

لذلك فإن عُشورنا وعَطايانا وعَطاءَنا العام ليس مُباشَرًا ومُرَتَّبًا ونَقِيًّا (وغير مُكْلِف نِسْبِيًّا) كما أصْبح نَموذج الكنيسة الغربيَّة.

ما تمَّ وَصْفه ابتداءً من الآية الثانية عشرة هو ما أصْبح يُعرَف بإسْم ”عُشور الفُقَراء“.

كان يَجِب أن يوضع عُشْر الفَرد العبراني كل ثلاث سنوات في قَرْيَته المَحَلِّيّة كَوَسيلةٍ لِدَعم الفُقَراء. كان هذا العُشور بالذّات نَوْعًا واحدًا من عِدَّة أنواع مُخْتَلِفة من العَطاء، وكان الغَرَض من هذا النَّوع المُحَدَّد هو إعادة مَلْء المُسْتَوْدَعات التي يُمْكِن للفُقَراء والمُحْتاجين والغُرَباءِ أن يَسْحَبوا منها. لذلك فَبَدَلاً من الطَّريقة المُعْتادة التي كانت تؤخَذ فيها أوائل الفاكِهة إلى الهَيْكَل وهناك كان المُتَعَبِّد يأكُل من بعض تلك البواكير، كان يتم التَّبَرُّع بهذه البواكير كل ثلاث سنوات كَعُشورٍ للفُقَراء.

ولكن المُثير للإهْتِمام هو أنه نَظَرًا لأن بني إسرائيل كانوا يعْمَلون بِنِظام السَّنَة السَّبْتِيَّة (نظام دَوْرات مُتَعاقِبة مُدَّتها سبع سنوات)، فإن الجَدْوَل الزَّمَني لِعُشور الفُقَراء هذه كان 3 سنوات وأربع سنوات. بمعنى آخر في دورة السبع سنوات كانت السنة الثالثة هي السَنَة الأولى لعُشور الفُقَراء، والسنة السادِسة هي السَنَة الثانية لعُشور الفُقَراء، ولكن بما أن السنة السابعة كانت سنة لم تُزرع فيها أي مَحاصيل، فلم يَكُن يُعطى فيها عُشور من أوَّل الثِّمار على الإطْلاق (لا للهَيْكَل ولا لأي شَخْص). لذلك بعد إعْطاء عُشور الفُقَراء في السَنَة السّادسة من دَوْرة السنوات السَّبع، لم يَكُن يَسْتَحقّ عشور الفُقَراء مرة أخرى حتى السَنَة الثالثة من دورة السَّنوات السبع التالية؛ أي بعد مرور أربع سَنَوات منذ السَنَة السّابقة.

صَدِّقوني، لقد سَئِم بنو إسرائيل في النِّهاية من طاعة الله في أُمورِهم الماليّة، ولذلك عَدّلوا (لِصالِحهم) أنْظِمة العشور والثمار الأولى. لم يَعْجب الهَيْكَل على وجه الخُصوص فِقْدان بعض دخلهم كل ثلاث سنوات، كما لم يُعْجبهم عدم التَّحَكُّم في العَطاء للفُقَراء؛ لذلك قبل حوالي قَرْن من ميلاد يَسوع أَعْلَن رئيس الكَهَنَة يوحَنا هيركانوس (وهو رئيس كَهَنة غير شَرْعي نَصَّبَتْه عائلة حَشمون) إلغاء عُشور الفُقَراء. وقد الْتَقَطَت الكنيسة الحديثة هذا الأمْر، وتَشْتَرِطْ العديد من أكبر الطوائف أن يكون كل عُشور وعطايا أعْضائِها لِكَنيسَتِهِم المَحَلِّيّة، ثم تُقَرِّر قِيادة الكنيسة بعد ذلك كَيْفِيَّةَ تَوْزيعها.

عند إعْطاء عُشور الفُقراء يَجِب على المُزارع أن يُقَدِّم إعْلانًا للرَّب، بِشَكْلٍ أو بآخر على شكل نِذْر. يُصَرِّح المُزارع أوَّلاً أنه قد قَدَّم بالفِعل ذلك الجِزْء من مَحْصوله المُخَصَّص للرَّب ولم يَحْتَفِظ بِشيء. قد يبدو ذلك وكأنَّه مُجاملة غير مؤذِية أو إجْراء شَكْلي، ولكن الحقيقة هي أن الأَمْر كُلَّه يتعلَّق بالوَضْع الخَطير المُتأصِّل في التَّعامل مع مُمْتَلكات الله المُقَدَّسة. إن ما هو مُخَصَّص لله هو مِلْكه حتى قبل أن يُعطى له مادِّيًّا في نوع من المراسِم أو الطقوس. ونرى هذا المَبْدَاْ يَتطوَّر في التَّوْراة في وقت مُبْكِر؛ ففي اللَّحظة التي يَختار فيها المُتَعَبِّد ولو ذِهْنيًّا حيوانًا مُعَيَّنًا يَنوي أن يكون ذَبيحته، تَنْتَقِل مِلْكِيَّة هذا الحيوان إلى يَهْوَهْ بِشَكْلٍ أساسي. إن مِلْكيَّة الله المُقَدَّسة هي مسألة حسّاسة بالنِّسْبة له، وأولئك الَّذين يُحاوِلون اخْتِلاس مُمْتَلكاته المُقَدَّسة غالبًا ما يُعانون من عُقوبة المَوْت. هذا الأمْر لم ينتهِ؛ لقد اطَّلَعْنا مؤخَّرًا على قصة حنانيا وسفيرة في العهد الجديد، وهما زَوْجٌ وزَوْجةٌ مؤمِنان قرَّرا في الخَفاء بَيْع قِطْعة من المُمْتَلَكات التي يَمْلُكانها وإعطاء العائدات للجَّماعة المِسْيانيّة. لكنَّهما احْتَفظا سِرًّا بِبَعض هذه العائدات لأنْفُسهما. وعندما سألَتْهُما قيادة الكنيسة عمّا إذا كانا قد أَعْطَيا كل العائدات، أَجابا بأنَّهما فَعَلا ذلك (كذبًا)، فَقَتَلهما الله على الفَوْر.

وهكذا ترى من هذا التَّصْريح الذي أدْلَى به الفلّاح في سِفر التثنية سِتَّة وعشرين على ثلاثة عشر (أنه بالفِعل لم يَحْتفظ بِشَيء من النَّصيب المُقَدَّس المُخَصَّص لله) انه بالضَّبْط نفس الشَّكْل المُسْتَخْدَم في سِفر أعمال الرُّسُل لإسْتِجواب حنانيا وسفيرة. إن حَجْب ما قد وُعِد به يَهْوَهْ هو اخْتِلاس للمِلْكيَّة المُقَدَّسة؛ إنه سَرِقة الله.

الجِزْء التالي من الإعلان هو أن المُتَعَبِّد قد تَبرَّع بأوّل الثمار كَعُشور للفُقَراء ليُتمِّم كل وصايا الله المُتَعَلِّقة بإعْطاء البواكير، وبالتالي يُؤدّي التِزاماته كما هو مَنْصوص عليه في النّاموس بِشَكْلٍ صحيح.

تبدأ الآية الرابعة عشرة بسِلْسِلَة من العِبارات كجِزْء من إعلان النِذْر ليَهْوَهْ، حيث يَقول المُتَعَبِّد أنه تَعامل مع هذا الجِزْء المُقَدَّس كما يَجِب أثناء وُجوده في بَيته. هناك ما هو أكثر من مُجَرَّد التَّعامل مع مُمْتَلكات الله المُقَدَّسة أكثر من مُجَرَّد تَسْليمها كما هو مَطْلوب؛ يُمْكِن أن تتدنّس بِسوء الاسْتِعْمال في هذه الأثناء. جِزْءٌ من سَبب هذا النِّذْر – هذه العِبارة وبعض العِبارات الأخرى – هو أنه بِسَبَب أخذ هذا العُشْر إلى المَخْزَن المَحلّي بدلاً من إعْطائه للكَهَنة، كانت هناك ضوابِط ومَقاييس أقلّ. عندما كان يُعطى للهَيْكَل في السَّنوات العادِيّة، كان الكَهَنَة يَفْحَصون المَحْصول للتأكُّد من الكَمِّيّة والنَّوْعِيّة. فإذا لم تَكُن النَّوْعِيّة في المُسْتَوى المَطْلوب أو كانت الكَمِّيّة مَشْكوكًا فيها، كان الكاهِن لا يَقْبَلُها ويَطْرُد المُتَعَبِّد. ولكن هنا مع الفُقَراء كان يُمْكِن عَمَل الكثير في الخَفاء. ولك أن تَتخيَّل كم سيكون سَهْلاً على المانِح أن يُعطي أقلّ من أفْضَل ما لَدَيه من إنْتاج عندما يَعْرف أنه سيَذهب إلى أقلّ النّاس قيمةً في مُجْتمعه وليس إلى الهَيْكَل (وعلى الأرْجَح لن يكون أحد أكثر حِكْمة).

أول تلك التَّصْريحات التي يُدْلي بها هو أنه لم يُنَجِّس عُشور الفقراء بأكل جزء منه أثناء الحِداد. وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: أَنَّ الشَّخص الذي هو في حالة حِداد الذي كَانَ فِي خَيْمَةٍ أَوْ بَيْتٍ وَاحِدٍ مَعَ مَيِّتٍ يُصبح مُنَجَّسًا. إذا أكل هذا الشخص (وهو في حالة غير طاهِرة) جِزْءًا من القُرْبان الذي كان قد وُضِعَ جانِبًا لله (حتى لو كان بِحِسْن نِيَّة اسْتَبْدَل ما أكَلَه في وقت لاحِق)، فإن الجِزْء المُقَدَّس بأكْمَلِه قد تَنَجَّس الآن ولم يَعُد مُناسبًا للعُشر. تَذَكَّر أن الاتِّصال بشيء نَجِس يُصيب ما كان طاهِراً في السّابق. كذلك يُشيرُ هذا التَّصْريح إلى أنه بِصَرْف النَّظَر عن كَوْنه نَجِسًا (تاميي) بِسَبَب القُرب من (أو مُلامَسة) الجِثّة، فإن التَّصريح الثاني هو أن المُتَعَبِّد لم يَتعامل مع مُمْتَلكات الله المُقَدَّسة وهو نَجِسٌ لأي سَبب من الأسباب.

التَّصْريح التالي من قبل المانِح هو تصريح غَريب: فهو يُصَرِّح بأنه لم يعطِ شيئًا من الأجْزاء المُقَدَّسة للمَيِّت. ماذا يعني ذلك؟ لقد شارَكتُ معكم في مُناسبات عديدة أن العبرانيّين حافَظوا على العديد من الخُرافات حول المَوْت والحياة الأخرى التي كانت شائعة بين مُخْتَلَف شعوب وثقافات الشَّرْق الأوْسَط. لقد عَلّقْتُ أيضًا أن الأدِلَّة على ذلك مُنْتَشِرة في جميع أنحاء العَهْدَين الجديد والقديم، وهي مَذكورة في مُمارسات تَمرّ دون أن نَلْتَفِت إليها في عَصْرنا الحديث عند قراءتها في مقاطِع من الكِتاب المُقَدَّس.

قال لي أحَدهم منذ بِضْعة أسابيع مَضت أنه يبدو كما لو كان الله في عَصْر الكِتاب المُقَدَّس قد تَغاضى عن هذه العادات شِبْه العالميَّة لِعِبادة الأسْلاف ومُعْتقدات الحياة بعد المَوْت بين شَعْبه الذي اخْتَصَّه الله بالعِبادة، بل وسَمَح بها. ويبدو أنه فَعَل ذلك في نفس الوقت الذي كان يُعطي لبني إسرائيل قوانين ومعلومات مُحَدَّدَة جدًا ضدّ هذه المُمارسات. يَجِب أن أتَّفِق مع هذا التَّقييم. إن مَسألة ما يَحدث بعد موت المَرْء لم يتمّ التَطَرُّق إليها إلّا بإيجاز في العهد الجديد ولم يتمَ التَطَرُّق إليها على الإطلاق تقريبًا في العهد القديم. هناك إشارات تَوْراتيّة غامِضة إلى شيول، وذهاب المَوْتى ليكونوا مع آبائهم، وغِرَف تحت الأرض في حضن إبراهيم والجَنَّة والجَحيم وما شابه ذلك. لكن السَّبَب في وُجود عشرات العقائد المُخْتَلِفة داخل الكنيسة حول الجَحيم والجَنَّة والمَطْهر والقِيامة وما إلى ذلك هو ببساطة لأننا لم نَحْصل على الكثير من المعلومات في الكِتاب المُقَدَّس عن المَوت وما يأتي بَعده. أعتُبِرَ هذا واحِدًا من تلك الأسْرار التي قرَّر الله أنه سيَحْتَفِظ بها لِمَجْده الخاص، ولن يُشارك إلا ما يرى أن الإنسان بِحاجة إلى مَعْرِفته (ويبدو أن ما كان الإنْسان بِحاجة إلى مَعْرِفته لم يَكُن شيئًا عَمليًا في أيام البَطارِكة، وأكثر قليلاً في أيام المُلوك والأنْبِياء، وفي النهاية أُضيفَت بعض القِطَع الأخرى من اللّغز في عصر العهد الجديد).

كَشَف عُلَماء الآثار عن قُبورٍ عِبريَّة قديمة كانت تَحتوي على ثُقوب غريبة (أنابيب أو مَمَرّات صغيرة القطْر) تمتدّ من مُسْتَوى الأرض إلى حيث يَرْقُد الجَسَد في حالة رقاد. وكانت تُسْتخدم لإسقاط لُقيمات الطعام والشراب إلى الأسفل حيث الجثة. كانت عِبادة الأسْلاف تُمارَس بِشَكْلٍ مُخْتَلِف بين الثقافات المُخْتَلِفة؛ بل إن بَعْضها كان يَعْبد أسلافه المَوتى بالفِعل، بل ويُصَلّي لهم. بينما لم تُقَدِّم ثقافات أخرى العِبادة لهم ولكنها قرَّرَت بِبَساطة أن بَعْضًا من جَوْهر ذلك الشَّخص المَيِّت كان حَيًّا وبالتالي لا بُدّ أن يكون بِحاجة إلى الطعام. أو أن لديهم احْتِياجات مُسْتَمِرَّة لأشياء مثل العُطور والبَخور، والأهَمّ من ذلك كُلّه أنهم كانوا يَتوقون إلى التَّواصل مع الأحياء. لذلك كان من الأهمِّية بِمكانٍ أن يكون للشَّخص أولاد يَعْتَنون باحْتِياجاته بعد المَوت. خلال كل الحَقَبة التَّوْراتية تقريبًا كان قِسْم كبير من المُجْتَمَع العبراني يُمارس هذه العادة بطريقة أو بأخرى.

مع هذه المَعْلومة الصغيرة، يُمْكِنك الآن أن ترى لماذا يُقْسم المُتَعَبِّد في سِفر التثنية ستة وعشرين على أربعة عشرة أنه لم يُقَدِّم شيئًا من هذا الطعام للمَوتى. ليس الأمْر هو أن المُمارسة العاديّة لإعْطاء الطعام للمَوتى كانت بالضَّرورة مَمْنوعة من قِبَل الله؛ بل أن أي نوع من الاتِّصال بِمَكان القَبْر يُدَنِّس المُتَعَبِّدْ تِلْقائيًا، ولذلك إذا كان الطعام الذي أُلْقِي في تلك الحُفْرة إلى الجثة من نَصيب الله المُقَدَّس، فإن النَّجاسة القَوِيَّة التي تأتي من المَوت ستَجْعَل كل ما كان ذلك المُتَعَبِّد قد وَضَعه جانبًا كَعُشور له غَيْر مُسْتَحِق أن يُعطى للرَّب.

في الآية الخامسة عشرة يَنْتَقِل تركيز العبارة من الفَرد إلى الأُمَّة. لقد ذَكَرْت في مُناسبات عديدة أنه في حين أن التَّرْكيز في التَّوْراة العبرانية يَنْصَبّ أكثر على جماعة بني إسرائيل كَكُلّ، ودَوْر الفَرْد هو في المقام الأول كَعَضُو في تلك الجماعة فقط، فإننا في المسيحيَّة نَميل إلى التَّرْكيز بِشَكْلٍ كامِل تقريباً على الفرد (جماعة الله تَميل إلى لَعْب دَوْر أقلّ). في هذا الجِزْء الصُّوفي المُكَوَّن من أربع إصحاحات من سِفر التثنية سنَرى اهْتِمامًا أكبر بالمُتَعَبِّد الفرد أكثر من أي مكان آخر في التَّوْراة. ليس من المُسْتَغْرَب في نهاية هذه السِلْسِلَة من الإعلانات من قِبَل ومن أجل المُتَعَبِّد الفرد الذي يُقَدِّم قُرْبانه، تَعُود الآية الخامسة عشرة إلى الشَّكل الأكثر تَقْليديَّة في التَّوْراة الذي يَضَع دَوْر الجَّماعة كلّها فوق دَوْر الفرد. وهكذا يَنْتَهي المُتَعَبِّد بالطَّلَب من الله أن يُبارِك كل بني إسرائيل نَتيجةً لإظْهار كل فرد الطَّاعة الصَّحيحة لأوامِر الله.

ثم يَذْكُر موسى بعد ذلك أن مفْتاح إرْضاء الله هو الإلْتِزام بأمانة بأحْكامه وشَرائعه ”من كل قَلْبك وَروحك“. وهذا بالطَّبع يُذَكِّرنا بالوَصِيَّة العُظْمى التي تَدْعم كل الوصايا الأخرى: أن تُحِبّ الرَّب إلَهك من كل قَلْبك ومن كل روحِك ومن كل قُوَّتك. تَذَكَّر: القَلْب في الكِتاب المُقَدَّس يَعْني ”العَقْل“. الفِكْرة هي أن كل جانِب من جوانِب كيانَنا يَجِب أن يَخْضع لتَوْجيهات الرَّب في كل الأوْقات. هذا بالتَّأكيد يَضْرب المَفْهوم الغَرْبي الحديث للفَصْل بين الكنيسة والدولة، أو تَجْزِئة أنْشِطَتنا البَشَرية إلى ديني وعِلْماني (وهو أمْر مَقْبول الآن على أنه صَحيح سِياسيًّا). فالشَّخْص الذي يترشَّح لِمَنْصب مُنْتَخب اليوم يَخْضَع لاخْتِبار حقيقي بأن عليه أو عليها أن يكون على اسْتِعداد لفَصْل إيمانه عن واجِباته العامّة. فحتى ذِكْر الله هو سبَبَ للشَّك إن لم يَكُن سَبَبًا لإسْقاط أهْلِيَّته. ولكن حتى مُرْتادي الكَنيس أو الكَنيسة العاديِّين اليوم يَجِدون أن الحياة أسْهَل بكثير إذا كنا نعيش إيماننا فقط خلال يوم السبت، أو من السّاعة التاسِعة إلى الظُّهر تقريبًا يوم الأحد، ولكنَّنا نَضَع هذا الإيمان على الرَّف في جميع الأوقات الأخرى.

الآيات السابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة هي آيات جبّارة جدًا في تَقْديري. أولاً، إنها تُظهِر تمامًا الطبيعة المُتَبادلة لع

لاقة العهد التي تأسَّسَت بين بني إسرائيل ويَهْوَهْ من خلال العهد الموسَوي. ثانيًا، هذه الآيات تَضَع اللَّمْسات الأخيرة لِقِبول شُروط العهد من قِبَل الله وبني إسرائيل على حدٍّ سِواء. ثالثًا، يتم تقديم مُلَخَّص لما وافَق عليه كل طَرَف على وَجْه التَّحديد.

ويقول الرَّب أن بني إسرائيل قد وافَق بالفِعْل على العهد، فَرْدًا فَرْدًا، وهذا يعني أن بني إسرائيل سيَسْلُك في طُرُقِه، ويُراعي شرائِعه وأوامِره، ويُطيع الله. إن مُفْتاح فَهْم هذا هو أن بني إسرائيل قد وافَق على أكثر من مُجَرَّد مُوافقةٍ فِكْرِية على أحكام الله؛ لقد وافَقوا على الاحْتِفاظ بها في قُلوبهم بِطَريقة تؤدّي إلى العَمَل.

في مُقابل مُوافَقَة بني إسرائيل الفِكْرِيَّة وعَمَلِهم لإظْهار أمانَتِهِم، يُعاهِد يَهْوَهْ أن بني إسرائيل منذ هذه اللَّحْظة هم شَعْبه العزيز على كل شَعْب وأُمَّة أخرى على الأرض. عَلاوةً على ذلك أن بني إسرائيل في نَظَر الله مُقَدَّسين؛ ليس لأنَّهم أفْضَل بِطبيعتهم من أي شَخْص آخر، ولكن لأنَّهم خَضَعوا لِعَرض عَهْده فهو الآن أحْرار في إعْلان قَداستهم (وهو ما فَعَله للتَّو). بالإضافة الى ذلك، أعْطى الله بني إسرائيل الأفْضَلِيَّة على جميع أُمَمْ الأرض الأخرى. لا يَعني ذلك أن بَقِيَّة البَشَر ليسوا

مهمِّين بالنِّسْبة للرَّب؛ بل الأمْر هو أنه أعْطى بني إسرائيل مَكانةً الأوْلَوِيَّة. إنه تَمامًا مثل النَّمَط الموضَّح بين أسباط بني إسرائيل؛ كل بني إسرائيل مُقَدَّسين، لكن اللّاويّين قد تمّ خَصّهم بِمَكانة أعلى، وبالتالي أقْدَس من عامَّة بني إسرائيل. وعلاوة على ذلك، من سِبط اللّاويّين تم تَمييز عَشيرة الكَهَنَة وجَعلها أكثر قداسة من اللّاويّين العاديّين. ومن بين عَشيرة الكَهَنَة اللّاويّين تم تَعيين عشيرة رئيس الكَهَنَة وجَعْلها أكثر قداسة من جميع بني إسرائيل.

يُراوِدُني شُعور حِلو ومُرّ حول إعلان يَهْوَهْ ذلك. أعْلَم أنه يَفي بِوُعودِه، وعلى الرَّغم من مُرور آلاف السِّنين، فإن عَودة الشعب اليهودي إلى وَطَنِه تُثْبت أنه لا يَتَغيَّر أبدًا، ولا يَنْسى أبدًا. لكنني أشْعُر أيضًا بالخَوْف والحِزْن الشَّديد على إخْوَتي وأخَواتي في الإيمان الَّذين هم أسْوَأ من العِمْيان عن وَعْد الله الذي لا ينْتَهي بأن بني إسرائيل هم كَنْزه الثَّمين وسيَبقى كذلك. كَثيرون جدًا يُصِرّون بِثَبات على أن الله قد تخلّى عن كَنْزِه بني إسرائيل لصالِح الكنيسة، كنيسة الأُمَميّين. يا قَوْم، إذا كان الله يَسْتطيع أن يَفْعل ذلك، فلِماذا نَعْتَقد أنه لن يَتَخَلّى عن الكنيسة لصالِح شَخْص آخر في وقت ما، في وَحْيٍ جديد آخر؟

ماذا تَقولون؟ لكن يسوع يَعِدْنا بأنه لن يتخلّى عنّا أبَدًا؟ حَسَنًا، هذا في الأساس هو نَفِس الوَعْد الذي قَطَعَه الآب لبني إسرائيل وسجَّلَه في أماكِن عديدة في العهد القديم. لذلك إذا كان بإمْكاننا أن نَجِد عِذْرًا للآب أن يتخلّى عن بني إسرائيل بِشَكْلٍ دائم، فيُمْكِننا بالتأكيد أن نتأمَّل في موقِف يُمْكِن أن يتخلّى فيه يسوع عن أتْباعه بِشَكْلٍ دائم. الخَبَر السّار حقًا هو أن الآب لم يتخلَّ عن بني إسرائيل ولن يتخلّى يَسوع عنا. دَعونا نَنْقُل هذه الرِّسالة إلى كل من الشَّعب اليهودي في هذه الأرض وإلى الكنيسة.

أُريد أن أُنْهي هذا الإصْحاح بهذا التَّعْليق: إن كل أُسْلوب وسِياق انْتَهَيْنا إليه للتَّو يوضِح أن ما يَسعى إليه الله هو علاقة شَخْصِيَّة مع البَشَر. إن الطّاعة لتَعاليم ومَبادئ وصاياه هي وَسيلته المقررة لإظْهار مَحَبَّتنا له. ولكن في الوَقت نَفْسِه فإن حِفْظ هذه الوصايا ليس وَسيلة لتَبْريرنا أو تأسيس برّنا الخاص، كما لم يَكُن كذلك بالنِّسْبة للعبرانيّين، بل هو في الوقت نَفْسه وسيلة لتَبْريرنا. فقط عندما نَتْبَع الله بِطَريقة صادِقة؛ وفقط عندما نَجْعَلُ علاقتنا معه مِحْوَر حياتنا في المَحَبَّة والخُضوع؛ وفقط عندما يكون المَرْء قد افْتَدى من قبل الفادي الوحيد الذي سيكون مَوجودًا على الإطْلاق، يكون لِعَمَل الوصايا أي قيمة.

دَعْني أُذَكِّرك أنه قبل أن يُعطى النّاموس (التَّوْراة)، افتُدِيَ بنو إسرائيل. لم يَقُل الله لبني إسرائيل: دَعوني أُعْطيكم النّاموس، ثم سنَرى كيف ستَفْعَلون. وإذا اسْتَوْفَيتم مِعياري بعد ذلك سأفْتَديكم. النَّمَط هو: الفِداء أوَّلاً، ثم طاعة الوصايا بعد ذلك. لقد كان الأمْر هكذا في العهد القديم ويَبقى هكذا في العهد الجديد.

لِنَنْتَقِل إلى الإصْحاح السابع والعشرين.

اقرأ الإصْحاح السابع والعشرين من سِفر التثنية بأكْمله

هذا أحَد تلك المَواضع في الكِتاب المُقَدَّس التي تُشَكَّل إزْعاجًا كبيرًا لِعُلماء التَّوْراة. إنه فَصْل غريب لِلْغاية يقول البعض عنه أنه رُبَّما هو في غير مَحَلِّه. يَدَّعي البعض أنه في عَمَليَّة تَدْوين الكِتاب المُقَدَّس، والتَّنْقيحات المُخْتَلِفة التي حَدَثَت على مَرّ القرون، في مكان ما على طول الخَطّ، خَرَجَت بعض الأمور عن التَّرْتيب. أَفْتَرِض أن هذا مُمْكِن؛ ولكن أَفْهَم أيضًا أنه حتى لو كان هذا الإصْحاح خارج التَّرْتيب فإن كل ما يَقوله لا يزال صحيحًا، ولم تتغيَّر أي مَبادئ، وليس هناك سَبَب للقَلَق. وبالمُناسَبة، ليس من المُتَّفَق عليه عالَمِيًّا، بأي حال من الأحوال، أن المُشْكِلة المُتَصَوَّرة في ترتيب الفُصول مَوْجودة بالفِعل.

المُشْكِلة الرَّئيسيّة تَكْمُن في الشَّكل. لاحِظوا أنه منذ بِداية سِفْر التثنية لدينا موسى يَخْطُب في خِطْبة، مُسْتَخْدِماً في المقام الأول صيغة المُضارع. يَستخدم السَّرْد كثيرًا ”أنا“ و”نحن“. ثم لاحِظوا كيف يتغيَّر هذا فجأة ويتحدَّث بضمير الغائب؛ إنه ليس موسى يتحدّث بل شخص يَتَحدَّث عمّا قالَه موسى وفَعَلَه. إنه يتحدَّث بِصيغة الماضي. فيما بعد تَتحدَّث عن احْتِفالات تجديد العهد المُتَعَدِّدة التي تَحْدُث كل منها في أماكِن مُخْتَلِفة؛ ولكن الصِّياغة تَجْعَلها تبدو وكأنّها تحدُث في وقت واحد.

لا أنْوي الخَوْض بِعُمْقٍ في التَّخَصُّص الأكاديمي الجديد نِسْبِيًّا المُسَمّى بالنَّقد الأدَبي، على الرّغم من أن هذه الشُّكوك تَنْشأ من هذا التَّخَصُّص الأكاديمي. أي أن النُّقّاد الأدَبِيّين يقولون إن النَّحو والشَّكل ليس كما يَتوقَّعون وبالتالي فإن المَضْمون مَشْكوك فيه. بل إنني لا أرى مُشْكِلة كبيرة في المَضْمون سوى مُشْكِلتَيْن بَسيطَتَيْن جداً لا علاقة لهما إلّا من باب الفُضول. سأُشير إليهما عندما نَصل إلى هناك.

يُوَثِّق الإصْحاح السّابع والعشرين الاحْتِفالات التي تُؤرِّخ وُصول بني إسرائيل إلى أرض الميعاد، أرض كنعان. تُقام الاحْتِفالات على وَجْه التَّحْديد في جبل عيبال وجبل جرزيم. هناك سيتِمُّ الإعلان عن لَعَنات وبَرَكات عهد موسى.

في الآية الأولى، نَكْتَشِف خَلَلًا: هنا المَوْضع الوحيد في التَّوْراة حيث يَنْضمّ الشُّيوخ إلى موسى في إعْطاء الأوامِر للشَّعب. يَعْتَقِد بعض العُلَماء أن هذا أيضًا نوع من التَّنْقيح المتأخِّر، ولكن بالنِّسْبة لي هذا أمْر طبيعي ومَنْطقي تمامًا. إن موسى على وَشَك المَوْت؛ فهو لن يَدْخُل أرض الميعاد (لقد أخْبَرَه الرَّب بذلك من قَبل). عندما يكون المَرْء على وَشَك تسليم السُّلْطة إلى شخص آخر كان من المُعْتاد دائمًا أن يظهر عَلنًا شرعيَّة هذا الانْتِقال من خلال إشْراك شخصيَّة السُّلْطة القادِمة في الأوقات المُناسِبة عندما يُلْقي القائد الحالي خِطابات وتَصْريحات. إن موسى بِبَساطة يُظهِر للشُّيوخ كيف سيَبْدو الأمر عندما لا يكون هو مَوْجودًا. إنه يُريد أن يتجنَّب الشَّك والتَّصَرُّفات غير الأخلاقيَّة، ولا يريد أن يكون هناك سببًا للتَّمَرُّد والشَّك. سيقَع على عاتِق يوشَع والكَهَنَة والشُّيوخ أن يَحْكِموا بني إسرائيل في غُضون أيام فقط من وقت هذه الخُطْبة. لن يكون هناك موسى بعد الآن.

هنا نُواجِه صُعوبة أخرى: تقول الآية االثانية أنه بمُجَرَّد عبور بني إسرائيل نهر الأردن إلى كنعان، عليهم أن يبنوا حِجارة كبيرة كعَلامات تِذْكاريَّة. المُشْكلة هي أنها تقول أنهم سيَنْصِبونها في جبل عيبال على الرَّغم من أنهم عَبَروا الأردن بالقرب من أريحا. يقع جبل عيبال على بعد ثلاثين ميلاً شَمال أريحا بِأقْرب طريق مُمكن، ولكن نَظَراً لوُعورة المِنْطقة فَمِن المُحْتَمل أن تكون المسافة بين النُّقْطتَيْن خمسة أيام على الأقل. لذلك هنا تقول، ”في اليوم الذي عَبَرْتُم فيه الأردن“ عليهم أن يَنْصبوا الحِجارة على عيبال، يبدو من المُسْتَحيل تَحْقيق ذلك. ولكن في ضَوْء ما نقرأه في مكان آخر عن هذا الحدَث التاريخي، على الأرجح يَجِب أن نأخُذ هذه العبارة على أنها تعنييوم عَبَرْتم الأردن“. وبِعِبارة أخرى إنها مُجَرَّد طريقة شائعة في الكلام تعني القيام بذلك على وجه السُّرعة بعد عبور الأردن؛ ولا تعني القيام بذلك قبل غُروب الشمس، وبالتالي إنهاء ذلك اليوم.

على بني إسرائيل أن يَكْسوا هذه الحِجارة الكبيرة المُسَطَّحة بالجِصّ ثم يَنْقُشوا في الجِصّ الرَّطب كَلِمات التَّوْراة. لنَتَذكَّر أولاً أنه في حين أننا نَميل إلى اسْتِخْدام كَلِمَةالتَّوْراة“ كعِنوان تِقَني للأسفار الخمسة الأولى من الكِتاب المُقَدَّس، إلا أنها في الواقع كَلِمَة عامة تعني التَّعْليم أو الإرشاد. إذَنْ فالأمْر ليس كِتابةْ كامِل مُحْتَوَيات أسفار موسى الخمسة على هذه الحِجارة المُجَصَّصة، بل كِتابة النِّقاط البارِزة من سِفر التثنية (في المقام الأول القائمة العامة للبَرَكات واللّعْنات).

لم تَكُن الكتابة على الصُّخور المُلْصَق عليها الجص أمْرًا مُسْتَخْدمًا في جميع الثقافات، وبالتأكيد لم يَكُن البَدُو الرُّحَّل يَسْتَخْدِمونه. لكن الكِتابة على الجِصّ كانت طريقة مُعْتادة ومألوفة لتَخْليد المراسيم والأحداث المُهِمَّة في مصر. كان هذا الإجْراء مألوفًا تمامًا لبني إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، كان من المُمْكِن إنجاز الكَمِّيّة الكبيرة من الكِتابَة التي كانت مَطْلوبة في جِزْء صغير من الوقت عن طريق كِتابة الأحْرُف على الجِصّ الرَّطِب باسْتِخْدام قَلَم حَفْر بدلاً من نَحْت الحُروف على الصُّخور الصَّلْبة.

بالإضافة إلى نَصْب هذه الأحْجار الضَّخْمة المَنْقوشة عليها كَلِمات موسى على جبل عيبال، كان عليهم أيضًا بناء مَذْبَح للتَّضْحِية ليَهْوَهْ. كان يجب أن تُركّب الأحْجار بِعِنايةٍ لِتَشْكيل مَذْبح صالِح للاسْتِخْدام، ولكن لم يَكُن يُسمح بِتَشْكيلها أو نَحْتها بأشْكال مِثاليَّة باسْتِخْدام أدوات حَديديَّة. كان يجب ان تكون مواد البناء للمَذْبَح فقط من الأحْجار الطَّبيعيّة، كما هي موجودة على الأرض.

كان جبل عيبال وتوأمهه جبل جرزيم يَقَعان في المِنْطقة القديمة التي كان يَسْكنها البَطْرِيَرْك إبراهيم؛ ولا شكَّ أن لذلك علاقة في سَبَب اخْتِيارِهِما لهذا الاحْتِفال التّاريخي لتَجْديد العهد. يقع جبل عيبال على بعد حوالي ثلاث أميال إلى الشمال من جبل جرزيم، وتقع مدينة وسهل شكيم (التي تُسَمّى اليوم نابْلس) بينهما. يَرْتَفع جبل عيبال إلى ارتفاع حوالي ألف ومئتي قَدَمًا فوق مدينة شكيم، لذا فإن كل ما سيَحْدُث هناك يُمْكِن رؤيَتُه لأميال في كل اتِّجاه.

تعطي الآية الثامنة التَّعْليمات بأن تعاليم يَهْوَهْ من خلال موسى التي كان من المُقَرَّر أن تُكتَب في الجِصّ كان يَجِب أن تُكْتَب " باير هيتيف" (التي تعني حرفياً "وضْعُها بِشكلٍ جَيِّد") وبعبارةٍ أخرى كان يَجِب أن تكون بارِزَة وسَهْلَة القِراءة. لقد قام الحاخامات بِعَمَلٍ مُمْتاز حَول هذا المَوضوع وأشاروا إلى أن القَصْد من هذه التَّعْليمات هو أن يَتَمَكَّن عامَّة الناس من قِراءة وفَهْم المَعْنى. بما أن هذه كانت كَلِمات الله، وبما أن بني إسرائيل كان لديهم كَهْنوت، كان من المُتَوَقَّع بالأحرى في العقْلِيَّة الدّينَّية في ذلك العَصْر أن تكون الكَلِمات ذات شكل ”غامِض“ لا يَسْتَطيع أن يُوَصِّلها بِشَكْلٍ صَحيح إلا خُدّام الله المُباشَرين، الكَهَنَة. كان هذا هو السائد في مُعْظَم ثقافات الشَّرْق الأوْسَط؛ أن الكَهَنَة هم الوَحيدون المُخَوَّلون بالكَلام الإلَهي والوَحيدون القادِرون على فَهْمه. كان الهَدَف بالطَّبْع هو السَّيْطَرة على الشَّعب. ففي نِهاية المَطاف، إذا كان الكَهَنَة وَحْدُهم يَمْلكون الكَلِمَة الإلهية، وحتى إذا كانت مَكْتوبة عَلنًا، فإن الكَهَنَة وَحْدهم هم من يَسْتطيعون فكّ رُموزها، فكلّ ما كان يَقوله الكَهَنَة هو الحقيقة ولا يُمْكِن أن تكون هناك مُعارضة. كانت هذه الأحْجار المَكْسُوَّة بالجِبس والمكتوبة بوضوح مَعالم لإظْهار أن كَلِمَة الله يجب أن تكون مَمْلوكة من جميع بني إسرائيل، وليس فقط من فئة مُتَمَيِّزة.

لقد دَرَسْنا جميعًا محاكم التَّفْتيش الأوروبيّة في المدرسة؛ وجَوْهَر الأمر في محاكم التَّفْتيش الأولى هو أن بعض الناس خارِج سِلْطة الكنيسة المؤسَّسِيّة بدأوا في الحُصول على نِسَخ من الكِتاب المُقَدَّس. أراد العِلْمانِيّون أن يَقْرأوا الكَلِمَة بأنْفُسهم؛ وفي بعض الحالات كان ذلك لأنَّهم لم يَعودوا يَثِقون بالكنيسة. اعتُبر هؤلاء الناس مُجْرِمين لأن سُلْطة الكنيسة وَحْدُها هي التي كان يُسمح لها بِحِيازة الكِتاب المُقَدَّس لأنها الوحيدة التي لديها المَعْرفة الإلَهية والتَّفْويض لِتَفْسير الكَلِمَة الإلهية. لو كان الناس عُمومًا يَمْتَلِكون الكِتاب المُقَدَّس بالفِعل، لكانت سَيْطرة الكنيسة على الناس أصْعَب بكثير. لقد تمَّ تَعْذيب الآلاف والآلاف من المؤمنين بِشِدَّةٍ لمُجَرَّد امْتِلاك جِزْء من صَفْحة من الكِتاب المُقَدَّس.

ومع مُرور الوقت تمَّ التَّخَلّي عن تلك القوانين ضدّ امْتِلاك الكِتاب المُقَدَّس، وبَدأ تَحَوُّلٌ آخر في العُصور الحديثة حيث أنه على الرّغم من أن الكتب المُقَدَّسة رخيصة الثَّمَن ومُتَوفِّرة بِكَثرة، فَقَدَ الناس الاهْتِمام بالكِتاب المُقَدَّس وتمَّ تَشْجيعهم على قُبول مَقالات الإيمان أو الرَّكائز العَقائدية للطّائفة بدلاً من قَضاء الوقت في دِراسَة كَلِمَة الله. وفي هذا السِّياق أوَدُّ أن أخْتَتِم باقْتِباس من د. ل. كريستِنْسِن، وهو عالِم مسيحي مَشْهود له بالكِتاب المُقَدَّس:

"إن إحدى السِّمات الغَرْيِبَة للعِبادة الحديثة في الكَنائس الإنْجيليَّة اليوم هي غِياب التَّلاوة العَلَنِيَّة للكِتاب المُقَدَّس كغاية في حَدّ ذاتِها. يتمّ إعْطاء الكثير من الوَقْت لترنيم ترانيم التَّسْبيح، وكثير منها مُجَرَّد نُصوص من الكِتاب المُقَدَّس وُضِعَت على الموسيقى. لكن القليل جدًا من الوَقْت يُعطى لِسَماع قراءة الكِتاب المُقَدَّس، رُبَّما باسْتِثْناء النَّصْ المَحْدود جدًا الذي تَسْتَنِد إليه عِظَة القَسّ. نحن بِحاجة إلى إيجاد طُرُق لِعَرض الكِتاب المُقَدَّس بأكْمَله على شَعبنا في العبادة في الأماكِن العامّة بالطريقة التي اخْتَبر بها بنو إسرائيل القُدَماء سِفْر التثنية على جبل عيبال“.

في المرَّة القادِمة سوف نَتَناول هذا الاحْتِفال المِحْوَري على قِمَّة جبل عيبال ذات النَّسيم العَليل فوق مدينة شكيم القديمة.