سِفْر التثنية
الدرس الثامن والعشرون – الإصْحاح الثاني والعشرون
بَيْنما نَفْتَح كِتابَنا المُقَدَّس اليوم على سِفْر التثنية إثنين وعشرين، أَذْكُر أنني فَكَّرت وأنا أُحَضِّر هذا الدَّرس: "كيف سأجِد الكَلِمات التي سَتَشْرَح التأثير العَميق والبَعيد المَدى لِشرائع الله هذه على المؤمِنين في العَصْر الحديث؟"
هذه إحدى الأماكِن في الكِتاب المُقَدَّس التي تُشْبِه تقاطُع الطُّرُق السَّريعة الرَّئيسيّة، لأن الكثير من الأمور تَتجمَّع معًا. لقد أمْضَيْنا الآن ما يقارِب أربع سنوات منذ أن بدأنا سِفْر التكوين لنَصِل إلى هذه النِّقْطة في التَّوْراة. لقد قَطَعْنا طريقًا طويلًا، وتم اكْتِساب قدر كبير من الفهْم، وربما يُمْكِننا الآن أن نَتَحَدَّث عن بعض المفاهيم الأساسِيَّة الأكثر تَحَدِّيًا التي امْتَدَّت وابْتَلعَت أجزاء من التَّوْراة التي دَرَسناها بالفِعل. سنكون بعد أسْبوعَين في سِفْر التثنية إثنين وعشرين.
لطالما كان التَّحَدّي الذي أُواجِهُهُ في تدريس التَّوْراة هو كم هي التَّعْقيدات أو الأبْعاد المَتَعدِّدة التي يَجِب أن أُعيدها في أي لحظة قبل أن نَكتفي ويحين الوقت للمَضي قُدمًا؛ وهذا الإصْحاح على وَجْه الخُصوص.
لكن في دِراسة هذا الإصْحاح لدينا أيضًا تَحَدٍّ آخر: كيف نَتعامل مع مُحْتويات هذا الجِزء من خِطْبة موسى بِطريقة لا تكون مُسيئة لِحَساسِيّاتنا الغَربِيّة بحيث تُغْلَق آذاننا عنها بِبَساطة؛ لأن في صَميم هذا الإصْحاح، وفي أكثر مِمّا قد تَتصوَّرون من الكِتاب المُقَدَّس، هناك مَسألة الجِنْس البَشَري. إن المُتَرْجِمين الأُمَمِيِّين للعهد القديم، كما نَقْرأه اليوم، كانوا أوروبِيّين حَضَريِّين مُهَذَّبين وجَلَبوا معهم العَقْلِيَّة المسيحيّة الأوروبيّة المُتَحفِّظة والمُتَزَمِّتة، بالإضافة إلى ازْدِراء غير خَفي لكل ما هو يهودي. لذلك فإن الكثير من المَضْمون الجِنسي المُتأصِّل في كَلِمَة الله مَحْجوب الى حَدٍّ كبير، ونحن نَفْتقِده.
في يَومِنا هذا (في الغَرْب خاصةً) يَقع التَّعامُل مع الجِّنس في مُعْظَمه على طَرَفّي نَقيض ولا يوجد سِوى القليل في الوَسَط. فإما أن يتمّ التَّعامُل معه بِطريقة عِلْمية / طِبِّيَّة عَقيمة وبْراغْماتيّة بَحْتة أو كَشَيء حَسّاس للغاية وشديد الخُصوصِيَّة وبالتالي غير مُريح لِدَرجة أن مُعْظَم المسيحيّين الصّالحين يُريدون بِبساطة أن يَتعاملوا مع الموضوع بحذر. لقد رأيْنا في الآوِنة الأخيرة بالطَّبع الحرَكة التَّقدُّميّة/ العِلْمانيّة لتَطْبيع ما كان يُنظر إليه تاريخيًّا ومن ناحية الكِتاب المُقَدَّس على أنه مُمارسات جِنْسيّة مُنْحَرِفة وبَغيضة.
الواقِع، كما هو مَوْصوف في الكِتاب المُقَدَّس، هو أن الثَّقافات القديمة كانت تَنْظر إلى الحياة الجِنسية بِشَكلٍ مُخْتَلِف تَمامًا عن نَظْرتنا نحن؛ كانت مُجَرَّد جِزء من الحياة اليَومِيّة ولم تَكُن مَخْفِية. ولأن وُجود عائلات كبيرة كان أمْرًا حاسِمًا لبقاء العَشيرة والقبيلة، كان كل ما يُحيط بالتَّكاثُر البَشَري مَوضوعًا عَلَنيًّا ومَفْتوحًا يبدأ الأطفال في فَهْمِه منذ نُعومة أظفارهم. ولأن كل أُسْرة عِبريّة تقريبًا كانت تعيش (حَرْفيًّا) بين حيوانات المَزرعة الأليفة، كان دّور الجِنس مَرئيّ ومَفْهوم باستمرار ولم يَكُن الناس يَنْحَرِجون من ذلك.
لا تَفهموني بشكلٍ خاطِىء؛ كان الناس في تلك الحَقَبة بِشَكلٍ عام أكثر حِشْمةً بكثير بشأن حياتهم الجِنسية في الأماكن العامة مِمّا نحن عليه اليوم. من ناحية أخرى، لا سيما فيما يَتعلَّق بالعائلات الكبيرة التي كانت تعيش في أكْواخ صغيرة من غرفة واحدة، أو كَبَدو رُحَّل يعيشون مَحْشورين في خِيام من القماش وجِلد الحيوان، كانت الخُصوصِيَّة مَطلوبة بِشِدّة ونادِراً ما كانت الخُصوصِيَّة التامّة مُمْكِنة.
لذلك كانت الحياة الجِنسية بين البَشَر ودَورها في المُجتَمَع العِبري مَنْسوجة في لُغَتهم وثقافتهم؛ فهي تتخلَّل الكِتاب المُقَدَّس من بِدايته إلى نِهايته وغالبًا ما تُستخدم لتقديم صُوَر ومبادئ روحيَّة أكبر بكثير؛ ولكن في الوقت نفسه هي مَخْفيَّة الى حَدٍّ كبير عن نَظرنا في الكِتاب المُقَدَّس بسبب كل من التّعابير الاصْطِلاحيّة التي نقرأها والتي هي في الواقع عن الجِنس (ولكنّنا لا ندركها على هذا النحو)، والمُحاولة الصّارخة الى حَدٍّ ما من قِبَل مُتَرجمي الكِتاب المُقَدَّس الأوروبيّين لإخفائها تمامًا لأنهم وَجدوها مُسيئة.
يُرجى أن نَفهم أن ما سنَدْرسه لا علاقة له بـ "التَّربية الجِنسية" كما أصبحَت مَعروفة في أنْظِمة مدارسنا العامّة. بل له علاقة بِخَلق الله للبَشَر والطبيعة المُقَدَّسة والمُبَجَّلة للأدوار التي حدَّدها الله للذُكور والإناث. كما يَتعلَّق الأمر أيضًا بواجبات مُعَيَّنة على أحد الجِنسين تجاه الآخر، ومَفْهوم العلاقات الشَّرْعيّة وغير الشَّرْعيّة وكيف أن المبادئ الأساسِيَّة للنَّشاط الجِنسي بين البَشَر تلعب دَورًا جَسَديًّا وروحِيًّا في سِياقٍ أوْسع بكثير مِمّا نُفَكِّر فيه عادةً أو حتى نُدْرِكُه.
لذلك دَعونا نَفتح أناجيلنا وعُقولنا على فِكر الله ومَقاصده في تنظيم الحياة البَشَرية كما فَعل. لنقرأ معًا سِفْر التثنية الإصْحاح إثنين وعشرين.
اقرأ سِفْر التثنية الإصْحاح إثنين وعشرين بأَكْمله
تُقدِّم لنا الآيات الخمس الأوَّلى من سِفْر التثنية إثنين وعشرين شْيئًا كان ليعقوب أخو يسوع الكثير ليقول عنه: الدِّين الحق. بدأ بالقول إن الدِّين الحقيقي يتجلّى على أفْضَل وَجْه في رِعاية الأرامِل والأيتام. في المُجتَمَع العبراني كان الأرامِل والأيتام يُمَثِّلون المَحرومين اجْتِماعيًّا في ذلك العَصْر؛ أولئك الذين كانوا الأضْعَف والأكثر هشاشةً. بالإضافة إلى ذلك، إن مُمارَسة الدِّين الحقيقي يُبقي المَرْء غير مُلَوَّث بِطُرق العالم. أوْضَح يعقوب وبولس ويسوع أن الدِّين الحقيقي لا يَتعلَّق بالطّاعة الميكانيكيّة للقوانين، بل الرّوح التي يَتَبَنّاها المَرْء عند اتباع تلك القوانين هي المُهِمّة. إن الطّاعة لتلك الشَّرائع التي تتمّ في سِياق المَحَبَّة والثِّقة بِمُشَرِّع الناموس هي التي تُنْتِج نوع البِرّ الذي يَطْلُبُه يَهْوَهْ من عابِديه. لدينا مَقولة قانونيّة في أمريكا حيث نُخاطر بِفَصل نصّ الناموس عن روح الناموس. عندما يَسعى المَرْء إلى العدالة بحسب النّص من دون الرّوح المطلوبة، فإن المَحَبَّة والرَّحْمة والعدالة يُمْكِن أن تضيع. إذا كان هذا صحيحًا في نِظام عدالتنا البَشَريّة، فهو أكثر من ذلك بكثير في نِظام التَّوْراة الذي وَضَعه الله.
لذلك خاصة فيما يَتعلَّق بهذه الآيات الخمس الأولى من سِفْر التثنية إثنين وعشرين، فإن التَّعليمات تدور حول المَوْقَف العام للمُتَعَبِّد. هنا لا نرى الصِّيغة النَّموذجيّة لقوانين الإجْرام التي اعْتَدنا أن نراها في التَّوْراة، لا نرى، "إذا فَعَلت كذا، فهذا ما سيَحْدُث لك؛ ولكي تعود إلى السَّلام مع الله عليك أن تُكَفِّر عن طريق كذا وكذا من الذَّبائح". بل إن هذه الشَّرائع تتمّ بِروح ما يقوله المسيح الذي هو أساس كل وصايا التَّوْراة وشرائعها: ”أحْبِب الرَّب إلهك بكل كَيانك“، و"أحْبِب قريبك كَنَفْسِك". مَحَبَّة القريب ليست قاعِدة أو نِظامًا، وليست قانونًا له عاقِبة مُباشرة لِمُخالفته، بل هي دعوة لكل من يدعو يَهْوَه إلَهه أن يكون له عَقْلِيَّة مُقَدَّسة. إنها تَذْكير بأن السَّعي إلى القداسة هو هَدَف الناموس وأن هذا النوع من القداسة يتم التَّعْبير عنه على الأرض، في هذا العَصْر من تاريخ البَشَرية، بأن تُحِبّ قريبك كَنَفْسِك.
التَّوْضيح الأوَّل لِكَيْفِيَّة مَحَبَّة القريب كَنَفْسِك (في تطبيق عَمَلي) يَتعلَّق بما يَحْدُث إذا ضَلّ ثَور أخيك أو غَنمه، وصادَف أن تَعْثُر على تلك الحيوانات. لاحِظ اسْتِخْدام لفظة "أخ" في وَصْف من هو الذي يُعرّف عنه بأنه جار المَرْء. الكَلِمَة في العبرية هي " أخ"، وهي تُشير تِقَنِيّاً إلى القريب. بالمعنى المَقْصود هنا تعني عُضْوًا من عَشيرتك أو قَبيلتك، وبمعنى أوسع حتى الآن عُضوًا من أُمَّتِك بني إسرائيل. فيما بعد ذَهبَ يسوع ليوضِح أن "أخوك" في نَظَر الرَّب يَمْتَدّ إلى أي شخص مُحْتاج، واسْتَخدَم مثال السّامري الصّالح لإثبات وِجْهة نَظَره. ولكن بالمعنى الدَّقيق يُمْكِن أن يُقرأ هذا المقطع بسهولة، :"لا تَنْظُروا إلى ثور أو غنم ضالّ لزَميل لكم من بني إسرائيل ….."
والرَّب يقول أنه عندما تُشاهد حيوانات أخيك الدّاجِنة تُضَلّ ليس لديك خِيار التَّقاعُس عن العمل. لا يُمْكِن للمَرء أن يُدير ظَهْره لما يَعرف أنه ظَرْف يَتَطَلَّب مُساعدته الفَعّالة حتى لو لم تَكُن هذه المُساعدة ذات فائدة شَخْصِيّة.
والمَفْهوم هو أن اللّامُبالاة تِجاه حاجة إنسان آخر (خاصةً أخ لك، أخاك) أمْر غير مَقْبول عند يَهْوَهْ. اللّامُبالاة تجاه حاجة الآخر هي عَكْس "أَحِبّ قريبك". هذا القانون وَرَدَ في الواقع في شَكْلِه الأوَّل في سِفْر الخُروج ثلاثة وعشرين:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل سِفْر الخُروج ثلاثة وعشرين على أربعة: "إِذَا صادَفْت ثَوْر عَدُوِّك أَوْ حِماره شَارِدًا، تَرُدُّه إِلَيْهِ."
إذًا هذه الآيات من سِفْر التثنية إثنين وعشرين تُوضِح القانون الأساسي في سِفْر الخُروج ثلاثة وعشرين. تذكَّروا أنني ذَكرتُ في مُناسبات عديدة أن سِفْر التثنية هو عِظة لموسى، وهذه العِظَة هي سَلَف ونَمَط سيَتْبعه يسوع في خِطْبَته على الجبل. عادة ما تكون عِظة موسى هذه على هذا شَكل ، أَخَذَ شريعة أساسِيَّة من سِفْر الخُروج وشَرْحها وغالبًا ما يُضيف تطبيقات حياتيّة كأمْثِلة على كَيْفِيَّة تطبيق الشَّريعة.
لذلك في الآية الثانية نَجِد المَوْقِف المُعقّد حول ما يَجِب فِعْله إذا لم يَكُن أخوك في مكان قريب ليُطالب بالحيوان الضّال، أو إذا لم يَكُن يَسْكُن بالقُرب منك، أو إذا لم تَكُن لديك فِكْرة عمَّن يَمْلك البَهيمة. تظلّ اللّامُبالاة خِيارًا غير مقبول، كما أنه من غير المقبول إتْباع الفَلْسَفة التي تَعَلَّمْناها جميعًا في طُفولَتنا: من يَجِده يَأخُذه ومن يَفْقِدْهُ فهو باكٍ. بل يَجِب على المَرْء أن يَلْتَقِط الحيوان، ويأخُذه إلى المنزل ويَرعاه كما لو كان مِلكًا له، ويَنْتَظِر أن يُطالِب به صاحِبه ثم يَرُدّه إليه. ومن المُثير للاهْتِمام أن عبارة إحْضار الحيوان إلى المنزل تأمُر حَرفياً "أدْخِلْه إلى مَنْزِلِك". وهذا هو المقصود بالضَّبْط لأنه في تلك الحَقَبة (وفي أجزاء كثيرة من الشَّرق الأوْسط حتى يَومِنا هذا) كان مَنْزل الإنسان مَبْنِيًّا حول فناء خارِجي، أو كان المَنْزِل من مُسْتَوَيَيْن. كانت الحيوانات والبَشَر معًا يَسْكنون الطابق الأوَّل والفناء؛ كانت الحيوانات ذات قيمة، لذا كانت تحتاج إلى الحِماية من الحيوانات المُفْتَرِسة واللُّصوص والطَّقْس العاصِف تمامًا مثل أفراد الأُسْرة.
لا بدّ أن يكون موسى (الذي كان قائدًا لثلاثة ملايين شخص) قد تَعلَّم أن يكون عالِمًا نَفْسِيًّا خلال الأربعين عامًا التي قضاها كقائد لهم لأنه كان يَعْلَم أن هذه ليست مَعلومات كافِية وأن البَحْث عن الثَغَرات سيَبْدأ على الفور؛ لذلك يَمْضي ليوضِح أن هذا المَوْقَف المُتَعَلِّق بالعُثور على مُمْتلكات شخصٍ ما الضَّائعة لا يَقْتَصِر فقط على العُثور على الثيران والغنم؛ بل يَتعلَّق الأمر بالحِمار أو المِعْطَف أو أي شيء آخر يَخُصّ شخصًا آخر. يُرجى مُلاحظة شيء آخر تمّ التأكيد عليه هنا وقد تَطَرَّقنا إليه في عَدَد من المُناسبات في دَرْس التَّوْراة: مَحَبَّة القريب ليست "اهْتِمامًا" عاطِفيًّا أو شُعورًا دافِئًا تجاه جارِك، بل هي أن تُسارِع إلى مُساعدة جارك بفاعِلِيّة في وقت حاجته.
تليها في الآية الرابعة شريعة مُرْتَبِطة بالَّتي قبْلها: إذا رأيْت دابّة أخيك تنهار تحت ثِقل حِمْلها فَعَليك أن تُساعدها. اللائحة السابقة تَتَعلَّق بالاهْتمام بِسَلامة أخيك، وهذه تَتَعلَّق بالاهْتِمام بِسَلامة دابة أخيك. في كِلَتا الحالتَيْن ليس تَجاهُل المَوْقِف هو المَوْقِف اللائق بعابد إله بني إسرائيل.
القانون التالي في الآية الخامِسة هو القانون الذي أثار الكثير من الجَدَل. بعض هذا الجَدَل هو، بِصَراحة، هَراء أكاديمي أجْوَف وبَعْضه الآخر يُساعد على تَوضيح الأمْر. تُوضِح الكَلِمات أنه لا يجوز للرَّجُل أن يَلْبس ما تَلْبِسه المرأة عادةً، والعكس صحيح. تقول مُعْظم التَّرْجمات أن هذا يُشير إلى المَلابِس؛ في الواقع التَّرْجَمة الأدَقّ ليست المَلابِس، ولكن التَّرْجَمة الأكثر دِقّة هي الأعَمّ "الأشياء المُتَعَلِّقة" بِكَوْنِه رَجُلاً أو امرأة. لذلك، خاصّةً فيما يَتعلَّق بتلك الحَقَبة، يُمْكِن أن تعني أسْلِحة الحرب أو الحُليّ أو تسريحات الشَّعر أو (بالطّبع) المَلابِس. من المؤكد أن التَخَنُّث هو مِحْوَر هذا الأمر. بالنِّسبة لأولئك الذين عاشوا حياة أكثر احْتِشامًا من غيرهم، فإن المُخَنَّث في عَصْرِنا الحالي هو الشَّخْص الذي يَرْتدي مَلابِس الجِنْس الآخر (رجال يَرْتَدون مَلابِس النِّساء أو نساء تَرْتدين مَلابِس الرِّجال). ولكن هذه هي الطريقة التي نراها اليوم فقط؛ والأصَحّ أنها تُشير إلى شخص من جِنسٍ واحد يتَّخِذ صِفات الجِنس الآخر سواء كان في المَظْهَر أو الأدوار أو المَلابِس. لا نَتَحَدَّث هنا عن عَمَلِيّات تغيير الجِنْس، بل نَتَحَدَّث عن الارْتِباك والخِداع، أي التَّظاهُر بأنك أو تعريف نفسك على أنك جِنس ليس جِنْسك.
الآن يَتَمحْوَر الهَراء الأكاديمي الأجْوَف الذي تَحَدَّثْت عنه بِشأن جَدَل مُحْتَدِم حول سبب عدم رَغْبة الله في أن يتظاهر أحد الجِنسَيْن بأنه الجِنْس الآخر. والحقيقة هي أن السَّبَب الكامِن وراء هذا النِّقاش هو أن العُلَماء التَّقَدُّميّين واللّيبِراليّين يرغبون في إثبات أن الله لم يَعُد يرى أن هذه الأنواع من السُّلوكيّات المُنْحَرِفة التي يقول الكِتاب المُقَدَّس (كما هو الحال هنا) أنها بَغيضة أمام الرَّب، لا تزال صالِحة. فكما أصْبَحَ سائدًا في الكنيسة أن المِثْليّة الجِّنْسية لم يَعُد يُنظر إليها على أنها خطيئة، هكذا يريد هؤلاء العُلَماء بالذات أن يقولوا أن سُلوكًا مثل التَّشَبُّه بالجنس الآخر كان مَحْصورًا في عصرٍ مُعَيَّن، وبين ثقافةٍ مُعَيَّنة، وإلى جانب ذلك فإن "شريعة المَحَبَّة" الجديدة التي جاء بها المسيح تعني أن أي سُلوك شَخْصي لا يُضِرّ بأي شخص آخر هو الآن مَقبول في نَظَر الرَّب. أو أن تعليق بولس في غلاطية ثلاثة بأنه في عهد يسوع "….ليس هناك ذَكَر ولا أُنْثى…" يعني أن الله قد أبْطَل مَفْهوم الجِنْسانيّة بِرِمَّته. دعني أؤكد لك أن هذا التَّعليق في غلاطية يعني بِبَساطة أن الوضع الرّوحي للإنسان أمام الرَّب (سواءً كان الشَّخْص مَقْبولاً أو غير مَقْبول لديه) يَعْتَمِد على علاقته بالمسيح؛ وليس على ما إذا كان الشَّخْص ذَكَرًا أو أنثى.
من ناحية أخرى، من المُثير للاهْتِمام أن نرى من وجْهةٍ نَظَر عَمليّة أين لَعِبَت هذه الفِكْرة لأول مرَّة دَورًا في المُجتَمَعات القديمة. لدينا سِجِلّات تاريخيّة تُشير إلى أنه كان من المُعتاد في ثقافات بلاد ما بين النهرين أن يَرْتَدي الكاهِن الذَّكَر مَلابِس أنثوية مُعَيَّنة، أو يَرْتدي حُلِيًّا مُخَصَّصة للنِّساء، أو حتى أن يَتزيَّن بمَساحيق تجميل خاصة بالنِّساء عندما يكون الإلَه الذي يعبده إلَهَة أنثى. كانت الفِكْرة هي أن "يتنكَّر" في زَيْ أنثى ليَتَماهى مع الصِّفات الأنْثَوِيَّة للإله الأنثى.
وثمة ظرف آخر مَشْهود له في العُصور القديمة وهو الرِّجال الذين كانوا يَرْتَدون مَلابِس النساء ويتخفّون على مرأى من الناس على أمَل ألا يتمّ تَجْنيدهم في الجيش. وعلى العكس من ذلك كان لدينا نِساء يَقْصِصْنَ شَعْرهنّ ويَرْتدين مَلابِس الرِّجال ودُروعهم ويَسْتَخْدمنَ أسْلِحة بِحَجْم الرِّجال على أمَل أن يَتِمّ التفكير على أنَّهنَّ رَجل حتى يتمكَّنَّ من القتال في المعارك.
ليس لديّ شكّ في أن هذا القانون في الآية الخامسة يُغَطّي هذه الأمور، بل ربَّما كان يُستخدم في كثير من الأحيان لمُواجهة الرِّجال والنساء الذين حاولوا ذلك بِشَكل مُباشر؛ ولكن الغَرَض الحقيقي كان أوْسَع وأعْمَق من مُجَرَّد هذه الأمثلة التي أَعْطَيْتك إيّاها. ويَتَّضِح بعض من ذلك عندما نرى سِياق الشَّرائع المُحيطة بهذه الشَّريعة في سِفْر التثنية إثنين وعشرين. مرَّةً أخرى، إن هذه الشَّريعة ضدّ التَّحَوُّل الجِنسي تتحدَّث عن السُّلوك وحالة القَلْب؛ إنها تتحدَّث عن روح طاعة شرائع الله والإلْتِزام بالطَّريقة التي نَظَّم بها الكَوْن. وهنا، على الأقل جِزْئيًا، يَتَحدَّث عن الخِداع والتَّشْويش الذي هو دائمًا سّيِّء في تَدْبير الرَّب. ويَتَحدَّث أيضًا عن المِثْليَّة الجِنسيّة التي هي أيضًا مسألة مَوْقف واخْتِيار أخلاقي. سنَنْظُر في جانب آخر من هذا السُّلوك الجِنسي المَحْظور لاحِقًا.
تستمِرّ شريعة "الدِّين الحق" (التي تُشير إلى المُتَعَبِّد الذي يَعْمل بِروح الشَّريعة) مع التَّحْذير الوارِد في الآية السادِسة التي تُحَظِّر أخذ أم الطير مع فراخها.
هناك نِقْطتان رئيسِيَّتان في هذه الشَّريعة: الأولى هي أنه يُوَسِّع غطاء الأمن الإنساني للاهْتِمام بالحيوانات الأليفة (التي رأيْناها في التَّشريع الذي يَتَطَلَّب مُساعدة الثور أو الحِمار الذي سَقَط أو سَقَط تحت حِمْلِه) إلى الحيوانات البَرِّيّة (في هذه الحالة الطائر). جِزء من السَّبَب في ضرورة ذِكْر ذلك هو أن الطائر البَرّي ليس له قيمةٌ تُذْكَر إذا ما قورِن بالقيمة الاقتصادية الكبيرة للخروف أو الحِمار أو الثور بالنِّسبة للإسْرائيلي. لذلك يوضِح الرَّب أن مبدأ الإنسانيّة يمتدّ ليَشْمُل جميع مخلوقات الله، وأن قيمتها الاقْتِصادية يَجِب أن تكون ثانويَّة. بل أكثر من ذلك، فكما يقول يعقوب أن الدِّين الحقيقي يتجلّى في الاهْتِمام بالأكثر ضِعْفًا والأقل قيمة في المُجتَمَع البَشَري، فإن هذا المَبْدأ نفسه يَنْطَبِق على الأكثر ضِعْفًا والأقل قيمة في مَمْلكة الحيوان.
النقطة الثانية هي أن تَقديس العلاقة بين الوالِدَين والطّفل لا يَنْتَهي عند البَشَر. غالبًا ما يَسْتْخِدم الحاخامات هذا التَّفسير كسَبَب للشّريعة الغريبة الواردة في سِفْر التثنية أربعة عشرة على إثنين التي تقول إن الصغير (رضيع الماعز) لا يُغلى في حليب أمّه. يُمْكِننا أن نكون مُتأكِّدين من الصِلَة بين الطائر الأم وأولادها، وبين الإنسان وأولاده، لأن كاتب سِفْر التثنية قد صاغ نصّه بِطَريقة تَرْبط بين الاثنين معًا في شكل مألوف.
لنتذكر الوصية الخامسة في سِفْر الخُروج عشرين على إثني عشر "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَعِيشَ طَوِيلاً فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ رَبُّك إِلهُك.
هنا في سِفْر التثنية إثنين وعشرين على سبعة يقول: الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل سِفر التثنية إثنين وعشرين على سبعة "أَطْلِقِ الأُمَّ وَخُذ لِنَفْسِكَ الأَوْلاد، لِكَيْ يَكُون لَك خَيْرٌ وَتُطِيل الأَيَّامَ.
إنها في الأساس نفس الفِكْرة وبِنَفْس لُغَةِ الوصية الخامسة أنه بإظهار الاحْتِرام اللائق لقيمة الوالِدَين وعلاقتهما مع نَسْلِهِما (الحِفاظ على حياة الطائر الأم) ستَعيشون طويلاً وسَتَسير الأُمور مَعَكم على خَيْر (فتَخْتَبِرون سلام الله كَبَرَكة).
إن موضوع اشْتِراط أن يكون الإسرائيلي إنْسانياًّ في سُلوكه وتَصَرُّفاته يأخذ الآن ضَوْءاً آخر في اشْتِراط بناء حاجِز حول سَقْف بَيْته. من الواضِح أن هذا يَتَطَلَّع إلى الوقت الذي كان على بُعْد بِضْعة أشهر، عندما سيَقود يسوع بني إسرائيل لِغزو كنعان وسيَضَع بنو إسرائيل خيامَهم جانِبًا ويَبْدأون العيش في مَساكِن دائمة.
الحاجِز هو في الأساس دَرابْزين شُرْفة يَلْتَفّ حول حافَّة سَقْف المنزل. والغَرَض منه هو ألا يَسقُط شخص ما عن طريق الخطأ. كان المنزل الشرق أوْسَطي النّموذجي يُبنى بسَقْف مسطّح، وكان السَقْف في الأساس مُجَرَّد منطقة معيشة أخرى في المنزل لاسْتِخْدامِها مثل تلك المَوجودة تحتها. وتم بناء السّلالم أو الأدراج بحيث يُمْكِن الوصول إلى السَّطح دائماً. وعلى السَّطح كان يتمّ تجفيف وتخزين المُنْتجات الزِّراعية والأسماك، وكذلك كان يتم التَّواصُل الاجْتماعي في يوم مُمتِع، أو حتى النَّوم خلال أشهر الصَّيف التي تُشْبِه الفُرن. لذلك كان من المَنْطِقي أن يُبنى سور حول حَواف السَّطح حتى لا يَسقُط الإنسان ويُصاب بِجُروح خطيرة أو حتى يُقْتَل.
ويتحقَّق ذلك لأن نهاية الآية الثامنة تُعْلِن أن السَّبَب الرّوحاني الذي جعل هذا الاحْتياط ضَرورياً هو أن الخَطر كان كافياً لِدَرَجة أن عَدَم بناء ذلك الحاجِز كان يُشَكِّل إهْمالاً جِنائياً. وبِعِبارة أخرى يُمْكِن للمَرء أن يتوقَّع بِشَكل معقول أن يَسقُط شخص ما في نهاية المطاف من ذلك السَقْف غير المَحْمي. إن المَوت نتيجة هذا الإهْمال المُتَعمَّد لرَفاهية الآخرين من شأنه أن يَجْلُب إثم الدَّم على صاحِب المنزل، والأُسْرة التي كانت تعيش هناك، والمُجتَمَع الذي لم تُطَبِّق حكومَته قانون الله هذا. ويَجِب أن تَفْهَموا جميعًا الآن النَّتيجة الرّوحيّة والجَسَدِيَّة الخطيرة لإثْم الدّم: يَجِب أن يَخْسر المسؤول عن ذلك حياته. فالشَّخْص الذي بنى بيتًا بدون حاجِز على السَّطح كان مُذْنِبًا بجريمة القَتْل بسبب الإهْمال إذا مات شخص نتيجة لذلك. كان هذا قَتْلًا خطأً وَوُجِب على الطَّرف المسؤول أن يَدفع الدِّيّة.
بهذا ينتهي الجِزء السَّهْل والمُباشر من سِفْر التثنية إثنين وعشرين، ومن هنا يبدأ الأمْر في التَّعقيد ويُصْبِح مَشْكوكًا فيه بعض الشيء.
تُعْطينا الآيات القليلة التّالية ثلاثة شرائع حول ما يُطلق عليه عادةً "الخَليط غير المشروع"؛ لقد سَبَق أن أَعْطَينا خليطًا واحدًا غير مشروع ولكن تمّ الحديث عنه في سِياق مُخْتَلِف: الاخْتِلاط. غير مَشروع يعني غير مُصَرَّح به، غير مُوافَق عليه. إنه سوء اسْتِخْدام جسيم لشَيء ما. إذن فالفِكْرة من هذه الخَلْطات الثلاثة المُحَرَّمة التي سنُناقِشها (بالإضافة إلى الخَلْطة المُتَعَلِّقة بالمُخَنَّثين) هي أن هذه الخَلْطات هي خَلْطات تُنشِىْ اتِّحادات لا يَجِب أن يُسمح بها أبدًا. هذه الاتِّحادات المُخْتَلِفة تتعارَض مع نِظام الله في الخَلْق، وهي شكل شديد من أشكال التَمَرُّد. ليْست المُشكلة في الفِعل وَحْدَه، بل في المَوْقف التَّجْديفي للمُخالِف الذي هو جَوْهر المَسْألة.
أوّل هذه المَجموعة نَجِدها في الآية التاسعة، وهي أن لا يَزْرع المُزارع نَوعَين من البُذور في منطقة التُّربة التي تقع بين صُفوف كروم العِنَب في كَرْمه. والثانية في الآية العاشرة، وهي أنه لا يَنْبَغي أن يُرْبَط الثور والحِمار معاً لِجَرّ المِحْراث. والثالثة في الآية الحادية عشرة: لا يَلْبَس المَرْء ثيابًا مَصْنوعة من نَوْعَين مُخْتَلِفَين من الخُيوط المَنْسوجة معًا: الصّوف والكِتّان.
هذه الشَّرائع الثلاثة هي تِكرار وامْتِدادات مأخوذة من سِفْر اللاويين تسعة عشر على تسعة عشر:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل سِفر اللاّويّين تسعة عشر على تسعة عشر "فَرَائِضِي تَحْفَظُون. لاَ تُنَزِّ بَهَائِمك جِنْسَيْنِ، وحَقْلَك لاَ تَزْرع صِنْفَيْن، وَلاَ يَكُن عَلَيْك ثَوْب مُصَنَّف مِنْ صِنْفَيْنِ".
أي نوع من الاخْتِلاط أو الاتِّحاد الذي يَتعارَض مع شريعة الله يُسَمّى بالعبرية "كيلاييم"، والتي تُتَرْجَم حَرْفِيًّا إلى "أكثر من نوع واحد". كان العبرانيّون يَنْظُرون بِجِدِّية شديدة إلى مُخالفة هذه الشَّرائع لِدَرجةٍ أنهم خَصَّصوا لها مَسْلكًا كاملًا في التَّلمود؛ واسمه "كيلاييم".
ولكن على الرّغم من خُطورة الأمر كما عَرِفوا ذلك، فإن السَّبَب الذي جَعل الله يُحَظِّر ارْتِداء مَلابِس من نَوْعَين من البُذور معًا، وارْتِداء ثَوب مَصْنوع من نَوعَين من المواد، ورَبْط حِمار وثَوْر على مِحْراث واحد كان لِغْزًا حتى بالنِّسبة لأعظم الحاخامات. يُفَسِّرها راشي على أنها مُجَرَّد مَراسيم سِياديّة من الله لا حاجة لإعْطاء سَبَب لها. بَيْنما أتَفَهَّم تواضُع راشي الكبير في هذه المَسْألة بِرَفْضه الخَوْض في سبب هذه القوانين، أعْتَقِد أننا قد نكون قادِرين على إثارة المزيد من الجَدَل على الأقلّ. لذا صَفّوا ذِهنكم واسْتَعِدّوا لرؤية بعض الرَّوابِط المُذْهِلة تَنْمو أمام أعْيُنكم.
في البِداية: تَرْتَبِط كل من هذه الشَّرائع الأربعة الخاصّة بالخَلْطات غير المَشْروعة بالوَصِية السّابعة، وهي شريعة تَحريم الزِّنا. ربما يَبْدو هذا غَريبًا بالنِّسبة لكم، ولكن سُرْعان ما أعْتَقِد أنَّكم ستَرون أنها لا يُمْكِن أن تكون غير ذلك. اسْمَحوا لي أن أقول ذلك مَرَّة أخرى: هذه الشّرائع الخاصّة بالخَلْطات غير المَشْروعة تُمَثِّل عِدّةَ أَوْجُه للزِّنا.
لاحِظ أنه من وِجْهة نَظَر عَقْلانيّة عَمَليَّة بَحْتة لا تُسَبِّب أي من هذه الشَّرائع الخاصة بالخَلْطات ضَرَرًا جَسيمًا لأي شخص أو أي شيء، وفي الواقع يُمْكِن أن تكون هناك فائدة كبيرة من النَّاحية المادِّية من القيام بِبَعض الأشياء المَحْظورة. على سبيل المثال، من المَعْروف والمُمارَس منذ فترة طويلة أن زراعة نَوْعَين مُخْتَلِفين من البُذور (النَّباتات والمَحاصيل) معًا يُمْكِن أن يَجْلب جميع أنواع النَّتائج الجيِّدة. وهذا ما يُسَمّى بالزراعة البَيْنِيَّة وقد تم اسْتِخْدامها خاصة في المناطق التي تتمُّ فيها الزراعة في المناطق البِدائية. في بعض الأحيان يَجْذب أحد أنواع النَّباتات نَوعًا من الحَشَرات التي يُمْكِن أن تكون مُفيدة لِكِلا النَّوْعَين من النَّباتات لأغْراض التَّلْقيح. وفي حالات أخرى تُنْتِج أحد أنواع النَّباتات نَوعًا من المُغَذِّيات التي يَحْتاجها النوع الآخر من التُّربة فيأخُذَها الآخر من التُّربة، مِمّا يُبطئ من اسْتِنْزاف التُّربة. وعلى مُسْتوى آخر، يُمْكِن للمرء الاسْتِفادة القُصْوى من الأرض الصَّالِحة للزِّراعة من خلال زِراعة نَوْعَين من المحاصيل في نفس المساحة التي تَتَّسِم بالتَّعايُش وتُوَفِّر أقصى قَدَر من الإنتاج الغِذائي باسْتِخْدام أقل مساحة من الأرض. ويُمْكِن حتى أن تَحْمي من فَشَل المحاصيل عن طريق زِراعة نَوْعَين مُخْتَلِفَيْن من النَّباتات التي يكون كل مِنْهما عِرْضَة لمَخاطر مُخْتَلِفة.
إن الحالة الواردة في سِفْر التثنية إثنين وعشرين على تسعة (حول عدم زراعة مَحصول من نوع مُخْتَلِف بين الكُروم) هي أن كُروم العِنَب يَجِب أن تُزرَع في صُفوفٍ مُتَباعِدة عن بَعضها البعض بِشَكلٍ جيّد حتى تنمو. فأي فائدة تُرجى من تَرْك مساحة كبيرة من الأرض بين تلك الصُّفوف تَضيع هَباءً؟ يا إلَهي، إذا كانت المِياه الثَّمينة التي تُستخدَم لِسَقي الكُروم يُمْكِن اسْتِخْدامها بِشَكل مُضاعَف لِسَقي الخُضْروات أو الحُبوب التي تنمو على الأرض تحت تلك الكُروم، أليس هذا هو الإنسان الرّاعي الصّالح للمَوارِد البيئِيَّة المَحْدودة؟
ومن الحقائق أيضًا أنَّ نَسْجَ الكِتّان والصّوف الناعِمَيْن معًا يُنْتِج قِماشًا عالي الجودَة من الجمال والمَتانة، فلماذا يكون ذلك سيِّئًا في نَظَر الله؟ لقد كان من المُسْتَحيل تقريبًا في أذْهان الحُكَماء العِبرانيّين العُظَماء أن يَجِدوا أي عَيْبٍ دُنْيَوي أو شَرّ مُتأصِّل في ارْتِداء مثل هذه المادة. ومع ذلك، هناك تلك الشَّريعة التي تُحَظِّره ولا يُمْكِن أن يُنظر إليها على أنها خَطأ أو سوء تَفْسير لأنها صريحة وواضِحة جدًا. لذلك كان التَّحْريم مفروضًا بِشَكلٍ صارِم ومُراعى بِدِقَّة من قِبَل أكثر العبرانيّين تَقْوى حتى اليوم.
هل هناك حقًا ضَرَرٌ في رَبْط الثَوْر والحِمار بالمِحراث؟ لا؛ على الرّغم من كل الجُهود التي يَبْذلها المُعَلِّمون والوعّاظ لتَوْضيح أن المِحْراث كان سَيَتَّجِه دائمًا إلى اتِّجاه الحيوان الأضْعَف أو أن الحيوان الأقْوى سيَضِرّ بالحيوان الأضْعَف، أو أن ذلك سيكون غير فَعّال بِشَكل رَهيب، إلا أن الأمْر ليس كذلك في الحياة الواقِعِيّة. في الواقع، كان وُجود نَوْعَين مُخْتَلِفَيْن من الحيوانات يَجُرّان مِحْراثًا أو عَرَبة معًا أمْرًا شائعًا جدًا في العالَم القديم، فقد كان الرَّجُل مَحْظوظًا جدًا إذا كان يَمْلك ثَوْرًا واحدًا مع حِمار واحد. كان الثور أفْضَل في جَرّ شيءٍ ما من حَمْلِه، لكنَّه كان يَسْتطيع حَمْل الأشياء. وكان الحِمار أفْضَل في حَمْل الأشياء من جَرّ الأشياء، لكنه كان يَسْتطيع القيام بأي منهما. وعندما كان المِحْراث يَحتاج إلى قوّة حِصانَيْن، لم يَرَ القُدَماء حَرَجًا في أن يكون هذان الحيوانان حِمارًا وثورًا يَعْملان معًا، ومن النّاحية الدُّنْيَوِيّة لم يَكُن هناك ضَرَر دائم لأي من حيوانات العَمَل هذه لِمُجَرَّد أنهما لم يكونا مُتَساوِيَيْن في القُوّة.
إنني أُثْني كثيرًا على الحاخامات الذين كانوا على الأقلّ أكثر صَراحةً في فَهْمهم لِسَبب هذه الشَّرائع بدلًا من خَلْق التَّفسيرات المَجازِيَّة العظيمة التي سادَت المسيحيّة وتَميل بنا إلى مَسارات مَشْكوك فيها للغاية. في الوقت نفسه كان مَيْل الحاخامات دائمًا إلى رؤية الجانب المادّي الأرْضي من شرائع الله ونُبوءاته بدلاً من الجانِب الرّوحي السَّماوي. دَعونا نرى ما إذا كان بإمْكانِنا النَّظَر إلى كل هذا إذَن، من زاوِيةٍ مُخْتَلِفة قليلاً.
يَكْفي أن نَقول إنه من الواضِح أن نواميس الاخْتِلاط غير المَشْروع هذه لا يُمْكِن أن يكون الله قد أمَر بها لكي يَسْتَفيد الحيوان أو النَّبات أو الإنسان من وِجْهة نّظَر مادّيّة من خلال تَجَنُّب فِعل هذه الأشياء. ومن الواضِح أيضًا أنه لا يوجَد شَيْءٌ شِرّير بِطَبيعته بِزَرع نوْعين مُخْتَلِفين من البُذور في مكانَيْن مُتَقارِبَيْن؛ فالشَّر لا يَثور تلقائيًا عندما يَخْتَلِط خُيوط الكِتّان بالصّوف؛ وليس من الشَّر الشَّيْطاني أن نَرْبُطَ حِمارًا وثَوْرًا بنير مِحْراث واحد.
لا يَنْبَغي أن يُفاجِئنا هذا الواقِع. لقد ناقَشْت معكم أن كل مُحاوَلة من قِبَل عُلَماء الكِتاب المُقَدَّس لِشَرْح السَّبَب الذي جَعل الله بعض الحيوانات طاهِرة طَقْسِيًّا بَيْنما البعض الآخر نَجِس طقسيًا قد باءَت بالفَشَل. في كل مرَّة يأتون فيها بِنِظام عَقْلاني أو عِلْمي، هناك شيء آخر في الكِتاب المُقَدَّس يَنْسِف ذلك. لماذا بعض الأطَعِمة طاهِرة والبعض الآخر ليس كذلك؟ لماذا لا بأس بالتَّضحية بالماعِز وليس بِالخِنْزير؟ لماذا يُمْكِن تقديم الثَّور قُرْبانًا لله، ولا يُمْكِن تقديم الجَمَل؟ ما الذي يَجْعَل عَدم وجود حافِز مَشْقوق أو عدم الإجترار هذا الحيوان غير مُناسِب لأغْراض القداسة؟
كما يقول راشي عن الشَّرائع الأربعة للخَليط غير المَشْروع: إن الله هو صاحِب السِّيادة، وهو الذي أمَرَ بذلك، وليس من الضَّروري أن نَعْرِف السَّبَب لكي نُراعي هذه الشَّرائع. في الواقع أنا أُؤَكِّد أن البَحْث عن "لماذا؟" في الكِتاب المُقَدَّس هو في مُعْظَمِه بَحْثٌ تافِهٌ ذو أبْعادْ كبيرة في مُعْظَم الحِسابات. القَضِيَّة بالنِّسبة لأتْباع الله لا يَجِب أن تكون ”لماذا؟“ بل "أيّهما؟" ما هو النَّمَط أو القانون الذي يَجِب تَطْبيقُه على أي ظَرْف مُعَيَّن هو ما يَجِب أن يكون مُهِمًّا، وليس لماذا أمَرَ الله بذلك القانون.
أُؤَكِّدُ كذلك أنه مثل قوانين الطَّعام الكوشير وقوانين الحيوانات التي تُعْتَبَر مُناسِبة للتَّضْحِية، فإن قوانين الاخْتِلاط غير المَشْروع هذه توضِح بطريقةٍ مادِّيّةٍ مَرْئيَّةٍ بعض المبادئ الرّوحِيّة الثّابِتة. إن هذا التَوْضيح وما يُسْتَفاد منه هو بَيْت القَصيد. ليس الأمْر أن الأفعال أو المواد أو المَخْلوقات نَفْسُها هي المَبْدأ، بل ما توضِحْهُ هو المَبْدأ.
سنُواصِل في الأسبوع القادِم النَّظَر في بعض الرَّوابِط في الكِتاب المُقَدَّس (القديم والجديد) التي تَتَشابَك بين الخَلْطات غير المَشْروعة والجِّنْس والزِّنا.