سِفْر التثنية
الدرس خمسة وعشرون – الإصحاح عُشرون
بدأنا الإصحاح عشرون من سِفْر التثنية في نِهاية الأسبوع الماضي ولَكِنَّنا انتَهينا عِند الآية تِسعة. درْسُ الليلة من أصعَب الدروس لأنّ المَوضوع الأبرَز هو الحَرْب المقدَّسة، وأرجو أن تَفهموا أنّ الحَرْب المقدَّسة هي حربٌ بدأها الله بأمْرِه المباشَر ويُشرِف عليها ويُنهيها الله بأمرِه المُباشر. قد يَكون الِقتال في الحروب الأخرى التي لا حَصْر لها خلال حياتِنا وآلاف السنين التي سبَقَت عصرَنا له أسباب وَجيهة وعادِلة وتم خَوْضُ كثيرٍ منها باستِخدام اسم الله المقدَّس كذَريعة مُفتَرَضَة. ولكنْ كما ناقشْنا في مُناسبات عديدة ليس للإنسان أي سُلطة لإعلان أي شيء ”مُقدَّسا“ مهما كان ”إلهيًا“ أو صالِحًا كما نَعتقد.
الرَب هو صاحِب الحَق الوحيد في إعلان ما هو مقدَّس وما هو شائع أو نَجِس. من المؤكَّد أنّ العديد من الحروب تُخاض باسم الدِين ولكنّها ليست حَربًا مقدَّسة. وبالتالي هناك قواعِد خاصَّة تنطبِق على الحَرْب المقدَّسة وهذا هو جوهَر ما نَدْرُسُه اليوم.
قد لا يَبدو الأمْر كذلك للوَهْلة الأولى ولكنّ كَلِمات الإصحاح عشرين (خاصة الآيات عشرة إلى النِهاية التي نحن بصدَد تَعلُّمِها) لها آثار بَعيدة المدى. هناك كُتُبْ كامِلة كُتِبت عن هذه الآيات الـحادية عشرة فَقط، وتأثيرُها عَميق جداً على فَهْم سِفْر يوشَع على وَجه الخُصوص، وأيضاً كل تاريخ إسرائيل المُسجَّل وغير المُسجَّل تقريباً في أرض الميعاد.
لقد ظَهَر في الآونة الأخيرة عالَم جديد من الفَهْم اللاهوتي يَستند كلُّه إلى بروتوكولات الحَرْب المقدَّسة التي أمَرَ الله بها. وهذا المَجال هو ما أصبَح يُطلَق عليه ”الحَرْب الروحية“، والذي كُتِبت عنه الآن العديد من الكتُب (بعضها جيِّد، وبعضُها خيالي ومليء بالسِحر لدرجَة أنه خَطير). في حين أنّ الحَرْب تَبدو وكأنها مَسعى بَشَري بَحْت (نتيجة فَشَل بشري هائل في الحقيقة) إلا أنّنا نقرأ في الكتاب المقدَّس حتّى عن الحَرْب في السَماء.
لذلك لا شَكّ في أنّ الحَرْب بين البشَر (على الأقل الحَرْب المقدَّسة) لها عُنصر روحي مُحدَّد ومُميَّز؛ وفي الواقع بالإضافة إلى الحَرْب البشرية، هناك أيضًا نوع من الحَرْب في عالَم الروح، وهو مَحصور في عالَم الروح. ولكن مَوضوع الحَرْب الروحية كما يتمّ مُناقشتُه في عصرِنا الحديث يَقَع في مكان ما بين هذين النَقيضين؛ فالحَرْب الروحية هي مَزيج غريب بين البشري والروحي.
بينما نَرى في الحَرْب المقدَّسة لإخضاع كَنعان رجالاً يُقاتلون رِجالاً، ولكن وراء الكواليس كان يَهوَهْ يَعمَل ويُدبِّر بحيث كانت النتيجة مُحدَّدة سَلَفًا؛ لذلك في بعض الأحيان حدَثت أمور خارِقة للطبيعة لتأمين النَصْر لإسرائيل (مِثل سقوط أسوار أريحا). بالمَعنى الدقيق للكَلِمة، لم تكُن هذه حربًا روحيّة؛ بل إنّ الحَرْب الروحية التي يَعترِف بها الآن البعض في الكَنيسة الحديثة على أنها شيء من المُفترَض أن يَختبرَه عَصرُنا، هي حرب روحية تتعلَّق ببَشر من لَحْم ودَم (المؤمنين بالمسيح) حيث يَدخلون في مواجَهةٍ مُباشَرة مع كائنات روحية شريرة.
الآن لا أعرِف ما إذا كنا سنُناقِش الحَرْب الروحية بالَتفصيل في صَفّ التوراة أو متى سنُناقِشها، إذا وَجَّه الرَب بذلك، فسنَفعل بالتأكيد. أنا أذكُر هذا فقط لأنّ الطريقة التي يَجِب أن تُخاض بها الحَرْب الروحية تَعتمِد في المَقام الأول على ما نحنُ بصَدَد دراستِه. وبعِبارة أخرى فإنّ مَفهوم الحَرْب كنَموذجْ يَستخِدمُه الله لتَحقيق هدفِه النهائي ”سَلامٌ على الأرضِ ومَوَدَّةٌ بين جميع الناس“ يَبدأ هنا في سِفْر التثنية حيث المَوضوع هو الحَرْب المقدَّسة.
في جَميع أنحاء الكتاب المقدَّس نَجِد الملوك والأنبياء وحتّى كَتَبة العهَد الجديد يَستخدمون استِعارات الحَرْب والرسوم التوضيحية للمُساعدة في شَرْح ما يفعلُه الله، وما يجِب أن تَفعلَه إسرائيل رَدًا على ذلك، وما هي رسالة المَسيح وبالتالي ما هي واجباتِنا كأتْباع له. استَخدَم القديس بولُس في رسالة أَفَسُس وكورنثوس استِعارات حربيَّة لتَحفيز أتباع يسوع على الحياة الصَحيحة وطاعة كَلِمة الله: “…….البسوا دِرع الله الكامِل…..البِسوا خوذة الخَلاص…….استخدِموا سَيف الروح………كونوا جنودًا مع المسيح قائدنا المُحارِب في مَعركةٍ ضِدّ الشَر……"
كانت الحَرْب هي الطَريقة التي سيُخضِع بها الرَب كلَّ البَشر له ولكن ليسَت بالضرورة كما يَظنُّها الإنسان، أو كما يُمارِسُها البشَر. الحَرْب المقدَّسة هي المواجَهة مع الشَر التي أذَنَ بها الله، وكلّ حَرْب أخرى ليسَت حَرْبًا مقدَّسة. معظم الحروب التي نراها في الكِتاب المقدَّس تُمثِّل حَربًا غَير مأذون بها. كانت تلك الحروب تدور حول أجَنْدات البَشَر وعدم اهتمامِهم باتِّباع شرائع الله وأوامِرِه بالروح والحَق.
قال جاي ماكسويل ما يلي عن الحَرْب لكي يُساعدَنا على فَهْم أنه بينما كانت الحَرْب المقدَّسة بالفِعل أداة لتَحقيق السياسة الإلهية، فإنّ الحَرْب نفسَها (الحَرْب العامَّة كما يُحدِّدها البَشَر) لا تَحمِل معها خَتْم موافَقة الله: حتّى في العَهد القديم، يُحرَم داود من امتياز بِناء الهيكل لأنّ يدَيه مُلطَّخَتان بالدِماء. إحدى سِمات الملكوت المسيحاني القادِم هي إلغاء الحَرْب. إنّ كَوْن مُجتمَعِنا اليوم لا يزال يَلجأ إلى الحَرْب لا يُثبِت شيئًا سوى أنّ البَشر يقاومون بشِدَّةٍ نِعْمَةِ الله….."
لم تكُن حروب المَلِك داود في غَزواتِه حروبًا مقدَّسة بالضَرورة. وعندما كانت حُروبًا مقدَّسة إلى حدٍ ما، لم يكُن يَخوضها دائمًا ضِمن الحدود الصارِمة لشرائع الله المُتعلِّقة بالحَرْب المقدَّسة. لا يَجِب على المُحارِب المقدَّس الذي يقوم بالأمور على طَريقة الله أن يَعيش بذَنْب الدَم على رأسِه؛ لقد تَحمَّل داود ذنْب الدَم لسَبب صَريح هو أنّ العديد من قراراتِه كانت جسديَّة وذاتيَّة بطبيعتِها، والدَم الذي سَفَكَه كان في بعض الأحيان لأسبابٍ شخصيَّة ومَجْد؛ وقد دَفَع ثمنًا باهظًا لذلك.
إنّ المَلكوت المسيحاني (مَلكوت المسيح الذي يمتَدّ لألف عام) لن يتحمَّل أيْ حَرْب. ومع ذلك (وهذه هي المُفارقَة التي سَبَق أن ذَكرتُها سابقًا) فإنّ المَعركة في هرمجدون، الحَرْب التي ستُنهي كل الحروب، هي التي ستَدفعُنا إلى العَصر الذي لن تَكون فيه حَرْب بعد الآن. لماذا؟ لأن هذه هي الحَرْب المقدَّسة، وسيَقوم بها يسوع كما كان يَنبغي وكلّ أعداء الله سيُجلَبون إلى الهلاك وهَكذا (على الأقلّ لفَترة من الزَمن) سيَنتهي الشَر على الأرض.
اسمَحوا لي أن أقدِّم لكم بعض المَواد للتَفكير في موضوع آخر صَعْب ومُثير للجدَل ثمّ سنقرأ ما تبقَّى من سِفْر التثنية الإصحاح عشرين: لقد ناقشْنا مَساء السَبت الماضي الغرَض والقَصْد والسياق لمَبدأ التوراة ”العَينْ بالعَيْن والسِن بالسِن“.
وقلتُ إنّ هذا المَبدأ استُخدم كأساس لنِظام العدالة المَدَنية والجِنائية الإلهية؛ ولم يكُن مبدأً حياتيًا يُستخدَم في العلاقات الشَخصية. لدينا مَيْل في عالَم الديانة اليهودية المسيحية إلى الخَلْط بين تلك التَعاليم الإلهية المُخصَّصة للاستِخدام في السِياق القانوني وتلك المُستخدَمة في العلاقات الشَخصية. وقد ذكرتُ أنّ المسيح تَحدَّثَ بإسهاب عن الفَرْق بين الاثنين.
وبما أنّ الحَرْب المقدَّسة تَنطوي على الكثير من التَدمير للحَيوانات، والمُمتلكات، والحَياة البشرية، فهُنا مَبدأ آخر من مبادئ التوراة يجِب أن يُعاد إلى السياق الصحيح. تُظهِر قواعِد الاشتباك في الحَرْب المقدَّسة عدَم التسامُح المُطلَق وعدم الرَحْمة تجاه أولئك الذين وَسَمَهُم الرَب بالدَمار. إذًا كيف يُمكننا التَوفيق بين هذا المَبدأ الإلهي وبين أحَدَ أشهَر وصايا المسيح ”أحِبّوا أعداءكُم“؟
سأخبرُكم على الفَور أنّ الإجابة الشائعة على هذه المَعضِلة هي: إله العَهد القديم يختلِف عن إله العهد الجديد. فالإله الذي لا تتغيَّر طبيعتُه أبدًا قد تغيَّر.
اقلِبوا أناجيلكُم إلى إنجيل متّى الفَصْل خمسة الآية ثمانية وثلاثين
اقرأ إنجيل متّى الفَصْل خمسة الآية ثمانية وثلاثين إلى النِهاية
لاحِظوا بعناية السِياق الذي قال فيه يسوع كَلِماتِه ”أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ“. لقد قالها في سياق ”العَين بالعين والسِن بالسن“ لأنّ العين بالعين كانت تتعلَّق بالتناسُب الصحيح مع نِظام العدالة القانونيَّة.
عندما تحدَّث يسوع عن مَحبَّة أعدائكم، لم يكن الأمْر يتعلَّق بالجانِب القانوني في نِظام العدالة الإلهية، بل كان الأمْر يتعلَّق بالعلاقات الشخصية. ”أعداؤكُم“ هُم أولئك المعارِف أو الأقارِب أو أي شخص لديه شيء ضِدَّكُم (لسبب وَجيه أو لا)؛ لا يُشير إلى لِصّ قد يأتي ويرتكِبُ جريمةَ سَرِقَةٍ ضِدَّكُم.
أعداؤكَ (في هذا السِياق) تُشير أيضًا إلى من لَهُم سُلطة عليك، أو أي شَخص قد يكون قَريبًا منك يُعامِلُك بشكل غير عادِل، يُهينُك، يُسيء إليك، يَجرَح مَشاعِرَك؛ لا تُشير إلى شَخصٍ أخَذَ سِكّينًا وقَتَل طِفْلك في عَمَل عَنيف. أماّ أنّ تُصْفَع على خَدِّك ولا تَرُدّ الصَفْع على الخَدّ فتَعني أن تَرفُضَ الانتقام منه. صَفْع شخص ما على خدِّه هو تَعبير عِبري عن إهانة شخص ما؛ ولا يتعلَّق الأمْر بالاعتِداء والضَرْب. في الشَرق الأوسط، كان إهانة شَخص ما تَتسبَّب في فِقدان ماء الوَجْه، ولذلك كان من المُعتاد أن يكون الانتِقام (حتّى إلى حَدِّ الثأر والقَتْل) أمْرًا مَطلوبًا. لذلك لا يتعلَّق الأمْر بارتكاب جَريمة مِثل نَقْل علامة حُدودية على أمَلْ سَرِقة أرض. في إحدى الحالتَين هناك نِظام قضائي مُعَدّ للتعامُل مع تلك الانتهاكات المَدَنية والجِنائية ضِدَّك، وفي الحالة الأخرى (أحِبّوا أعداءكم) هذه قَضايا شخصية متروكَة لكُم للتعامُل معها على المُستوى الشخصي.
كما ترى هناك فَجوة هائلة بين أعداء الله وأعدائنا. يُخبرُنا المسيح أن نُحِبّ أعداءنا، ولا يُخبرُنا أبدًا أن نُحبَّ أعداء الله. أن نُحبَّ أعداء الله يعني أن نَحُلَّ أي اتِّحاد مع الله. علينا ألاّ نَقبَل أبدًا ما يرفُضُه الله.
كيفَ يُمْكِنُنا أن نُحِبَّ ما يَبغضُه الله ثم نُسمّي ذلك اتِّحادًا؟ على العَكس من ذلك، حتّى لو لم يَكُن لدينا أي شيء شَخصي ضِدّ أعداء الله، فإننا لا يَجِب أن نَقْبلَهُم. علينا أن نَرفُضَهم تمامًا كما يَرفُضُهم الله. والآن، دعوني أكون واضِحًا: الشَخص الذي يذهَب إلى جماعة مُختلِفة عنكُم، ويَلتزِم بمجموعة مُختلفة من العقائد، هو على الأرجح ليسَ عَدو الله. الشَخص الذي قد تَراه شخصًا سيئًا للغاية بسبَب فُجورِه ليس بالضَرورة عَدوًّا لله. يُعرِّف الله أعداءه بأنَّهم أولئك الذين هُم في تَمرُّد كامِل ضِدَّه إلى درجَة أنهم لن يَكونوا مؤهَّلين للخَلاص أبدًا؛ إنَّهم أولئك الذين وَسَمَهُم للهلاك بسبب تَصميمهم على مُعاداتِه والذين يَقِفون بدلاً من ذلك مع الشرير. قد لا نتمكَّن في مُعظَم الأحيان من تَمييز أيِّهِما من وِجهة نَظَرٍ دُنيوية، لذلك علينا أن نَكون حَذرين للغاية في كيفية اختيارِنا. وعلينا ألا نُخطئ في جانِب المَحبَّة والرَحمة. إذا كانت هناك حاجَة إلى إرشاد التوراة والروح في حياتِنا، فهي في هذه المَسألة.
نفهَمُ أيضًا أنّه مِن منظور الكتاب المقدَّس (وقد غَطَّيتُ هذا بعُمق في الدروس السابِقة) أن نَكْرَه شَخصًا ما لا يَعني الكراهية العاطفية حتّى مرحَلة القَتْل كما نَظُنّ. الكُره يَعني رَفْض شيء ما أو شَخص ما رَفْضًا تامًا، أو في بعض الحالات رَفْض ما يؤمِن به هذا الشخص أو ما يُمثِّلُه. أمّا الحُب، على العَكس، فهو القُبول بكلِّ إخلاص، وليس مُجرَّد الإعجاب بشخص ما على مستوى عاطِفي عَميق (ورجاءً، لا تَظُّنوا أنني أقول إنّ العاطفة ليسَت جزءًا من المُعادلة، إنها كذلك……لكنَّها هي أقل بكثير ممّا ننسُبُه إليها عادةً حيث نَجعَل الحُبَ والكراهيةَ عاطفيَّين فقط). الشَخص الذي ”يَبغُضه“ الله هو شَخص مَرفوض من الله. أمّا الشخص الذي يُحبُّه الله فهو مَقبول من الله. وهذا هو مَعنى البُغض (والحُب) الذي نَحتاج أن نفهمَه عندما نَقرأ الكتاب المقدَّس، وهو المعنى الذي نَحتاج (كمؤمنين) أن نَفهمَه.
دعونا نقرأ ما تَبقّى من سِفْر التثنية الإصحاح عشرين.
اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح عشرين الآية عشرةْ إلى النهاية
هذا الإصحاح الأكثر تَحديًّا. لقد أدّى إلى كلّ أنواع العَقائد والاعتِذارات والتَبريرات وسوء الفَهْم بين المؤمنين. لهذا السَبب أرَدْتُ أن أهيئكم (إلى حدٍ ما على الأقل) قَبل مواصَلة الدَرْس.
ليسَ من الضَروري أن نتقدَّم بالعُمر ليأتي الوَقت الذي ننظُر فيه إلى الوراء، إلى حياتِنا ونرى أننا فوَّتْنا فُرَصْ ذهبيَّة للقيام بشيء مُهِمّ والجدير بالاهتمام ودائماً وغالِبًا ما لا تَظهَر تلك الفرصة مرَّة أخرى بِنَفْس الطريقة المُؤثِّرة. السَبب هو أننا نواجِه عادةً مُفترَق طرُق في الحياة، وَيَضَعُنا أحَدْ الطرُق على مَسار واحد، والطريق الآخر يَضعُنا على مَسار مُختلِف.
وعَلاوةً على ذلك، وعلى مُستوى أعلى، وبسبَب تَطوُّر المُجتمعات وتَغيُّرِها يُنظَر إلى بعض المُمارسات والعادات على أنَّها قديمة وعَفا عليها الزَمن (إلاّ في الحالات القصوى) ويتمّ التَخلُّص منها. لذلك فإنّ ما كان مُمكنًا في وقتٍ ما من التاريخ (قَبل ثلاثمئة عام مَثَلاً) لم يَعُد مُمكنًا اليوم. لقد تطوَّرت التكنولوجيا والحَضارة.
على سَبيل المِثال: ما كان ليَحدُث في أواخر ثلاثينيات القَرْن الماضي لو لم يُقرِّر العالَم أن نَدُسَّ رؤوسنا الجَماعية في الرِمال ونتجاهَل ما كان يَفعلُه هِتلر في أوروبا؟ ماذا لو فَعَلْنا ما كان الكثير من القادة العَسكريين وقادة العالم يَعلَمون أنّ علينا فِعْلَه، ولكن لم تكُن هناك إرادة سياسية لفِعْلِه. وبذلك كان نُصْف سكان العالَم من اليهود ليَبقوا على قَيد الحياة. ربما كان من المُمكن إنقاذ حياة مائة مليون إنسان من عَشرات الدُوَل لو أننا فَقط انتهَزنا الفُرصة لإيقاف رَجُل مَجنون قَبْلَ أن يُصبِح قوياً لدرجة أنّ ثَمَن إنهاء حُكمِه الإرهابي سيكون حَرْباً عالمية.
لقد أصبَح العالَم مَكانًا مُختلفًا الآن (وليس للأفضَل كما أوَدُّ أن أضيف)، ولا مَجال للعودة إلى الوَراء. لقد ضاعَت الفُرْصة.
حسنًا، كان يوشَع وإسرائيل على وشَك أن يُمنَحا فُرصة لإبادة شَر لا يمكن تَصوُّرُه. كان ذلك سيَعني تَدميرًا واسِع النِطاق للبَشَر بطريقة نَعتبِرُها هَمجية وقاسية لدرَجة أنها تكاد تكون غير مَعقولة. لكن العالَم في تلك الحَقَبة كان يَعمَل على وَجْه التحديد بطريقةٍ جَعَلت الحَرْب قاعدة وليس استثناء… كانت فظيعة، لكنَّها كانت مُعتادة. لقد فَهِم الجميع قواعِد المُجتمعات القَبَلية والحَرْب المُستمِرَّة، وكيف كانت الأمم تأتي وتذْهَب، وأنّ موت الناس بِشَكل جَماعي لم يكُن أمْرًا غير طبيعي. كان بإمكان بَني إسرائيل في الواقِع طَرْد غير المَرغوب فيهِم من كنعان، وتَدمير أعداء الله الذين أمَرَهم الله بإهلاكِهم لو اختاروا ذلك؛ لكنَّهُم بدلاً من ذلك اختاروا أن يَسلُكوا طريقًا آخر. لقد سَمَحوا لأعداء الله بالبَقاء واكتَشفوا بالطريقة الصَعبة أنّك إذا كنتَ صَديقًا لله، فإنّ أعداء الله سيُصبِحون في النهاية أعداءك أيضًا شِئْتَ أمْ أبَيْت.
دعونا نرى ما إذا كان بإمْكانِنا أن نَخوض في هذا القِسم من سِفْر التثنية بعُيون مَفتوحة على مِصراعيها ومُستعدّين لقُبول ما يُعلِّمُنا الله دون الحُكْم عليه. أوَّلاً، في الآية عشرة، أن تَعرُض إسرائيل على بلدة ”سَلامًا“ قَبل مُهاجمَتِها يعني أن تَعرُض عليها شروط استِسلام مواتِية. لا يتعلَّق الأمْر بِجَعلِ سُكّانِها رُفَقاء. تُمنَح تلك البلدة فُرصة لفَتْح أبوابها ببساطَة لجَيش إسرائيل والخُضوع. ولكن هذا يَعني أكثَر من ذلك. يَعني أيضًا أنّ قيادة تلك البَلدة تُوافِق على أن تُصبِح جزءًا من مُجتمَع إسرائيل. يَعتمِد مدى اندماجِهِم في إسرائيل على ما إذا كانوا راَضين بأن يَكونوا أجانِب مُقيمين (جُزء من إسرائيل، يَعيشون بين إسرائيل ويَخضَعون لقوانين إسرائيل) من دون أن يُصبِحوا إسرائيليين رَسميّين.
الأجانِب المُقيمون هُم أولئك الذين يَرغبون في الاحتِفاظ بهَويَّتِهم الأجنبية بينما يَعيشون في الوَقْت نفسِه داخِل مُجتمع الله. من ناحية أخرى، أي شَخص، بما في ذلك أولئك المَذكورين في الآيات عشرة إلى خَمسةَ عَشْرَة، الذين يَرغبون في أن يُصبحوا إسرائيليين (أن يرفُضوا آلهتَهمُ وتراثَهُم الخاص بهِم وأن يُقيموا حَفْل خِتان) يمكنُهم أن يَفعلوا ذلك بِحُرَّية. ومِثلما هو الحال في المُجتمَع اليوم، كانت هناك في ذلك الوقت ظِلال رَمادية بين هذين النَقيضَين وهذا ما سيُحدِّد وَضْعَهُم الدقيق في المُجتمع الإسرائيلي.
كان من المُقرَّر أن تُنقَذ تلك المدن والقرى التي استَسلَمَت عندما اقترَب جيش إسرائيل. ومع ذلك كانت ستُصبِح بعد ذلك تابِعة لإسرائيل بمعنى أنَّهم (كأجانِب مُقيمين) يمكنِهُم إجبارَهُم على العَمَل نيابةً عن إسرائيل ودَفْع الجِزْية لإسرائيل. كانت هذه في الواقِع شروط طَبيعية ومُعتادة للاستِسلام لقوَّةٍ أقوى في تلك الأيام على الرُغم من أنَّنا في مُعظم الحالات نَجِدُ هذا السلوك غير مَقبول اليوم. لا تتَصوَّروا بالضَّرورة أُناسًا بعِصابات السَلاسل الرَهيبة التي يُشرِف عليها سيِّد مَهمّات قاسٍ وأشخاصًا نِصْف جائعين بعُيون غائرة يَرتدون الخِرَق عندما تُفكِّرون في هؤلاء الأجانِب المُقيمين ”بالسُخرة“. تذهَب شريعة موسى إلى حَدٍّ كبير في المُطالبة بُمعامَلة العَبيد مُعاملة إنسانية وإعطاء حقوق للخَدَم. كان بإمكان حُكومة إسرائيل أساسًا أنْ تَستدعيهِم من وقتٍ لآخر للقيام بأعْمال، ولم يكُن ليَكون لديهِم خَيار آخر. لا شَكّ أنّ بعض الذين استَسلَموا سُلِّموا إلى بعض العائلات كخَدَم، حَسب الظُروف.
يَرِد في الآية الثانية عشرة ما الذي يجِب فِعلُه إذا رَفَضت تلك القَرية أو المَدينة الاستسلام وقرَّرَت بدلاً من ذلك مُحاربةَ جيش إسرائيل: توضَع تلك المدينة تحت الحِصار، وعندما تَسقُط المدينة يتمّ إعدام كل الذُكور المُقيمين فيها ويَتمّ أخْذُ جميع النساء و”الصِغار“، بالإضافة إلى الماشية وجميع مُمتلكات الشعب كغنائم حَرْب. الفِكرة قاسية جدًا؛ لكنَّ الأمْر على وَشَك أن يُصبِح أسوأ من ذلك.
دعونا نَفهَم نُقطتَين مُهمَّتَين؛ أولاً، عندما يُشار إلى إعدام جَميع الذكور فهذا يَعني جميع الذكور البالِغين. يُشير هذا بشكلٍ عام إلى الرِجال الذين يَبلغون من العُمر عشرين عامًا وأكثر، على الرُغم من أنّه في هذه الحالة ربّما يَشمل الذكور في أواخِر سِن المُراهقة لأنّ مُعظَم مُجتمعات الشرق الأوسط كانت تُجنِّد الذكور في جَيشِها في سِن السادسة أو السابعة عشرة. يَعني مصطلح ”الصِغار“ (الذين يَجِب أن يُعفَى عنهُم) جميع الأطفال، ذكوراً وإناثاً. لذلك لم يؤمَر العبرانيون بإبادة الأطفال الذكور الصِغار. ثانيًا، كان أمام كل مدينة وقَرْيَةٍ خَيار آخر (رُغم أنه كان مَقيتًا بالتأكيد) مُتاحًا لهم دائمًا: كان بإمْكانِهم ببساطة أنْ يَحزِموا أمتعتَهُم ويُغادروا قَبْل أن تُهاجِمَهم إسرائيل. وبعِبارة أخرى، كان أهْل كنعان يَعرفون جيدًا ما تَنوي إسرائيل القِيام به، وكانوا على عِلْم بذلك عندما كان جَيش إسرائيل يَقترِب من مَكان إقامتِهم، وكانوا يَعرفون ما الذي يتوقَّعونَه عندما يَصِلون. لذلك كان هناك مُتَّسَع من الوَقت للانتِقال من أرْض كنعان وبَدء حياةٍ جديدة في مكان آخر وفِقدان أرْضهِم وربّما الشُعور بالكثير من الحُزن والاضطراب.
كان هَمّ الرَب الرئيسي هو إفراغ الأرْض (أرضُه الّتي خَصَّصَها) من الشَعب الشِّرير الذي أرادَه أن يخرُج مِنها ليؤسِّس مَلكوت الله هناك. ليس هناك أيّ تَعليمات بمُطاردة أولئك الذين لم يُقاتِلوا بل فَرّوا فقط أمام جيوش إسرائيل أو بِقَتْل أولئك الذين استسْلَموا دون أن يَشِنُّوا حَرْباً أوَّلاً.
تُشير الآية الخامسة عشرة إلى المُدُن والبَلدات ذات الصِلة بهذه المُعامَلة الخاصة المَوصوفَة: إنَّها تلك المُدُن والبلدات البعيدة عن الأرض التي يُعطيها الله لإسرائيل. إذًا هذا لا يَشمَل بشكلٍ عام تلك المَواقِع التي تَقَع داخِل حُدود ما كان يُفهَم أنَّها كَنعان، أرض ميراث إسرائيل (أرض الميعاد). كانت هذه البَلدات والمُدن المُعيَّنة خارِج أرض كنعان (وراء الأُرْدن مَثلاً)، وبالتالي مُنِحت مجموعة من الخَيارات المُختلفة عن تلك التي مُنِحت لسُكّان كنعان.
على العَكِس من ذلك فإنّ التَعليمات الرَحيمة الوارِدة في الآيات عشرة إلى خَمسة عشرة لم تكُن مُتاحة لأولئك الذين يتحدَّث عنهُم سِفْر التثنية عشرون التالي. يقول الوَصْف ”مُدن هؤلاء الشعوب“. بالمَعنى العام ”هؤلاء الشُعوب“ هُم جميع الكنعانيين. وبشكلٍ أكثر تَفصيلاً هناك مَجموعة من سَبْع شعوب يُريد الله استئصالَها. على عَكْس مَوضوع الآيات السابقة، هؤلاء الكنعانيون لا يُسمَح لهم بالعَيش؛ لا الذُكور ولا الإناث ولا الأطفال ولا حتّى الحيوانات التي رَبّوها. هنا تَبدأ التَعقيدات.
هناك مَجموعة من سَبْع أُمَم يقول الرَب إنّها شريرة جدًا لدرَجَة أنه لا يريد طرْدَها، بل يُريد أن تَموت. هذه الأُمَم هي الحِثيون، والإموريون، والكنعانيون، والبيروزيون، واليبوسيون، والجرجاشيون، والعموريون. يُرجى مُلاحظة ما قلتُه لكُم للتَّو لأنَّه يُمكن أن يكون مُربِكًا. إنّ مُصطلح ”الكَنعانيين“ هو اسمٌ عامّ لكُلّ من يَعيش في أرض كنعان، ولكِن من الناحية الفَنِّية هي قَبيلة أو أُمَّة من نَسْل حفيد نوح كنعان المُباشَر، لذا من وِجهة نَظَر الأنساب والقبائل، فَهم ليسوا بالضرورة مُرتَبطين بتلك الأُمَم السِتة الأخرى المَذكورة. إليكُم المُشكِلة مع هذه الأُمَم السبعة التي تُمثِّل معظم سكّان أرض كنعان: إنها تَعبُد آلهة كاذبة، ولديها مُمارسات بَغيضة، وتَقِف بقوَّة في مواجَهةِ يَهوَه. وعلاوةً على ذلك فإنّها تُمثِّل خَطَراً روحياً شديداً على إسرائيل لأنّه من المؤكَّد أنّ إسرائيل ستَتبنّى بَعض ممارساتِهم الشريرة إذا سُمِح لهؤلاء القَوم الوثنيّين بالبَقاء والاختِلاط بِشَعب الله المُختار.
وبعِبارة أخرى، فإنّ هذه القَبائل الكَنعانية المُختلِفة ستُمثِّل تأثيرًا سيّئًا على العبرانيين لدرجَة أنّ الله كان له طَلَب غير مَشروط من إسرائيل بإبادة هؤلاء الناس دون أي رَحمة على الإطلاق. من المُثير للاهتمام أن نُلاحظ (حتّى لا نأخُذ فِكرة خاطئة) أنّ المُشكلة الحقيقية لم تكُن في نظام مُعتقَد الكنعانيين؛ بل كانت المشكلة الحَقيقية هي ممارساتِهِم الطقوسية البَغيضة التي أبْغَضَها الله. إنّ كَوْن جميع هذه الأُمَم السبعة كانت تَعبُد الكواكِب كآلهة وآلهة لم يُحسَب ضِدَّها على أنه أمرٌ قاتِل بالضرورة، لأننا رأينا في سِفْر التثنية أربَعة (ولاحِقًا في الإصحاح اثنان وثلاثين) أنّ الله قد خَصَّص لها عبادة النُجوم والقمَر والشَمس. بل كانت المُشكلة هي الانحِراف الجِنسي، والتَضحية بالأطفال البَشريين، وشُرْبِ الدم، وكلِ أنواع السُلوكيات المُعديَة الأخرى التي لم يكُن الرَب يحتمِل وجودَها في أي مكان بالقُرب من شعبِه المُختار.
وبما أنّه كان لا بُدّ من شَنّ حَرب مقدَّسة على هذه الأُمَم السبعة التي عاشَت داخِل أرض كنعان وكان يجِب أن يَكون تدميرُها نهائيًا وقاطِعًا، فقد وَضَع الله بعض القواعِد الأخرى للتَعامُل مع الأمور التي ستحدُث بشكلٍ طَبيعي في هذه العَملية. تتعلَّق إحدى القواعِد بكيفية التعامُل مع الأشجار التي تَنمو خارِج أسوار المدينة الكنعانية المُسَوَّرة.
كانت حَرْب الحِصار هي الطريقة المُعتادة لمُهاجَمة المُدُن المُسوَّرة في تلك الحَقبة. كانت الفِكْرَة كلُّها أن يَقوم الجيش الغازي بتَطويق المدينة وقَطْع الإمدادات الغذائية ورُبَّما مَصدَر المياه عَنها، ثم انتِظار تأثير الجوع والجَفاف على السُكّان. كان لدى بعض المُدُن ما يَكفي من الإمكانيات لبِناء أسوار المدينة حول إمدادات المِياه لحِمايتهِا، وكذلك بناء مَخازن كافية لتَزويد السُكّان بمَخزون كبير من الطَعام. لذلك يمكِن أن تَكون حرب الحِصار عَمليَّةً طويلة جدًا تُقَيِّد الجيش المُهاجِم لأشهُر. لذلك ولِتَسريعها تمّ تطوير طرُقٍ مُختلفة للهُجوم واختراق الأسوار الحَجَرية الهائلة.
عندما نُفكِّر في الحِصار غالبًا ما نتصوَّر الرومان وأبراجَهُم العالية على عَجلات ومَنجنيقاتهم وكباشِهم الضارِبة ذات الأغطِية الواقِيَة وما إلى ذلك؛ ولكن هذا التطوُّر جاء مُتأخِرًا كثيرًا. كانت حَرب الحِصار في وقتٍ سابِق تَنطوي على أدوات بَسيطة مِثل السلالِم لإيصال الجُنود إلى أعلى الأسوار أو إشعال النار في قاعِدة السور خاصةً إذا كان السور مَصنوعًا من كُتَل الحَجَر الجيري لأن الرُطوبة المُحتبَسة داخل الحَجر الجيري تتحوَّل إلى بُخار بسبب حرارة النار، وتُفجِّر الصخور حَرْفيًا، مما يَخلُق طريقًا لدُخول الغُزاة.
كان الحِصار يَنطوي دائمًا على الاستِخدام التَكتيكي للخَشَب لصُنع السلالم وإشعال النيران. يأمُر الرَب جيش إسرائيل بألاّ يَستخدموا الأشجار المُثمِرة لصُنْع أدوات الحِصار، لأنّ تلك الأشجار توفِّر طعامًا صالِحًا للأكل، ومن المُنافي للمَنطِق السَليم أن يُدمِّروا أشجار الفاكِهة التي ستُصبِح ذات قيمة كبيرة لإسرائيل بمُجرَّد طَرْد العَدو. بل كان عليهِم أن يَستخدِموا فقط الأشجار غير المُثمِرة لصُنْع أدوات الحِصار الحَرْبية.
لم يَكُن شَعب إسرائيل غَبيًّا وكان يُدرِك جيدًا قيمة الأشجار المُثمِرة. فلماذا فَكَّر الله إذَن في أن يَطلُب مِنْهُم ألا يدَمِّروا موارِدَهم الغذائية، إذا جازَ التَعبير، بتَجنُّبِ تدمير تلك الأشجار المُثمِرة؟ لأنّ إسرائيل كان تَعمَل بموجَب ناموس الهيرم. لا تَختلِط عليك الأمور: أنا أقول هيرم وليس حَريم. مَعنى كَلِمة هيرم حَرْفيًا هو ”حَظْر“، بينما الحريم عِبارة عن وِحدة اجتماعية تتكوَّن من مجموعة من الزوجات والمَحظيات وأولادِهنَّ تَنتمي إلى مَلِكٍ أو حاكِم.
إنّ شريعة الهيرم ليسَت خاصَّة بإسرائيل تَمامًا. ولكن بما أنها حَرْب مقدَّسة، والله هو القائد الأعلى المُقدَّس لإسرائيل، فإنّ جَميع غنائم الحَرْب المقدَّسة تَعود إليه وهو الذي سيُقرِّر ما يَجِب فِعلُه بها. وبما أنّ الله ليس إنسانًا يَحتاجُ إلى الذَهب أو الفِضّة أو الحُلِيّ الفاخِرة أو الأقمِشة الجميلة أو الأطعِمة الفاخِرة أو العَبيد الذين يُلبّون أوامِرَه، فإنّ الوَسيلة الوَحيدة لتَخصيص هذه الأشياء على أنّها لله وَحدَه هي جَعْلُها غير مُتاحة للاستِخدام من قِبَل أي شخص آخر. وبما أنّها مُخصَّصة للرَب وحدَه، فإنّ هذه الأشياء تُعتبَر مقدَّسة، وبالتالي لا يُمكِن لأي إنسان أن يُشارِك فيما هو مقدَّس لله. لذلك تم تَدمير كل هذه الأشياء لأنها تَخُصّ يَهوَه.
يُمكننا الآن أن ننظُر إلى هذا المَبدأ ونَحُكّ رؤوسَنا وننزعِج منه بشدَّة. لكن هذه هي شريعة الله. لا تَدَع الأمْر يُقلِقْكَ كثيرًا لأنّ بعضَ ما سمعتَهُ اليوم لم يُعْجِبْك. مُعظَم العُلماء المسيحيين لا يُحِبوّنَه أيضًا، ومنذ زَمن بَعيد وَجَد حُكماء وحاخامات اليهود أنّ هذه التَعليمات تتعارَض مع أحاسيسِهم الخاصَّة، فبدأوا في كتابة تَعليقات تُحرِّف وتُقلِّب المَعنى المباشَر الواضِح لما قيل. لقد وَجَد الحُكماء المسيحيون والحاخامات اليهود على حَدٍّ سواء أنّ هذه الشرائع والأوامِر الخاصّة بالحَرْب المقدَّسة غير مُتسامِحة للغاية، وتَفتقِر إلى الرَحمة، وقاسية وشديدة للغاية، بحيث بَدَت مُتعارِضَة مع آرائهم (وآرائنا) عن التَوبة والأمَل المُعلَن في أن يَعود الجميع إلى الرَب يومًا ما. في الواقِع، لقد استَخدَمَت العقائد المَسيحية الحديثة والهالاخاه اليهودية التأويل والرَمزية لتَعديل وتَخفيف حِدَّة هذه الوَصايا المقدَّسة احتِرامًا لمَبادئ أخرى أكثر قيمة وتَفضيلًا من صُنْع الإنسان.
لدي صديق كثيرًا ما يَذكُر لي أنه يُفضِّل عدم مُناقشة أمور العهد القديم لأنه، على الرُغم من أنه مؤمِن، فإنّ سَفْك الدماء والقَتْل والقسوة المَنسوبة إلى الله تَجعلُه غير مُرتاح. مِثل الكثير من أصدقائي المَسيحيين، فإنّ الجانِب الوحيد الذي يُريد أن يُفكِّر فيه حقًا هو مَحبّة الله. لقد ذَكَرتُ مِرارًا وتَكرارًا أنّ هذا ليس خَطيرًا علينا فحسْب، بل يَتَّصِل بعبادة الأصنام عندما نُفكِّر بهذه الطريقة لأننا نُشكِّل الله على صورتِنا عندما نَفعَل ذلك. الله له جوانِب مُتعدِّدة في طبيعتِه، وعندما نَحتفِظ بالجوانب التي نُحِبُّها ونَشْذُب الجوانب التي لا نُحبُّها، فإننا نُعيد تَعريف الله القَدير. كيف يُمكِن أن يوجد العَدْل إذا لم تكُن هناك حدود ولا عواقِب لانتِهاك تلك الحُدود؟ إنّ إنكار دَيْنونة الله وغَضَبِه كجوانِب ضَرورية من طبيعتِه هو إنكار لسيادتِه علَينا، نحن مخلوقاتُه المخلوقة.
إليكُم الأمْر الذي يُمكِن أن نَغفَل عنه: في المُستقبَل القريب جدًا، ستَحدُث أفظَع حَرْب على الإطلاق ستُصيب البشرية. ستَكون حربًا يزعَم مُعظم الإنجيليين أنَّهم يَتطلَّعون إليها: حَرْب هرمجدون. في تلك الحَرْب سيَنجو كل من يَدعو يسوع مُخلِّصًا وسَيَهلُك الآخرون جميعًا. لا رَحمة. لا استثناءات. لقد حدَّد الرَب بالفِعل غير المؤمنين كأعداء له، ولكن في رحمتِه قرَّر أنّ بعضاً من هؤلاء سيَتوبون ويَثقون به لذلك فقَد حَجَب الدَينونة النهائية لبعضِ الوقت. ولكن في معركة هرمجدون يَكون ذلك الوقت قد مَضى. لن يَهُم إذا ما رَفَع الملايين أيديهمِ إلى السَماء وصَرَخوا قائلين: ”لقد أخطأنا كثيرًا! الآن وقد رأينا المَسيح في مَجْدِه الذي لا يُصدَّق، نحن نؤمِن!“ لقد فات الأوان. سيَموتون من خلال الانفِصال الأبدي عن الله وهم يَعرفون الحَق، لكنَّهم لن يَكونوا قادرين على الاستِفادة منه. بمُجرَّد أن تبدأ الحَرْب المقدَّسة النهائية، فإنّ قائمة أولئك الذين يُعرَّفون بأنَّهم أعداء الله مَحفورة في الصَخر ومُغلقَة.
ستَعمَل معركة هرمجدون بالضَبط وِفْقَ قواعِد الحَرْب المقدَّسة كما هو موضَح في سِفْر التثنية عشرين وواحد عشرين، لأنّ معركة هرمجدون مِثْل غزو كنعان هي حَرْبٌ مقدَّسَةْ بدأها الله ويَقودها الله وستَنتهي على يَد الله. سيَكون مسيحُنا الوَديع المُسالِم المُعتدِل قائدُنا في الإبادة ليسَ للملايين بل للمليارات. كما ترون، كما ستُنَفَّذ شريعة هِرمجدون على يَد إسرائيل في كنعان، كذلك سيُنفِّذُها يسوع وجيشُه من القديسين والملائكة في هرمجدون. إنّ غنائم هذه الحَرْب، الناس، والحيوانات، وكلَّ شيء هي مُلْك لله، قائد الحَرْب، ولذلك لكَي لا يتمكَّن أي إنسان من الاستِفادة من تلك الغنائم يَجِب أن تُدَمَّر. إذًا كما أُمِر بالنسبة إلى تلك الأُمَم الكنعانية السَبعة، هكذا سيَكون الأمْر بالنسبة إلى كلّ عالَم المُتمرِّدين: إبادَة كامِلة.
في الأسبوع القادِم سنَبدأ سِفْر التثنية الإصحاح واحد عشرين.
الإصْحاح واحد وعشرون.