سِفْر التكوين
الدرس تسعة وثلاثون – الإصحاحان ستّة وأربعون وسبعة وأربعون
تزامُنًا مع هذا الإصحاح، يَنتهي عَصر الآباء. مات إبراهيم وإسحاق، ويَعقوب (كان مُسنًا جدًا) في خِضم نقْل بني إسرائيل من كنعان إلى مصر وإلى سُلطة يوسف ويهوذا. وبعد ذلك بوقتٍ قَصير، سيَنتقل يعقوب ليجلِس في حضرة الله. بعد نقْل العائلة إلى مصر، لم يَتبقَّ ليعقوب سوى واجب واحد: أن يُعطي البَرَكات المهمة جدًا لأبنائه؛ البَرَكات التي تنقُل رسميًا الثروة والسُلطة والقوة والمسؤولية إلى خَلَفِه. سنرى الملحمة النبوية لهذه البَرَكات ابتداءً من الإصحاح ثمانية وأربعين، وسنُناقِش الأمْر بكامِله بشكل مُعمَّق عندما نصِل إليه.
من المثير للاهتمام استخدام كَلِمة "بني إسرائيل" في هذا الإصحاح؛ لأن عشيرة إسرائيل قد نَمَت بما فيه الكفاية لتستَحقّ صِفة الأمّة.
قراءة تكوين ستّة وأربعين بكاملِه
دعونا نتفحَّص للحظة طريقة تَكفير يعقوب في ما يَخصّ مغادرتِهم كنعان ونزولهِم إلى مصر لِلّحاق بابنه الحبيب يوسف. بالطبع، كان مُمتنًا إلى أبعَد الحدود لأن ابنه المَفقود منذ زمن طويل كان على قَيد الحياة، وقريبًا سيَعود إليه. وكان مُتأكدًا من أنّ عشيرته، قبائل إسرائيل الاثني عشر، سيَنجون من المَجاعة التي اجتاحَت العالم، وذلك بسبب قُدرَة يوسف على رعايتهم. ولكن، تساءل يعقوب عمّا ستكون النتيجة طويلة المدى لهِجرتهم إلى مصر. هل كان هذا على وشك أن يُصبح تحقيقًا لنبوءة عن مصير العبريين، التي أُعطيت في حُلم لجدِّه إبراهيم قبَل ذلك بسنوات عديدة؟ لا بد أنّ يعقوب كان يعرِف كل شيء عن هذه النبوءة، وقد سَمعَها من فمِ جَدِّه نفسه، ومرة أخرى من فَم أبيه إسحاق؛ وقد أزعجَه ذلك…لقد جعلَه قلقًا وخائفًا.
دعونا نعود إلى الوراء قليلاً ونتذَّكر تلك الكَلِمات النبوية من الله لإبراهيم، في تكوين الإصحاح الثاني عشر الآية الخامسة والسادسة عشرة. (ناس) سِفْر التكوين الثاني عشر الآية الخامسة عشرة وَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سَقَطَ عَلَى أَبْرَامَ نَوْمٌ عَمِيقٌ، وَإِذَا رُعْبٌ وَظُلْمَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ سَكَنَتْهُ ثلاثة عشرة وَقَالَ اللهُ لأَبْرَامَ: "اعْلَمْ يَقِينًا أَنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أَرْضٍ لَيْسَتْ لَهُ، حَيْثُ يُسْتَعْبَدُونَ وَيُضْطَهَدُونَ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ أربعة عشرة "وَأَمَّا أَنَا فَأَحْكُمُ عَلَى الأُمَّةِ الَّتِي سَيَخْدِمُونَهَا، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بَعْدَ ذلِكَ بِأَمْلاَكٍ كَثِيرَةٍ.خمسة عشرة "أَمَّا أَنْتُمْ فَتَذْهَبُونَ إِلَى آبَائِكُمْ بِسَلاَمٍ، وَتُدْفَنُونَ فِي الشَّيْخُوخَة ستّة عشرة "ثُمَّ فِي الْجِيلِ الرَّابِعِ يَرْجِعُونَ إِلَى هُنَا، لأَنَّ إِثْمَ الأَمُورِيِّينَ لَمْ يَكْتمُلْ بَعْدُ".
كان يعقوب يعرِف جيدًا أنه إذا أخَذ عائلته إلى مصر للنَجاة من الأموريين فذلك يكون الوقت الذي يتحقَّق فيه ما تكلَّم به الله لإبراهيم (وماذا يمكن أن يكون غير ذلك)، وأنه سيَموت في مصر، وهو سينقُل عائلته من أرض الميعاد بغَرَض استعبادِهم في مصر…. لفترة طويلة من الزَمن. كان يعلَم أنّ أربعة قرون ستمُرّ قبل أن تَتحرَّر عائلتُه مرة أخرى وتعود إلى الأرض التي وَعَد الله بها العبريين.
بالمناسبة، هذا المَقطع نفسه في سِفْر التكوين الخامس عشر هو ما أقنَعَ العديد من عُلَماء الكتاب المقدس بأنّ "الجيل" التوراتي هو مئة سنة……لأن الكتاب المقدس يقول هنا إنّ بني إسرائيل سيظلّون في مصر لمدة أربعمئة سنة، ويتحدَّث أيضًا عن تلك الفترة الزمنية على أنها أربعة أجيال.
بعد أن حَزَم بنو إسرائيل أمتِعتَهم وانطلقوا في رِحلتهم إلى مصر….. ربما بدءًا من حَبرون……. توقَّفوا في بئر شيفا (بئر سبع) وهناك رأى يَعقوب رؤيا: وفي تلك الرؤيا تَحدَّث الله عن الخوف والترقُّب المخيف لما قد يَنتظِر إسرائيل وعائلته. وفي الآية ثلاثة يطُلب الله من يعقوب ألا يخاف من النزول بعائلته إلى مصر، لأن الله قد أعَدّ هناك مكانًا لبني إسرائيل لينمو فيه بنو إسرائيل من مجموعة صغيرة من سبعين فردًا إلى أمّة عظيمة ( ولم يكُن لدى يعقوب أدنى فكرة عن مدى عَظَمة الأمّة التي ستؤول إليها مع الوقت). ويؤكِّد الله ليعقوب أنه بالفِعل سيَلفِظ أنفاسه الأخيرة هناك، ولكن رُفاتَه لن تبقى إلى الأبد في رمال مصر. سيحرَص الله على إعادتها إلى أرض أجداده.
في الآية واحد قيل لنا أنّ يعقوب قَدَّم ذبائح في بئر شيفا استعدادًا لهذه الهجِرة الهامّة؛ في الواقع، يَرِد في العبرية أنّ يعقوب قدَّم ذبائح زفاهيم. زفاح، أو جَمَعه زفاهيم، هو نوع مُحدَّد جدًا من الذبائح، وهو واحد من عدة أنواع من الذبائح التي سنتعرَّف عليها عندما نَصِل إلى سِفْر اللاويين. في حين أنّ الزفاح (جزء من جميع القرابين) التي توضع على نار المذبح البرونزي العظيم، فإنها ليست "الذبيحة" المَحروقة……. وهو مُصطلح عام فقط لجميع أنواع الذبائح المختلفة التي يجب إحراقها.
وبما أنّ الذبائح لا تُقدَّم على الأرض في نار مُشترَكة، فهذا يعني أنّ يعقوب كان يجب أن يَستخدِم مذبحًا. لقد بنى أبوه إسحاق مذبحًا واستخدمَه في بئر شيفا قبل ذلك بسنوات عديدة، ومن المُحتمَل جدًا أن يكون هذا المذبح نفسه. في الواقع، على الرغم من أنّ الآيات لا تقول صراحةً أنّ مَذبح إسحاق هو الذي استخدَمه يعقوب، إلا أنّ قوْل الآيات أنّ يعقوب قد ذَبَح "لإله أبيه إسحاق" تؤكِّد ذلك؛ لأن المذابح كانت تُبنى دائمًا وتكرَّس لآلهة معيّنة، ولذلك عندما يُشار إلى مذبح ما، كان يُطلَق عليه اسم المكان الذي كان فيه، ومن بناه، والإله الذي يكرِّمه.
في الآية أربعة، لدينا تذكير بالعقلية الثقافية السائدة في الشرق الأوسط في تلك الحَقبة: الآلهة كانت إقليمية. نعم، كان الاعتقاد الذي لا جِدال فيه أنّ الآلهة تُراعي الحدود الوطنية، ولأي سبب كان، كان يعقوب وعائلته لا يزالون يفكِّرون بشكل عام بنفْس الطريقة التي كانت تفكِّر بها جميع ثقافات العالم الأخرى، ويبدو أنّ يهوذا لم يحاول (جاهدًا) أن يُنوّره ويشرَح له حقيقة هذا الخطأ. لذا، كان من الطبيعي أن تكون إحدى مخاوف يعقوب أنه بمجرد عبورِه حدود كنعان ودخولِه مصر، سيَترُك وراءه تأثير إلهه الخاص يَهوَه وحمايتَه، وسيخضَع لآلهة مصر. لذلك، يقول الله: "أنا نفسي سأنزِل معك إلى مصر وأنا نفسي سأُعيدك". بعبارة أخرى، سيتَّخذ إله يعقوب الخطوة غير المُعتادة بعبور الحدود الإقليمية ومرافَقة شعب إسرائيل في هِجرته. لم تكُن هذه طريقة العَمَل المُعتادة لإله، ولكن لا بد أنها كانت مفاجأة سارّة ليعقوب، حتى وإن لمْ يفهَم كيف يُمكن ليَهوَه أن يُغيِّر كل آداب الآلهة التي تَرسَّخت على مَرّ القرون.
بينما نَستمرّ في دراسة التوراة، ثم نتركُها في النهاية وندخُل إلى سِفْر يشوع، سنتطرَّق إلى كل أنواع التعليقات المثيرة للاهتمام مِثل هذا التعليق عن ذهاب الله مع يعقوب، والتي عادةَ ما يتم تجاهُلها باعتبارها مجرّد عبارات قديمة ومَجازية. ثقوا بي: هذه ليست على الإطلاق مجرَّد عبارات، بل هي بالأحرى أحاديث عن أمور كانت حقيقية جدًا في أذهان أولئك العبريين القدماء.
تُخبِرنا الآية خمسة أنه تم إرسال عدد كافٍ من العَرَبات لجميع بني إسرائيل ليحضِروا معهم مُمتلكاتِهم. ولكن، بالطبع، كانت أهمّ مُمتلكات بني إسرائيل "الشعب"؛ وما يتمّ إيصاله هنا هو أنّ كلّ عائلة إسرائيل انتقلَت إلى مصر؛ ولم يَبقَ أحد منهم.
والآن، اسمحوا لي أن أطلعِكُم على سِرٍّ صغير: الآيات من ثمانية إلى خمسة وعشرين، وربما حتى الآيتان ستّة وعشرين و سبعة وعشرين ، إما أنها أُضيفت إلى هذا النصّ في تاريخٍ لاحق…………. أو……. أنها عُدِّلت في النص الأصلي بشكل كبير في وقتٍ لاحق. كيف نعرِف ذلك؟ لأنّ الأرقام لا تتوافَق مع الإطار الزمني الذي نتحدَّث عنه، ونَجِد أنه هناك اختلافات كبيرة عندما تتكرَّر سلسلة الأنساب هذه في سِفْر العدد ستّة وعشرين وفي سِفْر الأخبار الأول.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أمورٌ منطقية. كان يوسف في أوائل الثلاثين من عمره في هذا الوَقت، لذلك كان بنيامين في العشرينات من عُمرِه…… أي شاب صغير جدًا. ومع ذلك، لدينا قائمة بعشرة أبناء لبِنيامين. وفي سِفْر العدد، القائمة هي خمسة أبناء واثنان من أحفاد بنيامين! بما أنّ الإطار الزمني المُعلَن بوضوح في هذا الإصحاح هو هِجرة إسرائيل إلى مصر خلال فترة المَجاعة، فمن المستحيل تمامًا أن يكون بنيامين قد أنجَب هذا العدد الكبير من الأبناء، ناهيك عن أن يكون له أحفاد من أبنائه في مِثل هذا العُمر الصغير.
والآن، إذا كان هذا يُزعجكُم قليلاً، فلا تَدَعوه يزعجُكم. لقد أُدرجَت لأسباب معيّنة في الكتاب المقدس؛ وقد تمّ تعديلُها لأسباب محدّدة أيضًا. من الأسباب، مرور الزمن، وتوفُّر صورة أكبر وأوضح لشجرة العائلة، لذلك أُضيفَت معلومات إضافية. وفي بعض الأحيان تمّ تَعديل الأنساب لأن إحدى العشائر قد انقرَضت تمامًا، وكان من الضروري إدراج اسمِها للتأكّد من عدم نسيانها.
في حالة سِفْر التكوين ستّة وأربعين، من المُمكن أيضًا أن يكون الرقم سبعين رمزيًا وليس إحصاءً دقيقًا. فالعدد سبعين يرمُز إلى مُجمل الحَلَقة، كما أنه يرمِز إلى شمولية حدَث ما وإلى أنّ شيئًا ما قد قُدِّر إلهيًا. من المُحتمَل جدًا أنه كان هناك أكثر من سبعين فردًا ذهبوا إلى مصر لأنّ الأنساب والتعدادات عمومًا لا تُحصي سوى الذكور من السكّان. والذكور الستّة وستّون المذكورون في سلسلة الأنساب في سِفْر التكوين ستّة وأربعين هم مِثالٌ على هذا التقليد. كان من المُمكن أن يكون هناك على الأقل نَفْس العدد من الإناث المولودات، وربما كان عدد الإناث أكثر من عدد الذكور، وهذا هو النمط الطبيعي لمُعدَّل المواليد. لذا، فمن المرجَّح أنّ العدد الكامل الذي نَزَل إلى مصر كان أقرب إلى مئة وخمسين فردًا من العائلة. ولكن، كما هو الحال بالنسبة لأفراد أي أمّة صغيرة بهذا الحَجم، كانوا أيضًا يَمتلكون عبيدًا أجانب. في الواقع، نحن نَعلَم من الكتاب المقدس الذي يَصِف حادثة ذَبْح سكان شكيم قبل ذلك بسنوات (تذكَّروا أنّ هذا كان انتقامًا من بني إسرائيل لاغتصاب ابنة يعقوب، دينا من قِبَل ابن مَلِك شكيم)، أنّ شَعب إسرائيل أخذوا الكثير من النساء والأطفال كعبيد ومَحظيات. ستَعتريني الدهشة إذا كان عددهم أقلّ من مئتين، وربّما أكثر قليلاً.
معلومة إضافية عن سلسلة الأنساب ونُتابِع: كل قوائم الأنساب في الكتاب المقدس كان لها طريقة إدراج. لقد تمّ تجميع الأسماء بطريقة محددَّة لسبب معيَّن….. لم يكُن الأمر أبدًا عشوائيًا. ونرى ذلك هنا في سِفْر التكوين ستّة وأربعين، فأوَّل أفراد بني إسرائيل المُدرَجين هم ليا (زوجة يعقوب الأولى) وأولادها، ثم جارية ليا، زيلبا وأولادها. ثم تأتي بعد ذلك زوجة يعقوب الثانية، راحيل وأولادها، ثم تأتي بعد ذلك خادمة راحيل، بيلا، وأولاد بيلا.
وبالطبع، نحصُل على دليل آخر على التَنقيح اللاحق لسلالة الأنساب عندما تَضمّ "من بين الذين نزِلوا إلى مصر"، أبناء يوسف المَولودِين في مصر، أفرايم ومناسيه، وهم إبنان لم يكُن ليَعْرِف يعقوب عنهما شيئًا، والأبناء الذين وُلِدوا وترعرعوا في مصر…… وليس في كنعان.
من المُحتمَل جدًا أنّ موقِع الآية ثمانية وعشرين يأتي مُباشرةً بعد الآية سبعة في الأصل. في الآية ثمانية وعشرين يُقال لنا شيئًا يجب أن نَحفِره في ذاكرتنا: أُرسِل يهوذا قَبل يعقوب لاستكشاف الطريق. كانت هذه وظيفة الابن البِكر؛ ولكن، بالطبع، لا نرى ذِكرًا لروبين، ابن يعقوب البِكر. من الواضح أنّ يهوذا قد تولّى هذا الدور، مُتجاوِزًا حتى أخوين آخرين كانا عادةً، بحسب التقاليد، مُتقدّمين عليه، وهما شمعون ولاوي.
ونرى الآن أنّ يعقوب وعائلته وَصلوا من أجل لمّْ الشَمل الذي طال انتظارُه، وذهَب يوسف فورًا إلى أرض جوشن، المكان الذي سيكون موطِنهم الجديد. ويُخبرُنا هذا المَشهد المؤثِّر الذي يتواضع فيه يوسف، حاكم أرض مصر العظيمة، أمام أبيه العجوز، ثم يبكي وهو يَحتضنُه…… لفترة طويلة.
ثم يَنصَرِف يوسف ليُخبر فرعون بقدوم أسرَته: هذا لكي يُظهِر الفرعون الاحترام اللائق به، ولكي يُكرِّم شعب إسرائيل ويُرِّحب به بالطريقة التي يَختارها. لاحِظوا بعض المصطلحات المُستخدَمة هنا والتي يمكن أن تكون مُربِكة: يَرِد في الآية واحد وثلاثين أنّ يوسف ذَهَب "صَعِد" ليُخبِر فرعون. حسنًا، بالنسبة لنا، ولبقية العالم، في ذلك الوقت، كانت كَلِمة "صَعِد" تعني "شمالاً". ولكن، من المؤكّد أنّ يوسف لم يذهَب شمالاً من أرض جوشن إلى فرعون، لأنه من المرجَّح أنّ فرعون كان يُقيم في ممفيس، التي كانت تَبتَعِد مسافة قصيرة جنوبًا. الفكرة هنا هو أنّ مصر كانت أرضًا مُقسّمة: وكانت تتألَّف في المقام الأول من إقليمين كبيرين…… أحدهما يُسمّى مصر العُليا، والآخر يُسمّى مصر السفلى. ربما يَرجِع ذلك إلى اتجاه مَجرى النِيل (من الجنوب إلى الشمال) فإنّ مصر العُليا موجودة في الجَنوب، ومصر السُفلى في الشمال….. عكْس تفكيرنا التقليدي. لذا، على الرّغم من أنّ كلّ الطرُق المَنطقية والمقبولة في التواصل تقول أنّ المرء يجب أن يَتَّجه من جوشن إلى الجنوب، جنوبًا، نحو مصر العُليا، إلا أنّ المصطلحات المُستخدمَة تُعبِّر ببساطة عن وجهة نَظَر المصريين؛ فالاتجاه هو إلى أعلى إذا كنت مُتجهًا نحو مصر العليا، وإلى أسفل إذا كنت مُتّجهًا نحو مصر السُفلى.
على أي حال، وكما هو شائع لدى رؤساء الدول مِثل فرعون، فقد تم إعداده مُسبقًا للتحيات والتبريكات التي سيُقدِّمها لضيوفِه الكرام…إسرائيل…عائلة وزير مصر يوسف. ولكن، وفِق البروتوكول المناسب، من الضروري أن يَنطُق الفرعون نفسه بأحكامِه، وجهًا لوَجه أمام ممثّلي إسرائيل. لذلك يُهيئ يوسف أيضًا بعض إخوته للإجراء، ويُخبرُهم بما يجب أن يقولوه، حتّى يتوافَق مع خطّة فرعون المُقرَّرة سلفًا لإسرائيل…نموذَج من رقصة كابوكي مصرية/عبِرية.
وفي النهاية، الفكِرة هي جَعْل الأمْر رسميًا مئة بالمئة ، أي أن أرض جوشن هي المكان الذي سيَتمّ تخصيصه لإسرائيل.
قراءة تكوين سبعة وأربعين بكاملِه
يبدأ الاحتفال، ويَبدأ يوسف جَدول الأعمال المُخطَّط له مُسبقًا بالإعلان رسميًا للفرعون عن وصول عائلته. وبالطبع، في الوقت المناسِب، يسأل فرعون عن مِهنتِهم. ويُجيب الإخوة الخمسة الذين اختيروا ليُمثِّلوا العائلة كلَّها، وهم يقومون بدَورهم، بأنهم رُعاة غنم، وأنهم جاءوا ليَطلبوا من فرعون أن يَسمَح لهم بالقدوم إلى مصر لأنّ المجاعة شديدة في وطنِهم، كنعان، بحيث لم يَعُد بإمكانهم البقاء على قيد الحياة هناك.
من المثير للاهتمام في الآية أربعة أنّ المصطلح المُستخدَم لوَصْف الإقامة التي يطلُبُها الإخوة العبرانيون، هو "جواز إقامة" أي الإقامة المؤقّتة، أن يكونوا ضيوفًا وليس مواطِنين. بينما كان يعقوب يعلَم أنهم سيَبقون في مصر لفترة طويلة، إما أنّه لم يكشِف ذلك لأبنائه…….الذين يتحدَّثون حاليًا مع فرعون….. أو، على الأرجح، أنهم اختاروا عدم تصديق مِثل هذا التقييم المُتشائم.
في بادِرة صداقة كريمة تَليق بالملوك، يَعرِض فرعون على بني إسرائيل أرض جوشن، وفي بادرة صداقة أخرى تليق بالملوك، لا يَستجيب فرعون لهؤلاء الرُعاة العبريين المتواضعين، بل يَتوجَّه إلى يوسف ويُعطي جوابه.
بعد ذلك، يُقدَّم يعقوب إلى فرعون من خلال اجتماع مُنفصِل عن الاجتماع الذي عَقَده الإخوة للتو مع فرعون. ويقول الكتاب المقدس أنّ يعقوب بارَك فرعون. والآن، قد يبدو هذا غريبًا بعض الشيء…لأنه يَعكِس نوعًا ما مكانتهما في الحياة. بالرّغم من أنّ يعقوب راعي متواضع وبسيط، وهو لاجئ، لن يكون له شأن أو مكان لمُبارَكة رَجُل عظيم مِثل فرعون، إلاّ أنّ الأمر تَعلّق بالاحترام الذي كان موجودًا في تلك الحَقبة للمُسنيّن. وكان يعقوب على الأرجح أكبر رَجُل مُسنّ في مصر كلّها، وربما كان أكبر رَجِل قابَل فرعون على الإطلاق. ببساطة، لا تُظهِر السجلاّت المصرية أنّ المصريين لم يعيشوا فترة طويلة مثل العبريين. في الواقع، لقد أثارت شيخوخة يعقوب فضول فرعون لدرجة أنه سأل يعقوب في الآية ثمانية: كم عمرُك؟ فأجابه يعقوب بأنّ عُمرَه مئة وثلاثين سنة، ومعظم تلك السنوات لم تكُن مُمتِعة. ولكنه يُخبِر فرعون أيضًا أنّ عُمر مئة وثلاثين سنة ليس شيئًا يُذكَر. لقد عاش أجداده إلى أعمارًا أطول منه بكثير.
إذًا، يَستقِرّ يعقوب وجميع أعضاء عَشيرته في أرض جوشن، وهناك سيَبقون لأربعة قرون قادمة.
ونعرِف الآن أنّ المجاعة كانت مُستمرَّة، بل كانت أشدّ من قَبل، وأصبح الشعب المصري والأجانب يَعتمِدون أكثر فأكثر على الحبوب التي خزَّنها يوسف لأن غلّة الأرض أصبحت أقلّ فأقلّ. ونرى أيضًا من خلال تواتر الأحداث أنّ فرعون لم يَكتفِ بامتلاك أرض مصر كلِّها، بل امتدّ نفوذ مصر إلى كنعان والشرق الأوسط لأنه بعد أن نَفَد طعام الشعب، وأموالهم، ثم بيعت مواشيهم، ثم باعوا أرضهم مقابِل الطعام، وفي النهاية باعوا أنفسهم في خِدمة الفرعون. ولكن، من المهمّ أن نُلاحظ أنه بالنسبة للقَوم الذين تَخلّوا عن أموالهم وأرضهم وحريّتهم، كان يوسف العبري هو الذي كانوا يَتعاملون معه.
وبالطبع، بالنسبة لفرعون، كانت الأرض إلى حدٍ ما عديمة الفائدة ما بدون شَخص يَرعى القطعان والمواشي التي يملِكُها الآن، ويحرُث الأرض. لذا، أدخَلَ يوسف الشعب المصري المحروم الآن في علاقة مستأجر/مؤجِّر مع فرعون فيما يتعلَّق بالأرض. وهذا يعني أنه سُمِح للشعب بالبقاء والعيش في الأرض التي تنازلوا عنها ليوسف، ولكن كان عليهم أن يُعطوا جزءًا كبيرًا من وَفْرتِها لفرعون كإيجار. هذا الترتيب، الذي يُسمّى عادةً بالقنانة، كان أقرب إلى الاستِعباد منه إلى صَفقة تجارية. فقط كهنة مصر كانوا مَعفييّن من هذا الترتيب، لأنهم كانوا في الحقيقة عبيدًا للدولة على أي حال، وكان من واجِب مصر أن ترعاهم.
والآن، على الرغم من أنّني ذكرتُ ذلك في الأسبوع الماضي، دعونا نُقدِّر لِلَحظة مكانة يوسف في نَظَر شَعب مصر، وحتّى في أجزاء من كنعان لأنّ خطَّة يوسف، ومراسيم يوسف، وتنفيذ يوسف لخُطَّتِه الخاصة هي التي جَعَلت الناس يتحوَّلون إلى فقراء وعبيد. كان وَجْه يوسف هو ذلك الذي رآه الشعب وهو يُصادر الأراضي والمواشي، فيوسف، الذي أنقذَ حياتهم خلال فترة المجاعة تلك، أصبح مالِكَهم: فهو، بِصِفَته مُمثِّل فرعون، كان يملِك أراضيهم، وكان يَملِكهم هم أيضًا.
إذا كنّا نُريد أن نرى بداية كراهية المصريين لبني إسرائيل، واللّحظة الفاصِلة التي كانت بداية الطريق الثابت نحو تحقيق نبوءة إبراهيم باستِعباد نسله، فلا بد أن تكون هذه هي اللحظة. بالطبع لم يكُن فرعون السامي الحالي ليَهتمّ بما يريده الشعب المصري. ولكن، بعد سنوات، عندما أطاح الشعب المصري بالأجانب المَكروهين، أي الهكسوس حكام مصر، ونَصّبوا فرعونًا مصريًا، أصبحوا الآن أحرارًا لرَمي أحقاد مائة عام من الغضب والحسَد المتراكمَين في وجه هؤلاء العبريين، بقيادة يوسف الذي استولى على أرضهم وحرّيَتهم.
وما يَزيد الطين بلَّة في الآية سبعة وعشرين هو أنه في نفس الوقت الذي كان الشعب المصري يُجبَر على التخلّي عن أرضه مُقابل الطعام للبقاء على قَيد الحياة، كان بنو إسرائيل يستَولون على أرض في جوشن. وفي تلك الأرض التي امتلَكوها الآن، على عكْس السكان المصريين، ازدهروا ونما عددهم بشكل كبير.
والآن نرى أنّ يعقوب سيَعيش سبعة عشرة عامًا في مصر قبْل أنْ يموت عن عُمر يُناهِز مئة وسبعة وأربعين عامًا. سيكون يعقوب، آخر الآباء، والوحيد الذي سيَموت على أرض أجنبية. ولكن، قبْل أنْ يموت، عندما عَرَف أنّ أجَلَه قد اقترَب، دعا يعقوب يوسف إلى جانبِه وَوَعده هذا الأخير ألاّ يترُكَه مدفونًا في رمال مصر، بل أن يُعاد رفاتُه إلى أرض الميعاد.
لم يكُن هناك داعٍ لأن يقلَقَ يعقوب من تنفيذ هذا الوَعد، لأنه قَبْل أن يصِل إلى مصر كان الله قد أكَّد ليعقوب أنّ هذه الأمنية ستتحقَّق.
والآن، لقد أحَبّ يعقوب الله وَوَثِق بالله؛ ولكن كيفية عَمَل الله بالضبط (فيما يتعلَّق بيعقوب) كان يَعرِفها أساسًا من المُعتقدات والتقاليد الراسخة والشائعة في جميع ثقافات الشرق الأوسط. لذا، اسمحوا لي أن أذكِّرَكم بالمسألة التي جَعَلت مَوْقع دَفْن يعقوب مهمًا للغاية بالنسبة له. لم تكُن هذه مسألة مثالية، ولم يكن الأمر يتعلق بالشرف. لم يكُن الأمر يتعلَّق حتى بالقومية، مثلما يحدُث عندما تبذُل دولة ما كل جُهد مُمكن لإعادة جنودِها الذين ماتوا في مَعرَكة على أرض أجنبية، إلى وَطَنِهم ليدفَنوا في أرضهم الأصلية.
كانت المسألة بالنسبة ليعقوب تتعلَّق بمسألة عبادة الأسلاف بالغة الأهمية. كيف كان يجب أن يُدفَن ويُجمع بأقربائه إذا كان أقرباؤه (إبراهيم وإسحاق) في كنعان وهو في مصر؟ أرواح الموتى لا تُسافِر. كيف كان يُمكِن لروحِه أن تستَمرّ بعد موتِه وتُكرَم من أبنائه وأحفاده إذا كان هؤلاء الأبناء في كنعان وروحه لا تزال في مصر؟ إن لم تتمّ رعاية الروح، فإنها ستَنتهي وسيتُبَخِّر جوهر هذا الشخص إلى الأبد. وبالإضافة إلى ذلك، كانت آلهة كل إقليم هي التي تَحكُم ممالك الموتى الخاصة بها. لذا، بالنسبة ليعقوب، أراد أن يتأكَّد من أنه سيَعود بالفِعل إلى كنعان ليعيش مع أجداده وأنّ روَحه ستَحظى بالرعاية اللائقة من قِبل نسله.
ولكن، كان على يعقوب بعض الواجبات الأخرى، بِصِفَته رئيس عشيرة، أن يؤدّيها قَبل أن يموت. كان عليه أن يَنقُل الحقوق التي كان يملِكُها كزعيم وحاكم لعائلة إسرائيل إلى جانب كونِه صاحب ثروتها، إلى الشخص الذي سيستَمرّ في الحُكم، أي أنّ حقوق المولود الأول كانت يجب أن تَنتقِل إلى القائد التالي لبني إسرائيل، ومعها البَرَكات والتعليمات للقائد التالي لبني إسرائيل، ولجميع أبنائه الاثني عشر. ما يفعَلُه يعقوب بعد ذلك، قَبل ساعات وأيام من موته، هو أمرٌ دراماتيكي للغاية وله عواقب وخِيمة وبعيدة المدى، بل وأبدية بالنسبة لنا. لا أجِدَ الكَلِمات التي تدُلّ بما فيه الكفاية على طريقة إتمام معنى ما تَبقّى من التوراة وكذلك العهد القديم كلِّه، لذا، يجب أن نفهَم أهمية الأحداث التي هي على وشك أن تتكشَّف في الأيام الأخيرة من حياة يعقوب. وبعد أن نفهَم كل ذلك، حتى العهد الجديد سيكون ذات معنى أعمق وأكثر كَمالاً بالنسبة لنا، وكذلك الأحداث الحالية التي تحصُل في إسرائيل في الوقت نفسه الذي أتحدَّث إليكم فيه.
سنَجِد تلك البَرَكات والتعليمات في الإصحاحات الثلاثة التالية التي ستَخْتَتِم سِفْر التكوين. في الأسبوع القادم سنُعايِن تلك البَرَكات بالتَفصيل.