سِفْر التكوين
الدرس الخامس – الإصحاحات أربعة وخمسة وستّة
لقد درَسنا في الأسبوع الماضي السَبب الرئيسي لامتلاكِنا الكتاب المقدس ولِمَ (في بضعة الفصول (الإصحاحات) سيكون هناك شيء اسمه "خَلْق العبراني" لأنه من سِفْر التكوين وما بعده، يتم تقديم مفهوم الخطيئة والحاجة إلى التكفير. لنُتابع مع سِفْر التكوين الإصحاح أربعة.
قراءة سِفْر التكوين الإصحاح أربعة الآية تسعة
من المُهم جدًا بالنسبة لنا أن نَفهم ما يلي: أظهر الله نفسَه للبشر الأوائل وأولادهم الأوائل في بداية تَكوين الحياة على هذا الكوكب أنّ عاقبة الخطيئة تَحمِل ثمنًا باهظًا؛ وهذا الثَمن هو المَوت. قَرّر الله برَحمته العظيمة أن يَسمَح لوقتٍ من الزمن أن يكون دَم الحيوانات البريئة…تكفيرًا عن خطايا الإنسان. لاحظوا أنني قُلتُ "يَستُر" لأن الخطية كانت ستظلّ موجودة…. ويتمّ سَترُها كما يَستُر الثوب على جسد الإنسان….. وكما سَتَر عُري آدم وحواء. في النهاية لبِاسنا هو مجرد وسيلة لإخفاء عُرْيِّنا. تحَت هذا التنَكرّ من القماش لا يزال عُرْيُنا، مثل خطيئتنا، موجودًا. لقرون وقرون، سيُوفِّر الله غطاءً مقبولاً إلهيًا، ولكن مُفتعلًا على خطية كل أولئك الذين وَضَعوا ثِقتهم فيه، وهذا الغطاء المقَبول كان على شَكْل دم حيوان. كان دم الحيوان يخدُم غَرَضًا روحيًا (التكفير عن الخطية) وكان جِلد الحيوان يخدُم غرَضًا ماديًا بتَغطية أجساد البَشر العارية وفي نفس الوقت يُقدِّم توضيحًا رائعًا لما كان يحدُث في العالم الروحي بشكل خَفي للتعويض عن سلوكهم الخاطئ. تَتجلى حقيقة الازدواجية لكن مع مرور الزمن، ومع سَماح الله لخطّة الفداء أن تَتبلور في سياق الزَمن، سيُغيّر المسيح كل ذلك. لأنه على عَكس دم الحيوان، فإنّ دم المسيح لم يَستُر على الخطية فحسب، بل أبطَلها ودفعَها بعيدًا.
كما رأينا في درِسنا السابق أنّ قايين (كاين بالعبرية) يَتشاجر مع هابيل (هافيل بالعبرية) بكَلِمات غاضبة، ثم يقتُله بعد فترة. ليس بالضرورة أن تكون هذه أول جريمة قتْل في العالم، ولكن ربما كانت كذلك، فقَد تَوافر في العالم الآن أشخاص آدم، وحوّاء، وقابيل، وهابيل. بالتأكيد هذه هي أول جريمة قَتْل مُسجَّلة في الكتاب المقدس. الآن كانت العائلة الأولى على الأرض في هذا الوقت لا تزال تَعيش في عَدَن…أرض عَدن، وليس الجَنَّة. كانت جَنَّة عَدَن مكانًا خاصًا خُلِق لشعب الله. قَرَّر الله أن يطرُد قايين من أرض عَدَن بسبب سَفْكِه دم أخيه، وأرسَلَه الرَب إلى الشرق إلى أرض تُسمَّى "نود" والتي تعني "التَيه"، وهي تَتضمّن
معنى "الاضطراب" أو "الأرق" في طياتها). يتَزوّج كاين ويُنجِب أولادًا ويَتبعُه العديد من الأحفاد على مَرِّ السنين، ويبني مدينة أيضًا.
بالمناسبة، فيما يَتعلَّق بالعلامة التي وَضَعها الله على كاين للإشارة إلى أنّ "لا أحد" يُمكن أن يؤذيه أحد، تَرِدُ بعض التعليقات المثيرة للاهتمام من الحكماء القدماء. أولاً، الكَلِمة التي تُتَرجم عادةً "لا أحد" أو "أي أحد" في العبرية هي كول. يمكن أن تعني "كول" "أي أحد" ولكنها قد تعني في كثير من الأحيان "أي أحد" أو أي شيء أو كُلّ الأشياء. إذًا، ما كان يَحمي كاين منه بالضبط لم يَكن بالضرورة البَشر فقط. تقول بعض الشروح أنه ربما كانت الحيوانات هي أكثر ما كان يُقلِقه، ولكن هؤلاء المُفسِّرين يقولون في المقام الأول أنه بِخلاف آدم وحواء وقايين وهابيل، وربما أخت أو اثنتين لم يتم ذِكرهما، لم يكن هناك بشر آخرون على الأرض بعد. هذه مُبالغة كبيرة جدًا؛ ليس هناك شكّ في أنه كان هناك الكثير من الناس في ذلك الوقت. ستلُاحظون مَضيّ وقتًا طويلاً قبل أن يَرِد ذِكْر أنثى أخرى غير حوّاء في الكتاب المقدس، وهذا ببساطة بسبب الطبيعة الأبوية للكتاب المقدس…إنه مُوجَّه للذكور. ولأن جميع الأنساب والروابط العائلية كانت حَسب علاقتها بالأب، فإن سَرْد الأجيال نادرًا ما يَتضمَّن اسم أنثى فقط. ولكن في ذلك الوقت وكما هو الحال الآن، كان هناك بلا شك عَدد نساء مولودات أكثر من الرجال.
هناك رأي آخر مُثير للاهتمام لبعض الحاخامات القدماء فيما يَتعلَّق بهذه الآية، وهو أنه لم تكن هناك علامة وُضِعَت على كاين، بل كان هو العلامة بحدِّ ذاتها، كان علامة للجميع ليروا أنّ كل من يَرتكِب "ذَنب الدم" (في هذه الحالة القَتْل) سوف يُنفى من الأرض ويُجبَر على الذهاب إلى الحَرَم. في الواقع هذا المفهوم الذي تَبنّاه بني إسرائيل (الذي أصبح واقعًا بعد قرون) عندما دخلوا كنعان، وتم توفير ملاذ وحماية لمَن قَتَل شخصًا نتيجة قَتْل مُبرَّر أو غير مُبرَّر. يقول بعض العلماء أنه كان على غرار ما تَحمَّلَه كاين من عواقب. وأنا لا أوافق على ذلك لأن كاين ارتكب جريمة قَتْل (قَتْل غير مُبرَّر) ولا يجوز توفير ملاذ آمن لهذا الجُرم.
ما نَراه كنتيجة لهذه القصّة هو أنه من هنا فصاعدًا سيَرتبِط قايين" كاين" بالشَرّ. إنّ الرمزية هنا واضحة جدًا لدرجة أننا نَستطيع أن نَقطعهَا بسِكين. يَرِد في الآية السادسة عشرة: "فَتَرَك قايين حَضرة أدوناي وسَكَن في أرض نود (تائهًا)". هذا مِثال من تلك الأمثلة التي أخبرتكم أنني سَأذكرها عندما نُصادِفُها؛ مِثال على عبارة في الكتاب المقدس تكون حرفية ورَمزية في آن ٍ واحد. لأن قايين قد أُبعِدَ حرفيًا من عَدَن وعاش في أرض تُدعى "تيهًا" أو "اضطراب"؛ لقد أُبْعِد عن حَضرة الله. وأليس صحيحًا من الناحية الرَمزية أننا عندما نكون بعيدين عن حَضرة الله، عندما نكون مُنْفصلين عن الله، نكون بالفعل في حالة تَيه واضطراب؟ نحن نَعيش وجودًا ميؤوسًا منه وبلا معنى، وبلا اتجاه، عندما نَعيش بعيدًا عن الله. الراحة الوحيدة للبشرية هي عندما نَكون في حَضرة الله.
إذًا قايين هو بِداية سُلالة الأشرار الذين أداروا ظهورهم لله. وهكذا نَتعرَّف على الجِيل الخامس الآتي من قايين الذي يَرأسُه شخص اسمه لامش. لامش بَعيد كل البعد عن الله، و(كما فَعَل قايين وآخرون كثيرون)، خالَف تعليمات الله حول مؤسسة الزواج، حول ارتباط الرجل والمرأة كجَسَد واحد: طَمِع واتَّخذ زوجتين. استمعوا إلى كلام لامش المُتكبِّر المُتمرِّد الذي يَتباهى بذلك أمام زوجتيه:
)تكوين الإصحاح أربعة الآية أربعة وعشرون وخمسة وعشرون) قال لامش لامرأتيه: "يا عدَّة وتزيلة، اسمعا إليَّ، يا زوجتي لامش اسمعا ما أقول: قَتلتُ رجلاً لأنَّه جرحني، شابًّا جرحني.
أربعة وعشرون، إن كان كاين سيُنتقم له بسبعة أضعاف، فلامش بسبعة وسبعين ضعفًا".
حتّى أنّ لامش يَعترِف بالقَتْل. سلالة (قايين) كانت شريرة تمامًا، مُلحِدة وفاسدة وهذا في خمسة أجيال فقط بعد خَلْق الإنسان الأول، ومن زَمن العَيش في جَنَّة عَدَن في حَضرة الله. سنرى هذا النَمط نفسه يَظهَر بَعد سنوات عديدة من الطوفان العظيم عندما يُعيد نوح، آدم الثاني، تَعمير الأرض، ولكن بِشكْل مُدهش يَظهَر الشَرّ من جديد على الفور تقريبًا. ومن المثير للاهتمام أنها لن تَكون المرة الأخيرة التي يُعيد فيها التاريخ نفْسَه بهذه الطريقة؛ عندما يأتي المسيح في المرّة الثانية… أعتقد في المُستقبل القريب جدًا….. ويُطهِّر العالم كُلَّه ويُقيم ملَكوته الكامل لمدة ألف سنة……. في نهاية تلك الألفية سيُظهِر الناس مرة أخرى الشرور ويَتمرَّدون على المسيح. وسيتمّ تَدميرهم بالكامل، مع الشيطان، والعالم الروحي الشِرير بأكمله، وحتّى الشرّ نفسه. عندها فقط سيَتمّ كَسْر هذا النمط (دورة الشرّ) أخيرًا مرّة واحدة وإلى الأبد.
ثم يُعطي الله الرحيم كُلّي الرحمة حوّاء طفلاً آخر يكون في نظرِها بديلاً عن هابيل المَيت الآن. هذا الطفل الجديد اسمه شيت، بالعبرية تَعني "التعويض أو المَمنوح" كما في الصلاة أو الأمل الذي يُمنَح. مع تقَدّمِنا في دراستنا سنرى أنّ شيت يُعتبَر من سلالة الخير عكس أخيه المَنْفي كاين الذي يُمثِّل سلالة الشر. في حين أنّ قايين ونَسْلَه ابتعدوا أكثر فأكثر عن الله قيل لنا في الآية ستة وعشرين أنّه من خلال شيث "بَدأ الناس يَدعون أدوناي" (أدوناي هي كلمة عبرية تَعني الرَب أو السَيّد). وبعبارة أخرى، قاد شيث الناس إلى التَطُّلع إلى الله من أجل الهِداية وقَدّموا لأدوناي أيضًا تَسبيحهم وعِبادتهم. إذًا الديناميكية ثابتة الآن: نَسْل شيت، "سيث"، هم نَسْل الخير ونَسْل كاين (قايين) هم نَسْل الشرّ.
قراءة تكوين بِكامله
أريد فقط أن أشير إلى أمرَين مُتعلّقَين بسلسلة الأنساب التي قرأناها للتو: أولاً، هذه هي سِلسلة نَسَب شيت، "سيث". وهي سلالة الصالحين، أهْل الإيمان.
كان عُمْر آدم مئة وثلاثين سنة عندما وُلِد شيت. لا نعرِف كم كان عمره عندما وُلِد كاين ولكن من المرجّح أنه كان صغيرًا جدًا. تَذكّروا أنّ آدم وحوّاء خُلِقا كبَشر ناضجين جَسديًا وكان بإمكانهما الإنجاب على الفَور ومن المُحتمل أنهما فَعلا ذلك. في الواقع على الرّغم من أنّ كاين ذُكِر أولاً، فلَيس بالضرورة أنه كان أوّل طفل لآدم وحواء، ولكن من المُحتمل أنه كان الِبكْر. من الناحية التوراتية يَدُلّ مصطلح البِكْر على المَكانة؛ لذلك فإنّ البِكْر هو دائمًا ذَكَر. يمكن أن يكون للعائلة عشرة أطفال ويكون التسعة الأوائل من الإناث؛ ولكن إذا كان الطِفل العاشر هو أوّل طِفل ذَكَر يولَد في العائلة تُعطى له مَكانة "البِكْر". لذا كان من المُمكن أن يكون لآدم وحوّاء عدَد من البنات قَبْل أن يولد كاين وبالنظر إلى الظروف، فمِن المُحتمَل أنهما أنجبا عددًا من البنات.
علينا أن نَتراجع ونكون واقعيين هنا. أي شخص يَعمَل مزارعًا أو صاحب مزرعة يعرِف أنّ الطريقة لزيادة القِطعان هي في حيازة عدد كبير من الإناث لكل ذَكَر. وبما أنّ الذَكَر الواحد يمكن أن يُلقِّح العديد من الإناث، والأنثى هي التي تَحمِل كل نَسْل، فلا فائدة من وجود عدد كبير من الذكور وعدد قليل من الإناث. لذلك أعتقد أنه من المَنطقي والمَعقول تمامًا أن نَعتبِر أنّ عدد الإناث من البَشر كان عدّة أضعاف عدَد الذكور من البشر…… خاصّةَ في حقبة مُبكِرة. كان الله عازمًا على أنّ يُعمِّر الأرض بسرعة، وبما أنه لم يَعدُ يَخْلق البشر واحدًا تلو الآخر من تراب الأرض، بل بدلاً من ذلك، كان يَسمَح للقدرات الإنجابية التي أودَعها في الجِنس البشري بالقيام بهذه المهمّة، كان تَعدُّد الإناث هو الحَلّ للنمو السكاني السريع.
لذا فمن المؤكد أنّ حوّاء كانت مُنجِبَة الأطفال وأنّ بناتها وبناتِهن كنّ كذلك. لا يوجد في الكتاب المقدس ما يُشير إلى أنّ سنّ النضج الجنسي عند النساء كان أبكَر مما هو عليه اليوم، ولكن هناك ما يُشير إلى أنّ قدرة الإنجاب عند النساء كانت لمدة أطول من اليوم. يبدو من الكتاب المقدس أنه كان من العادي أن تَتزوّج فتاة في الخامسة عشرة من عمرها وتُنجِب طفلها الأول، حتّى في أيام يشوع. لذلك كان يبدأ في العائلة جيل جديد كل خمسة عشرة سنة تقريبًا. عندما نُدرِك أنّ آدم كان عمره مئة وثلاثين سنة عندما وُلِد شيت، فمن المُحتمَل أنّه كان هناك على الأقل سبعة أو ثمانية أجيال من الناس. ومع ذلك، وبِحلول زمن إبراهيم كانت الأمور قد اسَتقرّت قليلاً وكان عُمْر الإنسان وفترة القدرة البشرية على الإنجاب هي نفسُها التي هي عليه اليوم في العَصْر الحديث.
لاحظوا أنّ نوح (نواخ) كان في سُلالة شيت. لاحظوا أيضًا أنّ اسم والد نوح كان لامش. ولكنه ليس لامش نفسه الذي كان الخامس في سلالة قايين. تمامًا كما هو الحال اليوم حيث يوجد الآلاف، إن لم يكُن الملايين، من الناس الذين يَحمِلون نفس الاسم (فريد، ريبيكا، كاثي، إليزابيث) هكذا كان الأمر في ذلك الوقت. كان الكثير من الناس يَحمِلون نفْس الاسم، لذا علينا أن نكون حَذرين ونحن نقرأ الكتاب المقدس حتى لا نَخلُط بين الناس لمجرد أنهم يَحمِلون نفس الاسم.
النقطة الأخيرة: عاش الناس عُمرًا طويلاً جدًا في ذلك الوقت. لقد سَمِعتُ عدة أسباب عِلْمّية رائعة حول اعتبار طول العُمْر هذا حقيقة أو خيال أو قصّة خيالية، لكن ذلك غير مهمّ. هؤلاء كانوا أناسًا حَقيقيين يَجري الحديث عنهم، وعاشوا بالفِعل مئات السنين. هذه ليست قصة رَمزية، بل حقيقية. الآن قد تَكمُن أهمية في العدَد الدقيق للسنوات التي عَاشها بعض الناس…. أي في الرَقم نفسه. على سبيل المثال، عاش "أخنوخ" ثلاثمئة وخمسة وستين سنة…. وهو نَفْس عدد الأيام في السنة الشَمسية. وعاش والد نوح سبعمئة وسبعة وسبعين سنة، وسبعة هو عدَد سنوات الاكتمال. أو قد يكون الأمْر مجرّد مُصادَفة (وأقول ذلك على سبيل السُخرية). وبينما نَمضي قدمًا سنَرى أنّ هناك العديد من الأعداد المألوفة والمُميِّزة لدينا بالفعل: الرقم سبعة، والرقم اثنا عشرة، وبالطبع الرقم ستة-ستة-ستة سيّء السُمعة.
يَنتهي الفَصْل (الإصحاح) الخامس بميلاد أبناء نوح الثلاثة، الذين سيُعيدون تَعمير الأرض بعد الطوفان العظيم. يَجِب أن نَفهَم أنّه على الرغم من أنه قيل لنا أنّ عُمْر نوح كان خمسمئة سنة عندما أنجبَ هؤلاء الأبناء، إلا أنّه على الأرجح لم يكُن عمره خمسمئة سنة بالضبط، لأنّ هؤلاء الأولاد لم يَكونوا ثلاثة توائم، أو مِن ثلاث أمّهات مُختلفات، فإنّ الفارق بينهم ثلاث سنوات على الأقل. أليس كذلك؟ ولكن الأهم من ذلك أنّ نوح لمْ يُرزَق بأولاده الأوائل فقط في عيد ميلاده الـخمسمئة. لا بُدّ أنه قد سَاهم بشكل كبير في تَكاثُر عَدد سكّان العالم في ذلك الوقت؛ فقد كان نَسلهُ يُمثِّل شريحة لا بأس بها من هؤلاء الناس الذين كان الرَب سيُسمّيهم الأشرار. ومع ذلك، وكما يَفعَل الله، فقد تَمّ تعيين هؤلاء الأبناء الثلاثة …..، واختيارُهم وفَصْلُهم……. عن كلّ نَسْل نوح الآخرين ليُصبحوا مجموعة الجينات الصامدة لخَلْق جميع البشر في مَرحلة ما بعد الطوفان؛ بما في ذلك نحن.
قراءة تكوين ستّة بكامِله
تَحتوي الآيات القليلة الأولى من هذا الإصحاح على بَعض المَعلومات التي تُعَدّ من بين أكثر المعلومات غموضًا وإثارة للقَلق في العَهد القديم بأكمله. إنها تَتعلَّق بِبيان أنّ "أبناء الله" رأوا أنّ "بنات الإنسان" جذّابات فاتّخذوهن زوجات، وكان الأبناء المَولودين من تلك الزيجات مُختلفين، كما كان آباؤهم مُختلفين…هؤلاء "أبناء الله". أبناء الله تُترجَم بالعبرية بني إلوهيم وسنَرى إشارات أخرى إلى بني إلوهيم الغامضين في أجزاء لاحقة من الكتاب المقدس. سنَتحدَّث عن هذا الأمر أكثر بعد قليل، لكن اعلموا الآن أنني أعْتقد أنهم كانوا نوعًا من الكائنات الروحية رفيعة المستوى. لن يتمّ تَصنيفهم كملائكة، ولكن قيل لنا أنّ بني إلوهيم كانوا مسؤولين عن جَميع أُمَم الأرض. وقد صَادفنا أحد بني إلوهيم الذي يُدعى أيضًا أمير بلاد فارس في سِفْر دانيال. ولكنّ الكتاب المقدس يُعطينا أيضًا اسمًا خاصًا لذَرِيّة هؤلاء الناس الهجناء وهذا الاسم هو "نيفيليم".
لقد تَرجَم "الكتاب المقدس تَرجَمة كينغ جايمس" والعديد من ترجمات الكتاب المقدس الأخرى اسم "نيفيليم" إلى "العمالقة" (عمالقة في-في-فو-فوم). لقد كانت التَرجمة السَبعينية اليونانية التي تَمّت عام مئتين وخمسين قبل الميلاد هي أوّل من اتّخَذ هذا الأسلوب. فقد أخذت الكَلِمة العبرية نيفيليم وترجَمَتْها إلى الكلمة اليونانية "عمالقة". أما في العبرية، فـ " نيفيليم" هي تَلاعُب بالكَلِمة الجَذرية "نيفال"، والتي تَعني "سَقَط" أو "سقط عليه" وهي بالتأكيد في العبرية لا تعني كائنات ذات حجم كبير جدًا. بالأحرى معنى الكَلِمة هو التوقُّف أو الموت…. أن يُلقى في الأرض (مثل القبْر) …. حتى أنها استُخدمت لوصْف الإجهاض وفي حالات أخرى تُشير إلى شيء مَيت ومُتعفِّن. وقد وَصَف مارتن لوثر طبيعة النيفيليم بأنهم رجال عنيفين وطُغاة. ولعدم وجود طريقة أفضل للتَعبير عن ذلك، كان النيفيليم جنسًا مُختلفًا عن أي شيء آخر، وكان اختلافًا شريرًا. يبدو الأمر كما لو أنّ النيفيليم كانوا نوعًا من المُسوخ أو المُتحوِّلين الذين أصبحوا يَتمتّعون بقوّة كبيرة. لقد كانوا يُمثِّلون اتحادًا بين أسوأ ما في العالم الروحي وأسوأ ما في العالم المادي.
نَعود الآن إلى مُناقشتنا حول من تشير إليه هذه الآيات عندما تَتحدّث عن "أبناء الله"؟ حسنًا، لقد أخذ العديد من علماء الكتاب المقدس هذا الأمر على أنّه يَعني "الملائكة الساقطين". من السَهل أن نرى كيف يُمكن التوصُّل إلى هذا الاستنتاج عندما تكون كَلِمة "ساقطين" أو "مطروحين" هي إحدى معاني كَلِمة "نيفيليم". أضِفْ إلى ذلك المعنى السَماوي أو الروحي لكَلِمة "أبناء الله"، وستَتَشَكّل فكرة
أنّ بعض الملائكة الساقطين قد اتخذوا شَكْل ذَكَر بشري (كامل بأعضاء تناسلية)، وتَزاوجوا مع نساء من البشر، والنتيجة كانت جنسًا من العمالقة الذين أُطِلق عليهم اسم "نيفيليم". من المؤكد أنّ العبرانيين القدماء لم يَحلُموا قط بهذا المعنى. بل كانوا يَرَون أنّ "أبناء الله" كانت ببساطة تَسمية لسُلالة سيث……سُلالة الرجال الأتقياء المؤمنين. وعلى العَكس من ذلك، كانت النساء (اللاتي كنّ يُطلَق عليهِنّ بنات الإنسان) يُمثِّلن سلالة قايين سلالة الذين سَقطوا من أمام الله.
وفقًا للحكماء العبرانيين القدماء، حتى هذا الوقت، ظَلَّت سلالة سيث المؤمنة مُنفصِلة عن سلالة قايين الشريرة. ولكن، في نهاية المَطاف، اشتهى بعض الرِجال من سلالة سيث نساء قايين الجميلات، و…….وتَلوَّث الحي! والآن، تَلوَّث الجِنس البشري كُلّه بالشر.
يَعتبِر حكماء العبرانيين هذا الانفصال والانقِسام في سلالة قايين عن سُلالة سيث، "نوعًا". بعبارة أخرى، إنه مَبدأ آخر من هذه المبادئ الأساسية التي نراها تَتكرَّر مرارًا وتكرارًا في الكتاب المقدس. عندما أخرَجَ الله بني إسرائيل من مصر وأعطاهم التوراة (التي نحن بِصَدد دراستها) فَعَل ذلك مع التعليمات بأنّ "كونوا مُنفصِلين". لقد فَصَل إسرائيل عن جميع شعوب العالم الأخرى ليكونوا أمّة من الكَهنة له، ليكونوا شعبًا أمينًا لله. كان لكلّ الشعوب الأخرى في العالم….. عَدا بني إسرائيل…لقبًا وهو غوييم.
الأمَم. كان بنو إسرائيل شعبًا مُقدَّسًا لله، أما الآخرون فلم يكونوا كذلك. وهكذا كان الأمْر بالنسبة إلى سُلالة قايين مقارنةً بسلالة سيث، قبل وجود بني إسرائيل بوقتٍ طويل.
على أي حال، سواء كانوا نتيجة اختلاط سلالتين من البَشر، أو اختلاط البَشر بالكائنات الروحية. نَتجَ عن ذلك عِرْقٌ من الناس يُدعى نيفيليم كان يُضايِق الجميع وكان قادرًا في بعض الأحيان على السَيطرة كما يَشاء. يبدو أنهم كانوا أضخم وأقوى وأذكى، وربما كانوا مَوضوعًا للأساطير والخُرافات الوثنية القديمة عن المُحاربين والقادة العظماء والشَرسين الذين يَتمتّعون بصِفات خارقة. هل كانوا في الواقع عَمالقة كما في الأفلام؟ فقط بالإيحاء الأكثر غموضًا. إذًا ماذا كان النيفيليم في الحقيقة؟ نحن لا نعرِف حقًا، ولكن تَوصِّل عِدد مُتزايِد من العلماء إلى استنتاج مِفِاده أنّ هؤلاء كانوا على الأرجح شعبًا سِلَّم نفسَه بطريقة أو بأخرى للشيطان واكتَسب قوّة عظيمة في ذلك. عندما نَقرأ في الكتاب المقدس وَصْفًا للمسيح الدَجّال وكيف أنّ هذا الشخص سيكون ذا كاريزما لا تُصَدَّق، وربما يكون أكثر الناس ذكاءً على الإطلاق، وماكرًا ومُتقدِّمًا على الجميع…… نَكتشِف بعدها أنّ الشيطان هو مَصدَر قّوتِه. ليس لدي أي شك في أنّ الشيطان كان مِصدِر قوة للعديد من ديكتاتوريي العالم. لقد أقنِع هِتْلر أمّة بأكمَلها (التي عَرَّفت عن نفسها عمومًا على أنها أمّة مسيحية) بأنّ من واجِبها أن تَحكُم العالم وتُخلِّصَه من اليهود، "قَتَلة المسيح" كما كان يُسمّيهم عادةً. لقد أربَك العالم بقدُراته واستراتيجياته القِتالية، وكان على وشك تَحقيق حُلمِه الشرير. لدي شعور
بأنه يمكن تَصنيف هِتْلر كنَوع من نيفيليم من العَصْر الحديث.
وبغضّ النَظَر عمّا إذا كان وجود النيفيليم جاء من أبناء الله الساقطين (بني إلوهيم) أو من الإنسان الساقط، فإنّ المَصدَر الحقيقي لقوّتِهم هو الشرّ وحتى الطوفان القادم لن يكون نهاية المطاف. أعتقد أننا سنرى في النهاية أنه في حين أنّ النيفيليم كانوا حقيقة وَواقع، إلا أنّهم في النهاية أصبحوا أيضًا يُمثِّلون "نوعًا"؛ أي أنهم قبل الطوفان كانوا على الأرجح عِرْقًا حقيقيًا، ولكن تمّ مَحْوهم بعد الطوفان، وربما كانت النيفيليم والأسماء الأخرى التي أُطلقت عليهم ما هي إلا شعوب أخرى كان يُعتقَد أنّ لها سِمات مماثلة. سنَرى ذلك في وقت لاحِق في سِفْر التكوين بعد الطوفان العظيم، ثم مرّة أخرى في سِفْر العدد، وأخيرًا في سِفْر التثنية حيث ذُكر النيفيليم (أو شعب يشبه النيفيليم) مرة أخرى. وقد أُطلِق على أنواع" النيفيليم" هذه بعد الطوفان عددًا من الأسماء بما في ذلك الرفاعيم، وإيميم، وأناكيم، وحوريم، وحوريم، وغيرِها. سأشير إليها عندما نَصِل إلى تلك الأقسام التوراتية. بالمناسبة، من المُرجَّح أنّ العِملاق "غوليات" الذي قَتَله داود، كان من الأناكيم لأنّ "غوليات" كان من غاث، التي يُقال إنّها قَرية كان يَحكُمها الأناكيم (نَجِد ذلك في يشوع (جشوا) الحادي عشر). من المثير للاهتمام أنّ الأناكيم والفلسطينيين كانوا يَحتلّون نَفْس المنطقة.
يجِب أن نَفهم أيضًا أنه كما يَحدُث مع البشر، مع مرور الزمن، يمكن أن تَتَشوّه الحقيقة وتَتَحوّل إلى أسطورة؛ ولُغة الكتاب المقدس ليست بمنأى عن هذه الظاهرة لأنه على الرغم من أنّ الكتاب المقدس هو حقيقة إلهية إلا أنّه لا يزال يُروى من خلال حياة وأحداث أناس حَقيقيين. ويتمّ سَردُه مع ما يَشوبه من عيوب ومَفاهيم خاطئة. لذلك أشكّ أنه في الأحداث التي نَقرأها في الكتاب المقدس التي وَقَعت بعد مئات السنين من انقراض العِرْق الأصلي من النيفيليم أنّ اسم هذه الكائنات الغريبة كان يُستخدَم كمصطلح عام لوَصْف شخص أو مجموعة من الناس يملكون صِفات مُعيَّنة تُعتبَر شريرة أو ربما كانوا أكبر حجمًا جسديًا من غيرهم وبالتالي كانوا مُهدِّدين أو كانوا أشرس المُحاربين أو شيء من هذا القبيل. على سبيل المِثال حتى في أيام المسيح…بعد أن رَحل الكنعانيون القدماء…. ظَلّ مصطلح الكنعانيين مُستخدَماً؛ كان هذا في حين لم يكن هناك أي إسرائيلي حَيّ يعرِف كنعانيًا حتى، فقد كان شائعًا بين الشعب اليهودي أنّ الكنعانيين القدماء كانوا عبدة أوثان ويُقدِّمون الأطفال كذبيحة، أي كل ما كان يَمقُتُه إسرائيل. لذلك أصبحت كَلِمة "كنعاني" تُستخدَم كـ "كَلِمة شتيمة" إذا جاز التَعبير، وعادةً ما تُشير إلى شخص لا يُعجِبكم. وغالبًا ما كانت تُشير إلى تاجر غَشَّ شخصًا ما أو إلى رجل لم يُمارِس يهوديته بما يُرضي بعض الناس الأكثر تَقوى. عندما كنت شابًا أذكُر أنه كان يُطلَق على شخصٍ ما لقَب "الشيوعي" إذا لمْ يُلاقِ الإعجاب. لم يكُن الأمْر يَتعلّق في الحقيقة بانتمائه الفعلي إلى الحِزب الشيوعي، بل كانت مجرد كَلِمة من أربعة أحرف صحيحة سياسيًا في ذلك الوقت. نظرًا لأن الشيوعية كانت العدو الأول للشَعب طوال الخمسينيات والستينيات وحتى السبعينيات…. مع المكارثية والحَرب الكورية وفيتنام….. كانت مُناداة شخص ما بـ"شيوعي" مجرّد مصطلح ازدرائي عام وتَسمية لم يكن أحد يُحبُّها.
اسمحوا لي أن أؤكد بِشكل قاطع أنّ العديد من الحكماء والحاخامات نَسَجوا أساطير النيفيليم في تقاليدهم؛ خاصةً التقاليد المُتعلّقة بالملائكة وعالم الأرواح الشريرة. لذلك بِقدْر ما كان هؤلاء النيفيليم يُعتبَرون غير حقيقيين قبل الطوفان، كانوا كذلك بعد الطوفان؛ لذلك كان يَجب دائمًا أن تؤخذ هويتهم وماهيتهم بالمعنى الحرفي والحقيقي… وليس كأنواع أو صِفات.
سنُضيف شيئًا آخر ونمضي قدمًا. تَتحدَّث الآية ثلاثة عن روح الله، الروح القدس، الروخ هاكودش الذي لا يُجاهِد مع الإنسان إلى الأبد. لقد جاءت كل أنواع اللاهوت المثيرة للاهتمام من هذه الآية، ولكن بالنسبة للحُكماء كان الأمر واضحًا جدًا: الله روح، ولذلك فهو في الأساس يَتحدّث عن نفسه عندما يَتحدّث عن الروح القدس. الروح القدس هو ذلك المُكوِّن أو الشخص أو صِفة الله التي نُسميّها الروح… بالعبرية "روخ"…. التي تتعامل مع الإنسان. ما تُلمِّح إليه الآية ثلاثة هو أنّ الله قَرَّر أن يُعطي الإنسان مئة وعشرين سنة أخرى ليَستقيم قبل أن يُهلِكه بالطوفان العظيم. كان ذلك تحذيرًا.
ولكن في الأزمنة اللاحقة، أصَرَّ العديد من عُلماء اليهود والمسيحيين على أنّ الصياغة الواضحة لهذه الآيات تعني أنّ الإنسان سيُعطى عمرًا تقريبيًا يبلُغ مئة وعشرين سنة كحدّ أقصى. ولكن إذا كانوا على صَواب، فإنّ عدد الاستثناءات الكثيرة لهذه القاعدة كان كبيرًا. لأنه قيل لنا في الكتاب المقدس أنّه بَعْد مجيء الطوفان عاشت أجيال كثيرة من الرِجال (نسْل نوح) المذكورين في الكتاب المقدس مئات من السنين، لذلك من المؤكد أنّ عُمْر الإنسان كان أكثر من مئة وعشرين سنة. ونحن نَعلَم أيضًا من وِجهة نظَر تاريخية أنّ فترات الحياة كانت تختلِف من قَرْن إلى قَرن، ومن ثقافة إلى أخرى ومن ظرْف إلى ظرْف. وبما أنّ هذه الملاحظة عن الأعمار هي عبارة عامّة لا تُميِّز بين الأبرار والأشرار…. أو بين شعب الله والشعب الذي ليس شعبه، أعتقد أنّ عبارة المئة وعشرين سنة كانت عِبارة مُزدوجة؛ لم تُكن فقط عن المدّة التي صُمِّم جِسم الإنسان ليَعيشها، بل كانت عن إعلان الله أنّ الطوفان سيَبدأ بعد مئة وعشرين سنة، ليَمحو كلّ البشر …… الكلّ ما عدا نوح وعائلته.
لقد أسَسّ الله الآن أساسًا آخر علينا جميعًا أن نَفرَح به: إنه لا يُهلِك المؤمنين والأتقياء مع الأشرار والكَفَرة. والآن، لا ينبغي أن نَخلُط بين المفهوم القائل أنّ الله يَصبّ غضَبَه على الواحد دون الآخر وبين الاعتقاد بأن الله لا يَسمَح بحدوث الشرور للأخيار. من المؤكد أنّ الله يَسمَح لأضرار هذا العالم الطبيعي أن تؤثِّر على الأتقياء والفاسقين. الله بالتأكيد يَسمَح لشرور الأشرار أن تُصيب الأتقياء والفاسقين. لا يَعِد الله أيضًا أن يَحمي الأتقياء من اضطهاد المُلحِدين أو الأشرار. لكننا نرى أنّ هذه الأمور التي تأتي على يَد البشر ليست من عنده، بل هي من الشرير أو من نَزْعة الإنسان الشريرة. ما يَعِد به الله هو ألاّ يُمطِر غَضبه…قضائه الإلهي….. على الأتقياء مع الأشرار. هل ترون الفَرْق؟ هذا أمْر مهمّ بشكلٍ خاص لنَفهمَه ونُفكِّر في أحداث نهاية الأزمنة لأنّ المِحنة تَختلِف عن غَضب الله. المِحنة (أو فترة الضيق) تَتمثَّل بالبشر الذي يَصبّون الشر على البشر الآخرين بشكل غير مَسبوق. غَضب الله هو مُصيبة إلهية تَحدُث بِشَكل خارق للطبيعة.
بينما نتأمل سَكْبَ الله لغضبه في وقت سابق، حتى يَنجو الأبرار من الغَضب الخارق للطبيعة الذي كان الله على وشك أن يُنزِله على الكوكب كُلّه، جَعَل الله نوح يَبني سفينة: ملاذًا آمنًا صَمّمه الله لنوح وعائلته. هذه السفينة ستَسمَح للأبرار بالنجاة والأشرار بالهلاك. الآن يمكنني فقط أن أتخيّل كم كان نوح ساخرًا
لبِناء هذا القارب الذي يَبلغ طوله أربع مئة وخمسين قدمًا. في البداية لا يوجد ما يُشير على الإطلاق إلى أنّ نوح كان يَعيش بالقُرب من مُسطَّح مائي كبير. ما فعله لم يكن مختلفًا عن بناء سفينة في المُحيط خَلف الحظيرة في وَسط حقول القَمح في نبراسكا. ولكن إليكم الأمْر وقد تم تلخيصه ببساطة في الآية اثنان وعشرين: "هذا ما فَعَله نوح، فَعَل كل ما أمَرَه الله به". وقد أنَقذ حياته… ذلك وحياة جميع أفراد عائلته.
في الآية تسعة، يُقال لنا أننا سنَتَعلَّم عن قصة نوح. وأول ما قيل لنا عنه هو أنه كان تسيدك… تعني الصالحين بالعبرية. كان يُسمى أيضًا تميم كَلِمة عادةً ما تُترجَم بـ "بلا لوم" أو "الصالح". لا عَيب في هذه الترجمة، لكنها تَحجُب شيئًا تَعلَّمناه بطريقة تدريجية في التوراة.
عندما نَصِل إلى سِفْر اللاويين، سنَكتشِف أنّ الكثير مما تُعلِّمه التوراة لإسرائيل يدور حول "القداسة". وإحدى الصِفات الرئيسية للقداسة هي "الاكتمال" من دون أي نَقص. لذلك أفَضِّل أن أقرأ هذه الآية على أنها تعني أنّ نوحًا كان " تسيدك"، صالحًا، كاملًا. من بين أبناء نوح الثلاثة، حام ويفيت وشام، سيكون شيم هو الذي سيُعرِّفنا قريبًا على سلالة مختارة من الناس. من المثير للاهتمام أنّ شيم تعني "اسم". إحدى ألقاب الله شائعة الاستخدام عند اليهود هي "هاشم" … الاسم.
من المثير للاهتمام أيضًا أنّ التقليد العبري هو أنّ ذلك المَلِك والكاهن التوراتي الغامض في الكتاب المقدس الذي يُدعى ملشيتسيدك، الذي كان إبراهيم يَسجُد له ويُعطيه العشور، كان في الواقع شيم. أمّا التوقيت، فيَدلّ أنه كان من المُمكن أن يكون كذلك لأنّ شام كان لا يزال على قيد الحياة في ذلك الوقت. سنَتحدَّث عن ذلك أكثر عندما نَصِل إلى تلك النِقطة في سِفْر التكوين.
تُعتَبَر الآية الثانية عشرة من بين أكثر الآيات حُزْنًا في الكتاب المقدس بأكمَله: تقول إنّ الله نَظَر إلى كلّ ما صَنَعه يذهَب إلى الفساد. الكَلِمة العبرية المُستخدَمة هنا هي " شاشاث"، وفي حين أنّ كَلِمة "الفساد" ترجمة جيدة، إلا أنّ كَلِمة فاسد في مُفرداتنا الحديثة تعني غير شريف، ولذلك يبدو الأمر كما لو أنّ الهدَف من قَلق الله هو أنّ الناس لم يكونوا يَتعاملون بعدالة مع بعضهم البعض، وكانوا يكذبون ويَسرقون. ليس هذا معنى هذه الكلمة، بل إنّ كلمة "مُلوَّثين إلى دَرجة الفساد" هي أفضل ما يُعبِّر عن معنى " شاشاث". قارنوا هذا الأمر بما قاله الله قبل ذلك ببضعة فصول، في الآية الأخيرة من الإصحاح الأول: "وَرَأَى اللهُ أَنَّ كُلَّ مَا صَنَعَهُ كَانَ حَسَنًا جِدًّا. لقد اضْمحلت خليقة الله من الكمال إلى الفساد التام في بضعة أجيال فقط.
يُقال شيءٌ مثيرٌ للاهتمام إلى حدٍ ما (ويُحذف شيء أكثر إثارة للاهتمام) في الآية الثالثة عشرة. يقول الله أنّ سبب مُشكلة الفساد هو الكائنات الحيّة التي خَلَقها. غالبًا ما تُترجم الكَلِمة العبرية المُستخدَمة هنا، "باسار"، إلى "الجَسد"، وهي ترجمة جيدة. ولكن إليكم الأمر: لا تُشير كلمة " باسار" و"جسد" إلى الإنسان فقط (على الرغم من أنّها تعني الإنسان في بعض الأحيان). بل يُمكن، وغالبًا ما قد تُشير إلى الحيوان. آدم يعني الإنسان أو الجِنس البشري، لكن التعبير لا يُستخدَم هنا في هذا السياق، لذا فالفِكرة التي تدور في هذا السياق تَتحدّث أكثر عن كلّ ما هو حيّ، كل ما وَهبَه الله الحياة: الإنسان والحيوان. الأمْر الأكثر إثارة للاهتمام هو الكائن الذي يُلقي أو لا يُلقي الله عليه اللوم: إنه لا يَلوم الشيطان.
علينا أن نُلاحظ ذلك لأنه يُعيدنا مرة أخرى إلى مفهوم مَصدَر أو مَنشأ الشرّ. وبينما أنا لا أتّفِق تمامًا مع جميع جوانب وِجهة النظر العبرية حول موضوع الشرّ، يجب أن أقول إنني لا أستطيع دَحْض الجزء الأكبر منه. يقول العبرانيون شيئين مُهمَّين عن الشر والخطية أعتقد أنهما يَتطابقان مع ما يقوله الكتاب المُقدَّس أكثر بكثير من بعض العقائد المسيحية عن الشرّ والخَطية. والأمْر الأول والأهمّ هو أنّ الإنسان خُلِق في الأصل بِمَيْل للخير ومَيْل للشر. أي أنّ آدم خُلِق مع القدرة على اختيار أحدهما على الآخر.
وِجهة النظر الثانية ربما تكون أصعب من الأولى من حيث التَعامُل معها؛ وهي أنّه إذا كان الشر موجودًا في البداية، فإنّ الله خَلَق الشَرّ والخير معًا.
في المرّة القادمة، سنَستكشِف هذه المفاهيم العبرية المثيرة للجَدَل عن الخير والشرّ ونَتَعمَّق بها أكثر.