سِفْر التكوين
الدرس الثاني والعشرون، الإصحاحان الثاني والعشرون والثالث والعشرون
قراءة الإصحاح الثاني والعشرون من سِفْر التكوين الإصحاح الثاني والعشرون كُلِّه
"بَعد حدوث هذه الأشياء" هي الطريقة العبرانية لقَوْل "في النهاية". تَصِف انقضاء فترة زمنية غير مُحدَّدة؛ ولكنها عادةً ما تكون فترة زَمنية طويلة. في بعض المَواضع في الكتاب المقدس، يكون الوَقت طويلاً جدًا والظروف والأحوال قد تَطوَّرت بما فيه الكفاية، بحَيثُ يمكننا القول إنّ حَقبة قد انتهت وحَقبة أخرى قد بدأت.
من المُحتمَل أن يكون قد مرَّ على الأقل عدد من السنوات منذ تعامُل إبراهيم مع أبيمالك المُسجَّل في نهاية الإصحاح السابق.
إنّ الإصحاح الإصحاحان الثاني والعشرين من سِفْر التكوين، الذي يَتألَّف من أربعة وعشرين آية فقط، يبدو كما لو كنا قد تَسلَّقنا جَبلاً ضخمًا، بدأنا من قاعدته الواسعة، وشَققْنا طريقنا في مسارات مُتعرِّجة إلى أعلى، وغالباً ما نَشقّ طريقاً جديداً؛ ونأخذ مُنعطَفًا بين الحين والآخر، وأحيانًا نتوقَّف ونُخيِّم ونَتأمّل في المسافة التي قطعناها، والآن…. وأخيرًا…. لقد وَصْلنا إلى القمّة الضَيّقة والشامخة. فكَم هناك من أمور تُقال عن الوصول إلى القِمّة؟ كما مع معظم الأشياء في الحياة، ليس الوصول، بل الرحلة هي التي تَحمِل في طيّاتها الكثير من الأهمية التاريخية؛ لذلك فإنّ القصة التي يَرويها لنا سِفْر التكوين الثاني والعشرون عن الوصول هي في صميم المَوضوع ومُختصَرة من حيث الكَلِمات.
لاحظوا هذا الأسلوب الفريد من نَوعه في كل الكتابات الكتابية. مُعظم الوقت المُخصَّص للشَرْح والبلاغة يُستغرَق في التمهيد للحدث التاريخي النهائي؛ ولكن الحَدَث المركزي عادةً ما يُروى بقليل من العاطفة أو التفاصيل….. وهو أمْرٌ غير مألوف في الكتابة والنَثر البشري في تلك الحَقبة، أو أي حقبة أخرى في ما يَخصّ هذا الشأن، عند تناوُل تلك الأحداث المُزلزِلة التي شَكَّلت الحضارة الإنسانية. إنّ الكتابات العظيمة في الماضي، المأخوذة من مقابر ملوك مصر التي يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، ومن السِجلاّت المِسمارية الضخمة للآشوريين والبابليين، ومن َملاحم العَصر الفارسي واليوناني والروماني التي غالبًا ما تكون مطلوبة للقراءة في الجامعة، تقوم بالعكس تمامًا؛ فتلك تَقضي كل وقتها في تَمجيد وتقديس الملوك والقادة العَسكرييّن، وتَروي حكاية مُتقَنة ومُبالَغ فيها عن يوم انتصار عظيم أو تتويج لرؤيا عظيمة.
انظروا إلى كلّ الوقت الذي استَغرقَه الكتاب المقدس قبل الطوفان، وهو يَشرَح سبب انقلاب البشر على الله، ولكن ما الكَلِمات القليلة والثمينة التي سُجِّلت عن الطوفان نفسه؟ لا حديث عن صراخ الناس وَهُم يَصرخون للنجاة، ولا عن الأرض الغارقة بالجُثث المُنتفِخة من ضحايا الغَرَق؛ ولا عن شماتة نوح وعائلته بنَجاتهم وهلاك الآخرين، ولا عن احتفال الرَب بِمَوت الأشرار.
هنا، مع إبراهيم، كان هناك فصول تَشرَح لنا حياة إبراهيم وهَدفَه، وتجارُب رحلتِه، ونقاط ضُعفِه التي ظهرَتْ مع نقاط قوته، والشرور التي أُعطيتْ له بالتساوي مع الخَير، وهزائِمه الروحية إلى جانب انتصاراته الروحية؛ ثم، في سِفْر تكوين اثنان وعشرين، لدينا فقَرتان فقط، بهدوء، وبصورة شبه انطوائية، تُخبرانِنا عن الإنجاز الصاخب.
دخول سِفْر التكوين اثنان وعشرون هو ذُروة حياة إبراهيم؛ ومن بعض النواحي الهَدَف الذي من أجلِه كان كلّ ما قَبْلَه مجرد إعداد.
كان أيضًا يومًا مُهمًا جدًا في حدِّ ذاته، إلا أنه لمْ يكُن في الحقيقة سوى ظِلّ لأشياء قادمة… نوعًا
ما.
هذا الحَدَث مهمّ بالنسبة لليهودية لدرجة أنّ القصّة أُعطيَت عنوانًا: "العكدة". العكدة تعني "الرَبط" أو "عقدة". بالإضافة إلى ذلك، فهي تُشير إلى رَبط إسحاق أثناء وَضْعِه على مذبَح المِحرقة.
يجب أن نُلاحظ أنّ هذا الإصحاح مُتشابِك تمامًا مع الإصحاح السابق. في الإصحاح الواحد والعشرين، رأينا إبراهيم يَتلقَّى التعليمات بأن يتخَلّى عن الابن الذي أحَبَّه وَوَضع فيه كل أمَلِه، إسماعيل، الابن البِكر لإبراهيم، وريث الوَعد، ويُرسِله فجأة إلى مُستقبل غامض. ثم، فيما إسماعيل في الصحراء على وشك الموت، يُنادي يَهوَه أو مَلاكه من السماء، الذي يُنقِذ الشاب الصغير، يَظهَر الماء بأعجوبة ويُخلِّص إسماعيل.
في هذا الإصحاح، نرى إبراهيم مَدعو للتَخلّي عن ابنه المُتبقّي، إسحاق؛ الابن الذي يَعتبِرُه الله الابن البِكر، وهذا ما قام به. الابن الذي أشار يَهوَه أنه الابن الموعود، سيُنتزع من إبراهيم على يد إبراهيم نفسِه. لحظات قبْل موت إسحاق، يُنادي يَهوَه أو مَلاكه من السماء، ويُنقِذ الشاب، ويَظهَر فجأةً كِبش
بقرون مُعلَّقة ويُخلَّص إسحاق بأعجوبة.
في الآية واحد، قيل لنا أنّ الله كان يَختبِر إبراهيم، هذه هي المعلومة التي نَملِكُها، أنّ إبراهيم لم يَخضَع. هذا مهمّ: لأن السبب في إخبارنا في الجُملة الأولى أن "هذا اختبار"، هو لكي لا نَخاف عندما نقرأها ونتساءل إن كان الرَب يُشرِّع فعلاً الذبيحة البشرية على مستوى ما. وبعبارة أخرى، ربما كنا نَعلَم منذ البداية أنّ إسحاق سوف ينجو.
….. على الأقل كان هذا واضحًا للحكماء والعُلَماء القدماء….. جاءت أوامِر الله لإبراهيم بتقديم إسحاق ذبيحة حَرقًا في الليل، خلال حُلُم أو رؤيا؛ لأننا قيل إنه "في الصباح الباكر من اليوم التالي" بعد أن تًلقَّى هذا الأمْر المُدمِّر أثناء الليل، قام إبراهيم وشَرَع في الطاعة.
الكَلِمة المُستخدَمة هنا لـ "ذبيحة محروقة" هي "عُلى". عندما نَصِل إلى سِفْر اللاويين، سنَسمَع هذه الكَلِمة كثيرًا، فقد كان هناك خمسة أنواع أساسية من الذبائح القُربانية، و"عُلى" هي نَوع واحد فقط، مع أنها الأعلى رتبة بينها كُلّها. نحن نعلم أنّ أنواع القرابين الخمسة كانت مَحروقة…كلها كانت ذبائح محروقة؛ لذا فإنّ لَقَب عُلى لا يَعني فقط "أي نوع من القرابين التي تُحرَق على النار" بل إنّ عُلى بل هو نوع مُحدَّد من المِحرقات له ذات معنى مُحدَّد. وهناك عُنصران يَفصُلان كل نوع من أنواع القرابين الخمسة عن غيرها: واحد) مكوِّنات القرابين التي كان من المُقرَّر إحراقها، واثنان) الهَدَف والوظيفة الإلهية لتلك القرابين المُعيَّنة والطقوس المُرتبِطة بها.
دعونا نَغتَنِم هذه الفرصة لمناقشة المَكان الذي أُمَر إبراهيم بأخْذ إسحاق إليه من أجل هذه الذبيحة الطقسية. طُلِب منه الذهاب إلى "أرض موريا"، إلى قِمّة تلّ سيُشير إليه الله نفسه. لذلك، تمّ تَطوير تقليد جَبَل موريا،
واليوم، على اعتبار أنّ جَبَل موريا يَقَع في أورشليم، والمسألة التي يَتجادَل حولها معظم العلماء التقليديين لها خطّ فاصل يَعتمِد على ما إذا كان المرء عبرانيًا أو مسيحيًا أمميًا. يَعتقِد اليهود أنّ جَبَل موريا هو المكان الذي كان فيه الهيكل، وسيعود إلى الوجود في يوم من الأيام؛ ذلك المَكان الذي يُسمّى اليوم بجَبَل الهيكل وحيث تُهيمِن تلك القُبَّة الذهبية الضخمة لمَقام إسلامي مُكرَّس لمحمّد في أفُق السماء.
ومع ذلك، سيُخبِرُكم العلماء المسيحيون الأمميون أنّ جَبَل موريا هو الجَبَل حيث تمّ الصَلْب.
المَكان الذي أُعدِم فيه يشوع على يَد الرومان؛ وبشكلٍ عام، هناك مَوقِعان مُتنافِسان في القُدس فيما يَتعلَّق بالمكان الذي يُفترَض أنّ ذلك الحَدَث التاريخي قد وَقَع فيه. لا يوجد أي مِنهما في منطقة جَبَل الهيكل.
ومع ذلك، يجب أن نَفهم أنّ جَبَل الهيكل لا يُغطّي جَبَل موريا بأكملِه ولا حتّى جزءًا من أورشليم الأصلية المَعروفة باسم مدينة داوود، بل إنّ مدينة داوود كانت تقَع أسفل مُنحدَر تلّ كبير، وكان جَبل موريا يُمثِّل الجزء العلوي من ذلك التلّ. قد تكون إحدى المواقع من الناحية الفنّية، المَكان الذي اختير كمَوقِع للصَلب وجزءًا من جَبَل موريا، بينما الجزء الآخر ليس كذلك على الإطلاق، لن ندخُل في تفاصيل المكان الذي أُعدِم فيه يشوع بالضبط، ولكنني سأقول لكم أنه من خلال الشريعة اليهودية الموَثَّقة جيدًا السائدة في ذلك الوقت، وبعض التلميحات القوية جدًا التي أعطانا إيّاها بولس، لا أعتقد أنّه من المُحتمَل أن يكون أي من المَوقِعيَن التقليديَين للصَلْب صحيحًا.
لقد أُعطي إبراهيم التَعليمات للذهاب إلى موريا، وكان هو وعائلته في بِئر سَبْع، وكانت بئر شيفا على بُعْد حوالى خمسين ميلاً جنوب غَرْب أورشليم، على حدود شبه جزيرة سيناء. لذا، كانت رحلة طويلة، يَتخلَّلها
وقتٌ للتفكير، والتراجُع عن الهَدف المؤلم من هذه الرِحلة.
من المعلومات المثيرة للاهتمام في الآية ثلاثة: واخد) أنّ إبراهيم أخَذَ معه خادمَين، اثنان) أنّهما قَطعا الحَطب للنّار التي ستكون ضرورية على المذبح، وأخذاها مَعهُما في الرحلة.
في الأسبوع الماضي أعطيتُ العديد من أوجه الشَبه بين إسحاق ويشوع؛ يقول بعض المُفسِّرين أنّ أخْذ إبراهيم لخادمَين يَتطابق مع المُجرمَين الاثنين المُعلّقَين على صليبيهما بجانب يسوع. بِخلاف العدد اثنان، أخشى أن تَنتهي أوجه الشَبه عِند هذا الحدّ ما لمْ يتمّ إضافة بعضًا من الرَمزية. الحقيقة هي أنّ شخصًا بمِكانة إبراهيم ما كان ليُسافر بدون خَدَم، واثنان كانا الحد الأدنى التقليدي المُعترَف به من الخدم المُرافقين في عصره؛ فالحاشية المكوَّنة من اثنين تدلّ على أنّ هذا الشخص كان شخصًا مُهمًا.
ولكن في الآية ستّة، قيل لنا أنّه عند وصوله إلى جَبَل موريا، وَضَع إبراهيم الحَطب لِنار المَذبح على ظَهْر إسحاق…. الحَطَب نفسُه الذي أصبح وسيلة مَوته واحتراقه… وكان ينقُله إلى أعلى التلّ إلى مكان المذبح. هذا وجهٌ من أوجه التشابه مع يشوع الذي كان مطلوبًا منه أن يَحمِل على ظهره الصليب الخشبي الذي سيُصبح وسيلة موته… كذبيحة.
إنّ إحضار إبراهيم الخَشَب معه من بئر شيفا هو أمرٌ مثير للاهتمام أيضًا، لأنه لا يوجد سبب واضح لحاجتِهم إلى نَقْل الخشب الثقيل معهم طوال الخمسين ميلًا. في الواقع، لقد انطلقوا في رِحلتهم من مكان كان الحَطَب فيه قليلًا، للذهاب إلى مكان كان الحَطَب فيه وفيرًا نِسبيًا؛ فلمْ يكُن هناك نَقْصٌ في الشجيرات الثقيلة والأشجار الصغيرة في الجِبال المُحيطة بأورشليم، وقد قيل لنا أنّ الرحلة استغرَقَت ثلاثة أيام، وهي تُعادِل حوالى خمسين ميلًا، وعندما وَصَلوا، أخبَرَ إبراهيم الخادمَين أنهما لا يَستطيعان الذهاب معه هو وإسحاق إلى المذبح، ولكنهما سيَعودان إليهما بعد قليل، فهَل كان إبراهيم يقول كذبة بيضاء صغيرة؟ محاولَة عدم إخافة إسحاق أو الخادمَين بشأن ما كان يَنتظرُه، الذبيحة البشرية لإسحاق؟ أعتقد أنّ هذا تَمهيد لما كان المسيح سيُخبِر خَدمَه به، التلاميذ، بشأن ذهابِه إلى مكان لا يستطيع أحد أن يتْبَعَه… ولكن، أنه كان سيعود إليهم؛ وهو ما يُعرَف عندَنا بالمجيء الثاني.
لا أودّ أن تَفوتنا الرَمزية المُدهشة لذهاب الآب والابن معًا إلى المَذبح؛ من الواضح أنّ كليهما كان ضروريًا. لمْ يَستطِع الآب أن يُقدِّم ذبيحة بدون التضحية، أي التَضحية بالابن، والابن لا يُمكِن أن يُقدَّم ذبيحة بدون دافِع من الآب.
حسنًا جَوهر الله وطبيعته……وما تَدور حوله عقيدة الثالوث….. ومُلاحظتُنا أنه لا يمكننا بسهولة أن نَقسمُ الله إلى ثلاثة أجزاء يمكن تحديدها أو أشخاص يُمكن تحديدهم من خلال التفكيك وإعادة التركيب حَسب مَشيئتنا. ورأينا أيضًا من خلال النبوءات المِسيانية في العَهد القديم….. تلك التي جاء يسوع ليُحقِّقها…… تقول بوضوح أنّ يَهوَه سيُطعَن، وأنه سيَعود إلى جَبَل الزيتون. حسنًا، مع الله المُكوَّن من ثلاثة أجزاء، يَهوَه شخص ويشوع شخص آخر. إذًا، هل يَهوَه أم يسوع الذي سَيذهَب إلى جَبل الزيتون؟ أقول إنّ وِحدة الله كاملة لدرجة أننا لا نستطيع أن نفصُلَها إلى ثلاثة أجزاء، ولكننا نستطيع بالطبع أن نَتكلَّم عن صِفاته الكثيرة…… إحدى هذه الصِفات هي صِفة الخلاص الذي كان من المُقرَّر أن يتمَّ في سياق صِفة أكبر من صفات الله التي نُسميّها الابن.
ما أعنيه هو، لأنّ الله واحد، فإن صِفة الآب وصِفة الابن تَعملان معًا في وِحدة تامّة في كل الأوقات. لقد عُلِّق يَهوَه على ذلك الصليب تمامًا كما عُلِّق يشوع. وهنا نرى في إبراهيم وإسحاق، الآب والابن… معًا على مذبح الذبيحة، كلٌّ منهما بحَسب دَوره. صِفة الابن، كان إسحاق هو الذبيحة، وصِفة الآب، أي إبراهيم، الذي كان يُعِدّ الذبيحة ويَقبلُها. عندما مات يشوع كان الجانب البشري منه هو الذي مات، بينما عاش الجانب الإلهي. عندما مات يشوع كانت سِمة الابن هي الذبيحة…….وكانت سِمة الآب هي التي بَدأت وقَبِلت تلك الذبيحة.
في الآية سبعة، كُسِر صَمت مُضطّرب للغاية عندما سألَ إسحاق أخيرًا سؤالاً واضحًا: "يا أبي، أين الحَمَل للذبيحة؟" لمْ يكُن هذا سؤالاً ساذجًا من ساذج. تقول الكتابات اليهودية القديمة أنّ إسحاق كان في السابعة والثلاثين من عمره في هذا الوقت؛ يقول يوسيفوس، الذي عاش في زَمن المسيح، أنّ إسحاق كان عمرُه أكثر من خمسة وعشرين سنة في هذه المرحلة من الكتاب المقدس. كان إسحاق رجلاً ناضجًا تمامًا لذا، عمره كان ما بين خمسة وعشرين -وسبعة ثلاثين سنة أي على الأرجح في الثَلاثينيات. ولكن، بالتأكيد، إسحاق ليس طفلاً. فِكرة أنّ إسحاق كان صبيًا في العُمر المَدرسي مجرّد اختراع مسيحي أُممي حديث، وهو ما يَجعلُنا نُصدِّق فكرة الطفل البائس الضعيف الذي لا حَول له ولا قوة والذي قد أُجبِر على شيء لا مَفرّ منه.
بعد أن أُمِر إبراهيم بتقديم ابنه إسحاق ذبيحةً محروقة، لا يَسَعُنا إلا أن نتساءل عمّا كان يدور في ذِهن إبراهيم. ومع ذلك، فإنّ التضحية لم تكُن لتبدو غريبةً؛ لأن التَضحية البشرية لإله كانت جزءًا من مُمارسات العبادة العادية لجيرانه الكنعانيين. بينما كان إسحاق يُقدَّم ذبيحة، التزَم الصمت، لأنّه كان يعرف جيّدًا ما كان سيحدُث له، ولمْ يُحارِب ولم يُطالِب بحقوقه أو بتفسير أو يتساءل بصوت عالٍ: "لماذا
أنا؟".
المسيح المُنتظَر، أيضًا لمْ يقاوِم أو يحاوِل تَجاوُز الموت الذبائحي الذي لا يُمكن أن يُنجِزَه إلا الابن الموعود. ومع ذلك، لمْ يَكُن إسحاق المسيح.
الوقت المُعيَّن للمسيح، وَحدُه يَهوَه يُحدِّده، ولمْ يكُن قد حان بَعْد. كما نعلَم الآن، فإنّ ذلك الوقت سيَكون بَعد ثمانية عشرة قرْنًا. كان من المُقرَّر أن يكون إسحاق دَرسًا وإثباتًا لمبدأ روحي فقط. كان إسحاق مُجرَّد إنسان، ولذلك لا يُمكن أن يكون مؤهلاً أبدًا لأن يكون الثَمن الذي طَلَبه الله للفداء الأبدي.
لذلك، المَوت بالطريقة التي أوشَكَت على الحدوث كانت ستكون ذبيحة بشرية؛ لذلك أوْقفَها يَهوَه بمجرّد ظهور الصورة الحيّة للتكلِفة التي سيدفعُها الله الذي سيُضحّي بنفسِه من أجْل البشر.
هذا الإصحاح يشمَل الكثير من الدلالات ذات المغزى، والدالّة على هويّة المسيح وصَلبِه، أليس كذلك؟ يمكننا بسهولة أن نَقضي أسبوعين لشَرْح هذا الجزء، ولكن، سأحاول أن أختصِر النقاط العالية حتى لا نَتعثَّر.
كوسيلة للوصول إلى المَغزى، اسمحوا لي أن أسرُدَ لكم "الأنواع" المُمَثَّلة في هذه القصة، ثم أقدّم لكم المُقارنة كما تَنطبِق على يشوع:
• الآية اثنان: إبراهيم يُضحيّ بابنه الوحيد. الله يُضحيّ بابنه الوحيد
• الآية ثلاثة: بعد ثلاثة أيام من "الحُكم" على إسحاق بالموت، قام من المذبح حَيًا. لقد قام المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام من إدانته.
• الآية ستّة: طُلِب من إسحاق أن يَحمِل الحَطب إلى قِمّة التَلّ، وهي نفْس الوسيلة التي ستُستخدَم لمَوتِه. كان على المسيح أن يَحمِل صليبه الخَشبي، أداة موتِه، إلى قِمّة التَلّ حيث سيَتمّ ربطُه وموتُه.
• الآية ثمانية: أراد إسحاق أن يعرِف أين كان الحَمَل الخاص بالذبيحة، فأخبَرَه إبراهيم أنّ الله سيَرزِقُه به. لقد قَدَّم الله، ابنه، كحَمَل للذبيحة، لفِداء كل البشرية.
• الآية الثالثة عشرة: تمّ تقديم كِبش، وهو حَمَل ذَكَر، لإبراهيم (بدلًا من إسحاق) كذبيحة. المسيح، الحَمَل الذَكَر الذبيحة، كان التدبير الذي حَلَّ مَحلّ دينونتنا الشرعية في الجُلجُثة.
• الآية الرابعة عشرة: المَكان الذي كان من المُقرَّر أن تتمّ فيه الذبيحة كان يُذكَر باسم "يَهوَه جيريه"، أو كما اعتادت آذاننا أن تَسمَع، يَهوَه يوفِّر وهي ترجمة "يَهوَه جيريه". لقد قدَّم يَهوَه الذبيحة، بشكل لا يستطيع أحد القيام بها. هذه الذبيحة كانت يسوع…… الله المُتجسِّد.
هذا بالتأكيد ليس رَمزًا. ما تَعرَّض له إسحاق كان ظِلًا لما سيحدًث للمسيح بعد حوالى ألف وثماني مئة عام في المُستقبل.
لقد قيل لنا أنّ "ملاك الرب" نادى إبراهيم مرَّتَين من السماء؛ الأولى لإيقاف الذبيحة، والمرّة الثانية لتَزْيين العهود التي أُعطِيَت لإبراهيم سابقًا. بما أننا قُمْنا بدراسة الكَلِمات دعوني أشير إلى عبارة "ملاك الرب"، واشرَحُ هذه المرّة عبارة عِبرية مُختلفة قليلاً عما رأيناه سابقًا، ولكن لاحظوا أولاً أنّ ملاك الرب هذا موجود في السماء. أتساءل لمَ هذا الملاك ليس على الأرض، أو يَظهَر لإبراهيم، بدلاً من أن يُكلِّمه من السماء فقط؟
ربما نحصُل على دليل إذا نَظَرنا عن كَثب قليلاً، تذكَّروا أنّ الترجمة العبرية لـ "ملاك الرب" هي "ملاخ" أدوناي (بمعنى رسول) أي الرَب، لكن هذه المرّة الصِياغة هي "ملاخ الرب". يَهوَه اسم الله الشخصي، لذا فإنّ ذلك يُترجَم حرفيًا إلى ملاك يَهوَه. الآن، من المُثير للاهتمام أننا نرى ملاك يَهوَه، الذي يَتكلَّم من السماء، يقول "أقْسمتُ بنفْسي……." عادةً عند تَعريفه بأنه ملاك من يَهوَه، أو ملاك يَهوَه، هذا الكائن يقول الرَب أمَرَني أن أقول هذا، أو الله أمَرَني أن أفعَل ذلك…. التمييز واضِح بين الله والمَلاك. ولكن، هذا بالتأكيد ليست هذه المسألة هنا. ملاك يَهوَه يَتكلَّم بنَفْس السُلطة والشَخصية مِثل الرَب، سُبحانه تعالى….. من خلال ال"أنا". من وِجهة نظري، هذا غَامضٌ جدًا. ومع ذلك، عندما أرى ملاخ أدوناي يَتكلَّم، بِصِفَتِه شخصًا يَفعَل مشيئة الله، مقارنةً بملاخ يَهوَه الذي يتكلَّم عن نفسه، إذًا يجِب أن أضَعَ في الاعتبار احتمال تَحدُّثِنا عن كائنَين مختلِفَين. بالضبط ما هو المَغزى، ولستُ متأكدًا من ذلك. ولكن، إنه أمْرٌ مهمّ وإلا لما تمّ استِدعاء اسم الله الشخصي.
علينا أن نَكون حَذرين للغاية في قبول العقائد المسيحية الجامدة إلى حدٍ ما التي تمَّ تَطويرها بدءًا من مراسيم مَجمَع نِيقية في أوائل القرن الرابع الميلادي، فيما يَتعلَّق بكيفية ظهور إله الكَون نفسِه. تم إنشاء عَقائد، لم تكُن موجودة في أي مكان في الكتاب المقدس أو التقاليد أو تَمَّت مُمارستُها حتى تلك اللحظة؛ عقائد لمْ تَعرِفها الكنيسة الأولى في المائتي سنة الأولى. لقد عَلَّقتُ في العديد من المَرّات على فَرْض جميع الأبعاد المُمكنة لله فكريًا في ذهننا… أو حتى تلك التي لَمَّح إليها الكتاب المقدس….. في واحدة من ثلاث كيانات مُنفصِلة نُسميّها الآب والابن والروح القدس، وهو أمرٌ خطير. إنه يُجبِرُنا على حَصْر اللامحدود. من هو هذا المُرسَل من يَهوَه الذي يَظهَر مرّتَين بالتزامن مع قصة إبراهيم وإسحاق، ويَتحدَّث عن يَهوَه بضَمير المُتكلِّم، لا يُمكننا أن نَعرِف عن ذلك شيئًا، ولكن ربّما هذه هي فُرصَتنا لنَعْترِف مرة أخرى أنه ببساطة لا يُمكِن للبشر أن يَعرفوا فِكر الله، أو أن يَتخيَّلوا ماهيته. ربما نَحتاج إلى أن ننمو في مَعرِفة أنّ الله ليس إنسانًا، ولا حتى كائنًا خارقًا للبَشر. إنه كائن آخر، في بعض الحالات، علينا ببساطة أن نَقبَل ما لا يمكِننا اختباره أو تَفسيره. أليس هذا حقًا هو تَعريف الإيمان؟
في أي حال، إبراهيم وإسحاق عادا إلى البيت، ثم نُعطى بعض الأنْساب المُتعلِّقة بأخ إبراهيم، ناحور، الذي لا يزال يَعيش في بلاد ما بين النهرين.
ما يجِب أن يلفِت انتباهَنا أنّه تمَّ تعداد اثنا عَشر ابنًا لناحور……كما كان من المُقرَّر أن يكون لإسماعيل اثنا عَشر ابنًا، وفي النهاية كان ليعقوب اثنا عَشر ابنًا. ومع ذلك، على عَكس أبناء يعقوب الاثني عشر الذين سيُشكِّلون أمّة إسرائيل، كل واحد مِنهم سيَلعَب دورًا مُهمًا، ولن نَلتَقي بالعديد من أبناء ناحور مرة أخرى في الكتاب المُقدَّس. نحن نعرِف فقط أنهم موجودون أصلاً بِسبب هذه القائمة المُتوافِرة في نهاية سِفْر التكوين الإصحاح الثاني والعشرين.
قراءة سِفْر التكوين الثالث والعشرون كُلِّه
كما أنّ سِفْر التكوين الإصحاح الثاني والعشرين هو ذروة حياة إبراهيم وهَدَفُه الإلهي، كذلك الإصحاح الثالث والعشرين يَجمَع بعض النِهايات السائبة معًا ويَنقُلُنا من إبراهيم إلى إسحاق.
النِهاية الأولى هي نهاية حياة الأم الحَاكمة العبرية الأولى، سارة، التي كانت تبُلغ من العُمْر مئة وسبعة وعشرين سنة عندما تُوفّيت. التقليد العبري يُظهِر الصدمة التي عانت منها على ابنها الوحيد، إسحاق، على جَبَل موريا، فهي دَمَّرت صِحّة هذه المرأة العجوز. أعتقد أنه ليس من الصَعب جدًا على الأمهات هنا أن يَشعُرن بتَجربة سارة. تَخيَّلوا امرأة غير قادِرة على الإنجاب، الله يُعطيها أخيرًا في شيخوختها الطِفل، ولكن، الآن، الزَوج يُبلِّغها أن الله يُريد سَلبَه حياته. كل ما استطاعت سارة أن تَفْعلَه هو الجلوس والشعور بالحُزْن مع مرور الأيام وهي تَنتظِر عودة زوجها، ولكن بِدون ابنها الوحيد، يقول التقليد العبريّ أيضًا أنّ إبراهيم كان يَبلُغ من العُمر مئة وثمانية وثلاثين عامًا عندما تُوفِّيت حَبيبته سارة.
من وِجهة نَظَر الحُكماء، إنّ وفاة سارة مُهمَّة لأنها تُقدِّم بعض التفاصيل عن أوّل وفاة ودَفْن لعبراني. ونَجِد أنّ إبراهيم وسارة كانا يعيشان في حبرون عندما توفّيت، لذلك من الطبيعي أن يَرغَب إبراهيم في دفنِها هناك. من الأساسي أن نَتذكَّر، أنّه في هذه المرحلة الزَمنية، لم يكُن وَعْد الله بالأرض التي خَصَّصها لإبراهيم قد تَحقَّق، ولن يَتحقَّق قبل خمسة-إلى ستّة قرون أخرى. استَخدَم إبراهيم أرْض الآخرين … عاش في أرض يَحكُمُها آخرون…..ولمْ يكُن لديه أي أرض على الإطلاق. من المُفارقات التي نَذكُرها أنّ القِطعة الوحيدة من العقارات التي سيَتمكَّن إبراهيم من أن يُسمّيها مُلكًا له على الإطلاق كانت مَغارة ليَستخدِمَها كقَبْر لزوجته المَحبوبة، ثم لنَفسِه فيما بَعد، وفي النهاية لأبنائِه وحفيده يعقوب أيضًا.
كل آباء الكِتاب المقدس مدفونون في حبرون (الخليل)…… أرْض أُعطِيت لأعداء إسرائيل، الفِلسطينيين. أظنّ أنّ اختيار داوود لحبرون (الخليل) كعاصمة أولى له عندما أصبَح مَلِكًا على يهوذا، له علاقة كبيرة بالتقديس الرَهيب المُرتبِط بمكان دَفْن مؤسِّسي أمة إسرائيل.
لقد بَدَت القراءة عن جَلْسَة المُساوَمة بين إبراهيم وإفرون طَريفة إن لمْ تكُن مضحِكة…..من الواضح أنّ إفرون كان زعيمًا لشعب كان يُسمَّى الحثيين الذين حكموا هذه المِنطقة…..تَكشِف السِجلاّت القديمة عن أسباب قانونية وَجيهة جدًا جَعلَتْ إبراهيم يَسعى إلى هذه الصفقة من أجْل مَغارة مشبلة هذه لتَكون مَدفَنًا له ولزَوجته.
القَضيّة: وِفْق المُصطلحات الحديثة، كان إبراهيم وعشيرته أجانب مُقيمين في كنعان. لمْ يكُن بإمكان الأجانِب في تلك الحقبة شِراء أرض، فالأرض كانتْ كلّ شيء؛ كانت خسارة الأرض كارثة بالنسبة للعائِلة، فأن تَبيع عائِلة أرضَها إلى أجنبي، كان أمْرًا بغيضًا.
ومَع ذلك، كيفيّة الحصول على الأرض كان مُهمًا جدًا، فعَلى سبيل المثال، لو قَبِل إبراهيم الأرض كَهَديّة لأهَانَ الحيثيين وأتى في السَنوات القادمة شخص يَدَّعي أنه من الخطأ بيْع الأرض لأجنبي مُقيم في المقام الأول. لذا، لمْ يَستِطع إبراهيم أن يَقبَل عَرْض إفرون، ومع ذلك، كان على إبراهيم أيضًا أن يَنتَبِه إلى عَرْض الكَهف كهدية. وفي مُساومتِه عليها؛ عليه الانتباه أيضًا إذا اشتراها بثَمَن لا يبدو عادلاً للأجيال اللاحقة، فهذا كان سببًا كافيًا لاستِرداد الأرض.
لذلك رَاوغ إبراهيم إلى أن حَدَّد إفرون الِسعر قبل أن يُضطّرَ إبراهيم إلى تقديم عَرْض السعر………….. أربع مئة شيكل من الفِضّة… كان مُرتفِعًا، ولكن، بإصرار إبراهيم بلُطف أنه كان سعيدًا بِدَفْع الثمن كاملاً، تَخلَّص من معظم التحدّيات القانونية التي كان من المُمكن أن تؤدّي إلى انتزاع تلك الأرض منه أو من نسْلِه في وقتٍ ما في المُستقبل.
بالنسبة للقُدماء؛ وأجرؤ على القول بأن مواقع الدفن لا تزال تحمِل أهمية كبيرة حتى في مُجتمعاتنا الحديثة. إذًا، هذه العمليّة بِرمَّتها حدَثَت أمام العديد من مواطني المدينة…..المواطنين الحثيّين…… حتى يكونوا شهودًا على انتقال ملكية ذلك الكَهف من إفرون إلى إبراهيم.