سِفْر التثنية
الدرس تِسعة – تَكملة الإصحاح ستّة
أوَدُّ أن أطلُب منكُم الانتباه والصَبر اليوم لأن النِصف الأول من هذا الدَرس يَختلِف اختلافًا كبيرًا عن النِصف الأخير، الذي يَتناول إحدى أصعب الرسائل التي تَشرَّفتُ بتقديمها.
قال أحَد أكثر حُكماء اليهود تَبجيلًا، الرمبام، المَعروف أيضًا باسم موسى بن ميمون الذي عاشَ خلال القَرْن الثاني عَشَر ما يلي:
”قالَ الحكماء القُدماء: ”من كان على رأسِه وذراعِه تيفيلين، وعلى ثوبِه تزيتزيت، وعلى بابِه مِزوزة فقد يُفترَض أنه لا يُخطئ“، لأن لديه مُذكِّرات كثيرة؛ وهي ”ملائكة“ تُنقذُه من الخطيئة، كما يُقال: ”مَلاك الرَب يَحوم حول الذين يَتَّقونه ويُنقِذُهم“.
ما يَقصُده رمبام هو أنّ لِبس التيفيلين وتزيتزيت وتثبيت الميزوزة على عَمود باب البَيت يُذكِّر اليهودي دائمًا بأوامِر الرَب؛ وبالتالي فإنّ احتِمال أن يُخطئ مِثل هذا الشَخص عن عِلْم ضِدَّ يَهوَهْ مُستبْعَد. بالمُناسبة: كما عَلَّمتُك من قَبِلْ، الكَلِمة العبرية التي نُتَرْجمها عادةً (وأحيانًا بالخطأ) إلى الإنجليزية على أنها ”ملاك“ هي ”ملاخ“. وفي أبسَط مَعانيها مالاخ تَعني ببساطَة رسول، وهذا هو المَعنى الذي يَقصدُه موسى بِن ميمون هنا.
بينما نواصِل اليوم في دراستِنا لسِفْر التثنية الإصحاح السادس سنلقي نظرة متأنية على ممارسة اليهودية الأرثوذكسية في ارتداء أدوات تسمى تيفيلين، ووضع الميزوزة عند مدخل البيت (وغالبًا ما توضع عند كل مدخل داخلي في جميع أنحاء المنزل).
دعونا نُعيد قراءة سِفْر التَثنية ستّة من الآية ستّة إلى نهاية الإصحاح.
أَعِد قراءة سِفْر التثنية السادس الآية السادسة – حتّى النهاية
عندما تَقول الآية ستّة: ”هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا آمُرُكُمْ بِهَا تَكُونُ عَلَى قُلُوبِكُمْ“، فهي تُشير مُباشرةً إلى ”شِماع“، ”اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ“، الآيتان اللتان جاءتا مُباشرة قَبل ما قرأتُه لكم الآن؛ وقد ناقشنا هاتَين الآيتَين باستفاضَة الأسبوع الماضي. لن أستعرِض كلَّ ذلك ولكن إنْ فاتَكم ذلك فإمّا أن تَذهبوا إلى مَوقِع "تورا كلاس دوت كوم" أو أن تَأخذوا قُرصًا مُدمجًا وتَستمعوا إليه لأن هذا هو المَبدأ الأساسي في العَقيدة اليهودية المَسيحية. لاحِظوا أيضًا أنّ عبارة ”هذه الكَلِمات“ تُشير أيضًا إلى كلّ الشرائع والأوامِر التي أُعطيت بالفِعل، والتي هي على وَشَك أن تُعطى لأن هذا القِسْم من سِفْر التثنية هو في جوهرِه انقطاع في سَير إعطاء الناموس لكي يوضِح موسى نُقطة مهمَّة وهي أنّ أوامِر الله يجب أن تُنفَّذ في سياق مَحبَّة الرَب. والفِكرة هي أنّ جَعْل اتِّباع هذه الوصايا نوعًا من الطقوس الميكانيكية لا يُصيب الهَدَف. لاحِظ كذلك التَعليمات التي تقول إنّ الناموس، التوراة، يَجب أن تَكون ”على قَلبِك“. أؤكِّد على هذا لأنّ العَديد من قادة الكنيسة علَّموا أنّ العَهد القديم كان شريعة خارجية جامِدة مَكتوبة على ألواح حَجَرية، بينما العَهد الجديد له ديناميكية جديدة وهي أن تَكون وصايا يسوع مَكتوبة داخِليًا على قلوبِنا. من الواضِح أنّ هذا ليس هو الحال (كما هو الحَال مع العَديد من الأساطير التي تُكرِّسها العقائد المُعادية لليَهود والكِتاب المُقدَّس التي يجِب أن تُزال من تَفكيرنا).
يَرِد في الآية سبعة أنّ إسرائيل يَجِب أن تُعَلَّم هذه الشرائع والوصايا (خاصةً الشماع) لأبنائها؛ هذه ليسَت موعِظة فارِغة. لقد ذكرْتُ في الأسبوع الماضي أنّ موسى لا يَصْرِف كلّ هذا الوقت والجُهد في إعادة صياغة شامِلة للشريعة، ثمّ يَشرَح مَعناها كنَوع من الاحتفال ببداية الحَرْب المُقدَّسة لغَزو أرض الميعاد. ذلك الجيل الجديد لم يكُن يعرِف الكثير من الناموس، فآباؤه، الذين كانوا جيل الخروج الأصلي، الذين ماتوا وذهَبوا الآن، لم يَقوموا بواجِبِهم ويُعلِّموا أولادَهم (أولئك الذين يَقفون الآن أمام موسى ليَسمعوا عِظَتَهُ) شرائع الله؛ ولم يَتْبَعوا الناموس بشكل خاص بِجديَّة كبيرة.
عِند هذه النقطة نَحصُل على سِلسلة قصيرة من التَعليمات التي شَكَّلت جزءًا كبيرًا من التَقليد اليَهودي. جاء فيها أنّ على أرباب البيوت أن يَتكلَّموا عن الرَب وأوامِره ”حين تَكونون في البيت، وحين تكَونون في الخارج، وحين تَضطجعون، وحين تَقومون“. هذه العِبارة هي أداة أدبية ليست مَحصورة على الإطلاق بالثقافة العِبرانية، ولكنَّها أداة نَجِدُها مُستخدَمة بكَثرة في الكتاب المُقدَّس، وتُسمّى ”البَلاغة“. أي أنها عِبارة شِعرية تَهدِف إلى نَقْل فكرة ما، وهي عبارة تُجمَع أجزاءها المُتعدِّدة لتُقدِّم مَفهومًا واحدًا شامِلًا. على سبيل المِثال، في مِثال سابق على البلاغة في سِفْر التكوين قيل لنا أنّ الله ”خَلَق السماوات والأرْض“. والفِكرة ليست أنَّه خَلَق فقط شيئًا يُعرَّف بـ ”السماوات“، ثم شيئًا آخر نُسمّيه الأرض…. الكوكَب نفسُه….. ثم تَرَكَنا لنَتأمَّل فيما إذا كان الله لم يَخْلَق أشياء أخرى غير السَماوات والأرض. ذلك يَعني ببساطة أنّ الله خَلَق كلَّ شيء لأنَّ السماوات بالنسبة للعِبراني تُمثِّل ما هو غَير محدود بينما تُمثِّل الأرض ما هو مَحدود. لذلك فإنّ العبارة حول وَقت الحديث عن الرَب (في البيت أو في الخارج، مُضطجعاً أو مُستلقياً أو قائماً، إلخ) تَعني ببساطة ”في كلِّ وَقت“ أو ”في كل حالة“.
في الآية ثَمانية نُواجِه تَعليماً أثار جَدَلاً كبيراً داخِل الديانة العبرانية، وتمّ تَجاهُلَهُ بشكٍل عام في المَسيحية؛ وهو أن نربِط هذه الوَصايا كعَلامة على أيدينا وعلى جِباهنا. الجَدَل بين اليهود هو ما إذا كان هذا الأمْر حَرفي حيث يَجب أن يوضَع نوع من الأدوات الطَقسية على اليَد والجَبهة بالفِعل، أو ما إذا كان هذا بيان مَجازي يَعني ببساطة أنَّه كما يَجب التَفكير في كلام الرَب والتَحدُّث به باستمرار، يجِب أن يُصبح أيضًا جِزءًا مِنّا بنوع من المَعنى المادي. والغَرَض هو أن يَتذكَّر المَرء باستمرار يَهوَهْ وشريعتَه.
بَعد وقتٍ طويل من إعطاء الناموس، اتّفَقت مَجموعات قليلة من اليهود على أنّ المَقصود هو أخْذ الأَمْرِ حَرفياً وهكذا ظَهَر استخدام التيفيلين. في اللُّغةِ اليونانية، وبالتالي في العَهد الجديد، سنَجِد ذِكْرًا مُباشرًا لهذه الأشياء الطَقسية باستخدام عَمَل ” الفيلاكتري “.
تَتألَّف التيفيلين أو الفيلاكتري من صندوقَين صغيرَين من الجِلد الأسود يَحتويان على أربَعة مَقاطع من الكتاب المُقدَّس، وهما مَربوطان بأشرِطة جِلدية سوداء. تُوضَع إحدى العُلبَتين على الذراع الأيسَر عند العَضلة ذات الرأسين وتوضَع الأخرى على الجَبهة أو على الشَعر. يلبِسها اليهود الأرثوذكس قَبل صلاة الصُبح وأثناءها، ولكن لا تُستعمَل في يوم السبت وبعض الأيام المُقدَّسة الأخرى لأنه يُعتبَر أنّ الاحتفال باليوم المُقدَّس نفسُه هو عَلامة بحدّ ذاتِه.
قَبْلَ وَضْع التيفيلا (مفردها تيفيلين) للذِراع تُقدَّم صلاة. وتُخبِرنا هذه الصلاة أنّ لِبس التيفيلين بالنسبة لليَهودي الأرثوذكسي هي وصيَّة من الله. يَقولون بالعبرية:
”هَا أَنَا بِلُبْسِ التَّفِيلِينِ أَنْوِي بِلُبْسِ التَّفِيلِينِ أَنْ أُتِمَّ وَصِيَّةَ خَالِقِي الَّذِي أَمَرَنَا بِلُبْسِ التَّفِيلِينِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي تَوْرَاتِهِ“. ثم يقتبس سِفْر التثنية الإصحاح السادس الآية ثمانية: ”اربطها علامة على ذراعك ولتكن تيفيلين بين عينيك“.
ولكن الحَقيقة هي أنّه على الرغم من أنّ هذه الجُملة الأخيرة مأخوذة من سِفْر التَثنية الإصحاح السادس الآية ثمانية، إلا أنّ كَلِمة تيفيلين العِبرية ليسَت موجودة هناك، بل الكَلِمة هي "توتيفيت" والتي تَعني بشكل أصَحّ ”عِصابات“. بالتالي، لدينا هنا لِبس التيفيلين كتَقليد. ولكن لم يَلتزِم كل العبرانيين بهذا التَقليد، ولا يوجد دَليل على أنّ هذا التَقليد كان مَوجودًا قَبل حوالى عام مئتين وخمسين قَبل الميلاد. نَعلَم من السِجلاّت أنّ الفِريسييّن جَعلوا لِبس التيفيلين جزءًا صارِمًا من تعاليمهِم، وفي مَرحلة ما أخَذوا يَلبسونَها ليس فقط في صلاة الصَباح بل في كل الأوقات ما عَدا وَقت النَوم. ونَعلمُ أيضًا أنّ العبرانيين الذين عاشوا في السامرة لم يُراعوا هذا التقليد (وهذا بالطَبع كان إهانة كبيرة ومَقصودة ليَهود اليهودية). يبدو أنّ هذا كان في المَقام الأول تَقليدًا خاصًا باليَهود الذين عاشوا في اليهودية حول مَركَز الأرثوذكسية اليهودية، أورَشليم. لا يوجد سِجِلّ لأي استخدام واسِع النِطاق للتفيلين في الجَليل حيث عاش يسوع.
إذَن، هل كان الفِريّسيون وَحدُهم هم الذين يَرتدون التيفيلين؟ على ما يبدو لا، لأنه تمّ العُثور على تيفيلين قديم بين القِطَع الأثَرية للإسينيين في قمران، وهي مَذكورة في وثائق الجَماعة في مَخطوطات البَحر المَيِّت. يُناقِش يوسيفوس أيضًا موضوع التيفيلين ويَمضي في شَرْح أنه حتّى الوصايا العَشَر كانت في بعض الأحيان مُدرجَة بين الكتابات التي كانت مُخزَّنَة داخل تلك العُلَب الجِلدية المُصغَّرة. لذلك نحن نعلم أنّ كيفية ارتداء التيفيلين وما كان يَحتوي عليه قد تَغيَّر مع مرور الزَمن، وأنّ مَجموعات مختلفة من اليَهود طَوَّرت تقاليد مُختلِفة للتيفيلين.
تُوضَع تيفيلين الرأس في وَسَط الجَبهة مع تَلاوة صَلاة أخرى وتُعقَد الأشرِطة في الخَلْف بحيث تُشكِّل الحَرْف العبري دالت، ويكون رباط الذراع باليَد على شَكْل حَرْف يود. تُشَكِّل هذه الأحرف العِبرية الثلاثة اسم شداي (سُبحانه وتعالى). كَتَب ألفريد إديرشيم، وهو عالِمٍ عبري/مسيحي هائل عن الأهَمية الصوفيَّة للتيفيلين:
”من المُستحيل المُبالغة في قيمتِها وأهميتِها في نَظَر الحاخامات. لقد كانوا يوقِّرونها كما يوقِّرون الكتاب المُقدَّس“. ”قيل أنّ موسى قد تَلقَّى شريعة مُراعاتِها من الله على جَبَل سيناء؛ وأنّ ”التيفيلين“ كانت أكثر قداسَة من اللوحة الذَهبيّة على جَبين رئيس الكهنة، لأن نَقْشها لم يكُن يُجسِّد سوى مرَّة واحدة اسم ”يَهوَه“ المُقدَّس، بينما ”احتوى التيفيلين على الاسم ما لا يَقُلّ عن ثلاث وعشرين مرَّة“.
يؤكِّد ألفريد إدرشيم أيضًا أنه على الرُّغم من أنّ الفِريسيين كانوا يَتورَّعون في ارتدائها:
”يبدو أنّ الاعتِراف بأنّ الكهنة الرَسمييّن ومُمثّلو الشَعب لم يَلبسونها في الهيْكل (زباخ تسعة عشرة أ، ب)، يُشير إلى أنّ هذه المُمارسة لم تكن عامَّة تمامًا“.
لقد أرادَ الفريسيون أن يُلاحظوا تَقواهم الظاهرية، وكما سنَتذكَّر جميعًا أنّ يسوع انتقَدَهم على هذا وعلى تَصرُّفات أخرى مِثل النَفْخ في البوق كلَّما ساهموا بالمال في خزائن الهَيكل. ولكن ما هو مُهِمّ هو أن نُلاحِظ (بأسلوبِه البريطاني المُعتاد في التهوين) أنّ إدرشيم يقول إنّ هذه المُمارسة المُتمثِّلة في ارتداء التيفيلين ”لم تكُن عالَمية تمامًا“. التَرجمة: قام بها أقلِّية من اليهود.
والآن، لقد سَمعتُ العديد من مُعلِّمي الجذور العبرية يقولون إنّ يسوع كان يَرتدي التيفيلين. وهذا أمْرٌ يَتراوح ما بين مُستبعَدٍ جدًا إلى غير مُحتمَل. كان يسوع يهوديًا فلاحًا من عامَّة اليهود من الجَليل؛ وغالبًا ما أظهَر موقِف الازدراء الجَليلي النَموذجي تِجاه الغرور الديني المُتضخِّم للسُلُطات الدينية اليهودية في أورَشليم، وهذا يَشمَل الفِرّيسيين الذين كانوا جزءًا حَيويًا من تلك السُلطة الدينية.
دعوني أكون واضِحًا: إنّ ارتداء التيفيلين هو على الأقلّ تَفسير مَشكوك فيه للتوراة. إذَن، هل ارتداء التيفيلين خطأ بالضَرورة؟ لا، لكنَّه ليس أمْرًا تَوراتيًا بأي حال من الأحوال. يَقول رمبام العَظيم والعَديد من الحكماء اليهود النُخبة الآخرين بشكلٍ لا لِبس فيه أنّ عِبارة ”اربِطْها كعلامة على ذراعِك وعلى جبهتِك“ هي استِعارة وليس المَقصود أن تؤخَذ حَرْفياً. ولكن مِثْل كل تَقليد من صُنع الإنسان أو اختراع رَمْز جديد، هناك خَطَر. ونَجِد هذا الخَطَر واضِحًا ببساطة في الكَلِمة اليونانية المُستخدَمة للتفيلين، وهي الفيلاكتري والتي ليسَت كَلِمة يونانية خاصّةً تم اختراعُها لوَصْف هذه العادة العِبرية الفَريدة من نوعِها لدى بَعض اليهود الذين يَرتدون عُلَب جِلدية وأشرِطة بداخِلِها لفائف صغيرة من الكتاب المُقدَّس، بل فيلاكتيري مُصطلَح يوناني عام يعني ”تَميمة“. التَميمة هي تَعويذة سِحرية وهي أداة صَغيرة يُقال إنها تَمتلِك قوى الشِفاء أو صِفات الحِماية. وكما يُمكِن للمَرء أن يَتوقَّع، من بَين العَديد من اليهود الذين قرَّروا ارتداء التيفيلين، اعتَقَدَ البَعض مِنهُم أنها أشياء تَمتلِك قوة إلهية. في الواقِع لدينا نَصّ صَريح في التَرْجوم اليَهودي القديم (في تَرْجوم ثمانية الآية ثلاثة)، يَقول إنّ ”التفيليين“ يَمنَع جميع الشياطين المُعادية من إلحاق الأذى بأيّ إسرائيلي“. ومَع ذلك، لا أعتقِد أنّنا يجِب أن نحكُم على استِخدام اليهود لهذا التقليد الثقافي القَديم؛ ولكن مُحاكاتَه كمؤمنين أُمَمييّن هو أمرٌ مُبالغ فيه.
قَبلَ أن نَبدأ مُناقشة الميزوزة واستِخدامها دَعوني أوضِح شيئًا ما: الكتاب المُقدَّس لا يُحظِّر كل صِناعة أو استِخدام الرُموز. لقد خُلِقنا كمَخلوقات بَصَرية، وبالتالي فإنّ الرُموز عُنصُرٍ مُهِمّ في المُساعدة على تَذكيرنا بمَكانتِنا وَولائنا لله تَعالى. ومع ذلك هناك قواعِد ومبادئ صارِمة تَحكُم صِناعة أو استِخدام الرُموز في التوراة. ويُساعِدنا سِفْر التثنية طوال الوقت على تَوخّي الحَذَر الشَديد من وَضْعِ رمُوزٍ يُمكِن استخدامُها (أو أخذُها من الآخرين) بطَريقة خاطئة.
تَميل التوراة نَحو الحَظْر الصارِم للرُموز التي تَميل إلى تَجسيد يَهوَه؛ أي أنها تتحدَّث عن شيء من شأنِه أن يجعَل الله يَتَخِّذ صِفات شبيهة بصِفات البَشر مُعبَّرًا عنها في أشكال شَبيهة بالبَشر. لذلك لا يَنبغي أن يَكون هناك تَماثيل أو لَوْحات أو صُوَر مَنحوتة من أي نوع تُصوِّر الله. في الحَقيقة، إنّ أعمال مايكل أنجلو الرائعة في كَنيسة سيستين رُبَّما ما كان يجِب أن تُنجَز أبدًا، لأن الكثير مِنها يُصوِّر الله على أنه مُجرَّد رَجُل عَجوز مُلْتَحِ يَطوف على السَحاب. وهذا النوع من الصُوَر الذي أصبَح شائعًا جدًا في عَصر النَهضة قد تَغلغَل في الكنيسة دون وَعي (وفي بعض الحالات بِوَعي) وشَوَّهَ صورة الله بشكلٍ كبيرٍ. لقَد جَعَلَتْنا نُفكِّر فيه كإنسان خارِق، أكثر من كونِه فَوق البَشر، أكثَر من كونِه غير بَشري أسمَى من البَشَر.
نَحن أيضًا مَمنوعون على وَجْه التَحديد من استخدام أي شيء مَخلوق (أي مَخلوق من قِبل الله) كنَموذج لرَمز يَتماثل مع الرَب؛ أشياء مِثل النُجوم، أو القَمر، أو الحَيوانات، أو الأسماك، أو أي نوع من المَخلوقات البَحرية. على العَكس من ذلك، يُعطينا الكتاب المُقدَّس بالفِعل بعض الرُموز التي أمَرَنا الله باستخدامِها، ضِمنَ حدود. ومن بَين هذه الرُموز التزيتزيت (الشرّابات) وربَّما الشيء الذي نَحن على وشك دراستِه بعد ذلك، الميزوزة. ولاحظِ أن ّهذه الأشياء التي أمَرَ الله بها لا تَنتهِك القواعِد التي وضعها الرَب حول الرُموز والصُوَر.
فالميزوزة هي تَذكير بالأهمية التي يوليها الرَب لفِعل العبادة لتَذكُّر من هو الله وأنّه إلهنا. يَرِد الأمْر في الآية تسعة بِقَول ”اكتبوا شرائعه على أُطُر أبواب بيوتكُم وعلى أبوابِكم“ وهو مُتَّفَقٌ عليه في اليهودية على أنَّه حَرْفي يتمّ بِوَضْع الكتاب المُقدَّس على مَدخل البيت وعلى باب القَرْيَة أو المَدينة. ومع ذلك، يمكن تَفسيرها أيضًا بشكلٍ مَعقول على أنها كِناية عن إكرام لِلرَب خاصةً في بيتِك.
كان مِن الشائع في عَصر موسى، وكذلك قَبل ذلك وبعدَه، كِتابة الرِسالة أو النُصوص التي تُكرِّم إلهَك فوق مَدخل بيتِك؛ وكانت مُعظم المُجتمعات تَفعل ذلك بشكل أو بآخر. كما كان من المُعتاد أيضًا أن يكون هناك نوع من الرسائل على المَداخل الرئيسية للمُدُن التي تُعلِن عَظَمة المَلِك أو الإله المُكرَّم في تلك المدينة؛ ولم يكُن الأمْر أقَلّ من ذلك في مَصر التي جاء منها بنو إسرائيل. لذلك فالأمْر بِذِكْر الرَب، وتَكريس المباني للرَب، عن طريق كِتابة بَعض نصوص كتابِه المُقدَّس على المَداخل، كان مَفهوماً تماماً على أنه استِمرار لتِلك العادة شَرق الأوسطية الشائعة.
لذلك كان هذا في عَصر يسوع أمْرًا اعتادَ عليه جميع اليهود…..اليَهوديين والجليليين وحتّى السَامريين والجالِية اليهودية…..ويُمكن أن يَتَّفِقوا عليه. الآن، لم يتمّ تَوضيح كَيفيّة القيام بذلك في الكتاب المُقدَّس، لذلك بالطَبع تَطوَّرت التقاليد ذات الصِلة ويبدو أنّ المُمارسة التي نَراها اليَوم مع هذه الأداة الصَغيرة المُستطيلة التي يُمكِن إلصاقُها على المَدخل بدأت في فَترة الهيكل الثاني قَبل زمن يسوع بقليل وخِلاله. داخِل هذا الجهاز المُسمَّى بالميزوزة، عادةً ما كانت بعض أجزاء التَوراة مَكتوبة بحروف مُصغَّرة على قِطعةٍ صغيرةٍ من الرَقّ. عادةً ما يكَون المَكتوب هو سِفْر التثنية الإصحاح ستّة من الآية أربعة إلى تسِعة والإصحاح الحادي عشر من الآية ثلاثة عشرة إلى واحد وعشرين. كما هو الحال مع التيفيلين، وُجِدَت الميزوزة أيضًا في قمران، وبالإضافة إلى وجود تلك الآيات المُحدَّدة بداخِلها، فإنّ العديد من تلك الميزوزة القَديمة كانت تَتضمَّن أيضًا الوصايا العشر.
لِلأسَف، كما هو الحال مع التيفيلين، حتّى هذا الرَمز الذي أمَرَ الله به اتَّخذ في بعض الأحيان خَصائص التَميمة. حتّى أننا نَجِد أنّ الزَعيم الديني اليهودي العَظيم الحاخام يهوذا الأمير أرْسَلَ ميزوزة إلى المَلِك أردافان البارثي مع رسالة مَفادُها أنه إذا عَلَّقَها على أعمِدة أبواب منزلِه فإنّها ستَحميه.
في النِهاية، مُعظم التَفاصيل المُتعلِّقة باستخدام الميزوزة هي تَقاليد، ولكن مَبدأ استخدامِها (كما هو الحال مع التيفيلين) هو بالتأكيد تَوراتي. نَصيحتي هي أنّه إذا كنتَ تُريد استخدام الميزوزة للإشارة إلى وَلاء عائلتِك لإله إسرائيل أو لمُجرَّد تَذكيرك بأوامِر الرَب أثناء ذهابِك وإيابِك، على الأقل اتَّبِع التقاليد اليهودية المُعتادة بشأن وَضْع هذه الميزوزة في المَقام الأول حتّى لا تُفسِد المَشهَد إذا جاء شخص يَهودي إلى منزلِك. والشيء الأساسي الذي يَجِب أن تعرِفَه هو أنّها تُوضَع في الثُلث الأعلى من عضادة الباب اليُمنى (الجانِب الأيمَن من الخارج ناظرًا إلى الداخل)، على أن يكون الجُزء العُلوي بزاوية نحو داخِل المَنزِل.
أمْرٌ آخر: بينما تُشير عضادة الأبواب إلى مَنزِلِك الشَخصي، تُشير البوَّابات إلى نُقطة دخول المَدينة أو القَرية. كانت البوابات بمَثابة ساحَة للمَدينة في عُصور الكتاب المُقدَّس، وحتّى المِنطقة التي كانت تُعقَد فيها المَحاكم. الأمْر لا يَختلِف عن المُمارسة التي كانت مَوجودة في أمريكا من تَعليق الوصايا العشر في مَحاكِمنا القانونية لتَذكير جَميع الحاضرين بأنّ هذه المَبادئ هي التي تُشكِّل أساس جميع قوانينِنا وأنّ الرَب يَنظُر إلى الإجراءات ويُريد أن يُطبِّق تَعريفه للعدالة والرَحمة بِقَدْرِ ما هو مُمكِن بَشريًا.
الآن في الآية عشرة، يَتمّ التَذكير بِغَير ما تُذكِّر به بين التيفيلين والميزوزة وهو أنه سِواء في الفَقر أو الرَخاء يتمّ حَثّ المَرء على النَظَر في التاريخ (تاريخ الكتاب المُقدَّس، وتاريخ الخلاص، وحتّى تاريخنا الشَخصي) لتَذكُّر الأشياء العَجيبة التي فَعَلها يَهوَهْ من أجلِنا. ومع ذلك لا تُخطئوا؛ فالفِكرة الرئيسية في هذه المَقاطع التالية هي أن نَتذكَّر سيادتَه تعالى خاصةً في وَقت الرَخاء لأنّ الإنسان يَميل إلى النَظَر إلى نفسِه ومُجتمعاتِنا البشرية أكثَر من الرَب عندما تَسير الأمور على ما يُرام. هذا الجُزء المُهمّ من دَرْسِ اليوم، لذا أرجو أن تَبقوا معي.
يَقول الرَب هنا في سِفْر التثنية ستّة: ”لا تَسمَحوا للوَفرة أن تَجعلكُم تَنسون إلهَكم وتَلتفِتون إلى آلهة أخرى….“ يا لها من حِكمة لم يُلتفِت إليها هذا التَحذير عبر تاريخ البشرية، وتاريخ إسرائيل، وتاريخ الكنيسة، وربما لم يَسبِق أن كان هذا التَحذير بهذا القَدْر من الضَخامة كما هو الحال اليوم في أوروبا وأمريكا. من المُثير للسُخرية أنّ الشيء الوحيد الذي يُبعِد معظم الناس عن الله هو السَعي وراء الثروة وتَحقيقِها. هذا لأننا، في رأيي، نَشعُر بأننا أقلّ اعتمادًا على الرَب عندما يَكون لدينا كل ما نَحتاجُه وأكثر.
صدِّقوني، أنا لا أُمجِّد الفَقر أو أنتقِد الوَفرة بأي حال من الأحوال، بل أقول ببساطة أنّ الرَخاء يمكِن أن يَكون شيئًا خطيرًا. لدي خِبرة مُباشَرة في ذلك. مُنذ سنوات عديدة في الجُزء الأوسط من مَسيرتي المِهَنية في الشِركة، جَلَب لي النجاح سقوطًا كبيرًا. ليس الأمْر أنني شَكَكْت يومًا ما في أنّ يسوع كان مُخلِّصي، أو أن الرَب الإله كان وما زال؛ بل أنني نَسَيت علاقَتي مع يَهوَه، ولم أرَ حاجَة لاستشارتِه في حياتي اليَوميّة لأنني كنت أمْلِكُ أكثر مما كنت آمَلُه. بدا كل شيء لَمَستُه وكأنه يَتحوَّل إلى ذَهَب. شعَرتُ بالاكتفاء الذاتي الكامِل، والاعتداد بالنَفْس (ربما تكون كَلِمة متغطرس كَلِمة عادِلة هنا). لم أُفَكِّر في طُرُقِه ونَواميسه، أو حتّى في حقيقة وجودِه وحاجَتي إليه. أنا بالتأكيد لم أفَكِّر في قداستِه، ولم أشْكُرْه على البَرَكات التي قَدَّمها لي لأنني كنت مَشغولاً جدًا بتهنئة نَفسي على كلِّ ذلك. ثم جاء السُقوط. لقد كان دَرْسًا قاسِيًا ومؤلمًا أن أتَعلَّم أن ما يَقوله الرَب يَعنيه، ويَنطبِق على الجميع بلا استثناء.
وهكذا يقول الرَب، بدءًا من الآية عشرة، أنه بمجرد أن تَمتلِك إسرائيل أخيرًا الأرْض التي وُعِد بها إبراهيم قَبْلَ ستمئة سَنة، وبمُجرَّد أن يَبدأ بنو إسرائيل في الاسِتفادة من كلِّ الاستِعدادات التي أعدَّها الرَب لهُم، كان عليهِم أن يَضَعوا بعض الأمور باعتبارهم وإلا كانوا سيجدون أنفسهم (مثلي) في مكان لا يريدون أن يكونوا فيه فيما يتعلق بعلاقتهم مع الرَب وستَكون هناك عَواقب وَخيمة لا مَفَرّ مِنها.
لذلك إخوتي وأخواتي الأعزاء في المَسيح، اسمَعوا هذا التَحذير. باختِصار قيل للعِبرانيين أنّ كل ما هُم على وشَك أن يَحصُلوا عليه لم يَبنوه. كلَّ ما هُم على وَشَك أن يَرثوه، لم يَنالوه باستحقاق. المُدُن والمنازل التي سيَعيشون فيها ستؤخَذ عُنوَة من مُختَلَف قبائل وأُمَم كِنعان الذين بَنوها (من قِبل الرَب) وكلُّها ببساطة ستَؤول إلى إسرائيل. بَساتين الكروم ذات العِنب الوَفير والفاتِن التي سيَتمتَّعون بها، لم تَزرَعها إسرائيل ولا تَرعاها. إنّ بساتين الزَيتون التي ستُنتِج الزَيت المُهم جدًا اللازم لكل شيء بدءًا من الطَهي، إلى تَشغيل مَصابيح الزَيت الخاصَّة بِهم، إلى كونِها مُكوِّنات ضَرورية للعديد من الاحتِفالات الطَقسية التي أمَرَ بها الرَب، هي هِبَة بفَضْل عَمَل الآخرين (الأجيال) وتتَلقّى إسرائيل كل ذلك لمُجرَّد ظهورِها. يتمّ تَذكير إسرائيل بأنها لم تَنتخِب نفسَها أو تَفصُل نفسَها لتَكون شعب الله الخاص؛ لقد اختارَها الرَب وبارَكَها كشعب خاصّ به. وبالمُناسبة، هي أيضًا لم تُنقِذ نفسَها من فرعون، بل الله فَعَل كل ذلك.
خُلاصة القول: الرَب مُستعِدٌّ لإعطاء إسرائيل كل ما تَحتاجه. ما يُريده في المُقابل هو مَحبتُّها له وثِقتُها به. إنّ الحقيقة الأساسية حول مَلكوت السموات هي أنّ كل ما نَبنيه بأيدينا النَابِعة من عُقولنا سوف يَحترِق عندما تَأتي نهاية التاريخ؛ أما ما يَبنيه الرَب من خلالنا فسَوف يَبقى. الدَرْس هو أنّ كلّ ما لهُ قيمة حقيقية هو بإرادة الرَب وإنجازِه وهو يَستَحِقّ كلّ الفَضْل ونحن لا نَستحقُّه.
هذا لا يُشير بأي حال من الأحوال إلى أّننا يَجِب أن نَجلِس مَكتوفي الأيدي ونَنتظِر أن تأتي الأشياء الجيّدة إليْنا. لا، يجِب أن تَكون حياتَنا جُهدًا تَعاونِيًّا مع الرَب. يقول يَهوَهْ لبني إسرائيل أنه قد أعَدَّ لهم ساحة المَعركة وضَمَن لهم النَصر، ولكن لا يَزال عليهِم أن يَخوضوا المَعركة. عليهِم أن يُقاتلوا عندما يقول لهم أن يُقاتلوا، وحيث يقول لهم أن يُقاتلوا، وليس كَيفما بدا لهُم الأمر جيدًا أو أحمَق. يجب أن يَضعوا حياتَهم على المِحَكّ وأن يَكونوا على استعداد للتَضحية بكلٍ شيءٍ عَزيز عليهِم. الدَرْس الذي يَظهَر لنا هنا هو أنّ العَمل من جانِبنا مَطلوب من الله دائمًا. ولكن، ما هي خصائص الأفعال التي يَجب أن نَتَّخِذَها، وكيف نَعرِف أنّ الرَب هو الذي يَقودنا وليسَت العَقلية المُضلِّلة لإنسان يُحرِّكه جَدْوَل أعمال؟
لقد ضَحّى موسى، قائد إسرائيل، شَخصيًا بكلّ شيء من أجْل الأمّة العبرانية وكان مَسؤولاً دائمًا أمام الرَب وأمام الشَعب. لم يَعِشْ موسى في ظِلّ مَجموعة من القواعِد ويُطالِب الجَميع بالعَيش في ظِلّ مَجموعة أخرى من القَواعِد. كان الشيوخ مَسؤولين في كلّ خُطوة أمام موسى. لم يكُن موسى أقَلّ عِرضة لأن يُعاقِبَه الرَب على خَطيَّة أو عَمَل تَمَرُّد من أي واحد من مواطني إسرائيل الثلاثة ملايين المَجهولين. كانت الخُطَط والأهداف، على الرُّغم من صعوبَتِها، من أجْل خَير الجَماعة ومَلكوت السموات (لم يكُن ذلك للسَماح لموسى بالفَوز في استطلاعٍ شَعبي) وكانت كل خُطوة على طول الطريق تَحقيقًا لعَهِد أو وَعِد من الله. حتّى أنّ القائد، موسى، لم يَستفِد اقتصاديًا أو شَخصيًا من جهودِه التي استَمرَّت أربعين عامًا. تَلعَب بعضٌ أو كلّ هذه الخصائص دَوْرًا في تَحديد ما إذا كانت خُطَط البَشر أم خُطَط الله التي يُطلَب منا أن نَسير وِفْقَها.
لاحِظ ما يَحدُث نتيجةً لاتِّباع خُطّة أو أجَنْدة ليسَت من الرَب حقًا حتّى وإن كانت تَبدو مُقدَّسة بالتأكيد. تَقول الآية الرابعة عشرة: ”لا تَتبعوا آلهة أخرى…….آلهة الشعوب التي حَوْلَكم“. حسناً، سأتدخَّل قليلاً؛ لقد رأينا عدَّة مرّات أنّ المُصطلح الكِتابي للإتِّباع آلهة أخرى هو عِبادة الأصنام. ولكنَّنا رأينا أيضًا أنّ الله يَعتبِر بوضوح تَبديَة أي شيء على الله كعِبادة أوثان. هذا التَعريف لعِبادة الأوثان ليس رَمزيًا؛ هذا هو تَعريف الرَب الكِتابي الفِعلي لعبِادة الأوثان. هل نَضَع تَعاليمنا المُريحة وعاداتِنا وممارساتِنا الشَخصية المُريحة التي تُرضينا، والتي غالبًا ما تكون غير صالحة في الكتاب المُقدَّس، أمام حَقِّه، لأنّ حَقَّه وطريقَه ليس سَهلاً؟ هل نحن مُلزَمون ومُصمِّمون على القتال حتى الموت للتمسُّك بهذه الأشياء المَشكوك فيها لأننا نُحِبُّها وهكذا نُبرِّرُها؟ هذه هي الوثنية في أنَقى مَعانيها. لقد أَنْكَر بنو إسرائيل وَثنيّتهم في كل خُطوة من خطواتهم ولم يَعترفوا بها على حقيقتها إلا عِند غَضَب الله.
ما الذي يَسعى إليه العالَم ومن الذي يَتبعُه العالَم؟ بحُكم التَعريف، يَركُض العالَم وراء أشياء ويَتبَع أشياء ليست الله أو يَعتبِرها أهَمّ من الله؛ يَبحث العالَم عن آلهة أخرى. يَسعى العالَم وراء إله الرَخاء. إله الحُقوق غير القابلة للتَصرُّف. إله الحرّية الجِنسية. إله السَعادة والمُتعة. إله الانسجام الجِيوسياسي. عندما نَسعى نحن المؤمنين بإله إسرائيل إلى استِخدام نَفْس أنواع الأشياء التي يُفضِّلها العالَم من أجل جذْب أناس جُدُد إلينا، نُضيف عُنصرًا دينيًا، ونَسير في طريقٍ خَطير. ولكن بما أننا نَفعلُها عادةً في بيئة مَسيحية فإننا غالبًا ما نَخدَع أنفسَنا بالاعتقاد بأننا نَستطيع تَجنُّب مَخاطر الانزلاق إلى الوثنية.
وما هي نَتائج مواقِفنا المُتعجرِفة في هذا الصَدَد؟ تقول الآية الخامسة عشرة إنّ غَضَب الرَب سيَشتعل عَلينا. إذا سمعتُ مرَّة أخرى أن أبانا لا يَغضَب على شعبِه أو أنه لن يُعاقبنا أبدًا، أعتقِد أنني سأصاب بنَوبةٍ قَلبيَّة. هذه رَدَّة وإنكار للحقيقة الكِتابية الواضِحة. لسنا كامِلين في عينَيه؛ نحن مُبرَّرون في عَينيه. لقد رأينا مِثالاً لكيفية تعامُل الرَب مع عَدْلِه بين شعبه المُختار. لقد عُوقِبت إسرائيل (إسرائيل المُخلَّصة) مِرارًا وتكرارًا مع خسائر كبيرة في الأرواح. لقد استَعرضنا في دَرْس التوراة سِجلاّت الأسباط التي قيل إنها كانت تَضَلّ بانتظام، كما في حالة سمعان ودان الذين قد أُهلِكا وانخفَض عدَد سُكّانِهما إلى النِصف وأكثر.
منذ عام ألف وتِسعمئة وخمسة وستّين، بدأ حُضور الكَنيسة في أمريكا يَتضاءل. لماذا بدأت كنيستُنا المَحبوبة في التضاؤل؟ لأنّ هَدَف الكنيسة أصبَح النموّ والازْدِهار قَبل أي شيء آخر ولأنّنا بدأنا نَتَّجه نحو العالَم بدلاً من الحِفاظ على معاييرنا عاليةً وسليمةً. من المُثير للاهتمام أنّ عَصْر الكنيسة الضَخمة، مع قُدرتِها على تَوفير مُحيطٍ رائع ومَجموعة واسِعة من الأنشطة والخَدَمات لرَعاياها بدأ في نفْس هذا الوقت. نحن نَتبَع بشكل أساسي الاتجاه المُماثل لأوروبا. فَقَبل مائتي عام كان تسعون بالمئة من سكّان أوروبا من المَسيحيين، أما اليوم فَهُم أقَلّ من ثلاثة بالمئة. أصبَحت الكنائس الآن مَساجد أو تَحوَّلت إلى واجِهات متاجر أو مَتاحف. في أمريكا تُظهِر أحدث الدِراسات التي أُجْريت في الآونة الأخيرة بما لا يَدَع مجالاً للشَكّ أّن عدَد الأشخاص الذين يَرتادون الكنيسة يَنخفِض بمُعدَّلِ واحد بالمئة سنويًا منذ عام ألف وتسع مئة وتسعين تقريبًا. يَنخفِض عدَد الأمريكيين الذين يَدَّعون أنهم مَسيحيون بمُعدَّل أسرَع.
أيُّها الناس، علينا أن نواجِه الأمْر: الرَب غير راضٍ عنا. لقد عَبَثنا بينما كانت روما تَحترِق. لقد تَخلَّينا نحن المَسيحيين عن مَحبَّة الإنجيل البَسيطة من أجل التسويق البارِع. لقد استبدَلنا تَعليم كَلِمة الله بعِظات حَماسية عن كل شيء بدءًا من حاجة التبرُّع بالمال إلى التَصويت. لقد أصبَحنا نَعتقِد أننا إذا قَدَّمنا أنفُسَنا للعالَم غير المؤمِن من خلال تَغليف أنفسِنا بشكل جذّاب، سيَنضَمّ إلينا المَزيد من الناس. بالطبع، التَغليف الذي يَروق للعالَم لا يُشبه كثيرًا شرائع الله وأوامِرَه، أليس كذلك؟ وبالطَبع حَدَث عَكْس التأثير المَقصود.
يؤرِّخ سِفْرا يشوع والقُضاة سقوط بني إسرائيل في الرَدّة والفَوضى لأنهم قرَّروا أنه بدلاً من أن يَتبعوا طَلَب الرَب بأن يَمتلِكوا الأرض التي أعَدَّها لهم، وأن يُقاتِلوا من أجْل ما هو حَقّ في نَظَر الله، سَعَوا إلى استِرضاء جيرانِهم الوثنييّن من خلال الدبِلوماسية والمُساومة والمُعاهدة. كان أمَلهُم أن يَحصلوا على ميراثهم بالوسائل السِلمية بطَريقة عَقلانية ومَنطقية على غَرار الطريقة التي كان العالَم يَعمَل بها دائمًا. لا تزال إسرائيل تُحاول القيام بذلك، وكذلك الكنيسة الآن. صَدِّقوني، أنا لا أُشير بأصابِع الاتِّهام، بل أتَقبَّل اللوم. ولكن بَعدَ أن اكتشَفنا الآن حَماقتنا وعَرَفْنا أين تَعَثَّرْنا، دعونا نَعقُد العَزم معًا، الآن، هذه الليلة، على أن نُعيد إحياء مَحبَّتنا لله، وأن نَستعيد كَلِمتَه ونَتمسَّك بثبات بمَبادئها، وأن نَزيد من الخِدمة الخارِجية التي كانت مُنتظرَة منّا دائمًا. دَعونا لا نَلهَث وراء الراحة والازدِهار، بل دَعونا نَفتَح أنفسُنا له ونَرى ما هي الخِدمة التي يُريدها منا، وما هي البَرَكات المَجيدة التي تَنتظرُنا إن كنّا فقط مُطيعين ولا نَلهَث وراء آلهة أخرى.
سنُنهي الإصحاح السادِس الأسبوعَ القادِم.