الدرس الثاني – الإصْحاح الأول
لقد تناولنا في الأسبوع الماضي مُقدِّمة لسِفْر التثنية لكي تُعطينا بعض من السياق لدِراسته. ولكن، لا تُخطئوا: إن الأساس لتفسير هذا السِفْر الخامس من التَّوراة تفسيرًا صحيحًا هو الأسفار الأربعة السّابقة؛ فكل واحد منها يؤسِّس على الآخر. ولكن، بشكل عام، علينا أن نَنظر إلى سِفْر التثنية على أنه عِظَة عن الشَّريعة، وقد قارنْتُ لكم عِظَة الجبل التي كانت عِظَة يسوع عن الشَّريعة.
يَتناول سِفْر التثنية رِحلة بني إسرائيل في موآب، حيث يُلقي موسى خطاباته الأخيرة على شعب إسرائيل. سَوفَ تَمزج هذه الخطابات الثلاثة بين التاريخ والشَّريعة، وكما سنرى في كثير من الأحيان فإن الوقائع الدَّقيقة لبعض الحوادِث في رحلة البَرِّيَّة التي استمرَّت أربعين سنة لا يُقدِّمها موسى في نفس القالِب الذي نقرأه في أسفار التَّوراة السّابقة لأنه يُقدِّمها في ضَوء الرؤية المتأخرة.
لذا، ونحن نبدأ بقراءة الإصْحاح الأول من سِفْر التثنية، تخيَّلوا موسى وهو يَقِف على تلَّةٍ عاليةٍ في موآب، ويُطِلّ على أرض الميعاد التي تقع على مَرمى حجَر من الضِّفّة الغربية لنهر الأردن. إنه يُخاطب قادة وشيوخ بني إسرائيل على الرّغم من أن كلامه مُوَجَّه إلى جميع بني إسرائيل ليَسْمَعوه؛ لأنه في الواقع لا توجد طريقةٌ عَمَلِيَّة يُمْكِن أن يَسمع بها صَوته أكثر من بضع مئات من الناس في أفضل الأحوال.
اقرأ الإصْحاح الأول من سِفْر التثنية بأكْمله
أريد أن آخذ حوالي خمس دقائق لِشَرح ظاهِرة مُثيرة للاهْتِمام للغاية تَظهر في الآيات الخمس الأولى من سِفْر التثنية لأنها تَظهر أيضًا في بداية كل سِفْر من أسفار التَّوراة الخمسة.
والظاهِرة هي كالتالي: هناك نَمَط مُتَكَرِّر من الحروف العبرية التي تتهجّى كَلِمَة "تَوراة" في تَسَلْسُل ثابت في الآيات الخمس الأولى من سِفْر التثنية. نبدأ بالحَرْف العبري "هيه"؟ وهو الحَرْف الأخير من إسم موشيه، ثم نَعِدّ ثمانية وأربعين حَرْفاً، ونَصِل إلى الحَرْف العبري "ريش" ؟ ثمانية وأربعين حَرْفاً آخر ونَحْصل على الحَرْف العبري "فاف" ؟ ثم ثمانية وأربعين حَرْفاً آخر ونَحْصل على الحَرْف العبري "تاف" ؟ أي أننا نَحْصل على التَّوراة مكتوبة بشكل مَعكوس.
الآن لن يكون هذا مُفاجِئاً جداً لولا أننا نرى نَمَطاً مُماثلاً في بداية أسفار التَّوراة الأربعة التي تأتي قبل سِفْر التثنية. في سِفْر التَّكْوِين واحد على واحد الى خمسة نَجِد نَمَطاً مُتَكَرِّراً لكَلِمَة التَّوراة، مَكتوبة إلى الأمام (بشكل عادي)، مع تباعُد كل حَرْف يُشكِّل الكَلِمَة بين كل حَرْف وآخر تِسعة وأربعين حَرْفاً بالضَّبْط. نبدأ بالحَرْف العبري الأخير من كَلِمَة "في البدء" (بريشيت)، ثم نَحسب كل حَرْف من الحروف التسعة وأربعين فنَجِد كَلِمَة التَّوراة مكتوبة.
نفس الشيء بالضَّبْط يَحدث في سِفْر الخُروج واحد على واحد الى سِتّة؛ بدءًا من الحَرْف الأخير من الكَلِمَة الثانية (شيموت) في العبارة الافْتِتاحية "هذه هي الأسماء"، نَحصل على حَرْف التاء العبري. ثم بعدَ عَدّ تسعة وأربعين حَرْفا بالتحديد، نَحْصل على حَرْف "فاف"؛ ثم تسعة وأربعين حَرْفا آخر ونَحْصل على حَرْف "رِيْش" ثم تسعة وأربعين حَرْفا آخر ونَحْصل على حَرْف "هيه"، الذي يُشكِّل كَلِمَة توراة.
في سِفْر اللّاويّين يَتغيَّر الأمْر قليلاً. في سِفْر اللّاويّين، وهو السِفْر الكَهْنوتي، نَحْصل على الاسم الإلهي YHVH مكتوبًا بالحروف " yud-hey-vav-hey ؟؟؟؟؟ مُتَبِاعدة بِدِقّة سبعَةَ أحَرُف. نبدأ بحَرْف الياء في الكَلِمَة الأولى من سِفْر اللّاويّين "واسْتَدْعى"، ثم نَعِدّ كل حَرْف سابع ونَحْصل على اسم الله يَهْوَهْ.
عندما نَنْتقِل إلى سِفْر العَدَد، نَحْصل، كما في سِفْر التثنية، على كَلِمَة تَوْراةٍ مَكْتوبة بشكلٍ معكوس في فاصِل دقيق. بِدءاً من التِّكرار الأول لكَلِمَة "موسى" في سِفْر العَدَد، نأخذ حَرْف الهاء (الحَرْف الأخير من اسم موسى …. موشيه ….) ثم نَعدّ تسعة وأربعين حَرْفاً فنَحْصل على "رِيْش"، تسعة وأربعين حَرْفاً آخر ,نَحْصل على "فاف"، تسعة وأربعين حَرْفاً آخر ,نَحْصل على "تاف". تَهْجئة التَّوراة بالعكس.
ولكن، بعد ذلك نرى نَمَطا آخر؛ بدءًا من سِفْر التَّكْوين لدينا التَّوراة مَكتوبة بشكل مَعكوس، وفي سِفْر الخُروج التَّوراة مكتوبة بشكل مَعكوس، وفي سِفْر اللّاويّين اسم الله يَهْوَهْ، ثم في سِفْر العَدَد التَّوراة مكتوبة بشكل مَعكوس، وأخيرًا في سِفْر التثنية التَّوراة مكتوبة بشكل مَعكوس.
التَّباعُد بين تسعة وأربعين حَرْفا هو المفتاح لأنه سبعة ضَرْب سبعة. بالطّبع أن يكون العَدَد الإلهي لله هو سبعة، وأن يكون سبعة هو تباعُد الحروف في اسم الله في سِفْر اللّاويّين هو أمْرٌ مُذهل أيضًا.
ولكن، يأتي السؤال بعد ذلك، لماذا تكون المسافات في سِفْر التثنية أقل من تسعة وأربعين؟ لماذا التَّباعُد بين حروف كَلِمَة ”التَّوراة“ ثمانية وأربعين حَرْفاً وليس تسعة وأربعين؟ سأُعطيك رأيي وأودّ منك أن تَعْتبره كذلك: رأيي.
إن سِفْر التثنية يَخْتلف عن الأسفار الأربعة الأولى من حيث أن هذا السِفْر هو خُطبة موسى. فالأسفار الأربعة الأولى تتألّف بِدَرجة أو بأخرى من مَواعظ مُباشرة من الله تَسبقها كَلِمات مثل: "وقال الرَّب" كذا وكذا. أما هنا في سِفْر التثنية فالأمْر مُخْتَلِف. هذا عن قَول موسى كذا وكذا. نعم، موسى هو وسيط الله وهو يتكلَّم عن الله ولكن موسى ليس الله. لذلك فإن قيمة ما جاء في توراة موسى (تعاليم موسى) مقارنةً بقيمة ما جاء في توراة الله (تعاليم الله) هي أقّل؛ تحديدًا أقل بواحدة.
لقد سَمعنا جميعًا شيئًا ما عن رَمز الكِتاب المُقَدَّس، ولا شك أن ما قدَّمْتُه لكم ليس مُجَرَّد خَلَل في الرياضِيّات أو مُصادفة. إنه ليس مُصادفة؛ لقد تم وَضعه عَمدًا. لذلك أنا واحد مِمَّن يَرون درجةٍ ما من الصِّحة لرَمْز الكِتاب المُقَدَّس. حيث أخْتَلِف معكم عندما يُقال أن جميع أنواع تَسَلْسُل الحُروف والحروف الموجودة على الأقطار وما إلى ذلك تُشَكِّل "رمز الكِتاب المُقَدَّس“ التي تُخبرنا بالمستقبل. مع العَدَد الهائل من الكَلِمات والحروف في الكِتاب المُقَدَّس، لا شك أنه يُمْكِن للمرء أن يَجِد أنماطًا زائفة إذا بَحَث المرء بِجَدِّيّة كافية. لكنَّني لا أراها إلَهية.
من ناحية أخرى ما قدَّمتُه لك هو مَنطقي وعَقلاني وكالمُعجزة، ويَتَّفِق تمامًا مع مبادئ الله. وعلاوة على ذلك (من وجهة نظرٍ عَمَلِيَّة) من خلال دَمْج هذا النَمَط الأساسي، يُمْكِن بسهولة اكتِشاف أخطاء النَسّاخين والتَّحريرات والتزويرات يُمْكِن اكتشافها بسهولة إلى حدٍّ ما، لأن خطأً إملائيًا أو كَلِمَة مفقودة أو جملة مُعاد تَرتيبها قد تُدَمِّر التَّسَلْسُل الدَّقيق للحُروف وعَددها. إنني أرى أن النَمَط المُدْهِش الذي تَضَمَّنَته الآيات الخمس الأولى من افتتاحية كل سِفْر من أسفار التَّوراة الخمسة هو ضمان الله لنا، وأنا نوعًا ما "مدُقِّق إملائي" قديم بأن الله العظيم هو الذي أعطانا هذا الكِتاب المُقَدَّس وأنه صَحيح ودقيق.
الحمد لله أن التِّجوال قد أوْشَك على الانْتِهاء؛ فشعب إسرائيل على وشك امْتِلاك الأرض التي كانت قد خُصِّصَت لهم رسميًا في عهد إبراهيم قبل سِتَّة قُرون. ولكن حِيازة الأرض لن تأتي بِسَلام؛ فالجيش العبراني المُكَوَّن من سِتّمئة ألف رجل سيأخذ الأرض بالقوة من عدد من المُلوك والممالك الصغيرة المُخْتَلِفة والمُلوك والممالِك الجبّارة، الذين إذا ما أخذناهم معًا في مُصْطَلَح عام، فإنهم يُسمّون كنعانيّين بِبَساطة لأنهم يعيشون في المِنْطَقة العامة المعروفة باسم كنعان. ليس لدى أي من هؤلاء الناس أي نِيَّة لتَسليم أرْضهم بِبَساطة إلى بني إسرائيل لِمُجَرَّد أنهم يَزْعَمون أن إلَههم قد أعطاهم إياها على أنها مِلْكهم.
من الواضِح أن هذا الخطاب من موسى قد جاء بِمَحض إرادته. بالتأكيد، وبِصِفته وسيط الله، فَمِن حَقّه أن يُخاطب شعب الله كما يراه مناسبًا، كما كان مُقرَّرًا في العلَّيْقة المشتعلة أن كل ما تكلَّم به موسى كان كما لو أن الله تكلَّم به.
دَعونا نتناول على الفَور مَسْألتين: الأولى هي هذه المسألة وهي أن ما نَتلقّاه من موسى ليس وَحْيًا من الآب. للوَهْلة الأولى قد يكون ذلك مُزْعِجًا بعض الشيء؛ ولكن في الواقع أن الجزء الأكبر من الكِتاب المُقَدَّس لا يتألَّف من وَحي مُباشر من يَهْوَهْ، بل يتألَّف من تاريخ وقِصَص وأشعار وأغاني وَوَحي تَدْريجي والكثير من التَّعليقات عن الرَّب وَوَصاياه.
إن الوَحي هو بَيان إلهي مُباشَر لا لُبْس فيه يُنْسَب مُباشرة إلى الإله المُسَمّى. في الكِتاب المُقَدَّس أكثر الوصايا المُباشرة من الله مَوجودة في التَّوراة وهي تلك الشرائع التي أُعْطِيَت لموسى على جبل سيناء. أما أكثر الوصايا المُباشرة التالية فتأتي من مَسيح الله، يسوع في العهد الجديد؛ ومع ذلك فحتى الجِزء الأكْبر من هذه الوصايا في العهد الجديد ليست سوى تِكْرارًا وتذكيرًا بما تكلَّم به الله من خلال أنبياء العهد القديم، أو هي تفسير للشَّريعة كما أُعْطِيَت منذ زمن بعيد. بالطَّبع حيث يتعثَّر مُعظم المُؤمنين هو أنهم يَظِنّون أن ما قدَّمَه يسوع وتكلَّم به كان جديدًا تمامًا، لأنهم لم يَقرأوا أو يتعَلّموا التَّوراة والعهد القديم.
من السَّهْل إلى حدٍّ ما أن نَعرِف عندما نُواجِه وَحْيًا إلَهيًا بَدَلاً من شيء آخر لأن الوحي الإلَهي يبدأ عادةً بالكَلِمات …. "ثم قال الله"أو ”… قال يَهْوَهْ لموسى…“أو شيء من هذا القبيل. وبِعِبارة أخرى تم اسْتِدعاء اسْم الله على أنه هو الذي أمَر بأن يَحْدُث كذا وكذا أو أن شريعة جديدة قد سُنَّت. نحن نَفْتَرِض بِحَقّ أن كلام يسوع هو بِمَثابة وَحي لأنه يّدّعي أنه الله، وهو (بالطبع) أساس مَسيحيَّتنا بالكامل.
ومع ذلك لا يَسَعُنا إلا أن نُلاحِظ أن هناك فرقًا في كَيْفِيّة تقديم الله الآب (أو الكَلِمَة في صورة روح الله) عن كلامَه الإلهي في التَّوراة مُقارنةً بالطريقة التي تكلّم بها يسوع في العهد الجديد؛ لأن يسوع هو هذا الهجين الغامِض من الإنسان والإله، الكاهِن الأعظم والوسيط، العامّي والملِك. لذلك على الرّغم من أنه يُرسَم بشكل عام في الكنيسة أن يسوع ألغى الناموس القديم وأعطى البَشَر ناموسًا جديدًا، إلا أنه يقول بِوُضوح في مَتَّى خمسة على سبعة عشرة الى تسعة عشرة أن الأمْر ليس كذلك. بل ذَهب يسوع إلى فَصْل شرائع الله (كما أُعطيت لموسى) عن التقاليد التي وَضَعها البَشَر على مَرّ القرون حول تلك الشَّرائع، وهي تقاليد أَصْبَحَت أساس اليهوديّة (وكثير منها خاطئ)، وغالبًا ما كانت ضدّ روح التَّوراة. والمسيح أيضًا شَرح وفَسَّر المعنى المَقصود إلَهيًا من شرائع موسى، وكيف أن كثيرًا من كلام الأنبياء عن المسيح الآتي (الحاضِر الآن) قد تحقَّق فيه.
والمَقصود هو أن موسى (هنا في سِفْر التثنية) يتكلَّم بِصِفَته وسِيطَ الله الرَّسمي؛ ولكن موسى يَستخدم كَلِماته الخاصة (الموحى بها كما هي) ويُوجِّه هذه العناوين ليس لأن هناك شرائع جديدة آتية من الله، بل لأن موسى قرَّر أن هناك حاجة إلى ذلك في هذه المرحلة. مُعظم كلام موسى هو سَرْد لرحلة البَرِّيّة وتفسيرات مُطَوَّلة لكَيْفِيّة تطبيق الناموس على هذا الجّيل الجديد من العِبرانيّين، الذين كان مُعظمهم إما أطفالاً صغارًا أو لم يولَدوا بعد عندما تلقّى موسى الناموس لأول مرة قبل ما يقرب من أربعين سنة، هذه الشّرائع في الحالة الجديدة المُسْتَقِرّة التي هم على وَشَك أن يَجِدوا أنفسهم فيها. في كثير من الأحيان يَتَحَدَّث المسيح أيضًا باعْتِباره وسيط الله (وإن كان وسيطًا أعلى من موسى)، ولذلك فهو لا يقول إنه يَستدعي شرائع جديدة أو يُغَيِّر الشرائع القديمة أيضًا.
المسألة الثانية التي أودّ أن أتناولها تتعلَّق بما يُسَمّى بالحَرْب المُقَدَّسة التي على وشك أن يَبْدأها بنو إسرائيل لغزو أرض كنعان. يَجِب أن نَحْذر من الانْجِرار إلى نِقاش أو دِفاع عن أن الحَرْب المُقَدَّسة الحاليّة للمُسْلمين ضدّ العالَم (المُسمّاة بالجِهاد) هي نفسها التي أمَر الله بها في التَّوراة فيما يَتعلَّق بأخذ أرض كنعان. وهذه واحدة من تلك الحالات الكثيرة التي يتغيَّر فيها معنى عبارة صغيرة على مرّ السنين ويأخذ سياق مُخْتَلِف؛ ولكن هذا التَّغيير الصغير في المعنى يُمْكِن أن يكون له عواقب أكبر. لقد سَمْعْتُ مُتحدِّثين مُسلِمين ومُعَلِّقين إخباريّين وصحفيّين وحتى قَساوِسة يناقِشون الحَرْب المُقَدَّسة الإسْلامية على أنها مُماثلة للحَرْب المُقَدَّسة في التَّوراة لموسى ويسوع على كنعان.
الفَرق بين الاثنين هو كاللَيْل والنهار: الجِهاد الإسلامي يَدور حول تَحويل العالَم بالقوَّة إلى دينهم. إنه يَتعلَّق بجيش من المُسلمين يؤسِّسون بِعُنْف خُلافةٍ عالَمية (أي ثيوقراطية إسلامية للعالَم الواحد)؛ إنه يَتعلَّق بِقَتْل أولئك الذين يَختارون عدم اعْتِناق الإسلام كتعليمات مُباشرة من القرآن الكريم (على الرّغم من أن القرآن الكريم يبدو أنه يُعطي نوعًا ما مَخْرَجًا لليهود والمسيحيّين الذين قد يَنْجون بحياتهم إذا وافقوا على أن يَحْكمهم الإسلام ويَخْضَعون بالكامل للحُكومة الإسلامية).
لا يوجد في التَّوراة أي فِكرة عن غَزو كنعان من أجْل نَشْر دين العِبرانيّين للأجانب. إن هذه الحَرْب المُقَدَّسة القادِمة ليست من أجل تَحويل أصحاب الدِّيانات الكنعانيّة الوثنيّة إلى عبادة يَهْوَهْ، وقَتْل المُمْتَنِعين. بل هي بالأحْرى حَرْب على أرض؛ قطعة أرض مُحَدَّدة بشكلٍ خاص. في الواقع يَرْوي موسى بِعِنايةٍ في الآيات القادِمة كيف أن بني إسرائيل تَجَنَّبوا الصِّراع مع الأدوميّين والموآبيّين حيثما أمْكن، لأن هؤلاء الأُمَم يَمتلكون الأرض التي يَمتلكونها بِحَقّ لأن الرَّب وَضَعها جانِبًا وخَصَّصَها لهم. هل يُفاجئك هذا أن الله قد خَصَّص أرضًا مُعَيَّنة للأُمَمِيِّين، غير الإسرائيليين، ثم يَفرض حَقّهم في الاحتفاظ بها؟ حسنًا، لا يَنْبَغي أن يكون كذلك.
على الرّغم من أننا نُسَمّيه إلَه بَني إسرائيل، إلا أن يَهْوَهْ يوضِح أنه إلَه الجميع وكل شَيء؛ وأن سُلْطانه هو الأعلى على الأرض والكَون وما وَراءه. لذلك فهو بالطَّبع قد حَدَّد مُسبقًا من سَيَعيش أين ومَتى وتحت أي ظروف وما إلى ذلك، وهذا يَشْمُل الأُمَميّين والعِبرانيّين على حَدٍّ سواء. المكان الذي حَدَّدَه للعبرانيّين هو كنعان.
لذلك يَجِب ألا نَقَع أبدًا فَريسةً للحِجَّة الخادِعة بأن ما يَفْعله الإسلام حاليًا يُشبه، بطريقة ما، ما كان يَفعله العبرانيّون عندما غَزوا كنعان. ولا يَنْبغي لنا أن نَتَصور أن الإرْهاب أو هَدَف الإرهابيّين وعَقْليَّتهم شبيهة بِغَزو كنعان في زمن التَّوراة. كان من المُفْتَرَض أن يكون مَلَكوت الله الدُّنْيَوي الوحيد ضِمن الحدود المُحَدَّدة جيدًا لما كان مُسجَّلاً حاليًا على أنه أرض كنعان، وليس خارِجها. لم يكن هناك أمْر بتَهويد الكنعانيين، ولم يَكن هناك أمْر بارْتِكاب إبادة جَماعيّة ضدَّهم. كان الهَدَف هو طَرْد الأمَميّين من كنعان؛ فقط أولئك الذين اخْتاروا البقاء والقِتال حتى المَوت بدلاً من المُغادرة كانوا عِرْضةً للقتل.
والآن اسْمَعوني من فَضْلكم: في مُفارقة ربما تكون الأغْرَبُ من نَوعها، ليس "إلَه العهد القديم" هو الذي قال لكنعان وغَيره من الأجانب: "اهْتَدوا أو مُوتوا“ كما يَظن الكثير من المسيحيّين المُضَلَّلين (وهو في صَميم الكثير من الآراء المَسيحيّة حول الكِتاب المُقَدَّس والنَّاموس والشعب اليهودي)؛ بل إن السيناريو الوحيد الذي يَقوله الله "اهْتَدوا أو موتوا" في الكِتاب المُقَدَّس هو في العهد الجديد، في سِفْر الرؤيا، عندما يَقود يسوع المسيح القِدِّيسِين في حَرْب مُقَدَّسة (تُسَمّى عادةً هَرْمجدون) حيث لا يُسمح فيها بالبقاء على قيد الحياة على وجه الأرض إلا لِمَن يَقبلون يسوع ربًّا وسيِّدًا. هَرْمجدون هي مَعْرَكَة من أجل الأرْض كلّها، وليس من أجل كنعان. لا يوجد مكان يَنْتَقِل إليه أولئك الذين يُعادون الرَّب.
سَيَقود موسى لفترة قَصيرة، ومن ثم رَبيبَه يشوع شعب الله في مَعْرَكَة من أجل مَمْلكة أرضيّة تقع في مكان مُحَدَّد. لقد أمَرَنا يسوع، نحن تلاميذه، أن نَقود شعب الله في مَعْرَكَة من أجل مَلَكوت روحي. كان يشوع (واسْمَه العبري هو يهوشع) يقود مَعْرَكَةً باسْتِخْدام الرِّماح والسُّيوف؛ أما يسوع (واسْمه العبري هو يهوشع) فقد أمَرَنا أن نَضع رِماحنا وسُيوفنا جانبًا ونقود مَعْرَكَةً باسْتِخْدام إيماننا في المقام الأول، والحقّ الإنجيلي وأعمال المَحَبّة. ومع ذلك، عندما يعود يسوع سيَخوض حَرْبًا جَسَديّة دَمَويَّة تمامًا كما كان موسى ويشوع على وشك أن يفعلوا.
هناك أمْرُ آخر عن الحَرْب المُقَدَّسة (وأنا أفعل هذا لأنه في صَميم السَّبَب في أن أسفار التَّوراة يُساء فهمها كثيرًا وأن الإنجيل يُساء فهمه): الحَرْب المُقَدَّسة ليست حَرْبًا تُقاد باسم الله، بل هي حَرْب يقودها الله بالفعل. أي أنه من الواضِح في التَّوراة أن الله قد سَبَق موسى ويشوع لهزيمة أولئك الذين يُراد هزيمتهم. أن كل ما تبقَّى لبني إسرائيل في حَرْب مُقَدَّسة هو أن يَدْخلوا ويَلْتَقِطوا الأشلاء؛ فالله سَيُسلِّم العدو في أيديهم. من الواضِح أن الله هو القائد الأعلى للجيش الإسرائيلي، ومن الواضِح أيضًا أن هذه الحَرْب المُقَدَّسة مَرْسومة بِوَحي مُباشر من الله (ليست باخْتيار موسى أو بني إسرائيل).
إحْدى خَصائص هذه الحَرْب المُقَدَّسة التَّوْراتِيَّة الحقيقيّة هي أن شريعة الحِرْم قائمة. تَنصّ شريعة الحِرْم على أن الغَنيمة المأسورة يَجِب أن تُتلَف، وهذا لأنه بما أن الرَّب هو القائد الأعلى، فإن كل شيء مِلْكٌ له. في التَّفكير العبري، الرَّب الإله هو مُحارِب بالمعنى الحَرْفي للكَلِمَة. إن إهلاك الغنيمة هو بمثابة ذبيحة للقائد الأعلى، يَهْوَهْ، لأن الحَرْب المُقَدَّسة التَّوْراتِيَّة لا علاقة لها بالكَسْب المادّي. إذًا الحَرْب المُقَدَّسة التَّوْراتِيَّة (من النوع التَّوْراتِي على أي حال) ليست حَرْبًا هدفها الاهْتِداء الدّيني، ولا انتزاع الثَّروات والجِزية من المَهْزومِين، ولا اسْتِعباد العدو. كما أنها ليست حَرْبًا لتحديد من يَنتصر فيها؛ فالنتيجة قد حُسِمَت بالفعل.
ولكن عادةً عندما نرى ما يُسَمّى بـ "الحروب المُقَدَّسة" التي تُخاض باسم الله (على الرّغم من عَدَم وُجود أي وَحي من الله على الإطلاق لبدء مثل هذا الصِّراع)، فإن هذه الحروب ذات طابع مُخْتَلِف تمامًا عن تلك الحروب المُقَدَّسة التي يَقودها الله. تلك التي تُخاض "باسم الله" تبدو في بعض الأحيان أشبه بالجِهاد الإسلامي. إنها تَدور في بعض الأحيان حول التَّنْصير القَسْري والاسْتِعْباد وأخذ الغنائم ودَفْع الجِزية من قِبَل العدو (الحروب الصَّليبيَّة هي مَسعى من هذا القبيل، ومَحاكم التَّفْتيش مَسعى آخر).
في الآية الثالثة نَحْصل على التاريخ الوحيد المُعطى لنا في سِفْر التثنية: لقد كان اليوم الأول من الشهرالحادي عشر من السنة الأربعين هو اليوم الأول من الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين التي يُلقى فيها هذا الخِطاب الخاص بموسى. الآن فقط لنَكون واضحين، هذا لا يعني أنه قد مرَّت أربعون سنة وإحدى عشر شهراً منذ خُروجهم من مصر. الطريقة التي يَحسب بها الكِتاب المُقَدَّس السَّنوات (وكذلك عِلْم الآثار) هي أن السَنَة الأولى تبدأ في اليوم الأول وتنتهي في اليوم الأخير من الشهر الحادي عشر. لذلك عندما خَرج بنو إسرائيل من مصر لمدة ثلاثة أشهر مثلاً، كان يُمْكِن أن يُسَمّى الشهر الثالث من السنة الأولى. بعبارة أخرى لا توجد سنة تُسَمّى "صِفر".
لذلك فإن ما قيل لنا هو أن بني إسرائيل قد غابوا عن مصر لمُدَّة تِسعة وثلاثين سنة وإحدى عشر شهراً (شهر واحد آخر وستكون أربعون سنة بالضَّبْط). ونَعرف أن الحروب مع مِديان والأموريّين قد أَصْبَحَت وَراءهم لأن الآية الرابعة تَتَحدّث عن هزيمة سيحون وعوج، لذلك لدينا علامة جَيِّدة في الزمن.
نبدأ في الآية السادسة باسْتِعادة الرّحلة عبر البَرِّيّة، وهي تَتضمّن تذكيرًا بالأعمال العظيمة التي قام بها الله لكي يَراه بنو إسرائيل إلَهَهُم. ليس من المُسْتَغرَب أن يبدأ بالجزء الأول من الرّحلة، وبالتالي فهو لا يَتَحَدَّث عن شعب جيل بني إسرائيل الواقِف الآن أمام موسى في موآب، بل عن الجّيل الأول من الخُروج (الجّيل السّابِق للجّيل الذي يُخاطبه الآن) الذين ماتوا جميعًا الآن وذَهَبوا. ويُذكّرهم موسى بأن الله قد أخْبَر بني إسرائيل (بطريقة غير صَبورة إلى حدٍّ ما) أن الوقت قد حان لِتَرْك جبل سيناء والانْتِقال إلى أرض الميعاد التي أعَدَّها لهم منذ زمن طويل.
النِقْطة التي لم تَغِب عن ذِهْن هذا الجّيل الجديد من بني إسرائيل هي أنه كان بإمكانهم أن يولَدوا داخل أرض اللَّبَن والعَسَل بدلاً من أن يكونوا داخل خَيْمَة من جِلْد الماعِز على دَرْبٍ مُغبَّر بِجِوار واحة صَحْراويّة لو كان آباؤهم مُطيعين. كان ينبغي أن يكون بنو إسرائيل قد اسْتَوْطنوا بالفعل في كنعان، مُتَمَتِّعين بثمار الأرض، قبل حوالي ثمانية وثلاثين سنة أو ما يُقارِب ذلك. لا نَغْفل أنا وأنتم عن المَغزى من هذا لأنه يَنْطَبِق علينا مُباشرة وعلى تَرَدُّدِنا في التَّمَسُّك بالانْتِصارات التي أعطانا إياها الله بالفعل، بل يَنْتَظِر منا أن نَتقدَّم ونُطالِب بها بالفعل والعمل.
كان بنو إسرائيل أساسًا خاملين روحيًّا وجَسَديًّا لمدّة أربعين عامًا لأنهم كانوا يَفْتَقِرون إلى الإيمان. كانوا يَسيرون في دوائر، ويُحدِّدون الوقت وبالكاد يعيشون. لم يكونوا أقرب إلى أرض الميعاد في السنة الأربعين مما كانوا عليه بعد سنة واحدة فقط من مُغادرتهم مصر. قبل ثمانية وثلاثين عامًا بدلاً من أن يَدخلوا في وعد الله كما طَلَب منهم الرَّب، قالوا: ”لا شكراً، يبدو الأمْر مُخيفاً قليلاً ….. نُفَكِّر أننا سنَعود إلى حياتنا السّابقة في مصر". كما ترى كانت المُشكلة أن الجّيل الأول آمنوا بالله، لكنّهم لم يَثِقوا به. لقد أزْعَجوا موسى (ويَهْوَهْ) باسْتمرار بِطَرح السؤال البلاغي "لماذا أحْضرَنا الله إلى هنا في البَرِّيّة لنَموت فقط"؟ لقد عَرفوا من هو يَهْوَهْ، وآمَنوا بِوُجوده وأنه إلَهَهم. لكنّهم لم يثقوا في قِدْرته على العِناية بهم أو تَصميمه على حِمايتهم وإرشادهم. وهكذا استغرق الأمْر أربعين عامًا حتى حَصَل بنو إسرائيل على ما كان يُمْكِن أن يَحصلوا عليه قبل ذلك بكثير. وقد عَبّر يعقوب أخو يسوع عن هذا الأمْر بطريقة أخرى في إنجيل يعقوب إثنين على تسعة عشرة: " أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ!" عشرين: " وَلكِنْ هَلْ تُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْبَاطِلُ أَنَّ الإِيمَانَ بِدُونِ أَعْمَال مَيِّتٌ"؟
يَبقى هذا المبدأ الإلهي للإيمان السَّلْبي مُقابل الإيمان الفعليّ. قبول الفداء شيء؛ العمل على الالتزامات التي عليك الآن تِجاه الله كشَخص مفدي؛ وعلى وصايا الله التي هي في الحقيقة للمُفديين فقط على أي حال، شيء آخر. لقد افتُدي بنو إسرائيل قبل أن يُعطيهم الله شرائعه وأوامِره. لكن، حتى كشعب مُفتَدى كانوا عديمي الفائدة تمامًا للرَّب ومَلَكوته ومَقاصده لهم حتى كانوا مُسْتَعدين للثقة بالله والتَّصَرُّف بناءً على هذه الثقة.
لا يُمْكِنني أن أؤكِّد بما فيه الكفاية أن المَوقف السَّلبي الحديث الحالي للمسيحيّة خاطئ وعاجِز. لقد قَلَبَت تعاليمُنا حَرْفياً مبدأ الله المُعَبَّر عنه هنا، رأساً على عقب. لقد جَعلنا من قُبولنا لفِداء الله (خلاصنا) أوّل وآخر التِزامات أو أعمال الطّاعة للرَّب التي هناك حاجة إليها أو أنها مطلوبة في سَيْرنا معه. لا، لا، أولاً نحن نَقْبَل فِداءنا (وكما يقول بولُس، هذا لا يُعتبَر في الحقيقة عَملاً أو عملاً صالحًا من جانِبنا) وبمُجَرَّد أن يَحْدُث ذلك، يُتوقَّع منا الآن أن نتصرَّف بناءً على ثِقَتنا بالله. وخَمِّنوا ماذا يَحدث إذا لم نتصرَّف؟ نحن في الأساس نَدخل في حالة من السُّكون. هل تريد أن نُخَلَّص ثم نَدخل في حالة خُمول؟ لا بأس. الرَّب لديه اسم لذلك: إنه يُسَمّى "التمرُّد".
عندما يتمّ افتداؤنا ثم نُعطى العِلِم أن كل شخص مُفتَدى أخيرًا لديه التزامات يَجِب أن يفي بها، وكل شخص لديه هَدف من اختياره للمَلَكوت، فإن عدم السَّعي وراء تلك الالتزامات هو عِصْيان. هل تَتساءل لماذا كُنْت مسيحيًا لمدة عشرة أو عشرين سنة أو أكثر ولا يبدو أنك تقدَّمْت في مَسيرتك أكثر ممّا كنتَ عليه عندما خُلِّصت لأول مرة؟ هل تَشعر وكأنك تَسير في دوائر مثل بني إسرائيل وتَعرف في قلبك أنه لا يوجد فَرق مَلْحوظ بَيْنَك وبين العالَم؟ إذًا لدي سؤال لك: ماذا تَفعل؟ إذا كنت لا تتصّرّف وفقًا لإرادة الله، فأنت بالضَّبْط حيث كان بنو إسرائيل لمُدَّة أربعين عامًا. إذا كنت لا تَثِق بالله وتُصِرّ على البقاء على الهامِش فهذا عصيان. أنت تائه والله يَنتظر، ويُمْكِنه أن ينتظر وقتًا أطول بكثير مما يُمْكِنك أن تَتيه. ولكن، يا لِبُؤس حالِنا عندما نَختار هذا الطريق. ما أتْعَس بني إسرائيل الذين لم يَستطيعوا أن يُدرِكوا أن الإيمان بالله ليس هو نفسه الثِّقة بالله بما فيه الكفاية ليَعيشوه. والفِداء ليس عَملاً صالحًا من عَمَل الإنسان؛ كان الفِداء آنذاك، ولا يزال حتى اليوم، عَمَلًا صالحًا من الله. أعمالُنا الصّالحة هي ما يَحْدُث بعد الفِداء. وبدون تلك الأعمال الصالِحة، كما يقول يعقوب، يكون إيماننا إيماناً مَيِتاً.
في الآيتين السادسة والسابعة، يحدِّد موسى مناطق الأرض التي من المُفْتَرَض أن يأخذها بنو إسرائيل: أوّل ما يُذكر هو "بلاد الأموريّين". هذا أمر أساسي لفَهْمنا في عَصرنا هذا لأن هذه هي المِنْطَقة التي تكاد تكون بالضَّبْط ما يُسَمّى اليوم "الضِّفّة الغربية".
وبالطَّبع ألا تَعلمون أن ما يُسَمّى بالفلسطينيّين يُطالبون بهذه الأرض ويقولون إن اليهود ليس لهم حَق فيها. لقد ذُكرَت بلاد تلال الأموريين أولاً لأنها ستُصبح قلب إسرائيل. حتى بعد زمن المَلِك سليمان عندما انْقسم بنو إسرائيل إلى مَملكتَين (أفرايم-إسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب)، سَتَتداخل بلاد التِّلال هذه مع المَملكتَين. إنها جَبَلية ومُعتدلة المُناخ وخَصبة وتتوفّر فيها مياه جَيِّدة. عندما يَتَحَدَّث الرَّب عن جبال إسرائيل فإن الضِّفّة الغربية هي المِنْطَقة التي يتمّ وَصفها.
تليها أرض العَرَبة التي تقع مُعظَمُها شمال البحر المَيِّت، وتَشْمُل وادي الأردن والتِّلال المُحيطة به؛ وهي مِنْطَقة أخرى غنيَّة وخَصبة وجميلة للغاية.
أما الشَّفلة، فهي تلك المِنْطَقة من الأرض التي يُمْكِن أن نُطلق عليها اسم "سُفوح التِّلال" التي تمتدّ على طول ساحل البحر الأبيض المُتوسِّط، وهي مُهِمّة لأنها كانت تَحتوي على مَوانئ ومَرافئ حَيويّة تَسْمح بالتجارة والسَّفَر عبر الطُّرق البحرية إلى جُزُر البحر الأبيض المُتوسِّط، وجنوبًا إلى القارة الأفريقيّة وشمالاً إلى مناطقٍ مثل تركيا في العصر الحديث.
كما أن النَّقب مَشمولة في أرض الميعاد (وبالمُناسبة، من فَضلك لا تُطلِق على هذه المِنْطَقة اسم النَّقَب؛ ففي العبرية لا يوجد حَرْف "ج". إن جميع أصوات حرف الجيم هي جيم شديدة كما في كلمة "غُووْت" أو "غو"، لذا، تُنطق نَ-قَب). والنَّقب هي مِنْطَقة عامة تقع جنوب المناطق الجَّبليَّة وتمتدّ حتى شِبْه جزيرة سيناء؛ وهي صَحْراويّة في مُعْظَمها وهي المِنْطَقة التي يقع فيها بئر السبع وقادش-برنيع.
وأخيراً لاحِظ أنه يَتَحَدَّث عن ساحل بَحر الكنعانيّين ولبنان حتى النَّهر الكبير. النَّهر العظيم ليس نهر النيل، بل هو نهر الفُرات. وهذا أمْر مَنْطِقي. أرض الميعاد التي يَرسمها الرَّب تَمتدّ إلى الشمال أكثر مِمّا نتصوَّرها عادة، وهي تَشمل سوريا ولبنان في العَصْر الحديث. يُشار إلى لبنان أحيانًا في الكِتاب المُقَدَّس بإسْم ليبو- حماة. يتدفَّق نهر الفُرات في الواقع عبر سوريا في طريقه إلى تركيا. وخلال عَهْدَي داوود وسليمان، كانت هذه المِنْطَقة بالفِعْل جِزءًا من إسرائيل (باستثناء جزء من الساحل البَحري الشمالي الذي أصْبَح فينيقيا).
لقد ناقَشْنا قبل بُضْعة أسابيع أن وَصَفَ التَّوراة لأرض الميعاد يَخْتَلِف عن وَصف حزقيال لأرض الميعاد. والفَرْق في جَوهره هو أن الأرض في حزقيال تَمتدّ إلى حدٍّ ما إلى الشَّرق أكثر ممّا وَرَد في التَّوراة. وقد قَدَّمْت تفسيرًا بأن نَسخة حزقيال تَحْدُث في زَمَن المَلَكوت الألْفي. على أي حال، لو أن بني إسرائيل اتَّبَعوا تعليمات الرَّب وهم يُحاولون غزو كنعان لَما كانوا يَتقاتلون على فُتات من الأرض كما هو الحال اليوم؛ كانوا سيَمْتَلكون كل الأرض من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، ومن حافَّة شبه جزيرة سيناء حتى الحُدود الجنوبية لتركيا، وهي مَساحة كبيرة يُمْكِن الدِّفاع عنها.
من الآيات تِسعة الى ثمانية عشرة يَسرد موسى كيف نظّم بني إسرائيل، وكيف أقام تَسَلْسُلاً هَرَمِيًّا للحُكومة والقِيادة. لن نَخوض في التَّفاصيل، ولكن من المُفيد أن هذا لا يَتْبَع بالضَّبْط ما رأيْناه في سِفْر العَدَد؛ على سبيل المثال في سِفْر العَدَد يُقال أن يثرون والِد زوجة موسى كان يُلاحظ أن موسى هو القاضي والحَكَم الوحيد لبني إسرائيل، وكان الشعب يَقِف في طَوابير طويلة من شُروق الشَّمس إلى غُروبها في انِتِظار أن يَنْظُر في أمورِهم. وكان يثرون هو الذي أخْبَرَ موسى أنه بِحاجة إلى تَفويض السُّلْطة واقْتَرَح نِظامًا للقيام بذلك.
في رِواية سِفْر التثنية يقول موسى، في جَوهرها، أنه شعر بالإحْباط والإرْهاق من عَمَلِيَّة القَضاء، وأخبَرَ زُعَماء القبائل أنه بِحاجة إلى المُساعدة. ولذلك أنشأ التَّسَلْسُل الهَرَمي للقَضاء/القيادة العِلْمانيَّة، والذي كان سَيَشمل المئات والمئات من الرِّجال من كل قبيلة. بل أكثر من ذلك، بينما في سِفْر العَدَد لدينا تلميح إلى أن الشعب كان له رأي كبير في اخْتِيار هؤلاء القادة والقُضاة، هنا في الآية الثالثة عشرة يقول موسى صَراحةً أنه قال للشعب "أن يختاروا" أولئك الذين سيَكونون في السُّلطة عليهم. إذا كان هناك أبدًا وَصْف ومثال قوي لنظام حِكْم ديمقراطي (أو رُبَّما أفضل، نظام حكم تمثيلي) في الكِتاب المُقَدَّس، فهذا هو.
ثم يقول موسى أنه أخذ زُعماء القبائل (أي الرِّجال الذين وَرثوا حقوق السُّلطة بين قَبيلتهم)، بالإضافة إلى رِجال حُكَماء وأُمَناء، اختارَهم الشعب وعَيَّنَهم كقادة. لذا، من الواضِح أن موسى كان له مُساهمة في هذه العَمَلِيَّة، ومن المُحْتَمَل أنه كان بإمكانه أن يَقترح بعض الرِّجال ويَرفض آخرين كقادة.
ويوضِح كذلك أن هؤلاء القادة على كل مُستوى (حسب مجال مَسؤوليتهم بالضَّبْط) يَجِب أن يكونوا رِجالاً مُسْتَقيمين؛ رجالاً يَستمعون بعناية واحترام، ثم يُقرِّرون بعد ذلك بِعدالة. علاوة على ذلك، ليس عليهم أن يُفَضِّلوا إسرائيليًا على أجْنَبي أو العَكْس. وليس عليهم أن يُراعوا المكانة الاجتماعية، وألا يُفَضِّلوا غنيًّا على فقير. ثم هناك جملة صغيرة مَدفونة في الآية السابعة عشرة تَشرح حقًا شيئًا وَضَعه اليهود والمسيحيّون جانبًا، كلٌ لأسْبابه الخاصة، ونَتَج عن ذلك نتائج مأساوية "لا تخافوا من أحد لأن الدَّيْنونة لله".
وبِعِبارة أخرى، بما أن الله والله وَحده هو المُشَرِّع، فإن على قادة بني إسرائيل المُختارين أن يَتبعوا شرائع الله ويُطَبِّقوا العواقِب المُناسبة التي تترتَّب على كل مُخالفة. إن عواقِب اتباع شرائع الله هي التي يَجِب أن يَهْتم بها الله، وليس هؤلاء القادة.
ليس على البَشَر أن يُقَرِّروا ما هو صَواب وما هو خطأ: عليهم بِبَساطة أن يُطَبِّقوا ما أخْبَرَهم الله بالفعل أنه صواب وخطأ في عَيْنَيه. ما هو صواب وما هو خطأ في نَظَر الرجال ليس له تأثير يُذْكَر في عَمَلِيَّة الحِكم.
اسْمَحوا لي أن أضَع هذا بطريقة أخرى: كان لا بدّ من إعطاء الناموس (التَّوراة) أولاً قبل إنشاء نِظام الحكم، وإلا فلن يَستطيع البَشَر إقامة العدل بشكل صحيح. إن عدالة الله مُغَلَّفةٌ تمامًا في شرائعه. نواميسه ليست مُجَرَّد قوانين وفرائض ميكانيكيّة أو نظام آليّ من الأوامِر والنَّواهي؛ جزء لا يتجزأ من الناموس هو رَغبة الرَّب ودَعْوته للرَّحْمة والمَحَبَّة والنِّعمة والغُفْران. اليوم، دولة إسرائيل اليهوديّة عِلمانيّة بالكامِل تقريبًا ولا تولي اعتبارًا لشرائع الله، لذلك اخْتَرَعوا نظامهم الخاص ووَضعوا مُثُلهم الخاصة وفقًا لفَلْسفاتهم الخاصّة، والنَّتائج واضِحة. لقد أصْبَحنا داخل المسيحيّة مُنْقَسِمين إلى آلاف الطوائف حَرْفيًا، وأَصْبَحَت الوِحْدة والأُخُوَّة ذِكرى بعيدة المنال؛ بل إن بعض الطوائف تنكر حتى يسوع كمُخلِّص، والبعض الآخر ينكر أُلوهيَّته، والبعض الآخر ينكر كَلِمَة الله المَكْتوبة باعْتِبارها مَعْصومة أو حتى باعْتبارها أكثر من مُجَرَّد قصيدة وخُرافة. يَنْكُر جميع المسيحيّين تقريبًا أن نِظام عدالة الله لم يَعُد مَوجودًا. وهنا تَكْمُن المُشْكِلة. بِوَضْعنا شريعة الله جانبًا في الكنيسة، لا يُمْكِننا أن "لا نخشى أحدًا، لأن الدَّيْنونة لله". بدلاً من ذلك، فإن أحْكامنا هي من البَشَر الذين يَسْتخدمون الأنظِمة الداخلية لطائفةٍ مُعَيَّنة ومواد الإيمان كمِعيارٍ لهم، بناءً على الاعْتِقاد بأن ما نَفعله هو بِحَسَب ما يبدو صَحيحًا "لِقُلوبنا". ونتائج تَنْحِية قوانين الله جانبًا لصالح ما يَكْمُن في "قُلوبنا" واضِحة.
سنُواصِل في الإصْحاح الأول في المرّة القادمة.