سِفْر التثنية
الدَرس واحد وأربعون – الإصحاحان تِسعة وعشرون وثلاثون
نَستمِرّ اليَوم في دراستِنا لسِفْر التثنية تسعة وعِشرين حيثُ يَعرُض موسى لَعَنات الشَريعة وبَركاتِها بِشَكلٍ موجز. جميع بني إسرائيل حاضِرون، حتّى الأجانِب الذين انضَمّوا إلى إسرائيل، في هذه العِظَة التَحريضيّة التي يُلقيها قائد إسرائيل المَمسوح الذي شارَفَتْ حياتُه على الانتِهاء.
لقد كان يُذكِّر هذا الجيل الثاني من الخُروج (وقليلٌ مِنهم فقط شَهِدوا شَخصياً الأهوال التي حَلَّت بالمصريين) بأنّ هذه الضَرَبات على مصر كانت غَضَب الله من أجل خلاص إسرائيل من العَدوّ. ومَع ذلك فإنّ الرَب سيُنْزِل كل هذه الدَينونات على بَني إسرائيل أيضًا إذا فَشِلوا في الالتِزام بشُروط العَهد الموسَوي. ليس هذا فَحسْب، بل إنَّه سيُعيد إسرائيل إلى العَدُو (المُشار إليه هنا مَجازًا باسم مَصر)؛ أي أنّ إسرائيل ستُنفى من أرض الميعاد الّتي هي على وَشَك احتلالِها وبدلاً من ذلك ستُجبَر على العَيش في عُبودية لشَعب آخر في أرْض أخرى.
لقد أنْهَينا درسَنا الأخير بمُناقشَة الآية اثنان وعشرون حيث ستُعاني أرض الميعاد نفسُها من لعنات الله مع الشَعب. لن تُنتِج التُربة وستَكون كما هو الحال مع أرْض سَدوم وعَمورة؛ مَيتة وعَقيمة. كان عامِل هذا العُقْم في سَدوم وعمورة هو الكَبريت والمِلح، وستُصبِح تُربة إسرائيل كما لو أنّ عدوًا ما قد رَشَّ فيها الكَبريت والِملح.
من حقائق التاريخ أنّه منذُ احتِلال إسرائيل لأرْض كَنعان تَحت قيادة يوشَع، كانت المرَّات الوحيدة التي كانَت فيها أرض إسرائيل خَصْبة ومُثمِرة هي عندما كان بَنُو إسرائيل يَعيشون هناك. في كلّ مرَّة تم نَفيُهم فيها كانت الأرض تَبور. إسرائيل الشَعب بِدون إسرائيل الأرْض غَير مُكتمِل. بدأت المَزارع الجَميلة والدفيئات الزِراعية التي تُهيمِن على المناظر الطبيعية في إسرائيل اليَومْ في الظُهور مرَّة أخرى فقط في أوائل القَرْن العشرين عندما بدأ اليَهود في البَحث عن مَلجأ بعد مِحنتِهمِ في أوروبا. ومع قدوم المَزيد منهُم، بدا أنّ الأرْض تَستجيب كما تَستجيب ضحيَّة الالتهاب الرئوي بِشَكلٍ واضِح للمُضادّات الحَيَوية الحديثة. تمّ تَجفيف المُستنقعات المليئة بالملاريا وأصبَحت أراضٍ زراعية؛ وأزْهَرَت الصحراء وأصبَحَت سفوح التِلال مَزروعة بأشجار الزيتون والفُستق الحَلبي، وحتّى المانجو والموز.
قد يَكون من المُفاجئ أنّ قِطاع غزَّة أصبَح يُعرَف باسم الدفيئة الخضراء لإسرائيل فقَد أنتَجَت حوالى نِصف المُنتَجات الغذائية الكوشر لإسرائيل. وفي الفَترة القَصيرة التي تَلَت رُضوخ إسرائيل للضُغوط الدولية وإخلائه وتَسليمِه للفلسطينيين، انخَفَض إنتاج الغِذاء بِشَكلٍ كَبير لدرَجَة أنه لم يَعُد بإمكانِه حتّى إطعام سُكّان غَزَّة الفَلسطينيين القَليلين نوعًا ما.
دعونا نُعيد قراءة مَقطَع قَصير من سِفْر التثنية الإصحاح تسعة وعشرين لِنَستوضِح الأمر.
أعِد قراءة سِفْر التثنية الإصحاح تسعة وعشرون حتّى النِهاية
نحن نَعلَم من العديد من الوثائق القديمة المُكتشفَة في الشَرق الأوسط أنّ العَديد من الأُمَم استَخدَمَت هذا الشَكْل المُتعارَف عليه في معاهداتِها التي نَصَّت على تَهديدات حول ما سيَحدُث إذا انتَهَكت المَدينة أو الدولة الخاضِعة شروط المُعاهدة وبالتالي جَلَبت عليها غَضَب المَلِك الأقوى الذي كان يَحكُمها. لقد كان بإمكانِها أن تَكون واضِحة ومُحدَّدة للغاية بشأن النتائج الرَهيبة التي قد تترتَّب على التَمرُّد، ولذلك لا يَنبغي أن نَتفاجأ عندما نرى نفْس النَمَط فيما يتعلَّق بالله وإسرائيل وبَرَكات ولعنات العَهْد بَينهُما.
إنّ الفَرْق بين المُعاهدات الدُنيَوية القِياسية التي أُبْرِمَت مع الدول التابِعة والإمبراطوريَّات التي كانت تُسيطِر عليها، مُقابِل ما يُعلَن في سِفْر التثنية، هو أنّ الأحداث المُتوخَّاة بالضَبط لانتِهاك المُعاهدة كانت نَبَويَّة بالنِسبة لإسرائيل. في تلك المُعاهدات الدُنيوية بين الأُمَم كانت هناك تَهديدات مُبالَغ فيها مُصمَّمة لإثارة الخَوف على أمَل إبقاء الَمقهورين خاضِعين. ولكن في حالة سِفْر التثنية كان الله يَتحدَّث إلى إسرائيل وهو لا يُطلِق تَهديدات فارِغة، أو يَنتقِم بعَواقِب جائرة قاسية بِشَكلٍ مُفرِط كوَسيلة للسَيطرة. نَجِد أنّ كلّ ما قال يَهوَه أنّ إسرائيل سَتفعلُه، تَمّ، وكل ما سيَفعلُه بها نتيجة تمرُّدِها، تَمّ أيضًا.
تَنُصُّ هذه الآيات على أنّ مستوى الدَمار الذي سيَحُلّ بإسرائيل بسبب تَمرُّدها سيَكون لدَرَجة أنّ الأجانِب الذين يُسافرون إلى إسرائيل، والجيل القادِم من بَني إسرائيل الذين سيَتحمَّلون عبء هذه اللعنات، سيَتساءلون عن سَبَب حدوث ذلك. إنّ سَبب هذا الاندِهاش ممّا حَدَث لإسرائيل ذو شِقَّين: أولاً لأنه أصبَحَ واضِحًا لجيران إسرائيل أنّ إله إسرائيل كان قويًّا جدًا وأنّه بارَكَ الأرض بِخَصْب أكثَر مما كانت تَتمتَّع به من قَبْل. وثانيًا أنه لم يكُن من المَنطقي أن يَنقلِب إله إسرائيل بعدَ ذلك ويأتي ضِدَّ شعبِهِ الذي بَذَل كل هذا الجُهد العظيم لتَأسيسهِ في كِنعان. وهنا يُطرَح السؤال: ”ما مَعنى هذا الغَضَب (من الله)؟“ وبعِبارة أخرى، ما الذي يُمكِن أن يكون قَد فعلَهُ بَنو إسرائيل ليَحُلّ هذا الغَضَب على رؤوسهم؟ جيران إسرائيل وأحفادهُم لن يَفهَموا ما الخطأ الذي ارتَكبتْه إسرائيل.
طريقة حُدوث التَمرُّد على الله مُثيرة للاهتمام؛ في كثيرٍ من الأحيان لا يَكون الأمْر دْراماتيكيًا بل يَكون خفيًّا ويَبدو طبيعيًا تمامًا. التَمرُّد يُمكِن أن يَمُرّ دون أن يُعترَف به لأنّه في بعضِ الأحيان يَبدو وكأنّه وَرَع في طبيعتِه لأنّ غالبيّة الناس يوافِقون عليه ويَمضون قُدُماً في غَفْلة عن مَوقِفِهم غير المُستقِرّ. حتّى في الحالات الأكثر تَطَرُّفًا مِثل مَحاكم التَفتيش التي أحْرَقَت فيها الكنيسة آلاف الأشخاص على الوتَد وسَجَنَت وعَذَّبت آلافًا لا حَصْر لها وَسَعَتْ إلى طَرْد اليَهود من أوروبا، تَساءل قليلون داخِل الكَنيسة عمّا إذا كان ما يَفعلونَه إلهيًا أم لا. ما الذي يُمكِن أن يَكون أكثَر تَقوى من البَحْث عن الهَراطقة وتدميرِهم؟
في حينِ أنّه ليسَ لدَينا اليَوم أيّ شيء مُشابِه تمامًا لمَحاكم التَفتيش داخِل الكَنيسة، إلّا أنّنا تَبنَّينا ببُطء وثَبات عادات وتَقاليد تُقرِّبُنا من العالَم (وتدفعُنا بطَبيعة الحال بَعيدًا عن الله)؛ والهَدَف هو جَعْل العالَم يَرتاح لنا. غالبًا ما تَكون الصَرْخة الحقيقية الوَحيدة بين العِلمانييّن ضِدّ الكنيسة هي عندما تَقوم شَريحة من الكَنيسة بِفِعل شيء شَنيع مِثْل التجرّؤ على التَحدُّث ضِدَّ الإجهاض عند الطَلَب، أو إنكار شَرعيَّة الزواج المِثْلي، أو الدِفاع عن إسرائيل باعتبارِها مُلْكًا للشَعب اليهودي فقط. وحتّى في هذه الحالة، عادةً ما يأتي الاحتِجاج من شَريحة أخرى من الكَنيسة الّتي تَقِف إلى جانِب أعداء إسرائيل ولا تَجِد أي خطأ في الإجْهاض وتَتبنّى المِثليَّة الجِنسيَّة.
تتحدَّث العَديد من أسفار العَهد الجديد عن عَودة المَسيح وما بَعدَ تلك العودة؛ وسَتَكون إحدى النتائج أنّ الناس (من روَّاد الكَنيسة وغيرِهم أيضًا) سيُفاجأون ويَرتبِكون لأنّ أعدادًا كبيرة من الناس الذين يَبدون لطفاء وأتْقياء، من الذين يَملأون المَقاعِد كلّ يَوم أحد، سيَجدون أنفُسَهم مُباشرةً في مَرمى غَضَب الله. سيَطرَح العالَم (والكثير من أعضاء الكنيسة والكنيس) السؤال المَطروح بَلاغيًا في سِفْر التثنية تِسعة وعشرين الآية ثلاثة وعشرين: ”ما معنى غَضَب الله الثائر“؟ لن يَفهموا.
بَعد كلّ شيء يبدو كلَّ شيء على ما يُرام. وقد أوضَح يَسوع أنّ رَدَّه الشَخصي على الجَماهير الذين يَرفعون أيْديهم إلى السَماء ويَصرخون إلى الله قائلين: ”لماذا؟، الكتاب المقدَّس اليهودي متّى الإصحاح سبعة الآية اثنان وعشرون: في ذلك اليوم سيَقول لي كثيرون: ”يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ! أَلَمْ نَتَنَبَّأْ بِاسْمِكَ؟ أَلَمْ نَطْرُدِ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ؟ أَلَمْ نَصْنَعْ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً بِاسْمِكَ؟ ثلاثة وعشرون حِينَئِذٍ أَقُولُ لَهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ: “مَا عَرَفْتُكُمْ! ابتعدوا عني يا عاملي الإثم“.
كان جَواب يَسوعْ هو أنّ هؤلاء الناس الّذين سيَكونون موضِع صَدْمة غَضَب الله تمامًا هُم ”عامِلو الإثم“. ماذا مَعنى ”عامِلو الإثم“؟ هل هذا يَعني أنّ الناس الذين يَسرِقون السيارات سيَذهبون إلى الجَحيم؟ هل هذا يَعني أنه إذا قاد شَخص ما سيّارَتَه بسُرعة عَشرة أميال في الساعة مُتجاوِزًا السُرعَة المَسموح بها فسيَكون مَصيرُه الغَضَب؟ بعدَ كل شيء، أليسَ موقِف القيادة المَسيحيَّة هو أنه بمُجرَّد أن نُخلَّص لا يوجَد أي قَدر من عَدَم احتِرام القانون (السلوك الخاطئ) يُمكِن أن يَجلِب غَضَب الله علينا؟
الجَواب في الواقِع مَنطِقي تمامًا: عندما يتحدَّث الكتاب المقدَّس عن الناموس فَهو يتحدَّث فقَط عن شرائع التَوراة، الوَصايا التَوراتية. الشَريعة الوَحيدة التي كان يُسمّيها أي يَهودي ”شريعة“ هي شَريعة الله. بينما لم يؤيِّد يَسوع بالتأكيد أنّ اليَهود لم يَدْعُوا إلى ازدِراء الشريعة الرومانية ولا يُمكنُنا أن نَعتقِد بجَديَّة أنّه إذا رَفَض يهودي ما اتِّباع قوانين الإمبراطورية الرومانيّة (مِثل السُجود لقَيْصر أو الاحتِفال بِيَوم عبادة زيوس، أو عَدَم دَفْع ضَرائبه بِشَكلٍ صحيح) أنّ هذا يَرقى إلى عدَم احتِرام القانون. لم يكُن قَول المسيح يُشير إلى القوانين الوَطَنية المَدَنية أو الجِنائية المُختلِفة لمُختَلف الدول والبلدان في العالَم آنذاك أو التي ستَأتي في الأزمِنة القادِمة، بل كان يُشير إلى القانون الوَحيد المَوجود لليهودي: التَوراة. هل تَسمعني؟ عامِل الناموس عِند يسوع هو عامِل ناموس التَوراة. يَسوع يتحدَّث عن الناموس من وِجهة نَظَر الله، وليس من وِجهة النَظَر الدُنيوية. يَقول يسوع: ”ابتَعِدوا عنّي يا من تَتجاهلون وَصايا الله ولكنَّكم تَلعبون كلّ الألعاب الجَميلة من الذَهاب إلى المَجمَع أو الكنيسة دون تَقصير؛ أو تُحافظون على كل الأيام المقدَّسة (أو تَخترعون أيّامَكُم الخاصة) أو تَتصرَّفون بتَقوى في اجتِماعات الجَماعة ولكن في الواقِع ليس لكُم علاقة مع الرَب على الإطلاق.
إنّ إجابة العَهد الجديد هذه (ولا غَرابة في ذلك) هي نَفْس إجابة العَهد القديم على سؤال ”ماذا حَدَث لإسرائيل“، لأنّ العَهد القديم قد حدَّد النَمَط. يَقول سِفْر التثنية تسعة وعشرون الآية أربعة وعشرين أنّ غَضَب الله حَلَّ على إسرائيل لأنها تَخلَّت عن العَهد الموسوي فذهَبت وَعَبَدت آلهة أخرى؛ وعبَدَت أشياء لم تُخصَّص لها (أشياء مَحفوظة للعالَم بِشَكلٍ عام، ولكن ليسَ لشَعب يَهوَهْ المُختَصّ). ولهذا السبَب فإنّ أولئك الذين كانوا يَبدون ظاهريًا جزءًا من جَماعة المؤمنين (في هذه الحَالة إسرائيل) قد أُخْرِجوا من أرض الميعاد بعد أن تَمّ افتداؤهم، وبعدَ أن أُعْطَوا الوصايا، وبعد أن وَصَلوا إلى أرض راحة الرَب واستقرّوا فيها. وبما أنّ مَنفيّي إسرائيل كانوا دائمًا تحتَ أحكام وَطَنِيَّة وليس أحكام فَرديَّة، فقَد تأثَّر جَميع العبرانيين مهما كان وَضعُهم الشَخصي والفَرْدي أمام الله.
وكما يَقول بولس للمَجموعة الجَديدة من المؤمنين الوَثنيّين في رومية الإصحاح الحادي عشر الآية التاسعة عشرة ”فتقولون: ’انقطَعَت فروعٌ لِأُطعَّم أنا‘. عشرون صحيح، ولكن ماذا في ذلك؟ لقد انقطَعوا بسبَب عدم ثقتِهِم. أمَّا أنتَ فلا تَحتفِظ بمَكانك إلا بسَبب ثقتِك. فلا تتكَبَّروا، بل على العَكس، كونوا خائفين! واحد وعشرون لأنه إذا كان الله لم يُعفِ عن الأغصان الطبيعية، فإنّه بالتأكيد لن يُعفيكم ! اثنان وعشرون فانظُروا إذَن إلى لُطْف الله وشِدَّتِه: من ناحية، الشِدّة تِجاه الذين سَقطوا؛ ومن ناحية أخرى، لُطْف الله بكُم – شَريطة أن تُحافظوا على أنفُسِكم في هذا اللطف! وإلا فسَتنقطعون أنتم أيضًا!
لقد انعَكَس الفِداء لأِّن المَفديّين ابتعَدوا عنه بمَحْض إرادتِهم.
إنّ الآية الأخيرة من هذا الإصحاح هي آية يُمكِن أن نَدرُسها لساعات (يُمْكِنُكُم أن تهدأوا، لن أفْعَل ذلك). إنّها تَقول إنّ هناك تلك الأشياء المُعْلنة من الله التي تَخُصّ إسرائيل وأبناءُها إلى الأبد، وذلك حتّى يُمكِن مُلاحظة تلك الأشياء (اتِّباعُها وطاعتُها).
تلك الأشياء المُعلنَة هي كَلِمة الله، التوراة (كلّ الكتاب المقدَّس في هذا الشأن). ثمّ هناك أيضًا تِلك الأشياء الخَفيَّة التي تَخُصّ أدوناي فقط؛ فهي له وَحدُه ليَعرِفَها ولإسرائيل لتتساءل عَنها. بما أننا نَقترِب من نهاية عِظات موسى، سأنتهِز هذه الفُرصَة لأعِظَ قليلاً في مَوضوع أعتقِدُ أنّه مُهِمٌّ لعَصرِنا.
هناك الكثَير ممّا يُمكننا أن نَستخلِصَه من هذا المبدأ الخاص بالأشياء المُعلنَة حتّى يَتمكَّنَ الإنسان من إدراكِها، مُقابِل الأشياء التي لا يَعلَمُها إلا الله لأهدافِه ومقاصِده. من أعظَم الأدوات التي نَملِكُها كمؤمنين هي التوراة، لأنّ فيها أساس الفِداء؛ وفي داخِل الشرائع والأوامِر نَجِد ما يُرضي الله وما لا يُرضيه. نَجِد فيها ما هو صواب وما هو خطأ، ما هو خَير وما هو شَرّ. ومع ذلك، مُنذ بداية القرن الثالث الميلادي تقريبًا، رَمَت الكنيسة المؤسَّسية ذات التوجُّه الوثَني التَوراة جانِبًا باعتبارِها ليسَت غير مُهمَّة ومُلغاة. النتائج المُحْزِنَة بديهيَّة لأولئك الذين لديهم عُيون لترى.
ومَع ذلك، هناك أيضًا تلك الآثار الأكثر دَهاءً التي يُمكن أن تَمُرَّ دون أن يُلاحِظها أحد. أوَدُّ أن أقتَبِسَ من عالِم الكتاب المقدَّس والمؤلِّف الشهير توماس سكوت حيث يوضِح هذه النُقطة ببَلاغة تامَّة: " إنّ كلّ الهَرطقات والخِلافات تقريباً، التي أفسَدَت نَقاوة الكنيسة أو عَكَّرَت سلامَها في كل عَصر، قد نشأت تقريباً من تَجاهُل هذا التمييز: إنّها من محاولات باطِلة تَستِنِدُ إلى تَعليلات بشَرية وسُلطات كَنَسيّة، من أجل مَلء فَجوات مُفترَضة في وحي الله؛ ولجَعلِها أكثر اتِّساقاً وانتظاماً ظاهِرياً (من كَلِمة الله إلينا). من استِنتاج النتائج المُتنازَع عليها من كتاب الله الموحى به، أو من إرجاع أسرار الكَلِمة المقدَّسة إلى سَبَبٍ ما غير مُعلَن، يمكن أن يكون الصَمت هو الرَدّ الأنسب في مواجهة الأسرار المُطلقة….."
ما يَقوله البروفسور سكوت هو أنّ وَلَعنا بالرَغبة في مَعرِفة إجابات على "لماذا وأين" لكلّ شيء في الكِتاب المقدَّس هو الذي يَقودنا إلى تَخيُّلات خَيالية لِما يُمكِن أن تكون مَقاصد الله؛ وهذا ما خَلَق انقِسام في هَيكَل جَسَد المسيح بِشَكلٍ ميؤوس منه كما نحنُ عليه اليوم. عَلاوةً على ذلك، وخاصةً في العالَم الغَرْبي، قرَّرْنا أنّ الله يَحتاج إلى مساعدتِنا في بَيان وتَنظيم شرائعه ومبادئه كما لو أنّ الكَلِمة ليست كامِلة. لقد قرَّرنا أنّ عقولَنا لا تَشبَع بما فيه الكفاية إذا لمْ نَستطِع أن نأخُذ الكتاب المقدَّس ونُشكِّله في نِظام مُحدَّد المعالِم، فيه إجابة جاهِزة لكل سؤال لاهوتي واجتِماعي (سواء كانت الإجابة على هذا السؤال مُعالَجاً مُباشرةً في الكتاب المقدَّس أم لا). لُغة الكنيسة الحديثة لهذه الإجابات الجاهِزة هي ”العَقائد الإيمانية“.
غَفَلت في عَصرِنا هذا المَسيحية عن الواقِع وأصبَحَت مَفتونة بالمُستقبَل. كلُّنا مُقتنعون بمستوى أو بآخر بأنّنا نَعيش في الفَترة الزَمَنيّة التي يُسميّها الكتاب المقدَّس الأيام الأخيرة. ولإرضاء هذا الافتِتان لدينا كل أنواع النَظَريَّات اللاهوتية المَطروحة التي تَزعَمُ أنّ لديها مُعظَم، إن لمْ يكُن كُلّ، الحقيقة حول ما سيَحدُث في المُستقبل القريب.
تُطلَق على هذه النَظريّات اللاهوتية جَميع أنواع الأسماء المُنمَّقة: ما بَعد الألفيَّة وما قَبْلَها، والعَذاب الأوسَط وما بَعدَه، واختِطاف ما قَبْل الدَهْر، وما إلى ذلك. لقد اسْتَفادت سِلسِلة الكُتُب الأكثَر مَبيعًا "مَتروك في الخَلِف" من هذا الانبِهار وخَلَقت أتباعًا مُخلِصين لدَرَجة أنّ قِطاعًا كبيرًا من الكَنيسة يُعطي مصداقيَّة كبيرة لتَكهُّنات قِصَّة نِهاية الأزمِنة الخَيالية للمؤلِّف. لقد أخبرَني أحَدُ قساوسة كنيسة ضَخْمة أنّه إذا لم يؤمِن أحد بتوقيت الاختِطاف في مُنتصَف الأزْمِنَة فإنّ هذا الشخص ليس له مكان في جماعتِه وأنه سيُضْطَرّ إلى التَشكيك في صِحَّة تَجربَة خلاص هذا الشخص.
للأسَف أصبَحنا نَعتقِد أنه إذا اتَّفَق عدد كافٍ من الأشخاص ذوي السُلطة أو المَشهورين على مَسارٍ مُعيَّن لمُسْتقْبل نَبَوي مُعيَّن (على الرُغمِ من أنّ الكتاب المقدَّس قد لا يذكُره بِشَكلٍ مَلموس) فإنّه يُصبِح حقيقة وغالِبًا ما يَكون أساسًا لأركان إيمان بعض الطوائف. ويُصبِح أيضًا مُدْعاةً للسُخرية والإقصاء لأولئك الذين يَعتقدون خِلاف ذلك.
بطَريقة ما يَجِب أن نَكتَفي مرّة أخرى بالحَقيقة التي ذُكِرت بوضوح وإيجاز في تَثنية الإصحاح تسعة وعشرين الآية ثمانية وعشرين؛ الأشياء الخَفيَّة هي لله والأمور المُعلَنة تَخُصُّنا.
قيل بالنَفي أنّ الأمور الخَفيَّة ليسَت لنا لنَعرِفَها. وبسَبب انشغالِنا الحديث بتِلك الأمور الخَفيَّة (الأمور النَبَويّة) فإننا غالبًا ما نولي اهتمامًا ضَئيلًا للأمور المَكشوفة (الكَلِمة المكتوبة، الكتاب المقدَّس، بتوجيهاتِه وأوامِره الواضِحة). أفتَرِض أنّه من الأسْهَل بكَثير أن نُفكِّر في مُستقبل مَجيد ومُثير كما يتصوَّرُه شَخص ما في السُلطة أكثر من الالتِزام بالقوانين والأوامِر الموحى بها التي قد لا تَكون مُريحة وفي بعض الأحيان تَخنُق فرادَتنا. لكن الاعتِقاد بأنّنا نسْتَطيع أن نَكتشِف بأي تَفصيل حقيقي الأسرار النَبَوية غير المَكشوفة إلاّ عند الله وهو أمْرٌ خطير للغاية.
كان الحُكماء اليهود والسُلطات الدينية اليهودية في العُقود التي سَبَقت ميلاد يسوع يَنتظرون بفارِغ الصَبر مَجيء مسيحِهم اليهودي المُتنبّأ عنه في الكتاب المقدَّس. لقد أدَّت ظروفهُم التي لا تُطاق من اضطهاد روما طويل الأمَد، إلى انشِغال الكَثيرين بالأمَل والتَخطيط لمَجيء ذلك المُخلّص المَجيد، في وقتٍ ما في المُستقبل القَريب. وأدَّت كل أنواع النَظرَّيات حول من سيَكون، وكيفَ وأينَ سيظَهر وفي أي ظُروف، ومتى سيكشِف عن نفسِه إلى مَجموعة من العقائد المُتصلِّبة التي لم تَترُك مجالًا كبيرًا للاختِلاف. لقد كانت السُلطات الدينية المُختلفة مُقتنعة جدًا بأنّ الرَب قد كَشَف لهمُ عن رؤى سِرِّيَة عن مجيء المَسيح اليهودي الذي لم يُكشَف عنه عَلَنًا للبشر حتّى الآن، لدَرَجة أنّه عندما جاء المسيح بالفِعل، رَفَض مُعظم السُكاّن اليهود المُضلَّلين بِشَكلٍ رَهيب الأمر. ببسَاطة لم يكُن المُخلِّص اليَهودي من الناصرة يَتناسَب مع القالِب الجامِد للعقائد الخاطئة التي اختلَقَها المُثقَّفون والقِيادات الدينية وأعْلنوها على أنّها حقيقة لا يُمكِن تعويضُها. وبالتالي كلّْ من اعتَقَد خِلاف ذلك كان زنديقًا.
إسحاق نيوتن، اللاهوتي قَبْل أن يكون عالِمًا بوقتٍ طويل، قال ذات مرَّة إنّ الغَرَض من نبوَّة الكتاب المقدَّس لم يكُن أن يُعطينا لَمحة عن المُستقبَل؛ بل يَسمَح لنا بالنَظَر إلى النبوّات التي تَحقَّقت بالفِعل ونرى أمانة الله الثابِتة.
فلنَكتفِ بما كَشَفه لنا يَهوَه بالفِعل، ولْنترُك المُستقبل الذي لم يُكشَف عنه له وحدَه حتّى لا نَعمَل في غَير صالِح الرَب أو نَتعامى عن الأحداث التي قدَّر الله حدوثَها كما هي. دعونا نَعقِد العَزْم على تَركيز وقتِنا وَجُهدِنا على أمور الله المُعلَنة، ولْنَدَع أسرار الله تَبقى كذلك حتّى تَحدُث. دعونا نُركِّز على كَلِمته وتوراتِه وكتابه المقدَّس بأكملِه ونُصلي من أجْل تَمييز ما سَبَق أن أعطانا إياه بوضوح ويَتوقَّع منا أن نلتزِم به. هناك فَيض من المَعلومات التي نَحتاج إلى وقتٍ طويل لاستيعابِها.
لِننتقِل إلى الإصحاح ثلاثين.
اقرأ الإصحاح ثلاثين من سِفْر التثنية كلِّه
يَنتقِل موسى في الآيات العشر الأولى من الإصحاح ثلاثين، إلى استِدعاء إسرائيل إلى تَجديد العَهد.
لو كان لهذا الإصحاح اسْمًا لكان ”العَودة والاستِعادة“. تَستَخْدِم الآيات القليلة الأولى في الواقِع تَكرارًا لأشكال مُختلفَة من الكَلِمة العبرية شوف التي تَعني الرُجوع أو العودة. لذا فإنّ مَوضوع النِصف الأول من الإصحاح ثلاثين يَشمَل أنّه إذا عاد بَنو إسرائيل المَنفيّون إلى الله، فإنّ الله سيُعيدُهم إلى أرض الميعاد. إذا رَجِع العبرانيون عن ارتدادِهم، فإنّ الله سيَسحَب غَضَبَه مِنهُم.
أرجو أن تُلاحظوا بعِناية شيئاً في الآية واحد، وقد رَكَّزْتُ عليه في الدَرْسَين الأخيرين: تَستخدِم الآية مصطلحَيْ البَرَكة واللعنة . تَقول الآية : لقد وَضَع الله أمام إسرائيل طريقَيْن مختلفَين؛ أحدُهما يؤدّي إلى بَرَكة الناموس، والآخر يؤدّي إلى لَعنة الناموس. ما كنتُ أُرَكِّزُ عليه هو مُحاولة إبطال عقيدة كَنَسيَّة خاطئة أفسَدَت ولوَثَّت الكثير من عقائدنا الأخرى؛ وهذه العَقيدة الخاطئة هي أنّه عندما يَقول بولُس أنّ المؤمنين لم يَعودوا تَحتَ لعنةِ الناموس، فهو يَعني أنّ الناموس هو في حدِّ ذاتِه لعنة ولذلك نحن لسنا مُلزَمين به. وهذا هو سَبَب حَرْص الكنيسة منذ ألف وثماني مئة عام على إدانة الناموس باعتبارِه شيئًا سيئًا ومُعيبًا لم يَعُد موجودًا.
أُصلّي كَي يَرى أولئك الذين كانوا يَدرسون التوراة مَعنا أنّ لَعنة الناموس مُحدَّدة جيدًا في الكتاب المقدَّس على أنّها نَتيجة نَقْض الناموس، والابتِعاد عن الله، والارتِداد؛ اللعنة ليسَت الناموس نفسُه. في الواقِع بينما نحنُ نَدرُس هذا الإصحاح، نرى موسى يَشرَح قليلاً ما تَعنيه بالضبط مُصطلحات ”بَرَكة“ و”لعنة“ الناموس.
لذلك يَقول الله أنه أثناء وجودِها في المَنفى، إذا قَبِلَت إسرائيل حُكمَه على ما هو عليه (دينونة إلهية مُستحَقَّة)، وأدرَكَت أنّ سَبب ذلك هو تَمرُّدُها؛ وإذا عادَت إلى الرَب عن طريق اتِّباع وصاياه (التَوراة)، فإن الرَب سيُعيدها بواسِطة المَحبَّة. تقول الآية اثنان إنّ هذه التَوبة يجِب أن تَكون ”من كلِّ القَلْب والنَفْس“ أي يَجِب أن يكون بني إسرائيل صادقين ومُستعدّين تمامًا للبَدء من جَديد بموجَب شروط العَهد.
هناك فَرْق جَوهري بين التَوبة عن طُرقِنا الخاطئة ومُجرَّد الإدراك الواعي بأننا كنا نَعصي الرَب، وبالتالي الرَغْبة في الخَلاص من الوَضْع السيئ الذي سبَّبه لنا عِصيانُنا. هناك فَرْق أكبر بين الرَغبة في تَغيير كَيانِنا بالكامِل الذي يَعكُس علاقة جديدة مع الله تُركِّز على الطاعة، وبين مُجرَّد الرَغبة في تَغيير ظروفِنا الصَعبة. بالطَبع أراد بنو إسرائيل المَنفيّون أن تَتغيَّر ظروفهم المُتمثِّلة في كونِهم غُرباء غير مَرغوب فيهم في أرْض غَريبة تَحتَ عبودية مَلِك وثني (ومن لا يُريد ذلك؟) ولكن هذا الأمَل في التَغييرلن يُلين مَوقِف الرَب من شعبِه. بل كان عليه أن يَرجِع عن طريق الشَرّ الذي اختارَه، وأن يَعودَ إليه.
يَقول موسى أنّه إذا كان أحَد العبرانيين المَنفييّن مَوجود في أقاصي الأرض (أبعَدْ ما يَكون عن أرض الميعاد) فإنّ الرَب سيَذهَب إلى هناك ويُعيد ذلك الشخص…..إذا تاب. سنَرى هذا المَوضوع يَتَردَّد صَداه في أسفار الأنبياء حيثُ تَرِد نبوءة أنّ الرَب سيُعيد إسرائيل إلى الأرض، ويُعيد الناس من أقاصي الأرض إلى ديارهِم. لكنّ هذا الموضوع نفْسُه لا يَنتهي عند هذا الحَدّ، بل يَستخدِمُه يسوع أيضًا.
الكتاب المقدَّس اليهودي لوقا الإصحاح الخامس عشر الآية ثلاثة، فقال لهم (يسوع) هذا المثل: أربعة” إِنْ كَانَ لأَحَدِكُمْ مائَةُ خَرُوفٍ وَأَضَلَّ وَاحِدَةً مِنْهَا، أَفَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ الأُخْرَى فِي الصَّحْرَاءِ وَيَذْهَبُ وَرَاءَ الضَّالَّةِ حَتَّى يَجِدَهَا؟ خمسة وعندما يَجدُه يرفعُه بفرَح على كتِفَيه، ستّة وعندما يَصِل إلى بيتِه يدعو أصدقاءه وجيرانَه ويقول: ”تعالوا احتفِلوا معي لأني وجدْت خِرافي الضائعة! سبعة وأقول لكُم إنه بنفْس الطريقة سيَكون هناكَ فَرَح في السماء بخاطئ واحد يَرجِع إلى الله عن خطاياه أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يَحتاجون إلى التوبة.
سيُعيد الرَب كل من يرجِع عن خَطيَّتِه إلى ملكوت الله. هذا أمرٌ أساسي جدًا لكلّ مؤمِن. لقد نَظَرْنا بعِناية في نَمَط العهد القديم والنمَط المُطابِق له في العهد الجَديد الذي يُظهِر أنه بينما لا يُمكِن لأي إنسان أو كائن روحي أن يأخُذ بالقوَّة من هو للرَب، إلا أنّ الشَخص يُمكنُه أن يَختار أن يبتعِد عن الرَب أو أن يتخَلّى عنه كإله له. وفي الوَقت نفسِه إذا عاد ذلك الشَخص إلى رُشدِه وتاب ورَغِب في علاقة جديدة وصادِقة مع الله بموجَب شروط العَهد، فإنّ الرَب حَريص على استعادتِه.
لهذا السَبَب يَقول يعقوب تلميذ يَسوع بِشَكلٍ مؤثِّر جداً أنه إذا ما ذَهَب أخ وراء أخْ سَقَط عن الإيمان وأعادَه إلى الإيمان فإنّه يَكون بذلك قد خلَّص ذلك الأخ الساقِط من الموت الأبدي. وكما أرْسَل الرَب قُضاتَه وأنبياءه ليُوبِّخوا شعبَهُ كلَّما اقتربَ أكثر فأكثَر من ذلك الخَطّ في الرمال الذي لا يراه إلا الله (ذلك الخَطّ الذي بمُجرَّد عبورِه يُدمِّر علاقتَنا به)، بعدَ أن عَبَرت إسرائيل هذا الخَط حَتْمًا وتَمّ نَفيُها، كان الأنبياء أيضًا يَحُضّون الشَعب على التَوبة والرُجوع إلى الله.
ابتداءً من الآية ستّة يَقول موسى أنّ الله هو الذي سيَفتَح قَلبَك وقلوب أبنائك لمَحَبَّة الرَب مَحبَّةً كامِلة. افهَموا التسلسُل؛ أولاً هناك الرَغبة الصادِقة في الله، ثمّ يَقوم هو بالتَعامُل مع قلوبِكم. دَعني أذَكِّرُك مرَّة أخرى: القلْب يعني العَقْل. القلْب هو ترجمة حَرْفية من العِبْرِيَة. ولكن في العُصور القديمة (في الواقِع حتى حوالى عام أربعمئة بعد الميلاد)، كان الاعتِقاد السائد أنّ القَلْب هو المكان الذي تَحدُث فيه عمليّات التَفكير. وبعِبارة أخرى، بينما نَعلَم نحن أنّ الدِماغ هو المَكان الذي يحدُث فيه التفكير، اعْتَقَد القُدماء أنّه عَضَلة الَقلْب. اعْتَقَد القدماء أنّ عقولَنا تقَع داخل صَدرِنا، في القْلب. لذلك سنَرى في كَثيرٍ من الأحيان استِخدام كَلمَتَي القلْب والعَقْل للدلالة على معنى واحِد. أينما تَرى كَلِمة قلْب، فَقط استبدِلها بالعَقْل وستَحصُل على المعنى المَقصود.
لذلك يَقول الله أنه سيَتعامَل مع عقول الذين يَعودون إليه ويَضَعون المَحَبَّة في عقولِهم تجاهَه. لقد نَطَق القساوسة مِرارًا وتكرارًا بعِبارة ”المَحَبَّة قَرار“، لأنّ المَحَبَّة هي وَظيفة من وظائف أدمغتِنا، عقولِنا. وتمامًا كما بدأ البَعْض يُشير بِشَكلٍ صحيح، المَحَبَّة هي أيضًا فِعْل. الحُبّ كشعور صَحيح إلى حدٍ ما؛ ولكننا نَحصُل على هذا الشعور (العاطِفة) من الدِفء والمَوَدَّة نتيجة للحُب في عقولِنا.
إنّ النُقطة التي يَجِب أن نستخلِصَها من هذه الآية هي التدخُّل الإلهي من الله في عُقول البشر لإعطاء مَحبَّة كامِلة له لِمَن يَرغبون فيها. هذا ليس مَبدأً جديدًا على الإطلاق بالنِسبة لكُم لأنّ هذا مبدأ أساسي في مَسيحيَّة العهد الجديد.
الأمْر هو (كما تَعلَّمْنا) أنّ هذه المبادئ التي تُصَوَّر عالميًا تقريبًا على أنّها مبادئ العهد الجَديد هي في الواقِع مبادئ التوراة الراسِخة منذ زَمَن طويل والتي تَمّ تَقديمُها.
يَقول موسى أيضًا أنّ الرَب سيُنزِل بتِلك الأمَم التي قَهَرَت إسرائيل وأرسَلتْها إلى المَنفى نفْس مَجموعة اللعنات التي أوقَعَها على إسرائيل. إنّه لأمْرٌ مُدهِشٌ حقًا كيف يَعمَل عَقْل الله. إنه يُقيم الأُمَم ليَستخدِمَها كَيَدٍ لغَضَبِه ضِدَّ شعبهِ؛ ثمّ عندما تَقَع الحرْبُ والفِتنَة على إسرائيل يُعاقِبُها على ذلك.
حقًا هذه إحدى أسْرار الله الكَثيرة. يُمكنني أن أفْهَم الأساس المَنطِقي بِشَكلٍ سَطحي، ولكنني لا أستطيع أن أفهَم ما يَكمُن تَحتَه لأنّ هذه إحدى تلك الأشياء الخَفيَّة التي أخبَرَنا عنها الإصحاح تسعة وعشرون؛ شيء خَفي يَخُصّ يَهوَهْ وحْدَه. لا أعرِف ما إذا كان هذا شيء لا يُريدنا أن نَعرِفَه؛ أو شيء لا تَستطيع قدراتُنا العَقليَّة المَحدودة جدًا أن تَعرِفَه.
ما كَشَفَه الله هو أنّه في عنايتِه الإلهية يَسمَح للأمم أن تُصبِح شِرّيرة وبَعيدة عنه. يَسمَح للأمم أن تَنمو في كَراهيةٍ أو غيرَةٍ غَير عقلانية ضِدَّ إسرائيل. وفي الوقت نفسِه يُعطي إسرائيل الإرادة الحُرَّة لاختيار طريق البَرَكات أو طريق اللعنات. وعندما تَختَار إسرائيل طريق اللعنات، فإنّه يَستخدِم تلك الأُمَّة الشريرة لمُعاقَبَة قُرَّة عَينِه لكي تتوب إسرائيل وتَعود إليه. ولكن لأنّ تلك الأمَّة كانت شرّيرة (وهو من أعطاها تلك الكَراهية غير المَنطِقيّة لإسرائيل التي وَضَعها الشيطان فيهِم في المَقام الأول)، فإنّ الله مُبرَّر تمامًا في إنزال غَضبِه عليها لمعاملتِها شَعبَهُ بِشَكلٍ سيئ للغاية.
اسمَحوا لي أن أذكِّرَكُم بشيء ما عن الكَلِمة العِبرية التي تَعني الأمم: إنها غوييم. غوييم تَعني بالفِعل الأُمَم، ولكنَّها تَعني أيضًا الأُمميّين، وهي كَلِمة لا تَنطبِق أبدًا على إسرائيل لسَبَبٍ واحِدٍ وَجيه: الغوييم هُم كلّ الناس على الأرض باستِثناء إسرائيل. لذلِك من أجلِ أن نَحصُل على صورة أفضَل لمَعنى ومَقصَد استِخدام هذه الكَلِمة في الكتاب المقدَّس من الأفضَل أن نَقول دائمًا ”الأُمَم الوثنيَّة“ بدلاً من ”الأمَم“ فَقط.
ما أقصِدُه هو أنه بِحُكْم التَعريف، فإنّ الأمَم دائمًا هي التي تَكون ضِدّ إسرائيل. يَستخدِم الله دائمًا الأمميّين من أجْل هدفِه المُتمثِّل في إعادة إسرائيل إليه، من أجْل خلاص إسرائيل. لذلك فإنّ الله يُعاقِب الأُمَم دائمًا على سوء مُعاملتِها لإسرائيل في نَفْسِ الوَقْت الذي يُعاقِب فيه إسرائيل باستخدام الأمَم. هذا لم يَتغيَّر أبدًا. يَقول بولُس هذا عن ذلك ما يلي:
الكتاب المقدَّس اليهودي رومية الإصحاح الحادي عشر الآية خمسة وعشرون: لأَنِّي أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَفْهَمُوا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الَّتِي أَخْفَاهَا اللهُ سَابِقًا وَأَظْهَرَهَا الآنَ، لِئَلاَّ تَتَوَهَّمُوا أَنَّكُمْ تَعْرِفُونَ أَكْثَرَ مِمَّا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةً. وهي أنّ التحجّر، إلى حدٍّ ما، قد حَلَّ على إسرائيل إلى أن يدخُل العالم الأممي في ملئه؛ ستّة وعشرون وأنه بهذه الطريقة سيخلُص كل إسرائيل. وكما يقول التاناخ: "من تَسْيون سيأتي الفادي فيَرُدّ الفَحشاء عن يعقوب".
يَستخدِم الله الأُمَم اليوم كعَصا وجَزَرَة في آنٍ واحد لإعادة إسرائيل إلى مَلكوت الله. الجَزَرة هي الإنجيل الذي جَلبَه المَسيحيون الأُمميّون إلى الشَعب اليهَودي مؤخرًا بمَحَبَّة. أمّا العصا فهي الأُمَم التي أصبَحَت مُعادِية للساميَّة وطَرَدَت الشعَبَ اليهودي (ومَنَعَته العودة) إلى المكان الوَحيد الذي يُمكنه العَيش فيه تحت حُكومة يهودية: أرض الميعاد، إسرائيل. العَصا أيضًا هي الأُمَم التي تُحيط بإسرائيل (المسلمون) الذين يُريدون إبادة إسرائيل.
ومَع ذلك، وكما هو الحال دائمًا، فإنّ جَوهَر هَدَف الله الخَلاصي هو لصالِح شَعبِه. لذلك كما يقول بولُس: ”أيّها الرومانيون، لا تَتخيَّلوا أنَّكُم تَعرفون أكثَر ممّا تَعرفون في الواقِع………لأنّه بهذه الطَريقة (استِخدام الأُمَم الوثنيّة) ستُخَلَّص كل إسرائيل“. حَسَناً أيها المؤمِنون الأُمميّون، إن لم يكُن هذا يُذِلُّكم وفي الوَقت نفسِه يُظهِر لكُم القيمة الهائلة للشَعب اليهودي عندَ رَبِّنا، فلستُ مُتأكِّداً ما الذي سيُظهِر لكُم ذلك.
في الآية الحادية عشرة، يَعود موسى إلى المَسار الصَحيح بعدَ أن يَشرَح أنّ العودَة والاستِعادة مُمكِنة عندما تَسقُط إسرائيل؛ ليسَ عليها أن تَبقى في المَنفى الدائم. ويَستأنِف بقَولِه شيئًا يَدْحَض تمامًا عَقيدة مَسيحيّة أخرى شائعة إلى حدٍ ما. يَقول موسى إنّ شروط العَهد… التوراة…..الشريعة ليسَت صَعبة على إسرائيل. التَوراة ليسَت مُبهمَة وغَير قابِلة للفَهْم، وليسَت جِزءًا من تلك الأشياء الخَفيَّة عن الله. إنّها مُعلَنة وبالتالي فهي لدينا وعلينا أن نُطيعَها.
في إصحاحٍ سابِق أمَرَ موسى أن تُنصَب في جَبل جرزيم وجبل عيبال حِجارة ضَخْمة مُسطَّحة مُجَصَّصة ومَكتوبٌ عليها كَلِمات التوراة، وأن تَكون الكَلِمات مَكتوبة عليها بوضوح. والفِكرَة المُعبَّر عنها هنا هي أنه في حينِ أنّ الكهنة واللاويين هُم بالفِعْل مُعلِّمو التوراة والقائمون على إدارتِها، إلاّ أنَّهم ليسوا مَصدَر الشريعة وليسوا وحدَهمُ القادِرين على فَهْم مَعناها أو مُراعاة الشرائع والأوامِر بِشَكلٍ صحيح.
إذًا فالتَوراة ليست فقط للمَعرِفة بل هي أيضًا في مُتناوَل اليَد، وهي قابِلة للتَنفيذ، والله يَتَوقَّع أن تُنفَّذ بالكامِل. سَمعْنا مرارًا أنّ السَبب في إصدار العَهد الجديد هو استِحالة حِفْظ العهد الموسوي. خَطأ. هنا في الآيات الحادية عشرة إلى الرابِعة عشرة يَقول يَهوَهْ من خِلال موسى صَراحةً أنّ الناموس ليس صَعْبَ الحِفْظ.
لذلك يَرِد في الآية الخامسة عشرة، خلاصَة كلّ ما في التوراة: من جِهة الحياة والرَخاء، ومن جِهة أخرى الموت والشدائد. الحَياة والرَخاء تُساويان بَرَكة الناموس، والموت والشدائد تساوي لعنة الناموس.
ولكِن (وهنا سِرُّ عَيش حياة التوراة كما يُريد الله)، هناك ثلاثة مُقوِّمات ضَرورية للحِفاظ على علاقَتِنا مع الرَب. تقول الآية السادسة عشرة أنّ هذه المُكوِّنات الثلاثة هي واحِد) أحِبّوا إلهَكُم، اثنان) اسْلُكوا طُرُقَه، ثلاثة) احْفَظوا وَصاياه.
اسمَحوا لي أن أُعيد صياغة هذا بعِبارات أكثَر حَداثة: واحِد) ثِقْ بالله (وبالطبع هذا يعني الثِقة بمَسيحه)، اثنان) عِشْ حياتَك وِفقًا لمبادئ الكتاب المقدَّس، ثلاثة) أطِعْ التوراة. ثِقْ، عِشْ، أطِعْ. أن تُطيع الوصايا دون أن تثِق بالله لا قيمة لها. أن تَثِق بالله ولكنَّك لا تُطيعُه عِبارة عن حياة غير مُثمِرة. أن نَلتزِم بالوصايا التوراتية ولا نَثِق بالله (أن تَكون لنا علاقة شَخصيَّة مَعه) يَجعلُنا نَنفصِل عنه انفصالاً دائمًا.
وفي الآية السابِعة عَشرة، يُحذِّر موسى مرَّةً أخرى من أنّ مَعرِفة الناموس والابتِعاد عن الله يَعني النَفي. أن نَخلُط عِبادة آلهة أخرى بعِبادة يَهوَهْ يعني النَفي. إذًا، اخْتَر الحياة. هذا ما يَعنيه عندما يَرِد في العهد الجَديد أنّ الله يُريد أن يُخلِّص الجميع. إنه يَقول من فضلِكُم، اخْتاروا الحياة! إنّها مَشيئة الله أن يَختار إسرائيل، ويَختارَنا نحن، الحَياة وبَرَكة العَهْد عن طريق الثِقة بأنّ يسوع هو المُخلِّص وأنّ يَسوع هو الله. ولكِن لاحِظوا الوَصيَّة المُكوَّنة من ثلاثة أجزاء؛ مِن أجْل أن نَحيا الحياة بالإيمان، فإنّ طاعة وَصايا الله ضَروريّة. يُقرِّبُنا العصيان أكثَر فأكثر من ذلك الخَطّ في الرِمال؛ والعِصيان الذي يَصِل بنا إلى مستوى عالٍ بما فيه الكفاية (والله وَحده يَعلَم أين هو ذلك المستوى) يَضعُنا خارِج ذلك الخَطّ في الرمال ويَفصِلُنا عنه.
في الأسبوع القادِم سنَبدأ الإصحاح واحِد وثلاثين وهو عِبارة عن سِجِلّ لأيّام موسى الأخيرة.